مَوْلد الفلسفة الإسلامية١
لَتَتَّبعنَّ سَنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم …
صدق الرسول الكريم.
فإن تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام قريب الشبه بتاريخها في المسيحية، وقريب الشبه بتاريخها قبل ذلك في الإسرائيلية، بل هو قريب الشبه بتاريخ كل عقيدة دينية انتقلت من دور الإيمان إلى دور الشرح والتفسير أو دور التوفيق بين النصوص وما يستلزمه العقل من معاني النصوص، لا فرق في هذا التطور بين دين ودين إلا من حيث السرعة أو تراخي الزمن قبل ظهور الأطوار المتعاقبة، فهي في الإسلام أسرع، وهي في المسيحية أقل من ذلك سرعة، وهي في اليهودية أبطأ من كلتا الديانتين الكتابيتين، لأسباب معقولة تقتضي ذلك التفاوت في سرعة الانتقال من دور الإيمان إلى دور الشرح والتفسير.
فالتأويلات الفلسفية لم تظهر في الديانة اليهودية قبل «فيلو» الإسكندري المعاصر للسيد المسيح، أما الخلاف على نصوص التوراة بين السامريين وغيرهم فقد ظهر في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، ثم انقضت تسعة قرون بعد الميلاد حتى اتسعت فجوة الخلاف بين القرائين والربانيين؛ أي القائلين بالتزام الحرف وهم القراءون، والقائلين بجواز التفسير وهم الربانيون، وكان الخلاف بينهم في مسائل العقيدة الكبرى مناسبًا لكل خلاف بين المتشددين والمتجاوزين، فكان القراءون يقولون بالجبر، والربانيون يقولون بالاختيار، ويقاس على ذلك كل ما بين الفريقين من وجوه الخلاف.
ولم يكن «فيلو» من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة أو المتفرغين للمنطق والعلوم العقلية، بل كان يمزج بين الدين والفلسفة، ويزعم أن الفلسفة كلها مأخوذة من نصوص التوراة، ولكنه يجتهد في تأويل تلك النصوص؛ بحيث تتسع للمعاني الفلسفية التي تعلمها واطمأن إليها بعقله، ويجعل الكلمات رموزًا وإشارات إلى القضايا المنطقية والمعاني المجردة، فهو مؤمن بالتوراة ومؤمن بالمنطق الذي تستلزمه المدارك الإنسانية، ولا محيص له بين الإيمانين من تحويل الكلمات إلى رموز وإشارات؛ لئلا يكفر بالعقل أو يكفر بالدين.
وقد نظر «فيلو» إلى الأوصاف الحسية التي وصف بها الإله في كتب التوراة، فلم يقبلها على ظاهرها، ولم يستطع أن يرفضها؛ لاطمئنانه الموروث إلى دين آبائه وأجداده، فقال: إنها رموز ومجازات تقرب المعاني إلى الذين يفهمون بالحس ولا يدركون المعاني المجردة بالرياضة والتفكير، وانفتح له باب التأويل، فذهب في التجريد إلى أبعد مداه، وأنكر الصفات الإلهية؛ لأن الصفة حد والله منزه عن الحدود، بل نزه الله عن التأثير في مادة الكون؛ لأن المعنى الإلهي أشرف من جميع الأجساد المادية، فإذا أثر فيها فإنما يكون هذا التأثير بالواسطة التي يودعها الله في بعض القوى الإلهية، واحتال على تأويل الصفات بأنها نفي للنقص الذي لا يتصوره العقل في حق الخالق العظيم، فهو قادر لأنه ليس بعاجز، وعالم لأنه ليس بجاهل، وغني بنفسه؛ لأنه ليس بمفتقر إلى أحد، وهو في قدرته وعلمه وغناه مقام فوق كل مقام يتخيله العقل من صفات الإنسان، وكل ما يستطيعه العقل الإنساني من القربى إلى الله أن يدركه بالرياضة، ثم يدركه بالعلم، ثم لا يغنيه كلاهما عن الإلهام الذي يَخْتَصُّ به سبحانه وتعالى من يشاء من عباده الخلَّص المقربين.
•••
شُغِل أوريجين كما شُغِل فيلو بمسألة النصوص والتوفيق بينها وبين المعقولات، ومن عجيب الأمر أن هذا المجتهد الجريء على النصوص قد بلغ من الإيمان بالنص الحرفي في كلمة من الإنجيل مبلغًا لم يبلغه — قبله ولا بعده — أشد المؤمنين بالنصوص الحرفية في دين من الأديان، فَخَصَى نفسه لأنه قرأ في إنجيل متَّى أنه «يوجد خِصْيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خِصْيان خصاهم الناس، ويوجد خِصْيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يتبتل فليفعل.»
ومن ثَم يرى أن أوريجين لم يكن من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة، بل كان من المؤمنين المتبتلين الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البداءة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد. فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفَهِمَ معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدًا فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين: أحدهما صوفي للخاصة، والآخر حرفي لسائر الناس، وبَشَّر بخلاص خلق الله جميعًا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها في الإضرار بالناس، ولكنه — من عجب التناقض في الطبع الإنساني — كان يرى أن الأسماء العبرية — دون غيرها — هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير، وينسى أنه جعل للأسماء والحروف هنا سلطانًا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.
وخلَف أوريجين تلميذان قويان، هما آريوس في الإسكندرية، ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد الاختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنًا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح، ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت العوامل السياسية في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.
وهذه كلها — كما رأينا — مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية، ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير. أما مذاهب الفلسفة المسيحية التي تصدى لها المفكرون من غير رجال الدين، فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوروبا الغربية.
•••
على أن الفِرَق والمذاهب لم يتراخ بها الزمن في الإسلام كما تراخى بها في اليهودية والمسيحية، ولم ينقض جيل النبي نفسه حتى ظهرت مسألة النص والتفسير، ولحقت بها المسائل التي اقترنت بها في كل عقيدة دينية، كمسألة القضاء والقدر، ومسألة الظاهر والباطن، ومسألة الصفات الإلهية، وما ينبغي للروح من الصفات بمعزل عن عالم المادة أو عالم الأجساد.
ويتوقف فهم الحقائق في هذه الحركة كلها على فهم البواعث التي أوجبت السرعة هنا، وسمحت بالإبطاء والإرجاء هناك.
فاليهودية عند نشأتها لم تنهض لها ضرورة قاضية بالتعجل في التفسير والتأويل؛ لأن اليهودية نفسها كانت بمثابة فلسفة تجريدية بالقياس إلى العقائد الوثنية والأديان المجسمة التي نشأت بينها؛ إذ كانت تدعو إلى التوحيد وعبادة الإله المجرد في السماء بين أناس يعبدون الأوثان ويجسمون الأرباب.
وكان أنبياء اليهود يتلاحقون واحدًا بعد واحد، فيَشْغل النبيُّ الأمَّةَ بأقواله عن تفسير أقوال الذين سبقوه إلى استنزال الوحي من الله.
وينبغي أن نذكر هنا أن الدينين الكتابيين العظيمين اللذين ظهرَا بعد اليهودية؛ إنما كانا تعديلين في نصوص الدين اليهودي ومعانيه، فهما خليقان أن يشغلا كل فراغ كان متسعًا لتفسير النصوص ومحاولة التوفيق بين المنقول والمعقول.
وقد تلاحقت الهجرة والتشتيت على الأمة اليهودية منذ أيامها الأولى، وأصابتها المحن من ذوي قرباها، ونزل بها الحيف من الدول القوية المسلطة عليها، فاشتدت في نفوسها العصبية القوية، ونفرت كل النفور من البدع الأجنبية، وتحصنت دونها بحصن منيع من العزلة الروحية والفكرية؛ فأحجمت عن الفلسفة التي تطرقت إليها من جانب الإغريق وجانب المشارقة الفارسيين والهنديين، ولم تكن هذه الفلسفة على هذا قد تكاملت في بلاد الإغريق أو تفرقت منها بين الأقطار الشرقية؛ لأنها لبثت في دور التكون والتكامل والتعليق والتذييل إلى ما بعد ميلاد المسيح.
أما المسيحية قد تأخر تدوين كتبها إلى أواخر القرن الثاني للميلاد، وكان معظم هذه الكتب مسطورًا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين. وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير، ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد، كان اختلافهم مقصورًا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة الزَّبون، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين، أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.
أما الإسلام فقد كان الاستعداد فيه لظهور الفرق والمذاهب على غير ما رأينا في اليهودية والمسيحية من جميع الوجوه. كانت الأسباب مهيأة لظهورها منذ الجيل الأول سواء من جانب الفلسفة أو من جانب المشكلات اللاهوتية التي شغلت عقول الباحثين بين اليهود والمسيحيين.
كان الإسلام خلوًّا من الكهانة التي تستأثر بالدرس والتأويل، وكان القرآن صريحًا في الأمر المتكرر بالنظر والتفكير، وكان القرآن كتابًا محفوظًا في حياة النبي ﷺ، فلم يطل العهد بالمسلمين في انتظار التدوين والاتفاق على نصوص الكتاب. وكان المسلمون يؤمنون بأن محمدًا ﷺ خاتم النبيين، فلا ينتظرون نبيًّا آخر يتم الرسالة أو يغنيهم عن الاجتهاد في معاني الكتاب أو معاني الأحاديث النبوية.
ولم يجهر محمد ﷺ بالدعوة الإسلامية حتى كانت مشكلات المذاهب المتقدمة قد ملأت آفاق الشرق العربي، وانعقدت عليها الأقوال من طوائف المختلفين هنا وهناك، وتسرب الكثير منها إلى الجزيرة العربية قبل الدعوة الإسلامية، سواء منها أقوال الفلاسفة وأقوال رجال الدين من جميع النحل والأجناس، وأشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه من سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. وأشار إلى الدهريين، فجاء فيه من سورة الأنعام: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ، وجاء فيه من سورة الجاثية: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ. بل أشار في سورة آل عمران إلى تأويل المتشابه من الكتاب، فقال: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ.
وكان بعض المسلمين يسمعون بالتوراة، ولم يطلعوا عليها، ولكنهم سمعوا أنها أنبأت بظهور النبي وبغير ذلك من أحداث آخر الزمان، وأن الأحبار يخفون هذه النبوءات إمعانًا منهم في الكفر والضلالة وحب الرئاسة في الدنيا، وقال لهم كعب الأحبار: «ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة.»
وفهم المسلمون أن هذه الأسرار لا يعقل أن تودع في التوراة ولا تودع في القرآن؛ لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء، وإنما تبذل هذه الأسرار لأهلها، وإنما سبيلهم في معرفتها أن يتوسلوا بالتقوى، ويستعينوا بمن سبقهم من أحبار الأمم الأولى، ويستدرجوهم بالمحاسنة والنصيحة إلى الكشف عنها، فلم يكن لطلاب المعرفة بدٌّ من الدخول في معترك الفرق الدينية بين من يزعم أنه على الحق، ومن يقال إنه على الضلال.
ولما انتشر الإسلام كان انتشاره في الرقعة التي جمعت كل هذه الفرق والمذاهب، وشهدت بينها مجالس المناظرة ومصارع النزاع والقتال، وكانت الفلسفة الإغريقية قد بلغت أوْجها في آسيا الغربية، ومدرسة الإسكندرية، وترددت أقاويلها ومناقضاتها ما بين مصر وسورية والعراق وأطراف البلاد الفارسية، حيث يتصدى للتعليم أطباء النساطرة ومعهم كتب الإغريق في الحكمة والتصوف والمنطق والجدل وأشباه هذه الموضوعات، فلم يبق سبب من الأسباب التي تنشئ الفرق والمذاهب إلا وقد تهيأ للظهور من جميع نواحيه عند قيام الإسلام.
على أن السبب الذي طوى كل هذه الأسباب جميعًا هو قيام الدولة مع قيام الدين الإسلامي في وقت واحد، وهو ما لم يحدث في بني إسرائيل ولا في عالم المسيحية، وعليه تدور الخلافات بين الفرق جميعًا من قريب أو بعيد.
فالنزاع على الدولة بين علي ومعاوية مرتبط بنشوء الخوارج ونشوء الشيعة، ومرتبط كذلك بنشوء القدرية والمرجئة، والقائلين بالرجعة وتناسخ الأرواح، ومذهب أهل الحقيقة وأهل الشريعة، وما استتبعه من فرق الباطنية وأصحاب الرموز والأسرار، على تفاوت نصيبهم من الحكمة الدينية، أو الحكمة الفلسفية.
ويستطاع رد الخلاف هنا إلى محور واحد، وهو الخلاف بين أنصار الواقع وأنصار التغيير، أو بين أنصار المحافظة وأنصار التجديد حيث كان.
روي عن يزيد بن معاوية وقد حمل إليه رأس الحسين أنه سأل من حوله وهو يشير إلى الرأس الشريف: «أتدرون من أين أُتِيَ هذا؟ إنه قال: أبي عليٌّ خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه، وأحق بهذا الأمر، فأما أبوه فقد تحاجَّ أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حُكِم له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عِدْلًا ولا نِدًّا، ولكنه أُتِي من قِبَلِ فقهه، ولم يقرأ: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ [آل عمران: ٢٦].»
فمن خدمه الواقع هذه الخدمة الجلَّى لا جرم يؤمن بأن «الواقع» هو قدر الله وقضاؤه الذي يُدان به العباد.
ومن خالفه في ذلك لا جرم يعتصم بالرأي والتفسير؛ ليفهم القدر الإلهي على الوجه الذي ينهض به دليله، ويسقط به دليل خصمه.
ومن ثم تنفرج الطريق بين طلاب الواقع وطلاب التغيير في كل مجال.
فطلاب الواقع يقولون بطاعة السلطان القائم، وطلاب التغيير يقولون بطاعة الإمام المستتر، ويقولون بعلم الظاهر وعلم الباطن، أو بعلم الحقيقة وعلم الشريعة، أو بالفرق بين الكلام الواضح الذي يفهمه الدهماء والكلام الخفي الذي يفطن له ذوو البصر والاطلاع.
ويروى عن الإمام الباقر أنه قال: «إن اسم الله الأعظم ثلاثة وتسعون حرفًا يعرف منها سليمان حرفًا واحدًا، تكلم به فأتي إليه بعرش مملكة. ونحن عندنا منها اثنان وسبعون حرفًا، وحرف عند الله استأثر به في عالم الغيب وحده.»
ويدور على هذا المحور من جانب آخر خلاف القائلين بإسلام بني أمية والقائلين بتكفيرهم والقائلين بإرجاء الحكم عليهم إلى يوم القيامة، وهم أصحاب الفرقة التي اشتهرت باسم المرجئة من أوائل فرق الإسلام.
ويغلو من هنا فريق كالخوارج، فيكفرون عليًّا ومن والاه، ومن هنا فريق كالسبائية، فيؤلهون عليًّا، وينكرون القول بموته، وإنما شُبِّه للناس؛ فقتل ابن ملجم شيطانًا تصور بصورته، وصعد عليٌّ إلى السحاب، فالرعد صوته، والبرق سوطه، وموعده يوم يرجع فيه إلى الأرض فيملؤها عدلًا ويقضي على الظالمين. أو يقولون كما يقول البنانية أتباع بنان بن سمعان: إن روح الله حلَّت في عليٍّ، ثم في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بنان، أو يقولون بتناسخ الأرواح من آدم إلى عليٍّ وأولاده الثلاثة، أو يقولون — كما قالت الإمامية — إن الله قد حل في إمام بعد إمام إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية، وإنه لم يُقتل، ولا يجوز عليه الموت، وفيه روح الله.
ويكثر الكلام بين هذه الفروض والظنون على ماهية الروح وماهية الحقيقة الإلهية وما ينبغي لله جل وعلا من التنزيه وما يمتنع في حقه من التجسيم والتشبيه، وتمتزج النوازع الذهنية بنوازع المصلحة والسياسة والعواطف المكبوتة، فيستمد كلٌ منها عونًا من الآخر على الإقناع واستجلاب الأنصار والأشياع.
ومن البديه أن دعاة التغيير يتقون — جهدهم — سلطان الواقع حيث هو قائم عزيز الجانب مبثوث العيون، فابتعدوا من دمشق الشام، واتخذوا لهم ملاذًا مأمونًا عند أطراف الدولة الشرقية فيما وراء النهر خاصة، كما كانت تسمى في تلك الأيام.
هنالك لم يكن أحد من المتعلمين يشتغل بالأمور العامة دون أن يعرض له البحث في الشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، وأقوال المختلفين على القضاء والقدر وعلى صفات الله وحرية الإنسان وماهية النفوس والأرواح، وما يصح أن يفرض عليها من العقاب أو تجزى به من الثواب، وكل أولئك هو موضوع الفلسفة الأصيل، وقد تسرب إلى خراسان من مراكز الدولة الإسلامية ومن تراث الأمم الخالية، ثم أعانه جوار الهند بمورد آخر من موارد الحكمة والعلم التي لا تزال مشغولة بأشباه هذه البحوث.
ولما ذهبت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية لم تتبدل الحال في تلك الأرجاء؛ لأن العلويين والعباسيين على السواء خبراء بالمذاهب والتفسيرات، وكلهم من أنصار النظر والاستدلال. وقد قامت الدعوة في الشرق باسم آل النبي، قبل أن تقوم صريحة باسم بني العباس، ثم زيد على الأطراف التي تتطلع إلى التغيير طرف آخر في أفريقيا الغربية بعد قيام الدولة العباسية، فقامت هنالك دعوة الفاطميين، وعرفت سبيلها إلى أقصى المشرق حيث كان الناس يؤثرون العلويين على العباسيين، ولا سيما بعد تشريد أبناء علي وحرمانهم واضطهادهم في أيام بني العباس.
فأصبحت الأطراف الشرقية وكرًا يُسمع فيه كل صوت من أصوات البحث والنظر والاستدلال.