تحدِّي الإِله ومَعْنَاه١
من أنباء الملاحدة الماركسيين أن أحدهم وقف في إحدى محطات الإذاعة فنادى «الله»: إنه ليتحداه إن كان موجودًا لينسفن هذا البلد وليمحون تلك الدولة، أو فليعلم الناس جميعًا أنه خرافة ليس لها وجود.
إن هذا الملحد المتحدي لا يفهم ما يفهمه الناس من كلامه بغير حاجة إلى التأويل الطويل.
إنهم يفهمون منه مبلغ ما يدركه الملحد الماركسي من معنى الربوبية ومعنى القدرة ومعنى «السلطة» على التعميم.
فهو لا يفهم من تحديه الإله على هذا الوجه إلا أن الإلهية سلطة غاشمة يثيرها التحدي، فلا يسعها إلا أن تظهر قدرتها أو تنزل عن كل حق في إثبات وجودها.
فهذا الملحد الماركسي لا يعقل أن يوجَد الإله ويقدر على كل شيء ثم يترك من يتحداه سليمًا بعد ذلك طرفة عين، دون أن يُنكِّل به ويعُجِّل برد تحديه إليه.
وما الذي يمنع السلطة الغاشمة أن تبطش بمن ينكرها؟
لا يمنعها عنده إلا مانع واحد، وهو أنها كما قال ذلك الملحد الماركسي خرافة ليس لها وجود.
هذا هو الفهم الوحيد الذي يفهمه لمعنى الإلهية من يفوه بذلك التحدي على مسمع من العالم، وهو يحسب أنه قد أفحم به من يؤمنون بالله.
وإلا فكيف يفوه بذلك التحدي عاقل يفهم أن الإلهية «سلطة» لها نظام ولها حكمة ولها مشيئة تتبعها ولا تنحرف عنها لاستثارة أو استرضاء؟
من كان يؤمن بأن الإلهية سلطة لها نظامها وحكمتها فمن اليسير عليه أن يعلم أنه لا يهزها بتحديه فيخرجها من ذلك النظام ويذهلها عن تلك الحكمة.
وقد يسع الطفل الصغير أن يكف عن مثل هذا التحدي لأبيه إذا عرف له صفة من صفات العقل والحكمة، فليس بالطفل الذكي من يقول لأبيه: إن كان لك قدرة اضرب فلانًا حتى يهلك أو انهض بهذا الحمل حتى آذن لك بإلقائه!
فمن اليسير على الطفل الذكي أن يدرك أن أباه خليق ألا يجيب هذا التحدي على هواه، ولا ينفي ذلك عنه أنه ذو قدوة وأنه يستطيع أن يهلك فلانًا وأن ينهض بالحمل المقصود إذا أراد.
فالملحد الماركسي أسخف من الطفل حين يخطر له أن يتحدى إلهًا حكيمًا يضع الأشياء في مواضعها كما يقدرها، فيزعم أنه «غير موجود»؛ لأنه لو كان موجودًا لأبطل تلك الحكمة وأوقع الخلل في ملكه، خوفًا من الريب في وجوده، وفرارًا من الملحدين أو المؤمنين أن يظنوا به الظنون.
ومن كان يفهم الإلهية على أنها سلطة رشيدة فلن يتحداها أن تفعل غير ما أرادت أن تفعله منذ الأزل، وغير ما تريد أن تفعله إلى آخر الزمان؛ لأنه إذا استطاع بكلمة من كلمات التحدي والاستثارة أن يغير ما تأبى تغييره، فذلك هو البرهان الذي ينفي وجودها أو ينفي حكمتها على أقرب الفروض.
فلو شاء الله أن ينكشف وجوده للفكر والضمير كما تنكشف الأشياء لجميع الأبصار، لفعَل ذلك بإرادته منذ وجدت الأفكار والضمائر والأبصار، ولم ينتظر حتى يفعله منقادًا للخوف من الاتهام أو طمعًا في التمَلُّق والثناء.
ولقد يحق للملحد الماركسي أن يسأل في هذا المقام: ولِمَ لا يشاء؟ ولِمَ يترك الناس ينكرون ويثبتون أو يبحثون ويرتابون؟ ولِمَ لا يكشف لنا جميعًا حقيقة وجوده على نحو يبطل فيه الخلاف وتزول الفوارق ويمتنع الشك والضلال؟
إن هذه الأسئلة أقرب إلى العقل من ذلك التحدي الأحمق الذي يثبت حماقة صاحبه ولا ينفي حكمة الإله.
ولكنها أسئلة لا تحتمل اللجاجة فيها بعد قليل من التبصر والروية، بل بعد قليل من التصور إذا استطاع السائلون أن يتصوروا كيف يكون هذا الإيمان، وكيف تكون الضمائر التي تهتدي إليه.
إنها لا تكون إلا كما تكون الآلات أو كما تكون العجماوات.
إن العلم بوجود الله كما نعلم بوجود المنظورات بالعين يلغي الضمائر والعقول، ويبطل جهود النفس الإنسانية في امتحان الخير والشر والهداية والضلال.
والمعرفة بحاسة البصر معرفة يتساوى فيها الإدراك كما يتساوى إدراك الآلة وإدراك الحيوان، فهل هذه هي المعرفة التي تليق بالإنسان المسئول عن ضميره، الباحث عن هدايته المترقي بسعيه واجتهاده؟ وهل يطلبون أن يتساوى الناس في مدركات الضمير وحدها، أو يطلبون أن يتساووا في مدركات الحواس وملكات الأجسام والأفهام ومقادير الأعمار والأيام؟ وهل هذا العالم الإنساني الذي يتألف من نسخة واحدة متكررة هو عندهم عالم المثال المنشود، وهو العالم الذي تثبت به حكمة الله ووجوده ويستقيم عليه أمر الوجود؟
إن أهون ذرة من التراب لا تعطينا حقيقتها الكاملة في لمحة عين، ولا نستغني في عرفانها والانتفاع بها عن جهود العمل والتفكير والتحليل لندرك منها بعض ما يدرك ولا نقول كل ما يدرك؛ لأننا نجهل كنه الذرة الترابية وغير الترابية حتى الآن، ولعلنا سنجهل هذا الكنه في قراره ومداه إلى أن يشاء الله.
ويحدث هذا ولا يرى فيه الملحدون الماركسيون عجبًا منكرًا ولا شذوذًا عن الوضع الصحيح والرأي السديد، بل يقيسون التقدم الذي يدعونه بمقدار ما حصلوه ويحصلونه من هذه الحقائق ولو كانت معلقة بأهون الأشياء.
وإن الشمس على جلائها لتخفى عليهم الآن بعد أن خفيت على الأقدمين دهورًا بعد دهور، ولقد كانوا يحسبونها كقرص الغربال فأصبحوا يعرفون اليوم أنها أكبر من الأرض والقمر والسيارات، وكانوا يحسبونها تدور فأصبحوا يعلمون أن الأرض هي التي تدور، وكانوا يجهلون سرعتها ومسافاتها فأصبحوا يعلمون الآن كم هي بالدقائق وكم هي بالأميال.
إلا أنهم لا يزالون يجهلون منها أضعاف ما عرفوه، ولا يزالون يبحثون عن مصدر حرارتها فيخلطون بين النقيضين ويزعمون مرة أنه من تكوين العناصر، ومرة أخرى أنه من تفتيت العناصر وانشقاقها، ولا يدرون على التحقيق هل يندفع اللهب من باطنها إلى ظاهرها أو يرتد من ظاهرها إلى جوفها، ولا يستغربون من نظام الكون أن تكون شمسه الساطعة بهذا الخفاء، وأن تحار فيها العقول هذه الحيرة، وهي أم الضياء!
فما بالهم يريدون من الحقيقة الإلهية أن تكون أقرب منالًا من حقائق هذه الكائنات التي لا يدعون لها عظمة الربوبية ولا جلالة الأبدية!
وما بالهم ينتظرون من حقيقة الحقائق أن تحيط بها لمحة عين، ويستنكرون السعي إلى غاية الحقائق من متناول السماع والأبصار!
إن العلم بوجود الله مطلوب، ولكنه علم لا قيمة له إذا كان يلغي العقول ويعطل الضمائر ويبذل لمخلوق لا فضل له في إدراك أقرب الحقائق وأبعدها على الآلة والحيوان.
وقبل أن ينتقد الناقد ما ينتقده من هذه العظائم الجلَّى، عليه أن يتعلم كيف يقترح وكيف يصحح ما ينتقده ولا يرتضيه.
إن بحث العقول والضمائر عن الله منتقد عندهم وغير مفهوم.
فلنقل ما يقولون هنيهة نسألهم: وما هو المفهوم المنزه عن الانتقاد؟ أهو إدراك الله بغير بحث؟ أو الاستغناء عن البحث في أمر الله وحده أو في جميع الأمور؟ وهل عندهم أن الإله الموجود الحكيم هو الإله الذي تقاد مخلوقاته الكبرى أو الصغرى بحبال الغريزة على غير فهم ولا محاولة ولا تمييز بين ما يظهر وما يخفى، وبين ما يكبر وما يصغر، وبين ما تتصرف فيه المدارك وما يسلبها التصرف والاختيار؟
أهذا عندهم هو الإله الموجود الحكيم؟ تعالى الله عما يصفون!
فما من شيء هو أثبت لوجود الله من تنزيه مخلوقاته عن هذا العطل في العقول والضمائر، وما نتحداهم أن يؤمنوا وهم غير أهل للإيمان، وإنما نتحداهم أن يتصوروا إلهًا حقيقًا بالعبادة على الصورة المرتضاة لديهم، فإنهم ليعلمون إذن راغمين أن الإله الذي لا يستحق البحث هو الإله الذي يأباه العقل السليم، وأن الإله الذي نبحث عنه لهو الإله الموجود.