رمَاد ولا نَار١
يقول الشيوعيون: إنهم كفروا بالأديان لأنهم درسوا التاريخ وفسروه، ودرسوا الأديان وعرفوا خباياها.
فإذا ثبت من كلامهم أنهم لم يدرسوا التاريخ ولم يدرسوا الأديان، فالأمر الذي لا شك فيه إذن أنهم أناس مأجورون مُسخَّرون، وأنهم من أخس طُغَام الأُجَراء؛ لأنهم لا يبالون قداسة الدين ولا شناعة الكفر في سبيل المال الحرام.
وقد نشر بعض اللصقاء بالإسلام في العراق رسالتهم التي سموها «بالرسالة الرمادية» وترجموها — أو ترجمت لهم — من لغة أجنبية، فثبت منها أنهم أجهل خلق الله بتاريخ بلادهم وما جاورها فضلًا عن تواريخ الأمم الأخرى، وثبت منها إلى جانب هذا أنهم لا يعرفون شيئًا عن تاريخ مكة وتاريخ النبي عليه السلام؛ لأنهم يذكرون «اللخميديين» ولا يعرفون أنهم اللخميون أقرب العرب الأقدمين إلى وادي النهرين، ويذكرون قبيلة «السقيف» وهي ثقيف قبيلة الحجاج الثقفي أشهر من حكم العراق، ويذكرون القريشيين ولا يوجد إنسان على شيء من الاطلاع على تاريخ مكة وتاريخ بيت النبي فيها يجهل من هم القرشيون أو ينسبهم تلك النسبة التي تنم عن جهل باللغة كالجهل بالتاريخ.
أهؤلاء مسلمون درسوا تاريخ دينهم فأنكروه وبعد أن عرفوا خباياه، أم هم أذناب فتنة مسخرون يهرفون بما لا يعرفون، ويقترفون الكفر البواح وهم لا يبالون ما يفعلون؟
لا حاجة إلى البحث عن التاريخ للعلم بحقيقة هذا الكفر وحقيقة هذه الدعوة، فإن الحقيقة التي ينطق بها كل حرف من حروف الرسالة «الرمادية» أنهم «كفار للبيع» … دراهم معدودات من كل باذل مال، ولا بد أن يكون بيعًا رخيصًا وصفقة خاسرة؛ لأنها صفقة جهل يصطفق عليها جهلاء.
وفيما يلي أمثلة شتى تدل على أن هؤلاء «الباحثين العلميين التقدميين العارفين بالتاريخ والدين» لم يطلعوا على كتاب الإسلام، ولم يكلفوا أنفسهم مداراة جهلهم بالرجوع إليه بعد وصول الرسالة الرمادية إلى أيديهم، لأن المهم في الأمر أن تصل النقود إلى تلك الأيدي وعلى الدين والدنيا بعدها العفاء!
يقول الرماديون: «واحتفظ الإسلام أيضًا بعبادة الأرواح والجن في حين أن أسماء الآلهة القديمة أصبحت نعوتًا لله. وهكذا أصبح اسم الإله رحمانا الذي كانت تمارس طقوسه قبل أن ينشر مسيلمة تعاليم الحنفيين في مكة ويثرب واليمن.»
هكذا يقال بكل ثقة الجاهل المكابر، ولو كلف أصحاب هذا المقال أنفسهم نظرة فيما جاء من القرآن الكريم عن الجن لقرءوا فيه من سورة الأنعام: وَجَعَلُوا لِلهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ، وقرءوا فيه من سورة الصافات: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
ولم يقرءوا فيه كلمة واحدة عن الجن توجب لهم عبادة أو رعاية في أعناق المسلمين.
أما تعاليم «الحنفيين» كما قالوا فمتى نشرها مسيلمة في مكة والمدينة؟ ومتى دان المكيُّون باسم الرحمان وقد اعترضوا في صلح الحديبية على ابتداء الكلام باسمه، ولم يقبلوا البسملة في مفتتح الكلام؟
ومن هو هذا الإله صاحب الطقوس والشعائر التي استعارها النبي ﷺ من اليمانيين؟ أكانت هذه الطقوس والشعائر عبادة وحدانية كالتي جاء بها الإسلام؟ فمن هو النبي الذي جاء بها إلى أهل اليمن، ولماذا أحجم هؤلاء عن الدعوة الإسلامية التي استعيرت منهم وجاءتهم باسم ربهم المعبود فيهم؟
أم تُرى كان «الرحمان» صفة مستعارة من اليمن، فمن أين يا ترى استعيرت صفات الله التي جاوزت التسعين؟
ثم قال رودويل: «إن الحميريين كانوا يصفون أربابهم بهذا الاسم، ولكن جذور هذه الكلمة غير موجودة في اللغة الحبشية.»
أرأيت دراسة التاريخ؟ أرأيت دراسة الدين؟ أرأيت التحقيق العلمي التقدمي الذي يخرج المؤمن من دينيه ويذهل الموقن عن يقينه؟
إن محمدًا قد ترك البسملة وأسقطها من السور الأخيرة لأنه خاف من اسم الرحمن المستعار أن يشارك اسم الله في عبادات المسلمين، فما هي السور الأخيرة التي سقط منها اسم الرحمن؟ وكم سورة هي؟ ولماذا لم يحذف هذا الاسم من بقية السور التي بدئت بالبسملة، ولم تزل مقروءة محفوظة في حياة النبي وبعد وفاته صلوات الله عليه؟
إن العلامة اللبيب مترجم القرآن ودارس اللغات العاربة والمستعربة قد فهم كل هذا من ورود سورة واحدة هي سورة التوبة بغير بسملة، وسببه كما يعلم كل مطلع على الكتاب أن النبي ﷺ لم يأمر بها، وقال ابن عباس رضي الله عنه: «إن البسملة فيها رحمة وأمان، وهذه نزلت لرفع الرحمة والأمان عن المشركين.» فلما نزلت ولم يسمع المسلمون البسملة في مستهلها تحرجوا من وضعها، وحسب بعضهم أنها مكملة لسورة الأنفال كما هو معلوم.
ومثل هذا التحرج البالغ في إثبات كلمات الكتاب المبين خليق أن يعلِّم المفترين أنه كتاب لا يزاد فيه حرف لم يسمع في موضعه، ولو سمع مثله في كل سورة، ولكن الافتراء أسهل شيء على هؤلاء الجهلاء المضللين، فلا حرج عندهم بعد علمهم بهذه الأمانة الإسلامية في نقل القرآن أن يهذروا في كراستهم الرمادية قائلين: «إن هذا الكتاب يحتوي على ١١٤ فصلًا بأطوال مختلفة، ألف في عهد الخلفاء، فقد وجدت حتى في القرن التاسع أو العاشر نسخ من هذا الكتاب تختلف عن النسخة الشرعية … ولم يستطع مؤلفو القرآن إخفاء تلك الاعتراضات بل اكتفوا بحذف بعض الكلمات غير المقبولة.»
ولا أدل على سهولة التهجم عند هؤلاء الناس من علمهم بهذا الحذر الشديد في جمع آيات القرآن، ثم ادعائهم أن الخلفاء يجترئون على تأليفه وأن المسلمين ظلوا إلى القرن العاشر للهجرة ينقحونه ويحذفون منه ويضيفون إليه، فلو كان لهم ذرة من التحقيق التاريخي الذي يزعمونه لما أقدموا على هذه الدعوى بغير سند من الواقع يثبتونه ويثبتون حجته والبينة عليه، وأقل ما ينبغي من السند الصحيح في مثل هذه الدعوى أن يكونوا على علم باسم الخليفة الذي اشترك في التأليف المزعوم، وعلى علم بنص الآية التي مسها التنقيح مع موجباته ودواعيه، أو مع بيان الوسائل التي استطاع بها الخليفة «المؤلف» أن يخفي الأمر على قراء الكتاب المتداول في أيدي الملايين والمحفوظ في صدور الألوف. فأين هو هذا السند؟ وأي سند أقل منه يكفي للاجتراء على تلك الفِرْيَة بتلك الثقة؟
ومن سوء النية والإصرار على الاتهام والتخبط في التهم بين المتناقضات أن هؤلاء الناس الرماديين يعلنون أن القرآن الكريم غير قاطع في تحريم الربا ولا يسألون أنفسهم ولا يخطر لهم أن أحدًا سيسألهم: وكيف يكون النص على تحريم أمر من الأمور إذا كانت نصوص القرآن في أمر الربا غير قاطعة في تحريمه؟
فالآيات القرآنية التي يعلقون عليها تقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ.
فكيف تراهم يكتبون نص التحريم ليكون النص قاطعًا فيه؟
إنهم يقولون في كراستهم: «إن بعض آيات القرآن تحرم المراباة حماية للفقراء والمحتاجين، وكان ذلك جزءًا من سياسة الأنبياء لجلب رضى الفقراء. وتعتبر السياسة ناقصة، فما الفائدة من تحريم المراباة عند وجود الآية: وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة: ٢٧٩].»
وتعجب حين تقرأ هذا التعليق فلا تدري ماذا فهموا منه؟ هل يفهم منه أحد أن القرآن يبيح الربا لأنه يزجر من يأخذه ولا يبيح له غير أخذ الدين من مدينه بغير زيادة؟ أهذا هو النص الذي يبطل فائدة التحريم؟ فما هو النص الذي يفيد فيه؟
ولا يخفى تخبط القوم في الاتهام بكل وسيلة، بل في الاتهام بالحجة ونقيضها في وقت واحد.
فهل جاء الإسلام من إقطاعيين يحافظون على مصالح الاستغلال والمراباة بالأموال؟
هل جاء الإسلام من هؤلاء أو هو قد جاء من الفقراء والمحتاجين ليرضيهم ويُغضب المرابين والمستغلين؟
ينبغي أن يكون قد جاء من هؤلاء ومن هؤلاء في وقت واحد، وأن يكون الاتهام قائمًا على كل حال، ولا لزوم للدليل في أية حال، بل لا لزوم للالتفاف إلى التناقض بين الدليلين، لأن الالتفاف إلى تناقضهما يسقط الاتهام، وماذا يصنع القوم بغير اتهام كيفما كان، بِبُرهان أو بلا برهان؟
ويوشك القوم أن يلحقوا بالقرآن كل خبر من أخبار الدول الإسلامية يدخل في شعائر الدين أو ينسب إلى ذي شأن أو غير ذي شأن من المسلمين.
قالوا عن ثروة الخلفاء: «إنها لم تقتصر على المال فحسب، بل شملت بعض المخلفات الثمينة كالسيف والعصا والعباءة التي قيل إنها كانت تعود إلى النبي محمد. وقد أثبت تحقيق علماء البرجوازيين أن تلك المخلفات كانت مزورة. فقد ذكر «بيريت» في كتابه «الإسلام» في صحيفة ١٤ مجلد ١٧ نشر في برلين سنة ١٩٢٨ بأن الأدلة تجعلنا نشك في صحة الأسطورة القائلة بإعطاء الرسول لعباءته إلى الشاعر كياجو بن ذكير، والتي كانت الأساس لاعتبار الإسلام لتلك العباءة إحدى الذخائر، ولا يوجد في أيٍّ من المراجع القديمة حتى في كتاب ابن هشام كلمة واحدة عن إعطاء العباءة أو تقديسها، ولم تذكر هنا شيئًا عن المضاربات التي دارت حول هذه الذخيرة. فقد بيعت عباءة الرسول عدة مرات بربح، وعرضت للجمهور بعد احتراقها في بغداد على يد المغول سنة ١٢٥٨م في مسجد العبادة المقدسة في إسطنبول، وليست أسطورة هذه العباءة بفريدة بين غيرها من الطلاسم والدكاكير في الإسلام وفي غيره من الأديان الأخرى.»
فالذين نشروا هذه الكراسة الرمادية من اللصقاء بالإسلام في العراق يجهلون اسم كعب بن زهير الشاعر المشهور، وينقلونه في مصادرهم المحققة باسم «كياجو بن ذكير» ويدلون بذلك حقًّا على أنهم غربلوا التاريخ، وفسروه، ونفذوا إلى أسراره ومضامينه، ولم ينكروا الدين إلا لأنهم فهموه حق فهمه من هذه الدراسة التاريخية على أوفاها!
وهؤلاء هم الذين عرفوا تاريخ النبي ﷺ وعرفوا كل ما رُوي عنه من الحقائق والأباطيل، فعرفوا من بينها شاعرًا لم يخلقه الله يسمى كياجو بن ذكير، وعرفوا بعلمهم الزاخر أنه اسم عربي يتسمى به العرب في صدر الإسلام.
وهؤلاء هم أصحاب الإلحاد المفسرون الماديُّون للتاريخ ولا شيء عندهم غير المادة والتاريخ.
فإذا صح كل ما قالوه ونشروه عن هذا «الكياجو» العربي فما هو ذنب الإسلام؟ وما هو ذنب النبي ﷺ؟ وما هو ذنب المؤرخين أو ذنب، مؤرخ النبي، ابن هشام؟
بردة قيل إن النبي خلعها على شاعر معلوم أو مجهول، ولم يقدسها النبي ولا جاء في كتب دينية أنها من المقدسات أو المحفوظات للتقديس والتبريك. فماذا في وجود هذه البردة من مطعن في الكتاب أو في السنة أو في شرائع المسلمين؟
وإذا ظهر أحد — مثلًا — بخطاب صحيح أو مدسوس على كارل ماركس فتغالى به أتباعه وتوارثته المتاحف بأثمانه وما فوق أثمانه، فماذا في ذلك من التنفنيد للمادية والماديين ومن البرهان المتين على بطلان هذا الدين؟ وما الذي يوجب على المؤمنين بالمادية الاقتصادية أن يدحضوا هذه الإشاعة الشيوعية أو البرجوازية؟
كان للنبي ﷺ بردة خلعها على شاعر. لم يكن للنبي ﷺ بردة خلعها على شاعر.
كان بعض الناس يصدقون في هذه الرواية أو يكذبون فيها، وكانوا يستغلونها على الحالين فيحسنون أو يسيئون استغلالها.
على كل فرض من هذه الفروض، وماذا فيها جميعًا من النقد العلمي الذي يتحراه طلاب الحقيقة عن دعوة الإسلام؟ بل ماذا يصنع الشيوعيون اليوم في متاحفهم التاريخية إذا عرض عليهم أثر من تلك الآثار النبوية للشراء؟ أليس في متاحفهم ما يشترى لقيمته الأثرية بالمال الطائل والجهد الجهيد؟ أليس الضريح الذي شيَّدوه للزعيم لينين تراثًا له تكاليفه وله حجاجه وطلاب البركة لديه؟ أليس في متاحف العلوم المادية حول الكرة الأرضية مخلفات وموروثات تحسب أثمانها بالألوف والمئات، وتفتح أبوابها كل يوم للزائرين والزائرات والمعجبين والمعجبات؟ فلماذا يضنون بشرف كهذا الشرف أو بخير كهذا الخير على المسكين «كياجو بن ذكير»؟
أمَا إنه لشاعر بليغ هذا الكياجو الذي لا هو في الأحياء ولا في الأموات.
إنه لشاعر يكفي اسمه المختلق لتمزيق الكراسة الرمادية على رءوس ناشريها، وإظهارهم بحقيقتهم التي يكتمونها وإن لم يجهلوها.
حقيقتهم أنهم تجار في سوق الجهل والضلال يبيعون جهلهم لمن هو أجهل منهم، لأنه يشتريه بالمال، وهو عندهم رب الأرباب ومَوْئِل الآمال.