الإِنسَانيَّة مِن مَاضيهَا إلى مَصيرها١
ماضي الإنسانية مسافة شاسعة، بعيدة الآماد والأطراف، سواء حسبناها بالأيام، أو بالأماكن، أو بالأنفس، أو بالأوراق المكتوبة عنها، لن يكون الحساب إلا بالملايين وأضعاف الملايين.
ولكننا نحسب مع هذا أنها، على اتساعها وامتدادها، قابلة للتلخيص في سطرين، إذا كان لها معنى.
فإذا كانت حياة الإنسانية عبثًا، ولم يكن لها وجهة ولا نظام، فذلك مما يقال في سطر واحد.
وإذا كانت ذات وجهة منتظمة فهذه الوجهة تتلخص في فكرة كبيرة، وهذه الفكرة الكبيرة توضع في كلمات معدودات، ولو بالعنوان.
هذه المحاولة هي التي حاولها عالم من أكبر علماء التاريخ في زماننا، إن لم يكن من أكبر علمائه في جميع الأزمنة، وهو الأستاذ «أرنولدتوينبي» صاحب الكتاب المشهور ﺑ «دراسة في التاريخ».
بدأ المؤلف العلَّامة تأليف هذا الكتاب في سنة ألف وتسعمائة وإحدى وعشرين، بعد نشوب الحرب العالمية الأولى بسنتين، وأتمه وأصدر آخر أجزائه قبل ختام السنة الماضية، فانقضى عليه في تأليفه ثلث قرن كامل، وتم الكتاب كله في عشرة أجزاء لا تقل صفحاتها عن سبعة آلاف صفحة، ولم ينته من أجزائه الأخيرة حتى بدا له أن يعيد النظر في بعض الآراء التي ظهرت في الأجزاء الأولى، ولكن المهمة شاقة والتكاليف كثيرة. فتبرع له بعض المعاهد العلمية بالنفقة اللازمة للسياحة في مواطن الحضارات الدائرة والإقامة حيث تلزم الإقامة زمنًا بين آثار المكسيك والشرقين الأقصى والأدنى، ولا تنتهي هذه السياحات التاريخية قبل سنتين من ظهور آخر جزء في الكتاب.
مجهود من مجهودات الجبابرة، وعلم واسع يؤهل صاحبه للحكم على دلالة التاريخ الإنساني من مبتدئه إلى عصره الحاضر، أو يؤهله لاستخراج الوجهة المرتسمة من حوادث التاريخ، ثم استخراج الفكرة التي تتجلى فيه عصرًا بعد عصر وحضارة بعد حضارة ونزاعًا بعد نزاع وسلامًا بعد سلام، وهذا هو الذي سميناه تلخيص التاريخ الإنساني في سطر أو سطرين. فما هي الفكرة التي يلخصها السطر والسطران في رأي هذا المؤرخ الكبير؟ ما هو الرأي الذي يراه في تاريخ الإنسانية أحق علماء التاريخ بإبداء هذا الرأي في القرن العشرين؟
خلاصة هذا الرأي سطر واحد وهو «أن التاريخ هو طريق الإنسانية إلى الله».
هذا هو الإجمال الذي شرحه المؤرخ الكبير في سبعة آلاف صفحة، وقرر في ذلك الشرح أن تواريخ الأمم والحضارات والعقائد والأخلاق لا معنى لها إن لم يكن معناها هداية النفس الإنسانية إلى حرية الضمير برعاية الإله.
فكل أمة، وكل حضارة، وكل عقيدة فإنما تأتي لترفع في الطريق مصباحًا صغيرًا أو كبيرًا ينير الطريق وينير ساحة الكون كله للعلم بحقائق الوجود، أو للعلم بحقيقة الحقائق وهي مصدر الخلق والتدبير في الوجود.
ومن تقريرات المؤرخ الكبير أن الإنسان قد يصطنع الأعمال والحرف ويخلق العلوم والمعارف، ولكنه لا يخلق عقيدته الدينية بل تأتيه العقيدة مفروضة على سريرته وشعوره، قابلة للبحث في بعض جوانبها غير قابلة لشيء سوى التسليم في جوانبها الكبرى، ولهذا تسخره العقيدة ولا يسخرها كما يهوى، وإن خيل إليه أنه يعمل في تسخيرها بهواه.
وضرب المثل لذلك بعقيدة الإسلام: أراد الفرس الذين دخلوا الإسلام أن يستخدموها في إحياء القومية الفارسية، فاستخدمتهم هي في توطيدها ودراسة معارفها، وجاء المغول إلى بلادها من أقصى الشرق ليقيموا «سلطتهم» على أركانها، فأصبحوا حراسًا لتلك الأركان، ولا يتأتى تسخير عقيدة ما إلا إذا غلبتها عقيدة أقوى منها وأحق بالعمل في تاريخ الإنسانية، فليس أقوى من الإيمان على تسيير الإنسان والارتقاء به على معارج الحضارة في طريقه إلى الله.
وعند العلَّامة «توينبي» أن هذه «المهمة» الأبدية مهمة «تعاون» بين الحضارات والعقائد، يؤدي كل منها بعض الواجب لتحقيق الواجب كله في النهاية، ولكن هذا الواجب يكبر مع الزمن كلما كبر الإنسان، فلا يزال الإنسان في سعي متواصل، ولا يزال متطلعًا إلى الكمال.
وستأتي القرون بعد القرن العشرين فلا تذكر منه أنه قرن الصناعة الكبرى، ولا أنه قرن الطيارة وعجائب المخترعات، كلا، بل لا تذكر منه أنه قرن الذرة والقذيفة الذرية، وإنما تذكر منه أنه القرن الذي أصبحت فيه الدعوة إلى «الأخوة الإنسانية» موضوعًا من موضوعات العلم والعمل، وبرنامجًا من البرامج الواقعية التي يتعاون عليها الأقوياء والضعفاء، ولا يستغني فيها قوي عن ضعيف.
هذه هي أمانة الماضي لدى القرن العشرين في رأي مؤرخ القرون والأجيال، فما هي أمانة القرن العشرين يا ترى لدى القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أو ما يلي من القرون؟
هل جاء القرن العشرون يا ترى ليحمل لها الهلاك والدمار في قذائفه الذرية؟ أم جاء لها بمصير أكرم وأسلم من هذا المصير؟
وهنا ننتقل من ماضي الإنسانية إلى مصيرها.
ننتقل إلى المصير بمثل السرعة التي انتقلنا بها — مع العلَّامة توينبي — من مواضي الإنسانية جميعًا إلى وجهتها المرسومة.
ولكننا لا ننتقل في صحبة توينبي ودراسته التاريخية، بل ننتقل بين الحاضر والمصير في صحبة المئات من المتسائلين الحائرين، وإن العلماء بين الحائرين لأكثر من الجهلاء، وإن الحكماء لأكثر من الحمقى.
مئات من الناس يتساءلون اليوم: ما مصير الإنسانية؟!
وكلما حدث حادث في كتلة الشرق أو كتلة الغرب عادوا إلى السؤال المتكرر المتحير: ما مصير الإنسانية؟ ما مصير الإنسانية؟
هل تنفجر براكين الحرب العالمية؟
وإذا انفجرت هذه البراكين فهل يستخدمون فيها القذائف الذرية؟
وإذا استخدموا فيها القذائف الجهنمية فما نتيجتها بالنظر إلى المنهزمين؟ وما نتيجتها بالنظر إلى المنتصرين؟ وما نتيجتها بالنظر إلى سائر الأمم التي لا تحسب مع هؤلاء ولا مع هؤلاء؟
بل يتساءل المتسائلون المتحيرون: هل يكون في تلك الحرب المرهوبة منتصر ومنهزم؟ وهل تبقى من الدنيا بقية تساوي ثمن النصر وتكافئ وبال الهزيمة؟
ويحق للمتسائل العالم قبل الجاهل، والحكيم قبل الأحمق، أن يحار في العاقبة وأن يفزع من المصير.
فمن المتفق عليه أن قذيفة «هيروشيما» تعد سلاحًا مأمونًا بالقياس إلى القذائف المجهزة للاستعمال في الوقت الحاضر. فإن لم تكن هذه القذائف مجهزة فعلًا ففي الإمكان أن تجهز القذيفة التي تساوي في قوتها خمسة وعشرين ألف ضعف وزيادة من قذيفة هيروشيما.
ومن المتفق عليه أن أخطار القذيفة الجهنمية لا تنحصر في موضعها، ولا في المقصودين بها، لأنها ترسل في الهواء ذرات من القوة الإشعاعية تعود فتنحدر إلى الأرض غبارًا صاعقًا لا يبقي ولا يذر.
ومن المتفق عليه أن مجال الاختراع متسع متجدد، وأن القذيفة الهيدروجينية ستتبعها أنواع شتى من القذائف، وأن استخدام العناصر الأخرى في توليد الطاقة الذرية قد يتيسر غدًا لأمم كثيرة، ولن يكون استخدام هذه الطاقة مقصورًا على عنصرين أو ثلاثة. ويومئذ تقل تكاليف القذائف، وتتسع ميادينها، وتتفاقم أخطارها، وتصبح القذيفة الموجودة اليوم كأنها سلاح الأمس بالنسبة إلى أسلحة القرن العشرين.
فما مصير الإنسانية بعد هذه النُّذُر والأراجيف؟
لا فائدة من منع السلاح، بل الفائدة المرجوة كلها معلقة — في رأي الخبراء — على منع الحرب بأنواعها، أو منع الحرب العالمية بكل ما يستطاع.
فهل منع الحرب العالمية مما يستطاع؟
وإذا لم يكن مستطاعًا فهل يستطاع منع السلاح الذري وتحريم القذائف الذرية في جميع الميادين؟
إن سوابق الدول في الحروب لا تبشر بالخير، ولكن سابقة واحدة يُرْجَى أن تبعث التفاؤل في نفوس طلاب الخير، وهي تحريم الغازات السامة وإجماع الدول على اجتنابها في الحرب الأخيرة، فإذا كانت الدول المتقاتلة قد فهمت أن الغازات الخانقة خطر لا يؤمن، فهي أحرى أن تفهم الخطر الأكبر، وأن تحرص على اجتنابه حرصًا أشد وأبقى من حرصها على اجتناب تلك الغازات.
وعبرة أخرى قد تميل بالدول إلى الحذر من الحروب، وهي خسارة المنتصرين في الحروب واضطرارهم إلى معونة المنهزمين والمنكوبين، في عالم متشابك متضامن، لا ينفرد فيه بالضرر صاحب قوة أو صاحب مال.
ونكاد نقول: إن ساسة الدول يدفعون بالأمم إلى الانتحار إذا أقدموا على الحرب العالمية، واستخدموا فيها القذائف الذرية. ومتى استطاع ساسة الأمم أن يدفعوا إلى الانتحار، فهم والأمم التي تطيعهم أهل للهلاك والدمار.
إن الصورة التي تتمثل لنا أبشع من أن نتصورها قياسًا على ما عرفناه من كوارث الماضي والحاضر، وتكاد تخرج بنا من حيز الواقع إلى حيز الخيال المستحيل، ولو أن صورة تستحيل في العقل لفرط بشاعتها لاستحالت هذه الصورة المنكرة، ولكن البشاعة المفرطة لا تمنع شيئًا أن يكون إذا كان وقوعه من الممكنات، وكل ما لدينا من أسباب الطمأنينة أن نقارن بين المصيرين أيهما أقرب إلى الإمكان: مصير الإنسانية إلى الانتحار أو مصيرها إلى التغلب على قوة السلاح بقوة الحكمة وقوة الأخلاق مجتمعين. ومن حسن الرجاء وحسن التقدير معًا أن نرجح المصير المأمون على المصير المحذور.
إن المادة الصماء لن تخلق الإنسان؛ لأن الشيء لا يخلق ما هو أحسن منه وأكمل. فلنعد إلى خلاصة التاريخ الإنساني متفائلين: إن التاريخ الإنساني — كما قال أكبر المؤرخين العصريين — إنما هو طريق الإنسانية إلى الله. وفي هذا الطريق يستطيع العقل أن يخلق اختراعًا من جنس القذيفة الذرية يقاومها ويكبح شرورها يستبقي منافعها، ويستطيع العقل أن يأخذ بزمام المادة وعناصرها ليقترب بها إلى الله.