الحج قبلَ الإِسْلام وَبَعْدَهُ١
الحج فريضة قديمة في الديانات، ولم يوجد قط إلا في ديانة كبيرة، لأنه يستلزم انتشار الديانة في أماكن متعددة كما يستلزم قدمها وانتظام العمل بها في الأزمنة المتعاقبة عامًا بعد عام أو موسمًا بعد موسم، ولا يتهيأ هذا وذاك إلا لديانة قد تأصلت في مكانها وزمانها.
وأشهر الديانات القديمة التي وجدت فيها فريضة الحج اثنتان: ديانة البراهمة في آسيا الشرقية، وديانة بني إسرائيل في آسيا الغربية.
أما الحج في الديانة البرهمية فلا صلة له بالإسلام، ولا مشابهة بينه وبين الفريضة الإسلامية في مناسكها ولا في حكمتها؛ لأنه يقوم على عقيدة تناسخ الأرواح والتطهر من الأوزار في هذه الحياة استعدادًا لرجعة الروح إلى جسد أكمل وأنقى، وعند البراهمة أن الحاج يذهب إلى نهر «الكنج» ليغتسل فيه، فيتطهر من ذنوبه ويرجو بهذا التطهر أن يعاد إلى حياة أشرف من حياته الحاضرة في هذه الدنيا.
وذلك كما قدمنا أصل من أصول الحج بعيد من العقيدة الإسلامية، ولا وجه فيه للمقارنة بين العقيدتين وإثبات مواضع التطور بينهما مع اختلاف الزمن وتجدد البعثات.
أما الحج في ديانة بني إسرائيل فمرجعه الأقصى إلى دعوات إبراهيم وإسماعيل ويعقوب وموسى عليهم السلام، وهو السابقة التي لحق بها الإسلام ليتمها ويصححها، ومن هنا تتأتى المقارنة بين فريضة الحج كما بقيت عند بني إسرائيل، وبين هذه الفريضة كما أقرها الإسلام فأبقى منها ما أبقى، ونسخ منها ما نسخ، ثم تبين في بدء هذا التطور مبلغ التقدم الذي جاء به الإسلام في شعائر الدين ومناسك العبادة.
وأول الفوارق التي يتبين منها مدى هذا التطور أن الحج في بني إسرائيل إنما كان وسيلة لتدعيم سلطان الهيكل وكهانه، وإنما كان في أهم مناسكه فرصة لتزويد أولئك الكهان بالضرائب والإتاوات والقرابين، وقد صرحت بذلك مأثوراتهم كما رووها في العهد القديم، وفيه «إنه إذا قرَّب أحدٌ قربانًا يأخذ الدقيق ويسكب عليه الزيت ويجعل عليه لبانًا ويأتي به إلى بني هارون الكهنة ويقبض منها ملء قبضته من دقيقها وزيتها مع كل لبانها، ويوقد الكاهن تذكارها على المذبح لتنبعث منه رائحة سرور للرب، والباقي من التقدمة هو لهارون وبنيه».
ثلاث مرات تعيد لي في السنة: عيد الفطير … وعيد الحصاد … وعيد الجمع في نهاية السنة …
وفي جميع هذه الزيارات تؤدى الإتاوة لكهان الهيكل … «ولا تظهروا أمامي فارغين …»!
ومن سخافات المبشرين والمستشرقين أنهم يأخذون على الإسلام رمي الجمرات، وينسون أن شعائر الضحية كما يرتبها الكهان الإسرائيليون تتجاوز الاعتراف بوجود الشيطان إلى تقديم القربان إليه، فإذا كان يوم الكفارة جاءوا بجديين وفضلوا أحدهما بالقرعة فتقربوا به إلى الله، ثم تقربوا بالآخر إلى عزازيل؛ أي الشيطان.
وأبعد من ذلك عن نزاهة التوحيد أنهم يتصورون الذبيحة طعامًا للإله جل وعلا، فيقولون: إنه سبحانه وتعالى يتنسم منها رائحة الرضى، وإنها سرور له متاع!
ولقد خطا الإسلام بالضمير الإنساني شوطًا بعيدًا في جميع هذه المناسك والعبادات.
فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزز فيها سلطان الكهان أو ليقدم إليهم القرابين والإتاوات، وإنما هي فريضة للأمة وفي مصلحة الأمة وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأمة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله.
وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان أو طعام للإله أو قربان لكسب الرضا من عزازيل، ولكنها صدقة أو سخاء من النفس في سبيل العبادة يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متجشمًا لذلك مشقة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع.
ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي لا ترتبط بمواسم الزرع والحصاد، فإنه يتفق في جميع المواسم والمواعيد، ويأتي في الشتاء أو الصيف كما يأتي في الربيع، وهو بهذا المعنى علاقة سماوية روحية تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأمم التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضية، على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أمم وحَّدَتْها العقيدة السماوية وإن فرَّقْت بينها شتى المطارح والبقاع.
والواقع أن فرائض الإسلام جميعًا تقوم على الصلة الاجتماعية مع قيامها في الوقت نفسه على ضمير الفرد بينه وبين الله.
والحج أظهرها وأجهرها بهذا المعنى، ولكنه كذلك معنى يظهر في كل فريضة من فرائضه الخمس المشهورات، فمن قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» فإنما هو إشهاد تلاحظ فيه الجماعة كما تلاحظ فيه ضمائر الأفراد، وليست صلاة الجماعة منسية مع الصلوات التي ينفرد بها المسلم إذا تعذر عليه الاجتماع، وفريضة الزكاة لا تكون إلا في مجتمع يتعاون فيه الغني والفقير، وصيام رمضان ينتهي بالعيد الذي يجتمع فيه المسلمون كافة، فما من فريضة إذن في الإسلام إلا وهي فريضة الأمة بأسرها على نحو من الأنحاء.
ولقد طال بحث المؤرخين الغربيين عن أصول الحج إلى الكعبة قبل الإسلام، وتواترت الأقوال بتعدد الأبنية التي كانت من قبيلها في الجزيرة العربية، ومنها كعبة صنعاء التي يقال إنها كانت في موضع مسجد غمدان وكعبة نجران التي كشفها الرحالة المعروف الشيخ عبد الله فلبي (في سنة ١٩٣٦) وغير هاتين الكعبتين مما ورد في بعض الأخبار الضعاف بغير سند من دلائل الثقات.
وأيًّا كان القول الفصل في تاريخ الماضي فالحج الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابية.
ثم تقلبت الأيام حتى رأينا دعاة الاستعمار يسلمون الأماكن المقدسة إلى أيدي الصهيونيين!
أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإن رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة، لأنها العهد المجدد في كل عام بين شعوب الإسلام، وفي عصرهم أحوج ما يكونون فيه إلى الوفاق والوئام.