أفغانسْتان وَانتِشار الإسْلام في الهِند
في مقالنا عن استقلال الأفغان، قلنا: إن الخالق سبحانه وتعالى هو الذي كتب وثيقة الاستقلال للأمة الأفغانية حين أودع العزة في نفوس هذه الأمة العريقة، وخلقها عصية على الفاتحين، وأعصى من ذلك كثيرًا على الحاكمين المستعمرين.
وللتاريخ مواضع استفهام عن أطوار الأمم تخطر للسائل، ويلتمس الجواب عنها من هداية فكره، ومن دلالة الحوادث والمقابلة بين نقائضها وأشباهها.
وبعض مواضع الاستفهام هذه في تاريخ الأفغان أنها قوية، تصير على الشدائد، وتقتحم المكاره، ولكنها قنعت من القوة في أكثر العصور، بأن تجعلها أداة لحفظ الحرية ومناعة الحوزة، قليلًا ما جعلتها أداة للغلبة والطموح إلى توسعة الملك وبسط السلطان على الآفاق المترامية من حولها.
لم تكن هذه نظرتها إلى القوة، ولم تكن لها نظرة إليها كنظرة الفاتحين من أبناء الأمم المشهورة بالإقدام وشدة المراس وقلة الاكتراث بمخاطر الحروب والفتوح؛ ليس عن قصور في الهمم ولا عن زهد في العظمة كما كانت مفهومة في أزمنة الفتح والغلبة.
ولكنها ظاهرة من ظواهر التاريخ يفسرها موقع الأفغان، ثم يفسرها الدور الذي اختارته لنفسها بين دول المشرق الكبرى، وقد كانت كلها محيطة بالأفغان من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
•••
كانت الأفغان شعب قبائل متعددة لا تلتقي في وحدةٍ حكومية، وكانت الدول من حولها «إمبراطوريات» شاسعة الأطراف: بين إمبراطورية أبناء السماء، وإمبراطورية الراجات، وإمبراطورية الفرس أيام استقلالها وأيام دخلت مع العرب في دولة واحدة هي دولة الإسلام.
فماذا تصنع الأفغان بين هذه الدول الكبار؟
إذا استطاعت أن تؤلف بين قبائلها للمحافظة على استقلالها ودفع الطغيان عنها، فقد وفَّت بحق الكرامة وأدركت منها ما يعز على سواها في مكانها.
ولكنها استطاعت هذا وزيادة.
استطاعت أن تتولى شئونها وأن تتولى معها مهمة الرئاسة الفعالة في كل دولة اشتركت فيها، واستطاعت مع هذا أن تنهض للفتح في جوارها كلما دعتها إليه ضرورات الموقف أو حوافزه التي لا تهمل في زمانها.
•••
- أولها: أنها كانت ميزان الدولة التي تترجح في كفة البقاء أو كفة الزوال.
فالدولة الأموية زالت، وقامت في مكانها الدولة العباسية، يوم أعرضت خراسان عن الأولى وجنحت إلى الثانية، والدولة العباسية عادت فضعفت وتعرضت للزوال، يوم فقدت معونة خراسان.
- والصورة الثانية: التي أثبتت بها مكانها في الدولة أنها أخرجت للعباسيين بيوت الوزارة والولاية من البرامكة والطاهريين والسامانيين.
- والصورة الثالثة: أنها تكفلت لدولة بغداد بفتح الهند ونشر الإسلام فيه، فكان جانبها هو الجانب الوحيد الذي اتسع بالفتح وانتشار الإسلام، يوم كانت جوانب الدولة الأخرى تُنتزع منها قطعة بعد قطعة، ويجور عليها الأعداء من خارجها أو المتمردون المنتقضون عليها من داخلها.
والدول الأفغانية الثلاث التي نهضت بفتح الهند هي دولة بني «سبكتكين» ودولة الغوريين ودولة آل قيلجي، ولا سيما علاء الدين.
•••
وليس سبكتكين من صميم أبناء الأفغان، ولكن نشأته أفغانية ودولته أفغانية وقوته التي اعتمد عليها في نجاح حكمه ونجاح فتوحاته أفغانية، ولا يمكن أن تعرف بنسبة أخرى إذا وجب أن تنسب إلى قبيل أو نظام.
إن الإسلام دخل الهند من طريقين: طريق الفتوح وطريق الرحلة والتجارة.
وبعد فتح السند في أيام الأمويين لم تعرف للإسلام فتوح ذات بال غير الفتوح التي قامت بها الدول الأفغانية، ولكنهم في الواقع لم ينشروا الإسلام بالسيف، بل كان السيف يفتح لهم باب البلد، وتتكفل السياسة الرشيدة والمعاملة الحسنة بالبقية التي يعمل فيها الإقناع وحسن القدوة ما لا تعمله السيوف والعروش.
•••
ولقد كان نصر المسلمين في الهند آية، عند الهنود، من آيات المشيئة الإلهية، وكثير ممن آمنوا منهم بصدق الإسلام إنما أقنعهم بمصدره الإلهي أنه انتصر على جيوش تفوقه في العدد والعدة، وتقيم في مواطنها ومعاقلها بين موارد تموينها وأمداد الجند والمال المتوالية عليها، وكانت فتوح الإسلام أشهر من فتوح القادة الأقدمين الذين بقيت في الهند ذكراهم مقرونة بالإعجاب والرهبة، ولا استثناء في ذلك للإسكندر في أوج شهرته، فإن الإسكندر لم يصل إلى «الدكن» التي وصل إليها قادة الأفغان، ولم يبق بعده أثرًا من فتوحه كما بقيت آثار الفاتحين من المسلمين في حياتهم وبعد حياتهم، ولا تزال باقية فيها إلى هذه الأيام.
فلم يكن قادة الدول الأفغانية فاتحين للبلدان وكفى، ولكنهم كانوا فاتحين للقلوب وفاتحين للعقول، وربما اجتمع في بلاط أمرائهم — في جيل واحد — أقطاب من طبقة الفارابي والبيروني والفردوسي والعنصري والعسجدي وأبو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، وما زالوا يقربون إليهم في كل وطن فتحوه صفوة أبنائه من الحكماء والفضلاء على اختلاف النحلة واللسان، ومن آثار فتوحهم أنهم نقلوا إلى الهند لغة من أشيع لغاتها الحاضرة، وهي اللغة «الأردية» التي يتكلمها من المسلمين وغير المسلمين عدد لا يضارعه عدد المتكلمين بإحدى لهجاتها الإقليمية.
وعرف خلفاء بغداد هذا الفضل لقادتهم المفلحين، فكان من الألقاب التي خلعوها عليهم لقب أمين المملكة ويمين الدولة فضلًا عن ألقاب السلطنة والإمارة، وفي واحد من هؤلاء يقول أبو الفتح البستي يرثيه:
ولكنها قيامة كانت تقيم الموتى وتبعث الحياة ويتلوها عمار وازدهار في مختلف الأقطار.
وبعد، فموضع الاستفهام عن قوة الخلق الأفغاني هذا جوابه: إنه خلق قوي لم يعوزه الطموح، وعلو الهمة، ولكنه أثبت نصيبه من الطموح وعلو الهمة في خير صورة تلائمه وتنفعه ويؤدي بها أمانته القومية.
كان شعبًا من قبائل لم تجمعها في عهد الدول المحيطة بها وحدة حكومية، وأحاطت بها دول كبار كدولة أبناء السماء ودولة الراجات ودولة الأكاسرة والخلفاء. فإن لم تقنع بحريتها وحماية حوزتها فلا بد لها من الغلبة على الصين والهند وأرجاء الدولة الإسلامية، وإن قنعت بحريتها وحماية حوزتها فقد وفت بحق الكرامة.
ولكنها وفت بحق الكرامة وزادت عليه، فحفظت وجودها في حدودها، وأثبتت وجودها وراء تلك الحدود مما وراء النهر شرقًا إلى ما وراء النهرين غربًا، وفتحت بلادًا يسكنها الآن من المسلمين عشرة أمثال أبنائها في وطنهم العريق.