دِيَانَات العَالم السَّبع العُظمى١
أحرى بهذا الكتاب أن يسمى معرضًا دينيًّا على الورق؛ لأنه يجمع أكثر من خمسين ومائتي صورة فنية لمناسك الأديان في أنحاء العالم، حيث يقيم أتباع الديانات السبع المشهورة: وهي البرهمية والبوذية ديانتا أهل الهند، والطاوية والكنفوشية ديانتا أهل الصين، والإسلام والمسيحية واليهودية.
وأطيب ما في تلك الفصول من هذه الوصية أن كتابها يورد الاعتراضات الشائعة عن الدين الإسلامي ويرد عليها أحيانًا بما ينقضها ويجلو حقيقتها، ويوفق إلى الرأي الصواب في معظم أقواله.
بدأ بقوله عن النبي ﷺ: إنه لا يسمي نفسه المخلص، ولا يقول إنه المسيح المنتظر، ولكنه بشر يبلغ الناس رسالته الإلهية، وليس في نشأة هذا الدين غموض ولا مجال للخبط بالظنون؛ لأنه انبثق في ضحوة التاريخ الساطعة وانتشر بين أمم الأرض بقوة الإعصار، وسر انتشاره ودوامه أنه عقيدة سهلة واضحة متمكنة فيما تثبته للناس من أصول الإيمان، وهو أكثر من دين شعائر وعبادات؛ لأنه إلى جانب ذلك أدب حياة وشريعة سلوك تنظم معيشة الإنسان على مثال لا نظير له في الحضارة الغربية.
ومن أسباب قوة هذا الدين أنه عند اتباعه الكلمة الأخيرة من وحي الله، وهو يتقبل الديانات الكتابية التي سبقته، ولكنه يعلم أتباعه أنها اجتمعت صحيحة خالصة من الحواشي والأوشاب في آيات القرآن، ولم ينشئ القرآن كهانة ولا مراسم هيكلية تلجئ المسلم إلى وساطة زمرة من الأحبار والرؤساء، لأن فرائضه المعروفة الواضحة مما يؤديه كل مسلم بينه وبين الله بغير حاجة إلى الوسطاء.
يقول كاتب فصول الإسلام في الكتاب: «إن بعض عادات العرف في البلاد الإسلامية تحسب من دلائل الرجعية عند الغربيين، ولكن النبي نفسه رفع شأن المرأة ولم تكن قيودها الثقيلة مما يفرضه القرآن، وإنما جاءت من توليدات بعض المتأولين في عصور النكسة والجمود، وقد أنكر الإسلام وأد البنات ووَضَعَ الحدود لتعدد الزوجات بعد أن كان مستباحًا في أيام الجاهلية بغير حدود.»
وتكلم المؤلف عن نِحَل الصوفية فأشار إلى بعض نحلها التي يعترض عليها أهل السنة، ثم قال: «إن الصوفية انتعشت واستقامت بهداية الأفكار التي بثها الإمام الغزالي، وهو عبقري ديني ولد بإحدى قرى فارس سنة ١٠٥٨ ميلادية، ويحسبه المسلمون اليوم في عداد الأولياء القديسين، ويبلغ عدد المتصوفة بين المسلمين نحو ثلاثة في المائة ينتمون إلى طرق متعددة مختلفة الدرجات.»
ثم وصف الكاتب أذكار بعض الدراويش المنتسبين إلى الصوفية بصفات منكرة، يشاركه في إنكارها جملة المسلمين، ولكنه عاد بأكثر التقاليد الصوفية إلى العادات المستعارة من غير المسلمين.
واستطرد إلى التبشير بالدين الإسلامي بين غير المسلمين فقال: «إن الإسلام، إلى زمن متأخر، لم يكن له جماعات منظمة للتبشير، لأن هذا الدين الذي جعل المسلم في غنى عن الوساطة بينه وبين ربه قد جعله كذلك داعيًا إلى دينه حيث كان وإن لم تكن له جماعة ينتمي إليها ويتقيد بنظامها لنشر الدعوة، إلا أن الدلائل تشير إلى عناية حديثة من جانب المسلمين بأنظمة التبشير المسيحية، وقد أصبح الجامع الأزهر — ذلك المعقل الثقافي الذي صمد للتيارات الغربية وحال بين مؤثراتها وبين العالم الإسلامي — ينشط الآن لتدريب فئة من أبنائه كل سنة للعمل في هذا الميدان. ولاحت علامات النشاط لهذا العمل من جانب النحل المتشعبة في الإسلام، ومنها نحلة الأحمدية التي تبعث الرسل إلى أوروبا والشرق الأقصى وأقطار أفريقيا الشرقية.»
قال الكاتب: «إن في القارة الأفريقية اليوم نحو ستين مليون مسلم من نيف ومائتي مليون عدة أبناء القارة: وإذا تزاحم المبشرون من المسلمين والمسيحيين كسب التبشير الإسلامي عشرة كلما كسب التبشير المسيحي واحدًا من الوثنيين، ويشيع بين سكان أفريقيا الغربية — ولا سيما نيجيريا — أن الإسلام دين الرجل الأسود، وأن المسيحية دين الرجل الأبيض، وأجدر من ذلك بالالتفات أن المسلمين في الهند وباكستان حيث تزيد عدتهم على عدة إخوانهم في كل مكان آخر قد تحوَّل أكثرهم عن العقيدة التي تقضي بنبذ بعض الطوائف إلى العقيدة التي تبسط سنة المساواة بين جميع المؤمنين، وهناك علامات شتى على أن الإسلام يتحرك من سباته الطويل، ففي كل أمة إسلامية دعوة إلى إحياء الإسلام سياسيًّا وروحيًّا وثقافيًّا بمختلف الأساليب، وقد أعيد بناء مئات من المساجد في البلاد التركية بعد مصادرة أتاتورك للتعاليم الدينية، وزادت نسبة الطلبة الدينيين في إيران بمقدار أربعين في المائة بين سنة ١٩٥١ وسنة ١٩٥٥، وتتراءى في أفريقيا الشمالية علامات من هذا القبيل، ولا يخلو بلد بين بلاد المسلمين اليوم من شعور القلق من جراء الاحتكاك الدائم بالحضارة الغربية. وقديمًا كان المسلمون يقابلون الحضارات المخالفة بقلة الاكتراث حينًا وبالنفور حينًا وبالانطواء في جملة الأحيان، أما في الآوانة الحاضرة فالإسلام مجتهد في التوفيق بينه وبين مستحدثات الحضارة، ولا يجمد على القديم المفقود غير العدد النزر من المعتصمين المتشبثين بالتقاليد المهجورة، وبين الفريقين طائفة ثالثة ترى أن إحياء الإسلام من داخله عمل مستطاع للوقوف حيال الغرب موقف الأنداد الأكفاء، متعاونين على شرعة التعاون والاستقلال.»
ويعرض المؤلف بعد ذلك للدور المنتظر من الإسلام بين الديمقراطية والشيوعية، لأنه وسط في الموقع ووسط في العقيدة ووسط في المصلحة بين المعسكرين، ثم يؤكد قيام الفوارق بين مبادئ الثقافة الإسلامية ومبادئ الديمقراطية، ولكنه يخلط في تقديره فيخيل إليه أن المسلم غير بعيد من الشيوعية إذا عز عليه أن يجد في الديمقراطية رضاه.
ويختم كلمته عن الدعوة الإسلامية بقوله: «لا ريب أن الوجهة التي سيتجه إليها الإسلام سيكون لها أثرها العميق في مصير العالم الإنساني، وتتوقف هذه الوجهة على مقدار نجاح المسلمين في التوفيق بين عقيدتهم ومقتضيات الزمن والتاريخ، ومن ثَمَّ يدرك المسلمون أن قضيتهم العظمى هي قضية العقيدة الروحية، ويذكرون كلمة النبي حين قال لأصحابه بعد مرجعهم من إحدى الوقائع: إنهم عادوا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وهو جهاد الضمير.»
ويلي هذا الفصل عن الدعوة صفحات من ترجمة القرآن الكريم، يخصصها الناقل للسور والآيات التي تعرف القراء الأوروبيين بآداب الكتاب ووصاياه المميزة له بين وصايا الأديان الكتابية، ويغلب عليه في جملة ما ينقله أن ينحو بالمقارنة بينها جميعًا منحى الإنصاف ولا يتعمد فيها أن يبتر الشواهد للإيحاء بالمغامز والشبهات.
إلا أننا نترقب كثيرًا ونغلو في الثقة بفهم القوم لحقائق هذا الدين إذا ترقبنا من منصفيهم أن يصبحوا مسلمين متحرجين في تنزيه العقائد الإسلامية عن المظان التي قد تخفى على أناس من المقلدين بين أتباع هذا الدين، فلا يزال هذا المؤلف وغيره ممن يحسنون القول في الإسلام إجمالًا يتوهمون أن النعيم الموعود لا يعدو أن يكون ألوانًا من لذات الحس ومتعه من متع الطعام والشراب، ثم يتوهمون أن الإسلام قد انفرد بتصوير النعيم على هذه الصورة بين الأديان الكتابية، ويتناسون أوصاف الكتب الأخرى من القرون الأولى إلى ما بعد القرون الوسطى لكل متاع موعود في عالم الجزاء والثواب، وقد يأبون أن يفهموا أن الإجماع منعقد بين العارفين بالكتاب على اختلاف الصفات والموصوفات بين الدنيا والآخرة، ولكنهم سواء وقفوا بالفهم دون معنى التنزيه الواجب، لأنهم يجهلون أو لأنهم يستريحون إلى المعنى القريب المبذول، قد بلغوا طاقاتهم من إحسان النية وإحسان المقال.