كَلامٌ عَن الإِسلام وَالعَرب في كتابين حديثين١
كتابان من المطبوعات الحديثة قرأت فيهما كلامًا عن الإسلام والعرب، وعن تقدير الحضارة العربية.
فتحت أحدهما فوجدت في صدره فصلًا مطولًا بعنوان: «إسلام القرن العشرين»، فخطر لي أن المؤلف يتكلم عن تطور الإسلام في هذا القرن ويشرح آراء المجددين المصلحين من أئمته أو عادات المسلمين المعاصرين، مع المقابلة بينها وبين عادات المسلمين في القرون التي سبقت القرن العشرين.
ولكنني لم أقرأ من الفصل بضعة أسطر حتى ظهر لي أن المؤلف إنما يتكلم عن الشيوعية الماركسية ويحذر العالم الغربي من أخطارها؛ لأنها — كما يقول — غزوة جديدة تهدده في كيانه كما هدده الإسلام في القرن السابع للميلاد!
وإنه لتضمين من المؤلف أوضح وأبلغ من التصريح، لأنه يعلن رأيه ورأي قرائه المقصودين في موقفهم من الإسلام، ويبين لنا أن هناك قومًا من بني جلدته يحسون أن اسم الإسلام نذير بالخطر يكفي أن يذكر لهم ليدركوا أنهم مهددون بما يوقظ النائم وينبه الغافل ولا يحتاج إلى نذير.
وفرغت من الفصل فلم أجد فيه وجهًا من وجوه المشابهة غير أن الإسلام دعوة والشيوعية دعوة، أو هي كما سماها «دين دنيوي» يقوم على عقيدة «إيمانية» تجري مع الشعور ولا تجري مع المنطق والمعرفة البرهانية، وهذا كل ما هنالك من مشابهة بين النذيرين!
وقد زعم المؤلف أن خطة ستالين في «تشييع» القارة الآسيوية أو إكراهها على قبول الشيوعية ليست إلا تكرارًا لخطط القادة الآسيويين أمثال محمود الغزنوي وطغرل بك وألب أرسلان، وأن هذه الخطط جميعًا تعتمد على سلاح الدولة وسلاح العقيدة وتتخذ العقيدة أحيانًا وسيلة لقلب الدولة كما تتخذ الدولة أحيانًا وسيلة لقلب العقيدة.
لكن ما هو وجه الشبه بين دعوة تصحح المجتمع أو تعالج أدواءه وبين دعوة تهدم المجتمع ولا تبقي منه بقية تربط بين حاضره وماضيه؟
وما هو وجه الشبه بين دعوة تحصي عدد الضحايا من أعدائها ومقاوميها فلا يزيد على بضعة ألوف في مائة سنة، وبين دعوة تحصي عدد ضحاياها في موطنها وحده فيزيد على عشرين مليونًا في بضع سنوات؟
وما وجه الشبه بين الصديق والفاروق، وبين لينين وستالين؟
إن كل شيء في الإسلام والشيوعية يختلف أشد الاختلاف غير اسم الدعوة أو اسم العقيدة، إن صح وصف المؤلف للشيوعية بأنها عقيدة دنيوية.
ولكن الشبه المهم الذي جمعه المؤلف تحت عنوان فصله إنما هو في «النذير» الصريح باسم الدعوتين، وكفى به عنوانًا يغني عند قرائه المقصودين، وعندنا نحن، عن صفحات ومجلدات!
•••
هذا الكتاب اسمه «الشيوعية من وجهة العلوم الاجتماعية والنفسية» واسم مؤلفه الأمريكي جول مونيروت، ويقول مقرظوه: إنه ناقد ثاقب النظر يرمي بنظره إلى بعيد!
أما الكتاب الآخر فاسمه «العرب» واسم مؤلفه «هاري أليس»، وهو كاتب صحفي قضى في الشرق الأوسط حقبة غير قصيرة مشتغلًا بمراقبة الأحوال ومراسلة الصحف العلمية، وكتابه أشبه بكتب الدراسة فيما يعرض له من التاريخ القديم، وأشبه بمقالات السياسة فيما انتهى إليه في ختام فصله الأخير.
يبدأ المؤلف تاريخه الموجز من العصور السابقة للأديان الكتابية، ويعتبر تاريخ العرب أصلًا لتواريخ الحضارات التي عمرت طويلًا بين النهرين وبين البحرين؛ أي البحر الأحمر وبحر الروم.
ثم يوجز الكلام عن دعوة الإسلام فيقول، بعد خليط من الحقائق والأوهام: إن سنة ٧٣٢م وافقت ذكرى وفاة النبي ﷺ، فبلغت بدعوته أقصى المغرب وكادت أن تصل إلى أقصى المشرق، ولم يكن السيف وحده قوام الدعوة، بل كان كثير من أبناء البلدان المفتوحة يقبلون على الإسلام لتفضيلهم إياه على عقائدهم، أو لأن الدخول في الإسلام يرفع عنهم الضرائب التي تجبى من غير المسلمين، ولكن لا يفهم من ذلك أن المسلمين الذين دخل آباؤهم في الإسلام فرارًا من الضريبة كانت عقيدتهم الإسلامية هينة عليهم، بل كان هؤلاء المسلمون يذودون عن دينهم مستميتين مستشهدين كلما هوجمت ديارهم بعد سقوط «الإمبراطورية» حوالي القرن الثالث عشر للميلاد.
قال: «وإن العرب الذين كانوا قبل الإسلام بدوًا جفاة جلبوا إلى دولتهم الواسعة هديتين جليلتين: إحداهما الديانة التي بشر بها محمد ﷺ، والأخرى اللغة العربية، فأصبح اللسان العربي واسطة المعاملة كما أصبح واسطة التعليم والتثقيف، فزاد عدد الكتب التي كانت تظهر باللغة العربية بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر للميلاد على جملة الكتب التي ظهرت يومئذ بجميع اللغات الأخرى …»
ولم يخالف المؤلف ديدن زملائه في خصلتين ملازمتين لأكثر الكاتبين عن الإسلام والعرب من الأوروبيين، فإنه ليستريح إلى الإقلال من عدد المتكلمين باللغة العربية فيحصيهم بنحو خمسين مليونًا وهو يستطيع أن يعلم بغير حاجة إلى البحث الطويل أن خمسين مليونًا يتكلمون العربية يعيشون في أفريقيا الشمالية وحدها دون سائر الأمم الأفريقية الأخرى وراء مراكش والجزائر وتونس وليبيا ووادي النيل، ولا يقل المتكلمون باللغة العربية إلى الغرب من القارة الآسيوية عن ثلاثين مليونًا بين جزيرة العرب ووادي النهرين وسائر أقطار الهلال الخصيب، وقد يبلغ العارفون بالعربية من غير العرب عدة ملايين.
والخصلة الأخرى التي ينساق إليها المؤرخ الغربي عن سوء فهم منه للظواهر الفنية أحيانًا هي التطفيف من نصيب الذوق العربي الخالص من نهضة الفنون والثقافة في الدول الإسلامية أو «الإمبراطورية» الإسلامية كما يسميها.
فقد يكون المهندسون أجانب عن السلالة العربية الخالصة، ولكن الذوق العربي بلا جدال هو الذوق الذي غلب على هندسة المعمار في كل قُطر من أقطار المشرق والمغرب، وما من أحد ينظر إلى العمدان والأقواس التي تحمل القباب ثم يشك في قيامها جميعًا على أساس من إلهام «النخلة» بقوامها المديد النحيل وقبتها المعرشة وأقواسها المتناسقة على جهاتها الأربع، وليس التقابل بين الأشكال الهندسية على النسق المعروف عند الإفرنج باسم «الأرابيسك» إلا تكرارًا في فن البناء للتقابل بين القوافي والأعاريض والشطور في فن القريض.
ولا نكران لنقد الناقدين من جهابذة الفن الذين يأخذون على فن «المعمار» العربي خلوه من صور الكائنات الحية ومن صور النبات في أكثر الأحايين، ولكن هؤلاء النقاد ينسون أن مذهب المعمار العربي قابل للدفاع عنه من الجانب الفني الخالص، وإن ظنوا أن الدفاع عن هذا المذهب مقصور على الجوانب الدينية، فقد رأى الفيلسوف الكبير «عمانويل كانت» أن الفن الخالص يتمثل في المعمار العربي وحده، وقلما يتمثل على هذا النحو في فنون المعمار الأخرى؛ لأن جماله مستمد من جمال الأشكال غير مستعار من الصور والأشباه التي يقاس جمالها بغير مقاييس الهندسة ومقاييس البناء، ومن الإنصاف للذوق العربي أن نذكر أن أشكال الهندسة أقرب إلى قوام الجدار والسقف والعمود الحجري من الصور الحيوانية أو النباتية، فإذا حسنت التحلية بصور الأحياء أو صور النبات فأحرى أن يوكل ذلك إلى نقش الرسوم التي تعلق بألواحها على الجدران، كأنها بعض الأثاث الجميل بين سائر المقتنيات الفنية التي تحتويها الحجرات والبيوت.
وما دام الأمر لا يرجع إلى فقدان التعاطف بين الإنسان وسائر الخلائق الحية فلا معابة فيه على الذوق ولا على الشعور، ولكنه تقسيم لمواضع الجمال الفني حيث ينبغي أن توضع من جدران البيوت أو مقتنيات البيوت.
أما أن تجريد المعمار العربي من الرسوم الحية لم يكن يرجع إلى فقدان التعاطف بين العربي وسائر الخلائق الحية، فهو حقيقة لا تخفى على من يروي القليل من الشعر العربي فضلًا عن الكثير، فإن الشاعر الذي لا ينسى الناقة ولا الفَرَس ولا الربيع والمرعى قبل عصر الحضارة خليق أن يحس الحياة والأحياء تحت قبة السماء، ولا ينتظر أن يخلق إحساسه بها تحت قباب الهياكل والقصور.
وينتقل المؤلف من حديثه عن عصر الحضارة إلى حديثه عن قضايا العصر الحاضر، فلا يفوته أيضًا أن يدلي بدلوه في تلك السخافة التي تعاهد عليها زملاؤه الصحفيون، أو المؤرخون العصريون من أبناء الغرب كلما ذكروا قضية فلسطين، فهي عندهم قضية كسبتها عصابات إسرائيل من الأمم العربية في ميدان القتال وانتصرت فيها بجيشها وسلاحها على دول العرب مجتمعات، ولم يكن أحد — بعيدًا عن الشرق الأوسط — يجهل أن إسرائيل كانت تحارب بسلاح الدول الغربية ومالها، وكانت تلقى التشجيع من تلك الدول فتزحف على الأرض المحرمة ويصبح احتلالها تلك الأرض «أمرًا واقعًا» و«حقًّا مكتسبًا»، على حين يضطر العرب إلى الجلاء عن أماكنهم بأمر السادة المسلطين على حكوماتهم وجيوشهم، ثم يقتل وسطاء الهيئات الدولية الذين يكفون إسرائيل عن العدوان أو يترددون في استجابتها إلى دعواها، فلا ينالها من جراء قتلهم جزاء ولا يحول بينها وبين المزيد من معونة السلاح والمال.
إن البعيدين عن الشرق الأوسط يعلمون ذلك فلا ينساقون إلى القول بانتصار إسرائيل عن حسن نية، ولا يقررون هذه السخافة إلا وهم يتعمدون المغالطة ويسترون الجريمة المشتركة بين حكوماتهم وعصابات الصهيونية العالمية، فإذا بدرت تلك السخافة من مقيم في الشرق الأوسط مطلع على الأخبار من مصادرها، فهو في الواقع يبتدع تلك السخافة ويعمل على ترويجها ولا يتورط فيها مضطرًّا إليها بعد اختراعها وترويجها.
… كلما ازدادت ثقة العرب وجب عليهم أن يثقوا بشعوب الغرب التي تعودوا أن يسيئوا بها الظنون منذ أيام الوصاية والانتداب، وعلى الغربيين — من جانبهم — أن يذكروا أنه قبل قرون عديدة سبقت وصول الرجل الأبيض إلى أمريكا كان العرب سادة الدنيا وزعماء حضاراتها.