الاقتصَاد السيَاسي في الإسْلام (١)١
الاقتصاد السياسي علم يبحث عن تكوين الثروة العامة في المملكة، وكيفية تصريفها حتى تعود بالربح على المملكة التي نشأت منها، وهو بهذا الاعتبار يحسبه بعض الناس أنه إن جاء في مصلحة مملكة فلن يجيء في مصلحة الأخرى، أو كان في منفعة فرد فلا يكون فيه نفع لفرد آخر، والحقيقة أنه علم ينفع كل من تمسك بنظرياته وأحسن استعمالها، فمتى كان البائع ملمًّا به عارفًا بأسراره عرف كيف يروج تجارته وينتفع بأرباحها، ومتى كان الشاري كذلك وقف عند الحد الذي يتجاوز منفعته، فلم يتورط في الشراء إلى ما يتعداها وبهذا يحفظ التوازن بين الاثنين.
ولا فرق بين الاقتصاد المنزلي والاقتصاد السياسي إلا في أن الأول يتعلق بالأفراد يمضون فيه على ما يسعد حالهم وحال المتصلين بهم، والثاني يتعلق بالحكومات تمضي فيه على ما يسعد حالها وحال رعيتها.
فالأول يُكلِّف الأفراد أنفسهم بأنفسهم وهم منقادون إلى ذلك بداعي الحاجة الشخصية، والثاني تُكلَّف به الحكومات من قبل رعاياها، ورعاياها هم أولئك الأفراد، فالصلة بين العلمين متينة تكاد تجعلهما علمًا واحدًا إذا كان الأمر كذلك، فعلم الاقتصاد قديم جدًّا عمل به الناس منذ تفرقت مناحي كسبهم، وقد عرفوه عملًا وعلمًا، إذ لا يعقل أن واحدًا يتجر ويصنع إلا وهو متيقن من فائدته في ذلك، وأن آخر يشتري أو يستعيض ما لم يكن في حاجة إلى ما يشتريه أو ما يستعيض به، غير أنه كان على أكمل أنواعه بالنسبة لتلك العصور حين اخترعت النقود وميز الناس قيم الأشياء بالنسبة لبعضها من جهة وبالنسبة للذهب والفضة من الجهة الأخرى، فتوحدت مطالبهم واتجهت نفوسهم إلى أمر واحد وهو اقتناء الذهب والفضة، فابتدعوا لذلك الأساليب وانتجعوا الطرائق، وفصلوا كل ما يؤدي إلى ذلك الغرض من أقرب الطرق، وبينوا كل ما يحول دونه من العوائق، فحصل من مجموع أفكارهم في هذا الصدد علم يشبه علم الاقتصاد العصري من بعض الوجوه.
اخترع النقود وحد المطالب وشغل الأفكار على اختلاف منازعها بشيء واحد ليس يعسر على الناس أجمعين إذا اتجهت أفكارهم إلى ذلك الشيء أن يمحصوه ويجعلوه للعيان كأحسن ما يكون، وقد فعلوا فأصبحت الأموال وطرق توزيعها ووسائل استثمارها معلومة عندهم تمام العلم. ولا أظن أن التاجر في القرن العشرين أحكم في معاملاته وتعميماته من التاجر في القرن التاسع أو العاشر مثلًا، بل ربما كان هذا أحكم لبعده عن المضار، والمجازفة التي تحدق بتاجر هذا القرن. هذا بالنسبة للأفراد، أما الأمم فلم تنتبه إلى الاستفادة من علم الاقتصاد على صورة واضحة قائمة على دعامة ثابتة إلا حوالي القرن السابع عشر، وذلك لا يمنع أن تكون في القرون الأولى استفادت من تجارب الأفراد ما يمكنها به تسيير أعمالها على شيء من الضبط والحكمة، ولا يمنع أيضًا أن يكون هداتها وكتَّابها قد بحثوا في هذا الباب، فظهر لهم من بحثهم بعض قواعد وقضايا اتخذها الملوك والولاة قوانين يراعونها في تدبير ممالكهم. قال ابن خلدون في مقدمته: «فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس ولم يحصل للتاجر حوالة الأسواق، فصد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسد سوق ذلك الصنف، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت رءوس أموالهم، واعتبر ذلك أولًا بالزرع، فإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره لقلة الربح فيه وندارته أو فقده، فيقعدون المدة وكسد سوق ذلك الصنف، فقعد التجار عن السعي فيها وفسدت عن النماء في أموالهم، ويعودون عن الإنفاق على رءوس أموالهم وتفسد أحوالهم، ويتبع ذلك فساد حال المحترفين بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولًا، وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعًا، فإنها تقل جباياتهم من ذلك.»
وقال: «واعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع وبيعها بالغلاء أيًّا كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش، وذلك القدر الثاني يسمى ربحًا، فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه، وإما بأن ينقلها إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة»، إلى أن قال: «ويمكن حصر التجارة في كلمتين: شراء الرخيص وبيع الغالي.» وقال أيضًا: «الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص وكذلك الغلاء المفرط، وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط وسرعة حوالة الأسواق، وعلم ذلك يرجع إلى القواعد المعتبرة بين أهل العمران، وإنما يحمد الرخص من الزرع لعموم الحاجة إليه.»
وقال: «إن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشئوم يعود على فائدته بالتلف والخسران.» هذه آراء ابن خلدون في الثروة ومذاهب استعمالها لو جئنا نتقدها لما أملنا أن نأخذ عليه أكثر مما أخذوا على أول من وضع علم الاقتصاد في القرن السابع عشر، بل لرأينا أنفسنا مضطرين في بعض النقط إلى الثناء عليه لتقريره قواعد لا تزال مرعية في هذا العلم إلى الآن.
نأخذ عليه قوله: «ويتبع ذلك فساد الحال المحترفين بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولًا»؛ لأنه متى رخص القمح أو غيره من نتاج الأرض كثر الإقبال عليه واشتراه من لم يعتد شراءه، فينشأ عن ذلك أن المطاحن والمخابز يروج عملها، ويزداد عدد الواردين عليها، لا كما يقول هو أنها تكسد حالها وتفسد أعمالها. ومع ذلك فقد أصاب في قوله عن صانعي المحاريث والفئوس وقاطعي الخشب المستعمل في تلك الآلات، فإنهم تبور صناعتهم ريثما تتجدد همة الفلاح ويعوض ما خسر، وأصاب أيضًا في تقرير مبدأ التضامن بين الأفراد واشتراكهم في الضر والنفع ما داموا مجتمعين في صعيد واحد يتبادلون التجارة ويتجاذبون المنافع بينهم. ونأخذ عليه قوله في تعريف التجارة: «هي شراء الرخيص وبيع الغالي»؛ لأنه قول ينطبق على التاجر فقط ولا يشمل غيره، والتعريف العصري أكمل وأعم وهو: «بالمبادلة تدفع ما تستغني عنه وتأخذ ما أنت في حاجه إليه»، ولكنه كان في معرض التكلم عن الصنائع صناعة صناعة، فربما لم يصرف فكره إلى التعميم إلا أننا إذا أردنا إنصافه فلا يسعنا إلا الإعجاب بقوله هذا: «الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف وكذلك الغلاء المفرط، وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط»، فهو لا يتعدى ما ثبت عندنا الآن من أنه لا تستقيم حالة السوق إلا بتساوي المعروض والمطلوب، والاقتصاديون لم يقروا على هذا المبدأ إلا بعد جدال عنيف نشب بينهم، وكان كل منهم يذهب فيه مذهبًا، وابن خلدون قد سبقهم في تقريره، كذلك نعجب بقوله: «إن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشئوم يعود على فائدته بالتلف»، فقد ظهر أن الاحتكار أصل الغلاء، والغلاء يغرر بالعقول ويذهب بها مذاهب الضلال، ويجرها إلى الخطأ في أحكامها. وهذه أزمة مصر لم تحدث إلا من ارتفاع أسعار الأرض ارتفاعًا لا أساس له وإقبال الناس على اقتناء الأراضي بلا تدبر أو حساب.