الاقتِصَاد السَّياسي في الإسْلام (٢)١
تلك آراء كاتب، أما الملوك فكانوا يعرفون من علم الاقتصاد مثل ما يعرفونه هذا أو أكثر. قال المأمون: «الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن منهم كان عيالًا عليهم.»
وهذا التقسيم هو المأثور الآن بين الناس، وإذا كان أول مؤسسي علم الاقتصاد أجهد نفسه وأعمل فكره حتى قال: إن الأرض منبع الثروة وإن غير الفلاح عالة عليه، فقد قال المأمون قبله: إن الناس سادة وصناع وتجار وزراع، ومن ليس كذلك فهو عيال عليهم، فكان قوله موافقًا لآخر رأي من آراء القرن العشرين عن توزيع العمل.
أما الإسلام من حيث هو شرع ودين فقد ألَّم بكثير من قواعد الاقتصاد مما لو جمع وأفردت له الأبواب والفصول لصح أن يكون هديًا يسترشد به في مشكلات الاقتصاد ومعضلاته. وقد كلف الدائنين به بفروض وواجبات إذا علموا بها كان من أثرها في معاملاتهم أن ينتظم السوق ويترتب سير الأعمال ترتيبًا يقلل من شكوى المفلوكين، ويخفف من تعب المنهوكين، ويبطل الغش الذي يضيع أجر العامل، ويربي حظ الخامل، ويدخل بين الناس فيفصم عراهم ويفسد عليهم أعمالهم. فإذا نظرنا إلى الإسلام وقوانينه الاقتصادية فإنما ننظر إلى وازعَيْنِ؛ وازع إرشادي يقود الناس إلى ما فيه صلاح دنياهم، ووازع باطني يحذرهم آونة بعد أخرى من الغش والخداع، ويلفتهم إلى نقاء الذمة وطهارة النفس وطلب ما يستحقونه على عملهم بلا طمع ولا زهد، ومتى بطلت التجارة المغشوشة لم تكسد التجارة المتقنة، ولم يتحسر عامل على عمله، أو يأخذ بائع فوق حقه، أو يمس شارٍ في ماله، وهذا نهاية ما يصل إليه الانتظام في الأعمال.
وسائل إحداث الثروة في الإسلام هي التجارة والصناعة والزراعة، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. أي أن في إرسال الرياح ما يبشركم بنزول المطر وهو دم الزرع، فينمو ويثمر ويكون لكم من جناه ما تحملون به الفلك (وهو ابن الصناعة) إلى الجهات الأخرى لتبتغوا من فضله (التجارة)، ولعلكم تراقبون الله في أعمالكم؛ فتشكرونه على ما وفقكم إليه مما فيه فائدتكم، ولا يذهب قارئ إلى أن هذا خصيص بالعرب، فإن العرب لم يكن من عاداتهم حمل تجاراتهم في السفن، بل كانت سفنهم الجِمال يركبونها ويحملون عليها رحالهم، كذلك لم تكن معائشهم تتوقف على الزرع، فإن بلادهم حفراء جفراء، أو هي واد غير ذي زرع كما قال القرآن الكريم، فكانوا يشيمون البرق للتفاؤل أكثر مما يشيمونه للاستمطار، وكانوا ينتظرون المطر للاستقاء أكثر مما ينتظرونه لري المروج والمزارع، فأمره تعالى عام لعموم خلقه لا لفئة معينة منهم.
وقال ﷺ: «سافروا تغنموا»، وهو أمر يظهر في أول الأمر أنه تحصيل حاصل لأن العرب كانوا يسافرون بلا تكليف من أحد وكانوا يسافرون للتجارة أيضًا، فما معنى هذا الأمر؟
ولكن الإسلام قد جاء مبطلًا لكل ما كانت عليه الجاهلية، وكان ينتظر أن يمنعهم عن التجارة كما منعهم عن غيرها من ضروب الكسب كالميسر والأزلام، فإقراره لهم عليها يعد أمرًا جديدًا وتكليفًا من تكاليف الإسلام، كما أنه يعد تنبيهًا للخامل الذي ركن إلى الكسل واستنام للخمول، فيحفزه إلى مسابقة العاملين في ميدان الكسب والعمل، ويفهمه أن هذا من واجبات الدين وموجبات اليقين، ويؤخذ من هذا التكليف أنه يرشدهم إلى استبدال ما يفيض عن حاجاتهم بما يحتاجون إليه من البلاد الأجنبية، والمبادلة من أهم قواعد الاقتصاد.
أما رأس المال وهو رأس علم الاقتصاد فقد قال عنه النبي ﷺ: «تزود من صحتك لسقمك ومن غناك لفقرك ومن شبابك لهرمك»، ويفهم من هذا الحديث الشريف أنه لم يعين رأس المال بالذهب والفضة، بل تركه على إطلاقه، يجوز على كل ما ينجي صاحبه من العدم، فكما يصح أن يقال: إن التزويد من الصحة للسقم هو بتوفير النفقة التي تلزم في حالة المرض، كذلك يصح أن يقال: إنه يكون بتعلم الطب للعلاج به عند لزومه، وكما يمكن أن يكون التزود في حالة الغنى باقتصاد شيء من الدخل لأيام العوز والفاقة، كذلك ممكن أن يكون بتعلم الصنائع والتدرب عليها لتغنيه عن بسط يده بالسؤال إذا ضاقت به الحال، وكما يجوز أن يتزود الشاب لهرمه بادخار المال، كذلك يجوز أن يتزود بالعلم والمعرفة ليستعملهما في جلب خير أوفر بتعب أقل وهو الغرض الذي أسس لأجله علم الاقتصاد.
وبعد أن فصل الإسلام موارد الرزق والسبل المؤدية لها وبين استحالة تساوي الناس في العمل والكسب أراد تعزية الفقراء منهم لئلا يجد الحسد إلى قلوبهم منفذًا، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ كناية عن تقسيم العمل بين الناس، فلا يحسد أحدهم الثاني على ما سبق إليه من المنفعة لأنه تمييز تقتضيه طبيعة العمران.
ثم أقبل عليهم جميعًا يعلمهم كيفية إنفاق الثروة، فقال: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ، والخير هو ما ترتاح له الذمة ويرضى به الضمير، وقال: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا. ثم شملهم بنصيحة عامة تنفع التاجر والصانع وصاحب المال، وهي: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. ولو عمل الناس بهذه الوصية لألفيت أغلب من يشكو ساكتًا، فالعامل الفقير يرضى بحظه؛ لأنه غير مبخوس الأجر، والتاجر يقنع بما يصله؛ لأنه قيمة بضاعته، والشاري يسر؛ لأن موفي الكيل راجح الوزن، والثقة تتبادل بين الجميع؛ لأن الغش مرفوع من بينهم، والمعاملة تسري على أحسن نمط؛ لأن الثقة في الوسط، وهذه نتيجة لا يستطاع الوصول إليها بعلم من العلوم.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم تحريمه من التحلي بالذهب على حين لا خطر في ذلك إلا استخدام أتعاب الناس فيما لا ينفعهم، علمنا أن الإسلام ينظر إلى كل ما يحيط بالناس في دينهم ودنياهم، فأثبته وشرح علاجه في القرآن، وقد رأينا علماء الاقتصاد يقررون أنه لا يصلح للعملة إلا الذهب والفضة، وينددون بمن يستعملها في غير ذلك، فهل رجع العالم ثلاثة عشر قرنًا أم تقدم القرآن كل تلك القرون.