بَراهين الإيمَان عن طريق براهين الشكوك١
تَرِدُ إليَّ على الدوام رسائل صريحة من الشباب المثقف الحائر في شئون العقيدة. وموضع الصراحة في هذه الرسائل أن أصحابها يعربون في غير مواربة عن شكوكهم في مسائل الدين: من الإيمان بالله إلى صلاح بعض الفرائض والعبادات.
ولست أتشاءم بهذه الصراحة؛ لأنها دالة على أمور كثيرة تدعو إلى التفاؤل وحسن الأمل في الضمائر المتفتحة للمعرفة وسلامة الإدراك.
تلك صراحة تدل على تعقل شبابنا لعقائدهم الروحية، وعلى استعدادهم للانتقال فيها من حالة التقليد إلى حالة التبصر والاجتهاد.
وتدل — مع هذا — على امتعاض نفوسهم من حالة الشك والحيرة، بدلًا من التذرع بها إلى الهجوم على «الإباحية الأخلاقية» واستحلال ما لا يحل في الدين ولا في عرف التدين الذي تقوم عليه أسس الآداب الإنسانية.
وتدل، بعد هذا وذاك، على أدب في الطبع يعصمه من داء الغرور، ويلهمه أن يطلب المزيد من العلم حيثما تطلع إليه، ويندر في المصابين بداء الغرور من يحسب أنه بحاجة إلى علم في مسائل الحياة الكبرى غير الذي يهجس بخاطره ويقع منه موقع القبول، بغير بحث ولا محاولة للمزيد من الفهم والإيضاح.
وبين الرسائل التي وردتني أخيرًا من هذا القبيل رسالتان: إحداهما بتوقيع «م. ا. زيدان»، والأخرى يرجو صاحبها أن أرمز إليه بحرفي «س. ع» إذا استجبت لرجائه وكتبت في مجلة «الأزهر» عن موضوع سؤاله.
يقول صاحب الرسالة الأولى: «تقدمت للالتحاق بكلية الطيران؛ لأحقق أمنيتي في أن أكون أحد أفراد القوات المسلحة، ونجحت في الكشف الطبي مع القلائل الذين ينجون منه في قومسيون القوات الجوية، ثم رسبت أخيرًا في كشف الهيئة التي لم يرسب فيها أحد إلا أنا. أتدري لماذا؟ لأن قلبي على اليمين!»
ويختم صاحب الرسالة كلامه متسائلًا: ألست معي أن الله يتسبب في عذاب البشر؟ أستحلفكم بالله أن تقنعوني بالآية التي تقول: وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة: ٢١٦].
أما صاحب الرسالة الثانية «س. ع» فسؤاله عن «معرفة المؤمنين بالله، لِمَ لا يدركونها بظهور الله لهم علانية بدلًا من هذا التخبط من قديم الزمن في ظلمات الجهل ومنازعات الغضب والتعصب بين المنكرين والمؤمنين، وبين المؤمنين أنفسهم من أنصار كل دين، بل من أنصار الدين الواحد على اختلاف المذاهب والتفاسير …»
ولقد كشفت لي تجاربي في دراسة الشكوك الدينية عن طريق قريب إلى أن الإيمان لا يطول النظر فيه كما يطول النظر في البراهين الفلسفية التي يقوم عليها العلم بوجود الله.
كشفت لي هذه التجارب عن يقين لا أرتاب فيه، وهو اليقين بسهولة الخلاص، من براهين الشكوك الدينية أو براهين الإلحاد؛ لأن ظهور البطلان في هذه البراهين أيسر من البحث في براهين الفلاسفة على تحقيق وجود الله: وهي براهين المنطق التي لا تصبر عليها جميع العقول.
فمن اليسير أن نفهم — بعد قليل من البحث — أن إنكار وجود الخالق لشيوع النقص والعذاب في عالم المخلوقات هو إنكار ضعيف السند، غير قابل للتصور الصحيح عند إمعان النظر فيه.
وأيسر من ذلك إظهار البطلان في تحقيق معرفة الله برؤية العيان، أو ما هو من قبيل رؤية العيان.
فإذا كان وجود الخالق يستلزم خلو الخلق من النقص والعذاب فلنجتهد في تصور العالم على هذه الصورة، فلا نلبث أن نفهم أنها هي المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض.
أولًا: كيف يمكن أن يكون المخلوق كاملًا كمال الخالق الذي لا يعوزه شيء من الأشياء؟
ذلك هو المستحيل الذي لا تتعلق به إرادة الله، ولا يجوز لنا أن نتطلبه من قدرة الله؛ لأن قدرة الله التي لا نهاية لها هي التي توجب أن يكون المخلوق المحدود بزمانه ومكانه دون ذلك، وتمنع أن يوجد في التصور إله كامل مخلوق إلى جانب الإله الكامل الخالق لجميع الأشياء.
ولنتعسف التصور — إن استطعنا — فنقدر أن المخلوقات يمكن أن توجد ناقصة، وأن تكون مع نقصها سعيدة لا ترجو شيئًا، ولا يفوتها رجاء ترجوه إذا جاز هذا في حق الكائن السعيد الظافر بكل ما يريد.
فهل توجد هذه المخلوقات السعيدة دفعة واحدة بلا ولادة ولا نمو ولا وقوف بالنمو عند حد محدود؟
وإذا وجدت هذه المخلوقات السعيدة، فهل تكون سعادتها من نوع واحد لا فرق فيه بين هذا المخلوق وذلك المخلوق، كأنها نسخة مكررة في جميع الصفات والأحوال؟ وهل تتم لها سعادتها بغير مجهود منها وغير سبب من بواعث نفوسها وبغير فرق بين من ولد بالأمس ومن يتبعه في الميلاد؟
وهل يتبعه ذلك التابع في الميلاد صغيرًا يشعر بالنقص أو لا يشعر به ولا يشعر بما عداه؟
أما إذا تفرقت هذه المخلوقات في أنواع السعادة، فكيف تتفرق دون أن يكون هذا المخلوق مستمتعًا بمزية ليست للآخرين من المخلوقات؟
وهل تكون المخلوقات جيلًا واحدًا، ثم يكون هذا الانفراد بالخلق إنصافًا للأجيال التي تظهر بعد العدم على سنة التتابع بين الوالدين والمولودين؟
إن خطأ الشك الذي يقوم على افتراض العالم على صورة من هذه الصور هو أظهر الأخطاء بعد النظر اليسير.
فكمال المخلوقات لا يدل على وجود المنفرد بالكمال المطلق الذي لا يتكرر ولا يقبل التكرار.
بل نقص المخلوقات هو الذي يدل على ذلك الكمال على كل وجه قابل للتصور والتقدير.
وإذا تصورنا الخلق بهذه الصورة التي لا صورة غيرها في الإمكان، فمن اليسير أن نفهم كيف نرجو شيئًا لا يتحقق، وكيف نجهل ما نرجوه، ولا ندري بكل ما يضمره الغيب لنا من عواقب هذا الرجاء.
ويستحلفني السيد «م. ا. زيدان» أن أقنعه بالآية التي تقول: وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة: ٢١٦].
فلا أراني بحاجة إلى مثل بعيد عني، ولا عن الواقعة التي رواها صاحب الرسالة عن نفسه، وكانت سببًا لشكواه من المقادير.
لقد أردت في مطلع شبابي كما أراد السيد زيدان أن أنجح في امتحان كامتحانه لإتمام الدراسة بالديار الأوروبية، وكانت الجامعة المصرية في نشأتها الأولى هي التي نظمت ذلك الامتحان على يد رئيسها سعد زغلول لتخريج الأساتذة المرشحين للتدريس فيها بعد عودتهم من الجامعات الفرنسية والإنجليزية، وقد فاتني النجاح في الامتحان لسبب من الأسباب الشكلية كما فات السيد زيدان، فأظلمت الدنيا في عيني يوم ذاك، ونعيت على الدنيا كلها خيبة الرجاء، وظننت أنه هو الرجاء الأول والأخير في الحياة، ولكنني اليوم — بحمد الله — غير نادم على ما فات وغير عاتب على المقادير. بل قد علمت بعد قليل أنني لم أعتب على سعد زغلول، ولم أحمله جريرة الخيبة فيما رجوت، وكنت في مقدمة المدافعين عن عمله بالجامعة المصرية يوم أنكره عليه المنكرون غير منصفين ولا متحرجين.
أما الشك في وجود الله لأنه لا يظهر لنا عيانًا، فهو أضعف الشكوك التي تساور العقول في أمر الأديان السماوية وفي أمر كل دين يؤمن فيه المعتقد برب معبود.
هل تريدها معرفة إنسانية أو تريدها معرفة من طبيعة غير طبيعة الإنسان فيما يعرفه ويتعرف عليه من الأشياء؟
إننا لا نعرف أوضح شيء في عالم المحسوس؛ لأنه يرينا نفسه جليًّا واضحًا للعيان.
وهذه الشمس لا ترى العين شيئًا أوضح منها ولا يزال التعرف عليها حتى اليوم مبدئيًّا من أوله كأننا نراها لأول مرة في عصر العلوم والكشوف.
وليس بالمعقول — إنسانيًّا — أن تكون حقيقة الحقائق الكبرى أقل أسرارًا أمام العارفين والمتعرفين من أقرب المحسوسات إلى الوضوح بغير أسرار ولا بقية للتعرف عليها بعد نظر العيان.
ولكننا نعتسف التصور مرة أخرى ونحاول أن نتصور كيف تتأتى المعرفة بالله عيانًا لجميع المخلوقات في جميع الأوقات.
فهل يتجلى الله لعباده مرة في القِدم، ثم ينتقل هذا التجلي بالرواية والحكاية إلى الخلفاء والأعقاب؟
وهل ينقله من رأى الله عيانًا إلى خلفائهم وأعقابهم نقلًا يتساوى فيه الخبر ويتساوى فيه اليقين بالرواية على مثال لا يتطرق إليه الشك والخلاف؟ وإذا حدث هذا، فمن أين لنا أن الخلفاء والأعقاب تُقْبَل هذه المعرفة على صورتها المثلى ولا تشك فيها كما يشك المنكرون للأنبياء والمرسلين؟
فإن لم يستقم هذا التصور في العقول، فهل يستقيم فيها أن يتجلى الله لكل جيل في زمان بعد زمان! وهل يغني التجلي في الجيل بعد الجيل عن التجلي مرة بعد مرة، بعد ألف مرة، لكل مولود جديد في كل جيل جديد؟
وإذا تكرر هذا التجلي خاصًّا بكل مولود، فهل تتساوى المخلوقات في كنه الإيمان وفي درجة الإيمان، بل في كنه العيان ودرجة العيان؟
وإذا أمكن أن يتكرر العلم بحقيقة الحقائق على السواء وعلى هذا المثال، فماذا بقي للنفوس والضمائر من الفارق بينها وبين الآلات الصماء في تعليق الصور وإدراك المعرفة واجتهاد الضمائر والعقول؟
إن إيمانًا كهذا لا تختلف خصائصه عن خصائص الأجسام المادية التي لا معنى فيها لعقيدة من العقائد ولا لاتفاق أو اختلاف على هذا الدين أو ذاك.
ونكتفي بما تقدم لتقرير الفكرة التي أردنا أن نقررها بهذا المقال، ومجمل الرأي فيها أن الشك في براهين الإلحاد أيسر أمام العقل من براهين الشك في الإيمان.
فهاتان حجتان مِن أشيَعِ الحجج التي نسمعها من المتشككين اعتراضًا على الدين: حجة الألم في الدنيا، وحجة الاستدلال على وجود الله برؤية العيان، نوازن بينهما وبين ما يقابلهما، فلا نطلب من المعترضين أن يذهبوا بعيدًا في التفكير إذا وقفوا عند القول بأن العالم كما يريده المعترضون أصعب تصورًا وأشد ظلمًا للمخلوقات من العالم كما يتصوره المتدينون المؤمنون بوجود الله على غاية ما ينتهي إليه تصور العقل البشري من الحكمة والقدرة.
ونحن أوثق ما نكون يقينًا بأن سائر البراهين التي تخطر للمعترضين تجري هذا المجرى، وتنتهي عند القياس إلى مثل هذه النهاية، وكلها كافية للاقتناع بأن براهين الشك والإلحاد أظهر خطأ من براهين اليقين والإيمان.