الجَامِعَة المصْريَّة والأَزهَر الشريف لا يهمهما لمن يكون الغلب
في البلاد المصرية الآن جامعتان متناظرتان: أولاهما على وشك الدخول إلى ميدان المناظرة، وهما الجامع الأزهر والجامعة المصرية.
ووجه الشبه بينهما أن دروسهما متقاربة، وإن ظهرت أبعد ما يكون شبهًا ببعضها، فإن كل ما في الأزهر علوم كلامية سواء كانت منطقا أو بلاغة أو غير ذلك، وكذلك الجامعة، فليس يتكلف مدرسوها أن يحملوا أداة من أدوات المعامل لشرح الدرس عليها، اللهم إلا لسانهم والكتاب، فالأول مدرس الآداب اليونانية والعربية، والثانية تدرس أدب الإنجليز والفرنسيس وغيرهم من الأمم المتحضرة الحديثة، والأول يعتذر عن إلحاق العلوم العصرية بعلومه بأنه ديني لا يجوز أن يشتغل إلا بالعلوم الدينية، والثانية تعتذر عن ذلك بحداثة عهدها وعدم انتظام مُعِدَّاتها، وهما عنصران متناقضان عن جرم واحد.
ولقد أمَّلت الأمة المصرية في الأول وترقبت منذ عهد بعيد تحقيق أملها، ولا يزال في صدرها بقية رجاء في حصول النفع منه، وهي تهتم الآن بوضع ثقتها في الجامعة لولا أنها لم تر منها حتى الساعة ما يحملها على ذلك.
من البديهي أن أيهما كان الأسبق إلى إدخال العلوم النافعة فيه كان له الفوز على منافسه، فلنغمض أعيننا ساعة أو سنة أو حقبة، ثم نفتحها عليهما وهما على ما نحب وتحب البلاد المصرية فماذا نرى؟
أما الأزهر فإنه سيكون جامعة للعلوم الدينية بأنواعها وآداب اللغة العربية بفروعها، يضاف إلى ذلك الرياضة والفلسفة الحديثة والكيمياء والطبيعة والفلك والتاريخ والطب والهندسة بمعناها الشامل، وبالإجمال كل ما تشتمل عليه دوائر المعارف عند الإفرنج بالإنسكلوبيديات.
وأما الجامعة فإنها ستتولى كل تلك العلوم إلا العلوم الدينية الإسلامية، فإنها ستنقصها لا محالة؛ إذ ليس في الموفدين من قبلها إلى أوروبا من أرسل بقصد التوفر على هذه العلوم وإتقانها، ولو كان فيه من هذه وجَّهَتْه لما صح أن يوفد إلى أوروبا إلا إذا كان الغرض من إرساله أن يشتغل بالنسيان لا بالتحصيل.
فالأزهر على هذا التقرير سيخرج من ميدان المناظرة فائزًا مستجمعًا لكل ما يُوجِد ثقة الناس به!
ولكننا إذا نبذنا الغرضيات جانبًا وأخذنا بالواقع الممثل أمام أعيننا رأينا عكس النتيجة التي قدمناها، وذلك لأننا اشترطنا أن يكون التفضيل بينهما راجعًا إلى سبق أحدهما الآخر في توسيع نطاق دروسه، والذي يبدو لنا ولكل من يستطيع استخدام بصره وبصيرته أن الجامعة ستسبق الجامع، فبينما هي ترسل الإرساليات خارج القطر، وبينما هي تطلب العلم ولو بالصين، يجثم الأزهر بمكانه إلى جانب سيدنا الحسين وهو لا يريد، بل ولا يحدث نفسه بالخروج قيد شبر عما وضعه له الأقدمون؛ لأنه يعتبر خروج الإنسان عن الحد الذي وضعه له أجداده وأسلافه بمثابة خروج الفلك عن الدائرة التي رسمتها له القدرة الإلهية، فإذا قيض الله له رجلًا طويل الباع يمد يده إلى ما وراء العصور الوسطى فينشله من ظلماتها إلى هذا العصر المنير كان به، وإلا فهو سكيت كل ميدان، قريع كل رهان.
يقول قائل: كيف يتداركه رجل وقد حاول الرجال إصلاحه فأخفقوا واجتمعوا على تهذيبه فما اتحدوا حتى تفرقوا؟ كيف يكون في حاجة إلى رجل واحد وأنت ترى أمامك رجالًا كلما قوموه من جانب تداعى من الجانب الآخر؟!
الأمر من البساطة بحيث لا يحتاج إلى رَوِيَّة أو إمعان نظر، فنحن نقول: إنه في حاجة إلى رجل واحد؛ لأن رجلًا واحدًا بيده كل ما يراه الناس كفيلًا لإصلاح الأزهر؛ في وسعه أن يرسل على نفقة الأوقاف إرسالية علمية: نصفها من طلبة المدارس ونصفها من طلبة مدرسة دار العلوم أو مدرسة دار القضاء الشرعي، ويحضر هؤلاء في جامعات أوروبا ما يناسب إدخاله إلى الأزهر، يتلقون العلوم الحية الضرورية، ولا بأس بالمنطق الحديث، لا ذلك المنطق البالي الذي سوَّى بين الإنسان والأعجم فجعله في حاجة إلى القصور وأفسد على متعلميه ملكة الحكم، فأصبحوا ولا طاقة لهم بتصور البديهي: وهو أن الغرب إنما ارتقى بالعلوم العصرية، وأن الشرق لا ينتظر أن يدركه إلا إذا نهج نفس طريقه وعدل عن تلك السبيل النكباء.
مثل هؤلاء إذا عادوا إلى الأزهر بعد سنين معدودة أغنوه عن بعض أساتذته الحاليين الذين لا يصلحون للتدريس، وحفظوا عليه مزيته التي كادت تنمحي، وتقدموا به إلى حيث يقارن بأكبر جامعة في العالم، ولا نخال أن ذلك يستدعي من النفقات أكثر مما تستدعيه هذه الاعتمادات التي تواترت أنباؤها وتعددت أسماؤها، وكلها اسم على غير مسمى وظهارة بلا بطانة وقول بلا عمل.