كتابٌ جَديِد عَن الرَّسُول١
من رأي فريق من كبار المفكرين أن الفترة التي تمر بها البلاد اليوم فترة إمعان في التفكير، وأن مناقشة المسائل السياسية العليا ينبغي أن تتأخر بضعة أيام أو أسابيع، حتى تتبين الغايات التي تصل إليها المفاوضات، من هذا الفريق كان كبار المفكرين الأستاذ العقاد.
وقد أراد الأستاذ الكبير أن يطبق هذا الرأي، فرغب أن تكون أولى مقالاته في هذه الآونة على صفحات «السياسة» مقالة تتصل أوثق الصلات بالشئون الفكرية، وليس من شك أن الأستاذ العقاد قد أتاح لقراء العربية بهذا الاتجاه فرصة حرموا منها طويلًا.
لما ألف الدكتور هيكل باشا كتابه عن «حياة محمد»، وألفت كتابي عن «عبقرية محمد»، لم يقع هذا التأليف موقع الاستحسان عند فريق من أدعياء الأدب والثقافة؛ لأن موضوع محمد — كما زعموا — موضوع قديم لا يجوز لأبناء العصر الحاضر أن يحفلوا به ولا يحسن بأنصار «التقدم» أن يرجعوا إليه.
وحقيقة الأمر أن هؤلاء الأدعياء لا ينكرون الكتابة في تاريخ النبي ﷺ؛ لأنها كتابة قديمة أو كتابة محرمة على أبناء القرن العشرين، ولكنهم ينكرونها، لأنهم يضيقون بكل ناحية روحية في تاريخ الإنسان، ويعلمون أنها عقبة قائمة تعترضهم في سبيلهم الذي ينساقون فيه ويندفعون إليه بوحي من سادتهم المتحجبين وراءهم من دعاة المذاهب المادية وأعداء كل رفيع أو عظيم في الضمائر والأرواح، وهم يكشفون أنفسهم كلما أنكروا الكتابة عن أعلام الإنسانية وهداتها، وبشروا بالكتابة في موضوع واحد لا يجوز لأصحاب الأقلام عندهم أن يتجاوزوه: وهو موضوع الطعام والشراب، كأنما الطعام والشراب أحدث الأشياء في العالم الإنساني، وإنهما لسابقان للإنسان نفسه إيغالًا في القدم إلى أقدم عصور الأحياء والحشرات.
أما العظمة الروحية التي تتجلى في الكتابة عن الهداة وأبطال الإصلاح والإرشاد، فهي موضوع خالد لا تنقضي جدته في زمن من الأزمان، ولعل الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لم يكتبوا عن محمد ﷺ في هذا العصر الحديث بعض ما كتبه عنه الأوروبيون والأمريكيون، ولا يزالون يكتبون إلى هذا العام.
ومن مصداق ذلك كتاب جديد عن «الرسول»، طبع في مدينة نيويورك سنة ١٩٤٦، ولم ينقض على ظهوره هنالك شهران.
ومعنى ذلك أن المطابع الأمريكية التي تحيط بها شواغل العالم كله في الآونة الحاضرة لا ترى في تلك الشواغل ما يصرفها عن تاريخ نبي يدين به الشرقيون ولا يدين به الأمريكيون، ولا تحسب أن القراء في الغرب يضنون على هذا الموضوع الجليل بساعات أو أيام ينفقونها في الاطلاع عليه، وهم قائمون قاعدون في معترك السياسة الدولية ومعترك المشكلات الاقتصادية ومعترك الحياة العصرية بكل ما تتسع له هذه الحياة من المطالب والمنازعات.
وقد يكفي هذا الكتاب للتنويه به أنه «رد عملي» على أولئك «المتحَيْونين» الذين يريدون أن يحصروا النفس الآدمية في أضيق الحدود وأسفل الدركات، ويحاولون أن يخدعوا مسامع الشرقيين باسم الحضارة الحديثة ومطالب العصر الحديث، ولكنه في الواقع يستحق التنويه به لغير هذا السبب ولأسباب كثيرة؛ إذ كان طريف التأليف طريف المصادر طريف البواعث إلى العناية به والتأهب له قبل إبرازه في حيز الكلمات والصفحات.
فالكولونيل بدولي صاحبه رجل وافر الحظ من معارف الحضارة الأوروبية والحَياتَيْنِ السياسية والعسكرية، تعلم في أيتون وساندهرست، وعمل في الهند، واشترك في الحرب العظمى، وساهم في مؤتمرات فرساي، واطلع على الخفايا الدولية من وراء الحجب والأسداد، فثقلت على ضميره مساوئ السياسة وأوضارها، ولزمته الكآبة، وأفضى بذات نفسه إلى صديقه لورنس المعروف في البادية العربية، فأشار عليه بأن يعتزل أوروبا ويأوي إلى بلاد يعيش فيها على الفطرة، كبلاد العرب وأطراف الصحراء، فعمل بنصيحة صديقه وراح يتنقل في الصحراء العربية زهاء سبع سنوات، وهذا الكتاب الأخير بعض ثمرات هذه السنوات.
وكتاب «الرسول» طريف في مصادره كما هو طريف في أسباب تألفيه؛ لأن صاحبه لم يعول فيه على المراجع الكتابية، بل على المراجع الشفوية يتتبعها حيث عاش الرسول ﷺ، ويتفهمها من وحي المكان ومن النفاذ إلى بداهة العروبة في مواطنها الأولى، غير متوسع في الاطلاع ولا متعرض لمواطن الجدل والخلاف. وقد اكتفى من الكتب بالقرآن الكريم، ثم بما تيسر له من المصنفات بعد الفراغ من تكوين رأيه وتصوير شعوره وخياله، فآثر الإحساس بحياة الرسول على التعمق في أقوال القائلين عنه من المسلمين وغير المسلمين.
ولا ينتظر القارئ من صاحب كتاب الرسول أن يؤمن بالإسلام كما يؤمن به المسلمون؛ لأنه على ما يبدو من كلامه ينظر إلى الأديان جميعًا نظرة المستقل عن الشعائر والمراسم التي هي مثار الخلاف بين دين ودين.
إلا أنه حَسَنُ النية في تقدير فضائل الرسول والرد على ناقديه من منكري دينه أو منكري جميع الأديان.
فهو يحيل الأوروبيين الذين يتعرضون لزواج النبي أو لجهاده بالسيف على سير الأنبياء كما وصفهم العهد القديم، ولا سيما سيرة داود وسليمان.
وهو يقول للذين يطالعون القرآن مترجمًا إلى اللغات الأوروبية ويعجبون من إعجاب المسلمين به أن القرآن كتاب حي لم يوضع للمطالعة وتزجية الفراغ، وإنما للتبشير والإيحاء والتذكير، ولن يتذوقه المطالع المتصفح كما يتذوقه السامع المصيخ إليه بظاهر حسه وباطن نفسه؛ لأنه يتطلب الإيمان ويتحدث إلى المؤمنين.
وأشار إلى وصف الجنة كما جاء في القرآن الكريم، فقال: إن القديسين المسيحيين قد وصفوا نعيم السماء بمثل هذا الوصف في القرن الرابع بعد المسيح، فقال القديس أفرايم في أناشيد: «إنني قد نظرت إلى منازل الصالحين في النعيم، فرأيتهم مضمخين بالعطر الزكي تتأرج منهم الطيوب وتنعقد عليهم أكاليل الرياحين والثمرات … فمن عف عن معاقرة الخمر على الأرض تشوفت إليه الخمر من كروم السماء، ومن عصم نفسه عن الشهوات تلقته الحسان في أحضانها الطهور؛ لأنه ترهب ولم يمرغ نفسه بأحضان المحبة الأرضية.»
وأشار إلى وصف جهنم كما جاء في القرآن، فقال: إنها لا تشبه اللعنة الأبدية التي أعدت للكافرين في رأي اليهود والمسيحيين؛ لأنها لا تيئس النازلين بها من الغفران واستحقاق الجنة بعد التكفير عن خطاياهم بالعذاب.
وبهذه النية الحسنة نظر في حياة النبي ﷺ وفي دعوته وفي المقابلة بين العقيدة الإسلامية وغيرها من العقائد الكتابية، فلم يكتب كما يكتب المسلم المؤمن بالدعوة المحمدية، ولا كتب كما يكتب المنكر المتحامل الذي يتعصب لدينه ويتعمد القدح والإجحاف.
وإذا جاز أن نرتب المؤلف الواحد في درجات متتاليات، فصاحب كتاب الرسول قد كان شاعرًا فسائحًا فمؤرخًا فناظرًا في الأديان بنظرة المتصوف الحديث، فغلب الشعر فيه على التاريخ وغلب التاريخ الشعري فيه على التمحيص والاعتقاد.
وجاء كتابه بعد هذا كله في أوانه ليقنع بعض الشرقيين على الأقل بأن «تاريخ محمد» شيء خالد يشتغل به أصحاب الشواغل في وقت يمتلئ فيه الحاضر بما ينسي كل قديم، لو كان نسيان كل قديم مما يليق بكرامة الآدميين.