عَوْدٌ إلى الثقافتين١
عرضنا في إحدى مقالاتنا بمجلة «الأزهر» لمشكلة الثقافتين عند الأمم الغربية، والمقصود بها مشكلة الانفصال بين ثقافة العلم وثقافة الأدب. واتساع الهاوية فترة بعد فترة بين تفكير العلماء وتفكير الأدباء وأصحاب الآراء النظرية، مما ينذر بإصابة «الشخصية الإنسانية» في هذا العصر بداء كداء الفصام، ويجعل الإنسان الناشئ على إحدى هاتين الثقافتين دون الأخرى كأنه نصف إنسان.
ولا يعنينا هنا تفصيل أسباب الخلاف بين آراء الموافقين والمعارضين: فذلك شرح يطول ولا علاقة له بالناحية التي نحول إليها البحث من أمر الثقافة الإسلامية.
ولكننا نجتزئ بالإشارة إلى رده المجمل على المخالفين، ثم بالإشارة إلى الحل الذي يقترحه لعلاج المشكلة من الوجهة العامة.
فالمخالفون يقولون: إن الحال لم تتغير في جوهرها من أيام عصر النهضة إلى اليوم. فلو تلاقى عالم فقيه وشاعر فنان قبيل القرن السادس عشر لما كان بينهما من التفاهم والتقارب أكثر مما يكون بين علماء العصر الحاضر وأدبائه أو مفكريه النظريين.
وجواب الكاتب على هؤلاء أنه لا يسلم بأن المسافة بين الفريقين كانت على هذا البعد منذ ثلاثة قرون، ولا يقول: إن العلم والأدب كانا قريبين متلاقيين في القرن السادس عشر، ولكنه يقول: إن القنطرة بينهما كانت موجودة مستقرة، وهي اليوم تتهدم شيئًا فشيئًا وتوشك أن تزول، وأنه على أية حال لا يريد أن تقام القنطرة وتظل قائمة لمن يعبرها، ولا يعجز أحد عن عبورها إذا أراد.
أما حل مشكلة الثقافتين من الوجهة العامة عند الكاتب فهو تعميم التصنيع في المجتمعات الحديثة، ولا بد — على رأيه — من الاختيار بين البدائية الهمجية وبين تصنيع المجتمع وتعويد الناس جميعًا أن يعيشوا معيشة الحضارة العلمية، فيصبح التثقف العلمي حقيقة واقعة يزاولها الناس في البيوت والأسواق وفي ميادين الرياضة البدنية والنفسية، وفي حينها تحول الإنسان بين العمل الصالح واللهو البريء؛ لاضطرارهم إلى استخدام الآلات.
والكاتب، فيما نعتقد، مصيب من الجانب الذي ينظر إليه، وهو جانب «الإنسان الغربي» وارث العلم والأدب في البلاد الأوروبية أو الأمريكية من القرون الأولى بعد الميلاد.
فقد عاش هذا الإنسان على الدوام في ميدانين متقابلين من عالم الثقافة، ميدان الروح وميدان الجسد، أو ميدان ملكوت السماء وميدان ملكوت الأرض، وكان الانفصال بين الميدانين بعيد الأمد يكاد ينتهي إلى عالمين متناقضين: أحدهما ملعون منبوذ هو هذا العالم المشهود، والآخر مقدس مطلوب ولكنه غائب وراء الحواس، بل وراء العقول التي تتصرف في الأمور الدنيوية.
وليس الانفصال بين العلم والأدب في القرن التاسع عشر وما بعده إلا ميراثًا منقولًا من ذلك الفاصل القديم، ولا غنًى في هذه الحالة عن تقريب القواعد قبل تقريب البناء الذي يقام عليها.
ولهذا لا غنًى عن سؤال يجاب عليه قبل البحث في الحلول العامة المقترحة، سواء منها حل الكاتب الإنجليزي وحل غيره من المفكرين العلميين والنظريين.
هذا السؤال هو: ما الرأي في «الشخصية الإنسانية» على أي وضع من الأوضاع الاجتماعية في العصر الأخير: عصر وحضارة العلم الحديث أو عصور الزراعة والعلاقات الاقتصادية على اختلافها؟
هل «الشخصية» الإنسانية هي موضع التربية والتثقيف وغرضهما؛ ومدارهما في جميع الأحوال، أو أن موضع التربية والتثقيف وغرضهما ومدارهما شيء آخر لا يبالي مصير هذه الشخصية؟
إن الإسلام لا مشكلة فيه من جهة الثقافة على أنواعها؛ لأن «الضمير الإنساني» هو المسئول دنيا وأخرى عما يعمله الإنسان وما يعلمه، وعما يدين به في نجواه وما يدين به بينه وبين غيره.
والتربية في الإسلام هي تهذيب هذه «الشخصية»، وتزويد قواها الفكرية والبدنية معًا بكل ما يصلحها للعلم والعمل.
وكل تربية ينالها الإنسان فهي امتداد لقوة من قواه، سواء منها قوة البدن وقوة الروح، وإنما تعرف قيمتها بميزان القوة التي تمدها وتزيدها وتهيئها للعمل في الحياة الخاصة أو الحياة الاجتماعية العامة.
فالتربية الصناعية تجعل للإنسان يدًا أقوى من يده أو قدمًا أقوى من قدمه، أو بصرًا أقوى من بصره، أو سمعًا أقوى من سمعه، وهي تربية ضرورية نافعة لا غنًى عن تعميمها بين الناس في المجتمعات الحديثة، ولا غنًى لهذه المجتمعات عنها في عصر الصناعة والمخترعات.
هذه التربية الصناعية قوة تمنح الإصبع قدرة على أن يحرك الجبال بالضغط على زر صغير، وتمنح العين قدرة على النظر بالمجاهر والمناظير إلى دقائق الخفاء وإلى آفاق السماء.
ولكن هذه القوى جميعًا لن تبلغ في القيم الإنسانية مبلغ القدرة التي ترفع ضميره، وتوليه من الشعور والفكر وسيلة توسع أمامه آفاق الحياة، وتبسط بين يديه كونًا أعظم من الكون الذي يعيش فيه جسده، ووجودًا أتم من الوجود الذي يلابسه بأعضائه البدنية ولو بلغت غاية مداها من بسطة وامتداد.
إن «زرًّا» يضغطه الإنسان بإصبعه قد يمنحه قوة ألف إصبع أو آلاف من الأصابع تحسب بالملايين، ولكن «الشخصية الإنسانية» لا تتوقف عليه، وقد تصنعه للإنسان شخصية أخرى فيعمل به كل عمله المطلوب، فليس من الضروري أن يكون صانع الزر هو المنتفع به أو هو المتعلم لتركيبه واستخدامه، ولا شأن له في إتمام «كيانه الإنساني» ولا في الارتفاع به إلى ما هو أهل له من مراتب الكمال.
لكن القدرة الروحية إذا عرف بها الإنسان مزايا الخير والجمال، وتذوق بها محاسن الحياة الفكرية والعاطفية تتوقف على «الشخصية» التي تستطيعها ولا تصنعها لها شخصية أخرى كما تصنع الأزرار والمجاهر والمناظير.
وهذا هو الفارق بين تربية وتربية، وبين إنسان مثقف وإنسان ناقص التثقيف، أيًّا كان نظام المجتمع وأيًّا كان حظه من التصنيع.
فإذا وجب التصنيع فإنما يجب لتمكين الإنسان من الانتفاع بصناعات عصره وتوزيع منافع الصناعات بين جميع أبناء المجتمع على سنة الإنصاف والتعاون في المصلحة والخير، ولكن المجتمع الذي سيصنع الأزرار والمجاهر والمناظير لأبنائه لا يعطيهم كل شيء ولا يزودهم بمقومات الحياة التي يحتويها كل ضمير بينه وبين الله وبين الناس، ولا يستطيع أن يعول فيها على معمل من معامل التصنيع يتكفل بتوريد الضمائر لأبنائه كما تتكفل المعامل بتوريد هذه الأداة أو ذلك المخترع المصنوع.
ولن تتم في مجتمع من المجتمعات ثقافة عالية جديرة بأن تسمى ثقافة إنسان ما لم تكن ثقافة شاملة يتم بها قوام «الشخصية الإنسانية» بريئة من داء الفصام موفورة الحظ من الضمير والجسد، ومن العلم والأدب، ومن مطالب الأذواق ومطالب العقول.