الروحَانية بَيْن الأَنبياء الثَّلاثة١
الأديان الثلاثة: الإسرائيلية والمسيحية والإسلام، ظهرت كلها بين السلالات السامية وكان أنبياؤها جميعًا من الساميين.
والإجماع منعقد على هذا بين المؤرخين كافة، نعني انتساب موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام إلى هذه السلالة، يشذ عنهم «فرويد» العالم النفساني الإسرائيلي المشهور، فهو ينسب موسى إلى الجنس المصري القديم، وبعض الباحثين يقولون: إن الجنس المصري القديم منحدر من الأصول الأوروبية.
ويشذ عنهم في أمر المسيح أولئك الدعاة الجرمانيون الذين يعتسفون الأنساب لكل عظيم فيردونه إلى الأصل الجرماني أو السلالة الآرية على التعميم، فهؤلاء الدعاة يزعمون أن صفات المسيح المتواترة أقرب إلى الملامح الآرية الشمالية، وينظرون من جهة أخرى إلى الملامح الفكرية أو الأدبية، فيزعمون أن الروحانية التي تظهر في أقوال السيد المسيح أكبر وأرفع من طاقة «السلالة السامية» التي يحسبونها مقصورة على الماديات الملموسة والمطالب الأرضية القريبة.
وكلا القولين — قول فرويد وقول الدعاة الجرمانيين — لا يؤيده دليل قاطع ولا يتعدى الأخذ بالظنون.
فمن المستبعد أن يكون موسى مصريًّا، ثم تجتمع له زعامة الإسرائيليين من جميع القبائل والبطون في الديار المصرية، ومن السخف أن يكون المسيح «آريًّا» تطبيقًا لقاعدة يخترعها دعاة الجرمانية، ثم يسندونها بالظنون ويعودون فيسندون الظنون بتلك القاعدة المخترعة.
وعلى هذا يصح أن ينعقد الإجماع — كأصح ما انعقد في مسألة من المسائل — على أن البيئة السامية هي البيئة التي ظهرت فيها الأديان الثلاثة، وأن موسى وعيسى ومحمدًا جميعًا من سلالات الساميين.
ألهذه المزية الجنسية دلالة عامة! وهل نشأت الأديان الكبرى الثلاثة بين أبناء الجنس السامي لسبب عنصري يخص هذه السلالة، أو لسبب نفساني يرجع إلى طبيعة العقيدة الدينية؟
تكلم في ذلك المتكلمون فأثبتوا وأنكروا كما يحبون أو يكرهون، فمن قائل: إن العقل السامي بفطرته مستعد للاعتقاد غير مستعد للتفكير أو الخلق الفني والنظرات الفلسفية المجردة، ومن قائل: إن العقيدة الدينية نفسها طور من أطوار الزعامة العنصرية التي تطور فيها الساميون إلى مداها الأقصى، قبل أن يخرج الآريون الشماليون من نظام القبيلة الأولى.
ولا يتسع المقام للتقصي في أقوال المثبتين والمنكرين، فحسبنا أن نقف في أول الطريق على بر الأمان، فنقول: إن العقائد الدينية ظهرت في السلالات السامية يوم كانت تظهر فيهم جميع المعارف الكونية والنهضات الثقافية، فلا محل لتخصيص الأديان هنا بالعنصر السامي أو اتخاذ هذه الخاصة دليلًا عنصريًّا من تلك الأدلة الكثيرة التي تختلط بالعصبيات.
كانت الدول الكبرى كلها قائمة في الرقعة الغربية من القارة الآسيوية، وهي الرقعة التي أقام فيها الساميون منذ مئات الأجيال، فشاعت المعارف الكونية من هذا الوطن القديم، ولم ينحصر الأمر يومئذ في ظهور العقائد دون غيرها من النهضات أو الفتوح في عالم الروح.
•••
نحن لا ننكر الفوارق العنصرية ولا نستخف بآثارها في اختلاف الأمزجة والأخلاق وتباين المشارب والميول، ولكننا لا نحب أن نعزو إلى الفوارق العنصرية إلا الذي يثبت ثبوتًا قويًّا أنه راجع إليها. فلا نقول: إن «العقائد» سليقة سامية إلا إذا تبين أن الآريين بمعزل عن العقائد، وأن الساميين لا يمتازون بغيرها، وأن المسألة محصورة فيهم على مدى العصور وليست مسألة عصر ومناسبة زمانية أو مكانية.
كذلك نرجع إلى الروحانية بين الأديان الثلاثة، فلا نجعل العنصرية حكمًا فيها قبل أن نستنفد العوامل الأخرى جميعًا، وإن جاز أن يذكر الاستعداد العنصري بين عوامل شتى يحسب لها حسابها في هذا الموضوع.
فالذي يقال مثلًا: إن السيد المسيح — عليه السلام — كان صاحب دعوة روحانية لا تشتغل بشئون الدنيا ولا بالمطالب العملية التي تحتاج إلى وضع النُّظم وفرض الشرائع، وأن علة ذلك في رأي بعض الباحثين أن المسيحية تشابه العقائد الآرية التي جعلت الدين للروح والضمير ولم تجعله لمطالب الجسد أو مطالب الحياة الاجتماعية والنظم السياسية.
وهذا الذي يقع فيه الخلاف الكثير.
فاهتمام السيد المسيح — عليه السلام — بالجانب الروحي من الدين لم يصرفه أولًا عن الجوانب الأخرى التي تناولتها سائر الأديان، ولم يكن لفارق عنصري بين الذين خوطبوا بالدعوة المسيحية والذين خوطبوا بالدعوة الإسلامية أو الدعوة الموسوية.
واهتمام السيد المسيح بالجانب الروحي ليس معناه — من الوجهة الأخرى — أن هذا الجانب لم ينل حظه من الاهتمام في دعوة محمد أو دعوة موسى — عليهما السلام — وإنما معناه أنه جانب من الجوانب الكثيرة التي عني بها الإسلام خاصة، وكان لها سهم في العناية من وصايا الأنبياء الذين ظهروا في بني إسرائيل.
وقبل أن نحصر الأمر في علة «الاستعداد العنصري» نعود إلى العلل المختلفة، فنسأل: ألم تكن هنالك علل أخرى جعلت رسالة السيد المسيح أقرب إلى الروحانيات منها إلى العمليات والشئون الدنيوية؟
فإذا سألنا هذا السؤال لم نستطع أن نقول: إن السامية أو الآرية هما الحد الفاصل في هذا الموضوع.
فقد كانت هنالك علل كثيرة خليقة أن تقصر الدعوة المسيحية الأولى على مواعظها الأخلاقية التي أوشكت أن تقتصر عليها.
فمن تلك العلل أنَّ بني إسرائيل كانوا أصحاب شريعة دينية مفصلة في شئون الحقوق والمعاملات قبل أن تتجه إليهم دعوة السيد المسيح، وكانت آداب القائمين على تلك الشريعة هي موضع العهدة أو موضع الحاجة إلى الإصلاح، فلا جرم تتجه إليهم الدعوة من هذه الناحية ولا تتجه من ناحية التشريع المفصل في شئون الحكم وشئون المعيشة، بل كان من قول السيد المسيح الصريح أنه لا ينقض الناموس ولكنه يثبته ويزكيه.
ومن تلك العلل أن السيد المسيح ظهر في بلاد يحكمها الرومان ويتولى إدارتها أولئك القوم الذين اشتهروا بالنظم والشرائع وتبويب الأوامر والقوانين، وما لم تكن الدعوة المسيحية ثورة سياسية معززة بقوة الجند والسلاح، فلا سبيل في بدايتها إلى تفصيل الشرائع وانتزاع سلطان الحكم من أيدي القابضين عليه، وإنما السبيل الأوحد أن تنصلح الأخلاق والضمائر بالعظة والهداية الروحية على السنة التي اختارها السيد المسيح ويختارها في مكانه كل داعٍ إلى دين جديد يتذرع إلى دعوته بالإقناع لا بالسلاح والصراع.
فهذه العلة كافية لتعليل الصبغة الروحانية التي غلبت على المسيحية، وإنها لأقرب إلى تعليلها من الرأي القائل باقتباس المسيحية من العقائد الهندية أو الآرية في جملتها؛ لأن هذا الرأي يلجئنا إلى إقامة فاصل بين ساميين وساميين، ولا يبطل الاعتراض الذي يرد في هذا الصدد حين يسأل السائل: وماذا كانت الدعوة المسيحية صانعة إذا هي فرضت الشرائع بغير حكومة وبغير ثورة مسلحة وبغير موافقة من أصحاب الأمر بين الرومان أو بني إسرائيل؟
أما الإسلام فلم يكن معقولًا أن ينحصر في المواعظ الروحانية دون غيرها؛ لأن العرب لم يدينوا بشريعة عامة مفصلة قبل الإسلام تغنيهم عن تشريع جديد، ولأن الإسلام قد تولى الحكم كما تولى الهداية النفسية، فلا مناص هنا من إقامة الحدود وبيان الحقوق وتقرير الحكم في كل شأن من شئون المعيشة تتولاه الحكومات.
وكذلك موسى — عليه السلام — في قيادته للقبائل الإسرائيلية؛ لأنه كان في مقام الزعيم الذي يسوس تلك القبائل بالشرائع المرعية في زمانه والشرائع التي اقتضاها خروجه من ديار مصر إلى ديار كان فيها لبني إسرائيل موطن قديم، فاهتم بتسجيل الشرائع المصرية والإسرائيلية والموسوية، واهتم إلى جانب ذلك بمصالح قومه؛ لأن العمل الأكبر الذي تصدى له إنما هو إنقاذ إخوانه في العنصر والعقيدة، فهو عمل «وطني» مقدم في زمانه على الوصايا الإنسانية العامة التي تشمل الأمم كلها كما تشملها كل نصيحة أخلاقية أو موعظة روحية.
وهذه العلة كافية أيضًا لتعليل الصبغة العملية التي غلبت على الدعوة الموسوية، فأصبحت شيئًا غير المسيحية في الروحانية أو البشارة الإنسانية التي تخاطب جميع الأمم كما تخاطب بني إسرائيل. ولا حاجة في هذا المقام إلى التفريق بين ساميين وآريين، أو التفريق بين طائفة من السلالة السامية وطائفة أخرى، إذ لو كان موسى آريًّا وكان أبناء إسرائيل آريين لما سلك غير مسلكه معهم في شئون التشريع والمصالح الوطنية أو المصالح العنصرية.
ونعود فنقول: إننا لا ننكر الفوارق بين العناصر والأقوام، ولكننا ننكر الفوارق التي يفرضها بعض الباحثين المتعسفين بغير دليل ولا قرينة راجحة، ونحب أن نقيم البحث في أسرار العقائد وأسرار نجاحها في زمانها ومكانها على العلل الكونية التي جرى عليها نظام الوجود؛ لأن الأسرار الإلهية التي توحي بها الأديان لن تناقض المعقول من سنن الكون وفطرة الأشياء.