هذه هي الأغلال١
المسلمون في حاجة إلى جرعات قوية من قبيل هذه الجرعات التي ناولهم إياها صاحب الفضيلة الأستاذ عبد الله علي القصيمي في كتابه «هذه هي الغلال»؛ لأن الذين يحجمون عن مساعي الحياة اعتقادًا منهم بتحريمها إنما يخرجهم في هذا الوهم عاملان ضروريان، وهما عظة الحوادث وعظة المرشدين، وأحق الناس بإسداء هذه العظة إليهم من يصححون لهم الوهم بإسناد من الكتاب والسنة النبوية، ومن يرشدونهم لأنهم متدينون يفهمون الدين على وجهه المستقيم، لا لأنهم ينكرون الأديان، فلا يلتقون بهم في أصل من أصولهم التي يتقبلون منها الحجة والدليل.
والكتاب بحق كما وصفه مؤلفه الفاضل «ثورة في فهم العقل والدين والحياة»؛ لأنه يهجم على سلطان غشوم هو سلطان الجهل، ومعقل حصين هو معقل العادة، وجحفل مجر هو جحفل الغوغاء وأشباه الغوغاء. فيرفع السيف والمعول بغير رهبة ولا هوادة، ويعتمد سيفًا واحدًا ومعولًا واحدًا في هذه الثورة الجريئة، وهما سيف اليقين ومعول البرهان.
فهو يشن الغارة الشعواء على من يقدسون البلاهة، ويوجبون على الناس الكسل باسم الاتكال على الله، ويحرمون تعليم المرأة وتدريبها على فرائض الأمومة والرعاية الاجتماعية، ويوهنون ثقة الإنسان بنفسه، وينكرون الحكمة القديمة والعلم الحديث، ويزعمون أن الزمن يتأخر ولا يرجى فيه من أبناء اليوم والغد رجاء يضيفونه إلى تراث السلف ومآثر المتقدمين.
وقد استند في كثير من معارض النقد على آيات من الكتاب، وأمثلة من سير الأنبياء، وأسانيد من المنطق السليم، ولم يبال بالسمعة الموروثة ولا بالأنصاب المرفوعة ولا بالأكاذيب المتواترة، فهاجم أناسًا يحسبون من الأئمة المقدسين عند العامة وأشباه العامة، وذب عن فلاسفة غير مسلمين لم يشهدوا عهد الأديان الكتابية مثل أرسطو وأفلاطون.
فلما روى هذه الأبيات:
مهد لها قائلًا: إنهم «قالوها في مذمة أولئك الرجال الذين حاولوا في عصور سحيقة أن يضعوا اللبنات الأولى في بنيان هذه الحضارة …» وعقَّب عليها مستنكرًا أن يكون هؤلاء الرجال الباحثون «حُكْمُهم حينما أرادوا الدنو من المعرفة ومن العلم؛ حكم الفراش الذي يرى النور المتوقد فيثب عليه».
ثم استطرد بعد صفحات فقال: «ومن البلاء حقًّا أنهم لم يقصروا عند امتداح الجهالة بل قاموا — ببلاهة كثيفة — يمتدحون الجنون والبَله والبُله والمجانين … وهنالك قسم كبير من الأولياء كتبوا في الطبقات يسمون بالمجاذيب أو بالأولياء المجاذيب، وقد أورد الشعراني في كتابه طبقات الأولياء الكبرى أسماء طوائف كثيرة من هؤلاء المجذوبين، وكذلك صنع غيره.»
أما الفصل الذي تناول فيه موضوع المرأة بعنوان: إنسان هي أم سلعة؛ فقد قابل به بين أقوال المتطرفين في الحجر عليها وأقوال المتطرفين في تخويلها حقوق العمل والحرية، ووقف بين الطرفين وسطًا يعدل بين هؤلاء وهؤلاء، ولكني أحسبه لو خير بينهما لآثر الإطلاق على التكبيل بقيود الحجر والجمود.
ونحن نوافق الأستاذ القصيمي على الهدف الذي يرمي إليه، وعلى الآفة التي يشكو منها، ولكننا نخالفه في بعض الآراء كما نخالفه في بعض العبارات، ولا نخص منها بالذكر هنا إلا جانبًا واحدًا يلتبس فيه الرأي، ويبدو فيه الظاهر على وجهٍ غير وجهه الباطن، أو وجهه الذي نطلع عليه بعد المراجعة والموازنة بين الحقائق المتقابلة. فرب حقيقة تقابلها حقيقة أكبر منها، ورب ناحية نراها وحدها فإذا هي مستنكرة، ونراها في مكانها من مجموعة النواحي المختلة، فإذا هي لازمة لا غناء عنها.
هذا الجانب الذي نخصه بالذكر في هذا المقام هو كلام الأستاذ على فلسفة التصوف؛ إذ يقول: «إن وجه الخطأ في هذه الفلسفة أنهم اعتقدوا أن الروح والجسد عالمان مستقلان متعاديان، وأن كلًّا منهما حرب للآخر، وأن كلًّا منهما أيضًا إنما ينمو ويزكو على حساب الآخر، فإذا أهين أحدهما وعذب نما الآخر وترعرع، وقام بوظيفته خير قيام، وإذا أكرم وأريح وأجم أصاب الآخر بالعكس … وهذه فلسفة عقيمة لا تقف أمام الحقائق. فإن الروح مهما اختُلف في حقيقتها وفي تفسيرها تزكو وتقوى وتقدر على أداء وظيفتها إذا صح الجسم وقوي واستراح، وتضعف وتخبو وتعجز عن القيام بعملها إذا مرض الجسم أو تعب أو عجز … وهذه حقيقة هي اليوم فوق مذاهب الشك، وفي استطاعة الرجل العادي أن يعلم صدق هذا بالملاحظة والاستقراء.»
ونحن نقول: إن هذه حقيقة لا شك فيها.
ولكننا نقول: إنها ليست كل الحقيقة، أو ليست بالحقيقة التي تستغني عن الرجوع بها إلى جملة الحقائق في الملكات الروحية والجسدية.
ولعلنا نستعجل الغاية التي نرمي إليها بالإشارة إلى حقيقة أخرى مجسمة لا شك فيها. فما القول مثلًا في الإنسان الذي يقبل على الجسد وحده فيجعله أصلب من الفولاذ وأقدر على حمل الأثقال وجرها من الفرس والبعير؟ أيقال إن هذا الإنسان قد زاد قوة الروح بزيادة قوة الجسد؟ أيقال إنه مثلٌ يحتذيه كل إنسان ولا يصيب الأمة نقص في الملكات إذا اقتدى به كل فرد من أبنائنا؟
لا يقال ذلك، ولا يقال مع ذلك أنه مثلٌ ضار وخيم العاقبة على أبناء الأمة، بل يقال إنه لازم ومطلوب ومعقول، وإن «القصد الحيوي» في تربية الإنسانية يسمح للرياضة البدنية أن تصطفي لها أفرادًا من هذا الطراز، ويسمح للرياضة الروحية أن تصطفي لها أفرادًا من طراز آخر، ولا تسمح لهذه ولا لتلك بتعميم حكمها على جميع الآحاد.
هذا «القصد الحيوي» هو الحقيقة الكبرى التي تقابل تلك الحقيقة المبسوطة في كتاب الأستاذ.
فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد.
ولكنها ينبغي أن تنال. فكيف يمكن أن تنال؟
إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعًا في التحصيل، وألزمنا كل واحد أن تكون له أقساط منها جميعًا على حد سواء.
ولا يقتصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكننا نعم به هذه الملكات ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس.
فهذه الملكات الجسدية — فضلًا عن الملكات العقلية والروحية — قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه.
وقد رأينا ورأى معنا ألوف من أبناء هذا البلد رجلًا أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين: يكتب بها ويشعل عيدان الثقاب ويصنع القهوة ويصبها في الأقداح ويشربها ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار.
ورأينا ورأى معنا ألوف من هذا البلد لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد، ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب أو مجاملة للَّاعبين الآخرين، وهم يوجهون بها الأكر إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي لجاز لك أن تصدق ما يقول.
ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثرًا واحدًا بين عشرات ولو تعدد وضعه بين المئات. ورأينا من يرمى بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار.
هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع.
فما القول إذا حكمنا على الناس جميعًا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟
إننا نخطئ بهذا أيما خطأ، ونعطلهم به عن العمل المفيد.
ولكننا نخطئ كذلك كل الخطأ إذا عاقبنا إنسانًا لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون.
فإذا كنا جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس ولا تعرف الحدود.
وإذا كان طالب القوة الروحية يجور على جسده فلماذا نلومه ونُنْحي عليه ونحن لا نعاقب اللاعب إذا جار على روحه أو عقله في سبيل إتقان لعبة أو تدريب عضو أو تزجية فراغ؟
إذا لمنا من يجور على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين، فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة وكل ذي عمل وكل ذي فن وكل ذي رأي من الآراء، فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.
ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية؛ فضلًا عن الحقائق الكونية المصفاة.
ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلًا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور.
ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية له حق كحق المصارع، والملاكم، وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن أو ملكة العلم أو ملكة الروح.
ولو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس.
ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا لها البقاء.
ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا، وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة.
ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة «التخصص» أو ثمرة «القصد الحيوي» الذي ينظم لنا ثروة الأرواح وثروة العقول وثروة الأبدان.
فنحن لا نفند الحقيقة التي بسطها الأستاذ القصيمي في كتابه الجريء على الباطل.
ولكننا نقابل حقيقته بالحقيقة التي توازنها وتتمم لها موازينها، ونقول: إن الإفراط في العناية الروحية كالإفراط في العناية الجسدية بلاء إذا عم جميع الناس، ولكن البلاء الذي هو أعظم منه وأقسى على الناس جميعًا أن يبطل فيهم «الاختصاص» ولو كان الإفراط من مستلزماته؛ لأن «الإنسانية» كلها تستفيد من زيادة ملكاتها، وهي لا تزيد إلا بنقص في بعض الآحاد المعدودين.