المَاديَّة تَنْهَدِم١
سئل رهط من علماء الغرب عن مصير الإنسان، فقال العالم المشهور «سير جوليان هكسلي» ما فحواه: إن أدوار التطور الكبرى قد انتهت بالنسبة إلى النوع الإنساني، إلا ما يكون منها خاصًّا بالدماغ والفكر، فإن النوع الإنساني لا يزال قابلًا في هذه الوجهة للمزيد من التقدم والنماء، وليس المنظور أن يكون هذا التطور «عضويًّا حيويًّا» في بنية الدماغ، فإن حكم الدماغ من حيث النماء الجسدي كحكم سائر الوظائف الحيوية … ولكن الأفكار التي تتولد من مباحث العلم والفن على الأجيال المتعاقبة تزيد محصول الإنسان من المعرفة فتزداد قدرته على التفكير الصحيح تبعًا لذلك، ويحدث التجاوب بين العارفين في البيئة الواحدة فيصحح بعضهم تفكير بعض، ويأتي من تجمع الأفكار وتصحيحها ما هو منتظر للنوع الإنساني في مجموعه من تطور العقل وصحة التفكير.
والذين خالفوا السير جوليان هكسلي في تطور الدماغ من البنية الجسدية لم يخالفوه في اعتقاده أن التقدم سيأتي من معالجة التفكير، وأن مرانة الذهن على التفكير في مصاعب الحياة هي التي يرتبط بها النماء في حجم الدماغ وفي قدرته على الفهم والإدراك، ثم في تعوده أن يعمل بداهة وارتجالًا ما يعمله اليوم بعد التنبه والاجتهاد.
وقرر هكسلي وموافقوه من العلماء والمفكرين الذين سئلوا عن مصير الإنسان أن هذه الآراء جميعًا أبعد ما تكون عن «المادية» أو عن تلك الفلسفة التي تربط مصير الإنسان بجسده، وبالمعيشة المادية التي تعيشها الجماعة وتفرضها على عقول أفرادها.
فلا عمل للمادية في توجيه مستقبل الإنسان، وإنما هي الأفكار والعلوم مناط التقدم كله، ومناط الاتجاه — من ثم — إلى أطوار من الرقي والنماء تعلو على أطواره اليوم.
وعقب المفكرون الدينيون على هذه الآراء فوافقها الكثيرون منهم، ولكنهم قالوا: إن نجاة النوع الإنساني مما يهدده غدًا لن يكون معلقًا بأفكاره العلمية ولا بمباحثه في شئون الفلسفة الطبيعية؛ لأن هذا النوع الإنساني إنما يأتيه خطر الفَناء من جانبين اثنين: أحدهما كوارث الكون الكبرى ولا حيلة له في دفعها بعلومه وفلسفاته، والجانب الآخر كارثة الحرب الذرية، وهي بعض آثار التقدم العلمي، ولن يكون خلاص النوع الإنساني منها على يد العلم المتقدم؛ لأنه هو مصدر الخطر ووسيلة الكارثة المرهوبة، وسلاح الحرب الشعواء التي تودي بحياة هذا النوع أو تبقي ما بقي منه في حالة كحالات الهمجية الأولى. وقد سئل أينشتين مرة: ماذا يكون سلاح الحرب العالمية الرابعة إذا كانت الذرة هي سلاح الثالثة؟ فقال جادًّا غاية الجد وساخرًا غاية السخرية: تكون سلاحها الحجارة! يشير بذلك إلى رجعة الإنسان كرة أخرى إلى العصر الذي سبق عصر القوس والسيف، فضلًا عن عصر الطيارة والصاروخ.
قال أولئك المفكرون: إن الخطر إذا كان من نفس الإنسان فلا نجاة له بعلوم العقل ومخترعات الصناعة، وإنما تكون نجاته بعلم من عالم الروح تنتفع به الضمائر والعقول.
إنما تكون نجاته بالدين، وبالإيمان الديني والعقيدة الإلهية، ولا نجاة له في غير هذا الطريق.
وكل هذه الآراء من أقوال كبار المفكرين إنما تهدم المادية باسم الفكر والمعرفة، وتعتمد على الفارق بين جانب الإنسان العقلي وجانبه الجسدي لترجيح القول باعتماده في تقدمه بعد اليوم على الناحية الفكرية منه، أو على الناحية التي تأتي من تجمع المعلومات والانتفاع بها في حياته العلمية.
ولكن الفلسفة المادية — فيما نرى — لن تنهدم من ناحية التفكير وحده، ولا من ناحية الدماغ المفكر دون النظر إلى مادة بدنه ومادة الكائنات الطبيعية من حوله، بل تنهدم الفلسفة المادية لا محالة من كل نظرة واقعية ننظرها إلى حقيقة تركيبها مستقلة عن الفكر، بل عن الدماغ وهو محمول على المادة من بعض نواحيه.
إن المادة نفسها ليس لها قوام أصيل يقاس بغير مقاييس الفكر المحض، كما تقاس الفكرة عن الروح وعن عالم التجريد والمجردات.
فقد كان العلماء وغير العلماء يقيسون المادة بالشبر أو بالشعرة وبالقصبة أو القيراط وبالمتر أو جزء من ألف من المتر، وكان هذا كله مما يوصف بالامتداد ويدخل في العقل الإنساني بقياس الامتداد في الفضاء أو الامتداد في الزمان، ولكن هذا الامتداد من ناحيته الزمنية أو المكانية يزول اليوم أمام المقاييس التي تقاس بها ذرات المادة وخلايا الحياة في تركيباتها الجسدية، ويوشك أن يعود العلم بالمقاييس جميعًا إلى شيء لا امتداد له كالنقطة الهندسية التي يعرفها الرياضيون بأنها شيء لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا اتساع ولا امتداد على الإجمال وأنها مع ذلك أساس جميع الأبعاد.
وما الميكرون بالنسبة إلى المقاييس التي تفهم بالامتداد؟
الميكرون هو جزء واحد من ألف ألف جزء من المتر الواحد.
فهناك إذن أشياء يبلغ من دقتها أن تقاس أو تحسب بحساب جزء من عشرة آلاف مليون من أجزاء المتر الواحد …
فما الفرق في التصور بين هذا الجزء وبين المعاني الذهنية التي تدرك بالتقدير الرياضي أو التقدير الفلسفي المجرد من كل مادة محسوسة؟ إن هذا الفرق ينتهي بما نسميه «المادة» إلى نهاية لا تدرك بغير التقدير والتفكير، بل يسهل تقدير الروح والتفكير فيها بمقياس المعاني الذهنية، ويظل إدراكنا لوحدة الأنجستروم صعبًا عسيرًا لاختلاطه اللاحق به من عالم المحسوسات.
ويقال أيضًا في الكلام عن تفجر الذرة: إن هذه الشرارة تنقدح في جزء من عدة آلاف جزء من الدقيقة، وإنها تصل بالإشعاع إلى جزء من عدة آلاف جزء من السنتيمتر بسرعة الشعاع.
فكيف يدرك هذا الجزء بحساب الامتداد الزمني أو حساب الامتداد في الفضاء؟
إن دقة واحدة تستنفد الثانية، ونحن نقسم الثواني إلى ثوالث، فلا نتصور كيف تكون الدقة بعد انقسامها إلى ستين ثالثة، فكيف نتصور الجزء من الآلاف الكثيرة بحساب هذا الامتداد؟!
وماذا بقي من الفارق بين حقيقة المادة وحقيقة الروح؟ وماذا بقي من الفرق بين نهاية عالم الخفاء ونهاية عالم الشهود على يد التجارب العلمية ولا نقول على يد السبحات الصوفية أو التجليات الروحية؟
على أن هذه الأجزاء المادية التي تحسب بالملايين لا تدرك بالبصر الإنساني حين تتجمع تحت المنظار الكبير، وإنما تدرك إذا عولجت بالأصباغ الكيمية، ثم ظهرت لونًا تلمحه العين ولم تظهر بغير هذه الصورة إلا مقدورة مفروضة بعلم الحساب.
وكذلك تدرك الناسلات وتدرك الصبغيات التي سميت بهذا الاسم؛ لأن الصبغة هي الوسيلة الوحيدة التي تقرب الملايين منها إلى عالم الإدراك أو عالم المحسوسات.
وإلى هنا يمكن أن يقال: إن العالم المحسوس يشملها ما دامت الصبغة تظهر منها الملايين أو أضعاف الملايين.
ويصح هذا القول إذا كانت الصبغة تظهر لنا الخصائص التي تحتويها الناسلة الواحدة من جملة هذه الملايين.
والناسلة الواحدة لا تظهر منها خاصة واحدة للصبغة ولا للحساب؛ لأن هذه الخاصة لا تنتقل دفعة واحدة من الخلية إلى مكانها المقدور في تكوين جسم الإنسان، بل تنتقل ثم تنقسم مرة ثم تنقسم ألوف المرات، ثم تخرج منها في كل مرة صورة بعد صورة بعد مئات الصور يتولد منها في النهاية كل ما احتوته واشتملت عليه قبل هذه التقسيمات.
فالناسلة التي يتولد منها الجنين وتنشئ في النهاية لون العين أو لون الشعر أو لون البشرة، لا تنتقل بهذه الخاصة مباشرة أو على صورة واحدة، ولكنها تخرج منها خاصة بعد خاصة بعد أخرى على الترتيب الذي لا يختلف في حالة من الحالات، وتمضي الناسلات بخواصها المختلفة في حيزها الصغير فلا يختلط بينها عمل واحدة بعمل الأخرى، ولا يتيسر للنظر ولا للصبغة ولا للحساب أن يفصل في لمحة واحدة بين هذه الأحوال.
فإذا كانت الصبغة تدخل عشرات الملايين من هذه الجزيئات في عالم الحس بالمنظار الكبير، فأين من عالم الحس تلك الخاصة التي تفرقت في كل جزء من هاتيك الجزيئات التي لا ترى بالصبغة ولا بغير الصبغة!
كل ما يلزمنا لإدراك المعاني المجردة يلزمنا هنا لإدراك الناسلة بخاصتها التي كمنت فيها وراء العين ووراء الحدس ووراء الحساب.
وعلى هذه الوتيرة تنتهي المادة على أيدي الماديين في صميم علومهم التي عزلوها قديمًا عزل الأبد عن عالم المعنى وعالم الروح وعالم الخفاء.
ولقد صح عند الذين استخدموا المادة لنكران كل عالم غير العالم المحسوس، أن القرن التاسع عشر كان عصر الكفر بما وراء الطبيعة أو بما وراء المادة، وعصر الإيمان بالمادة دون سواها ودون ما وراءها، وأصح من ذلك أن القرن العشرين هو عصر الكفر بالمادة وعصر العودة إلى ما وراءها، وعلى أساس المقررات المادية يجوز للباحث «الطبيعي» أن يقول: لعل القرن الحادي والعشرين سينفذ بالعقول والضمائر إلى عالم الروح من خلال الذرة على شعاع من نور.