إِفْلَاسُ مَذْهَب لا طاقة «للمادية الشيوعية» بالبقاء١
قام المذهب الشيوعي في روسيا قبل نهاية الحرب العالمية الأولى منذ اثنتين وأربعين سنة.
فكل مَنْ في روسيا اليوم من رجال ونساء ولدوا في ظل هذا المذهب، وتربوا على عقائده وآدابه، وانعزلوا منذ طفولتهم إلى أن جاوزوا سن الرشد عن كل مذهب يعارضه أو يصده عن طريقه، لا يستثنى منهم أحد غير الشيوخ الذين ناهزوا الستين وما بعدها.
فالذين بلغوا الأربعين من الرجال والنساء ولدوا بعد إعلان المذاهب بسنتين، فلم يعرفوا مذهبًا غيره منذ تعلموا النطق بالحروف.
والذين بلغوا الخمسين كانوا عند قيام المذهب في الثامنة من العمر، فتعلموا القراءة في مدارسه ولم يتعلموا شيئًا قبل أن يتعلموه ويعيشوا عليه.
والذين ناهزوا الستين كانوا في نحو الثامنة عشرة يوم قام المذهب الشيوعي في بلادهم، مضى عليهم ثلاث سنوات منها في الحرب العالمية، وبلغوا الأربعين فالخمسين فما فوقها وهم شيوعيون ظاهرًا وباطنًا، أو شيوعيون بالتعليم والتربية والمعيشة، لا يعرفون مذهبًا يخالف الشيوعية ويدعو إلى عمل ينقضها.
أمة كل من فيها من رجال ونساء وشيوخ وشبان وأطفال تخضع للدعوة الشيوعية وللتربية الشيوعية، ولا تسمع شيئًا يعارض الشيوعية.
فإذا قلنا: إن الثورة الشيوعية أبقت على أحد من غير أنصارها فالذين أبقت عليهم هم الآحاد المتفرقون أبناء الستين وما فوقها، لا يقدرون على مناهضة المذهب بدعوة ولا نفوذ ولا وسيلة عملية أو أدبية يحسب لها حساب.
والفرض مع هذا بعيد الاحتمال. فإن الثورة الشيوعية أعلنت منذ قيامها «أن من ليس معها فهو عليها»، وأبادت كل من توقف عن تأييدها وإن لم يكن له عمل في مقاومتها. ولكنه سواء كان فرضًا بعيد الاحتمال أو مقبولًا في الحسبان لا ينتهي إلى نتيجة ذات بال، وكل ما ينتهي إليه أن يكون عدد المخالفين للشيوعية في قلوبهم بضعة ألوف معزولين عن وسائل النفوذ بين الملايين من الرجال والنساء الأشداء يقودون أزمَّة الأعمال والآراء.
مائة وخمسون مليونًا، أو يزيدون، كلهم مولودون في ظل المذهب منقطعون عن مذاهب العالم، عائشون في جوِّه نيفًا وأربعين سنة.
تلك «وحدة مذهبية» لم يعرف لها نظير في تواريخ الأمم منذ كانت، وتلك فرصة أتيحت للثورة الشيوعية لم تتهيأ قط لحركة من حركات المبادئ والدعوات الاجتماعية، فلو كان في هذا المذهب الشيوعي صلاح للاستقرار على دعائم الحرية وضمان الحقوق، لوجب الآن أن يكون على غاية من الاستقرار والطمأنينة، وأن يكون ولاته جميعًا من الكفاة القادرين على تدبيره، المخلصين في تنفيذه، الصادقين في الإيمان به والقيام على شئونه، وإلا فكم من الزمن يكفي لتخريج الكفاة المخلصين الصادقين، ومن أي المذاهب تستعيرهم الشيوعية، إن كانت لا تستطيع أن تنشئهم في مهادها بين أبناء العشرين إلى أبناء الستين؟
نعم، يجب أن تكون للمذهب اليوم حكومته الحرة المطمئنة وحكامه الكفاة المخلصون!
فهل هذا هو الواقع المشاهد في البلاد الروسية؟ هل هذا هو الواقع المشاهد في أقوال الروس أنفسهم، بل في أقوال حكام الروس أنفسهم، فضلًا عن أقوال الأعداء والمعارضين؟
كلا، ليس هذا هو الواقع المشاهد كما يصفه حكام الروس، ولا يفرغون من وصفه وإعادة وصفه منذ عهد ستالين إلى عهد خروشيف الأول والأخير.
ستالين قضى على المئات والألوف بتهمة الخيانة والغدر بالشعب والعدوان على مصالحه وشريعة حكمه، وخليفته خروشيف يقول إنه كان ظالمًا عاتيًا سفاحًا يخوض في دماء الأبرياء ويفتري الكذب على خدام الأمة الأمناء، ولكن خليفته هذا لم يلبث أن صنع بشركائه في الحكم مثل صنيع ستالين، ولم يزل يقتل وينفي ويعزل ويلقي تهم الخيانة على زملائه وأعوانه قبل أن يفرغ من حملته على السياسة التي سماها سياسة البغي والإجرام والتلفيق والافتراء.
أعادل زعيمه ستالين أم ظالم؟ وصادق خليفته أم كاذب؟
كلا الأمرين سواء.
إن كان ستالين عادلًا، فهناك ألوف من رؤساء الشيوعية خونة أنذال مفسدون.
وإن كان ستالين ظالمًا، فهناك حكومة تتولى أمور البلاد على سنة الإرهاب والغش والتضليل.
أما خروشيف فصدقه طامة وكذبه طامتان، ومحاكاته لستالين بعد الحملة عليه دليل عجيب في تأصل الشر على أركان الدولة إلى أعمق الجذور.
إن صدق هذا الرجل يدمغ المذهب الشيوعي في أساس تكوينه؛ لأنه يرينا أن الحكم الشيوعي يخول الحاكم المستبد طغيانًا لم يخوله أعتى القياصرة في أظلم عصور الظلم والاستغلال.
وأشد من ذلك أن يكون كاذبًا على زعيم وعلى أمة وعلى حكومة كاملة ولا يفتضح له كذب ولا يمتنع عليه بعد ذلك أن يتمادى في السياسة التي أنكرها كاذبًا على جميع هؤلاء.
وعلى أي وجه من الوجوه لا مفر من الجزم بأن الشيوعية أفلست في سياسة مجتمعها غاية الإفلاس الذي يصاب به مذهب مجعول لسياسة المجتمعات، وأن الشيوعيين في بلاد كلها شيوعيون لا يقدرون بعد أربعين سنة أن يجدوا للحكم إلا باغيًا كاذبًا سفاحًا، بين قائم منهم بالأمر أو معزول، وأن نظام الشيوعية من أساسه شر من كل نظام عرف في ظل الاستبداد ورأس المال؛ لأنه لا يأبى أن تتولاه أداة حكومية قائمة على الإرهاب والتضليل، يتأتَّى فيها للحاكم الفرد ما ليس يتأتى من قبلُ لأمثال نيرون وجنكيزخان.
هذا هو الواقع الذي تبديه لنا أعمال الحاكمين في روسيا وأقوالهم، ولا حاجة به إلى رأي يقول به عدو أو ناقد من بعيد.
مذهب قامت على قواعده أمة كاملة من الرضيع إلى الشيخ الذي جاوز الخمسين، ولم يزل حكامه بين خونة وظلمة، ولم يزل في وسع الإرهاب والتضليل أن يتيح لحاكمه المطلق أن يجني على الأرواح والأعراض والأرزاق كما يشاء.
ومن الواضح أن التضليل هنا يستند إلى الإرهاب ولا يقوم على براعة الحيلة التي تجوز على غير المضطر للخضوع. فإن دعواهم — ظالمين ومظلومين — على السواء أظهر من أن يقبلها سامع بريء من الخوف أو التغفيل.
وليس هذا هو الواقع الذي تنكشف عنه نتائج الحكم في صميم البلاد الروسية وحدها، بل هو الواقع في كل مكان بسطت عليه روسيا شيئًا من نفوذها وحسبته بين ملحقاتها. ونظرة عاجلة على المستعمرات الروسية، وأشباه المستعمرات الروسية ترينا أنهم لا يبسطون نفوذهم على بلد يفصلهم منه حاجز من الحواجز الجغرافية. فكل مستعمراتهم وأشباه مستعمراتهم؛ آسيا وأوروبا، تقع من بلادهم على مد الذراع من قوة الإرهاب المسلح، ولم يستطيعوا بالتضليل وحده أن يستغنوا عن الإرهاب المسلح أو الجاسوسية المسلحة؛ ولهذا تمكن «تيتو» في يوغسلافيا من الخروج عليهم والاستخفاف بأنظمتهم وتعليماتهم، فتحداهم وأفلح في تحديهم، وهو يدين مع هذا بمذهب من المذاهب الاشتراكية!
وكلما استطاع هؤلاء الشيوعيون أعداء الاستعمار والاستغلال — كما يقولون — أن يخضعوا بلدًا غريبًا بقوة السلاح، حكَّموا فيه القمع والإرهاب تحكيمًا لا يستبيحه شر المستعمرين في القرون الغابرة ولا في هذا القرن العشرين، فالبلاد التي دخلها المستعمرون تعاني من عسفهم ما يثيرها عليهم للمقاومة والانتقاض، ولكنها على أية حال تقاوم ويسمع لها صوت وتذاع لها في العالم قضية. أما حيث نزل الروس فلا بقية بعد السيف للمقاومة والانتقاض، وخطتهم هنالك للمحق والإبادة لن تكون أرحم من خطتهم في صميم بلادهم. أين بلجانين؟ أين بريا؟ أين ملنكوف؟ أين مولوتوف؟ أين قبل هؤلاء مئات ومئات من الأنداد والنظراء، وممن تخشى محاسبتهم أو مقاومتهم في وقت من الأوقات؟ إن الحاكم الذي يزيل هؤلاء عن طريقه في وضح النهار لن يترك في بلاد المغلوبين رأسًا يرتفع للحساب والمقاومة، ولن يدع فيها أحدًا يهم بالحركة أو يقدر عليها إن همَّ بها.
غول من الوحشية والشيطانية تبلى به الأمم في هذا الزمن، ولا سلامة لها منه إلا بالقضاء عليه، وتلك هي «تصفية الختام» للمذهب الذي ملك أمة فلم يقدر على حكمها بغير الإرهاب والتضليل، ويريد أن يحكم الأمم جميعًا — والعياذ بالله — على هذا المنوال.