رواية الشقيقتين
أَلا أَنعم بالطبيعة والدةً تستدعي في كلِّ حالٍ من أبنائها العجب! ولكن تراها في بعض الأمور ألطَفَ صُنعًا منها في غيرها فتَلُوح من وراء أعمالها يد خالقها المنَّان.
ومثال ذلك ولادة أختين شقيقتين توأمتين، تجمع الطبيعة بينهما في مَوْلِج الحياة، فتربط منهما الجنان بعلائق شديدة وثيقة، وتزرعُ في قلوبهما منذ نعومة الأظفار عواطف مُتبادلة تنمو وتتمكَّن مع تقدُّمهما بالسنِّ، فتراهما لبعضهما سندًا وفي كلِّ أطوار الحياة عضدًا، تتقاسمان الأفراح في السَّرَّاء والأتراح في الضَّرَّاء، لا يفتُر بينهما الوداد إلى ساعة المنون، وربما جمع بينهما ضريحٌ واحدٌ إلى قيام الساعة.
١
لو أُتيحَ لك أيُّها القارئ اللبيب أن ترقى منذ بضعة أعوام إحدى قمم لبنان ليس بعيدًا عن السابلة المؤدية من بيروت إلى دمشق الشام لكنتَ رأيتَ على مُنعطف أكمة في مكانٍ يُعَدُّ من أنزه مواقع الجبل بيتًا أنيق الهيئة لطيف البناء، شيَّده المسيو «ب» وهو إذ ذاك قنصل عام لإحدى الدول الكبرى في سورية، فجعله مصيفًا يأوي إليه مع عائلته فرارًا من لظى قيظ بيروت.
وكان جانب من المنزل تحجبه أشجار الأزْدَرَخْت (الزنزلخت) والصنوبر، يتلاعبُ في أغصانها نسيم الصبا، وتغرِّد فوق أفنانها طيور الرُّبى.
أمَّا هندامُ المسكن فلم يكُ يُشبه بشيءٍ ما جاوره من المعاهد الصيفية، وإنما أرادَ صاحبه أن يجمعَ فيه بين هيئة المصايف السويسرية وخواصِّ الدُّور السورية المحدثة، فكان يعلوه القرميد الأحمر على شكل مخروط، وفي وسط البناء شُرَفٌ ناتئة مستطيلة «بَلْكون» لترويح النفس في طرفي النهار.
وكان أمام البيت سطح واسع الفناء، يُشرَف منه على منظرٍ بهيٍّ، فكنتَ ترى على بُعد ثَبَج البحر الزَّاخر إذ ترمي عليه الشمس أشعَّتها الذهبيَّة أو يجيشُ بأمواجه فينتظم له على الساحل سلكٌ من دُرَر الزَّبَد.
فهناك مُضَّجِعةٌ بيروت، وهي أشبهُ بملكةٍ حسناء ترتفق إلى سفح الجبل وتبسط رجليها في غمر البحار، بينما تُمنطِق أعطافَها مناطقُ زبرجدٍ صيغت لها من خضرة بساتينها وغابات صنوبرها، ولو كنتَ سرَّحت النظر في الرُّبى القريبة لآنستَ من لبنان مشهدًا يروق البصر ويأخذُ بمجامع القلب.
ففي اليوم الذي به تستهلُّ روايتنا كنتَ ترى أهل الدار الموصوفة آنفًا يسعون في تهيئة حجرةٍ لاستقبال ضيفٍ شريفٍ على وشك القدوم من بلاد اليونان اسمه البارون «شرل دي لينس»، وهو كهلٌ في قوَّةِ الشَّباب عمره خمس وثلاثون سنة من أرباب السياسة يتعاطى في عاصمة اليونان أمور دولته بهِمَّةٍ علياء، وكان «شرل» ذا أخلاق راضية وعواطف ليِّنة، بيد أنه شديد التحمُّس في الدين، يسيرُ على مُقتضى مبادئه علانيةً دُونَ حياءٍ.
وكان المذكور تيتَّم في حداثة سنِّه فتربَّى في حِجْر أحد أعمامه، وقد وَرِث من والديه اسمًا شريفًا وثروة طائلة، وكان مع ريعة شبابه ونشاط سنه تائقًا إلى الرَّاحة والتخلِّي من اشتغال مهنته المضنكة مُستنكفًا من حياة العزلة والتفرُّد، ومن ثمَّ ما كادت تبلُغه ألوكة القنصل المسيو «ب» — وهو صديق حميم لوالده المرحوم — يدعوه بها إلى مصيفه في لبنان، حتَّى أسرَعَ فطلب عطلة شهرين، وسلَّم موقَّتًا أشغاله في السفارة بأثينة إلى بعض زملائه، وركب في البيرة سفينة المسَّاجري مُبحِرًا إلى بيروت.
وكان البارون «دي لَيْنس» كَلِفًا بالأسفار البحرية، إلَّا أن سفرته هذه في غُرَّة آب كانت أحلى لديه وأوقع في قلبه؛ لصفاء الجوِّ، ولين النسيم، ووفرة المناظر البهجة.
وكانت حركة السفينة وهي تَمخُرُ في وسط المياه تمثِّل له حياته السابقة الكثيرة التنقُّل والتقلُّب مع أنَّه لم يكد يبلُغ سنَّ الكهولة، فكان يقضي السَّاعات وهو متوكِّئ على إطار السفينة يفكِّر في ما طرأ عليه من كوارث الزمن وصروف الدهر، ويُقابل بين عيشته الهنيئة الخالية من الهموم في الوقت الحاضر وحالته أمس بين الهواجس والشواغل السياسية، فيشكر لأفضال المسيو «ب» إذ قرَّب إليه نوال الفرصة لترويح البال، فلا يعود يسمع ثرثرة اليونان يطنبون تارةً في مديح أجدادهم فيرفعونهم فوق السُّهى، ويدَّعون أُخرى بالفخر على من سواهم من الشعوب، وربَّما طمحوا بالبصر إلى التملُّك على بلاد مُجاوريهم. فنجا — والحمد لله — من إبداء آرائه في حزب «تريكوبيس» أو الانتصار ﻟ «دالياني»، ولا يحتاج أن يثني على توقُّد فهم السيدة … «بولو» وحسن زي ابنة السيد … «يدِس»، وبموجز الكلام ها قد صار حُرًّا.
وبينما كان «شرل» خائضًا في بحر هذه الأفكار كانت السفينة اجتازت أمام رأس سونيوم مُواصلة سيرها إلى جهة إزمير مارَّة بين عديد جزائر الأرخبيل كديلوس ونَكْسوس التي كانت تظهر في أوَّلِ ساعات الليل كأجرامٍ عظيمةٍ لا صورَةَ لها، تلوحُ على ساحلها من وقتٍ إلى آخر ضياء منائرها؛ لتأخذ السفن حِذرها من الصخور، فما كان يُسمع في هدوء الليل غير صوت السفينة وهي تشقُّ المياه وتخطر في سيرها السريع، وكان نزل أغلب الركاب يأوون إلى مراقدهم، أمَّا السماء فكانت رائقة تتلألأ بكواكب كالدراري، والبحر يعكسُ أنوارها فيسحر منظرهما العقول ويحمل القلوب إلى خالقها.
إلَّا أنَّ هذه المناظر وإن كانت تدفع النفس إلى الهذيذ والتأمُّلِ لم تكُ لتشغل عقل البارون عن أفكارٍ مُختلفة كانت تتجاذبه منذُ زمنٍ قليلٍ. أجلْ، إنَّ رؤية لبنان الذي هو قاصده لَشهيَّةٌ بديعةٌ، والاجتماع بالأصحاب لَموْرِدُ أفراحٍ عذبةٍ صافيةٍ، ولكن تُرى ماذا يحلُّ به بعد ذلك؟ وإلى أي طيَّةٍ يوجِّه أفكاره ليستقرَّ بها قراره ويرتعُ في ظلِّ الأمن والرَّاحة؟ أفيكون سعادة القنصل «ب» سبقَ وتفهَّم نيَّته فاستدعاه ليعرض عليه — كما فعل غيره كثيرون — الاقتران بإحدى ابنتيه وينزعه حريَّته بوضع ربقة الزواج في عنقه؟
وما كاد هذا الفكر يخطرُ ببالِ البارون حتَّى وجم ساكتًا وأطرق كاسفًا، ثمَّ قام بعد هنيهة فنزل وهو لا يعي إلى المنام، وبات ليلته قلقًا يتململُ من الهمِّ على فراشه، ولمَّا كان الصباح رقي سطح السفينة فإذا بوجه البحر تجعَّد قليلًا، وبانت على قُربٍ سواحل كرمانية وجبالها الشاهقة كستها أشعة الشمس الطَّالعة بجلبابِ نورٍ وبهاء، إلَّا أنَّ هذه المشاهد الشائقة والمناظر الرَّائقة لم تعمل في قلبه وعادت أفكار المساء المُنصَرِمِ فعكَّرت صباحه، وبقي في صُلب يومه مُنزعجًا مشوَّشًا، فجعل يخطو مُسرعًا ذهابًا وإيابًا فوق سطح السفينة يهجسُ كما في اليوم السابق مُفكِّرًا في أمر مُستقبله وهو يردِّدُ هذا القول: ماذا أصنع بعد؟
ما الجدوى من هذه التربية المتقنة التي نالها في صباه ومن هذه الدروس التي زيَّن بها عقله؟ وفي صالح من يحسُن به أن يصرِفَ قُواهُ؟ أو ماذا يفعل بهذه التركة الواسعة التي أورثه إيَّاها والداه؟
أفيصير كاهنًا أو مرسلًا؟ نعمَّا الدعوة لولا أنها من الله لا يسوغ للإنسان أن يسبق فيها إرادته تعالى.
أفيقترن بسُنَّة الزواج؟ تلك طريقة النَّاس عمومًا، ولكن يا بُؤسه إذا خُدع بالمال أو الجمال فوقع بيد امرأةٍ ليس لها من الصفات غير ظاهرها، ويكون خُبْرها دون خَبَرها، تقضي عامَّة أيامها في الأباطيل فتَضحَى لزوجها أثقل من العبء الثقيل.
أو يبقى وحده معتزلًا عن الانشغال عاكفًا على العلوم متفرِّغًا لصنيع الخير إلى ذوي جنسه؟ فكانت هذه الأفكار وأمثالها كثيرة تهجس في ضمائره مُعكِّرة كأس هنائه في بقيَّةِ سفره حتَّى بلغت السفينة بالركَّاب إلى ميناء بيروت فأفاقه منظرها البهيُّ من سكرته.
٢
لله بيروت! ما أجمل موقعها، وأبهج مرآها لمَّا ترسو السفينة بالغريب إزاءها لأوَّل مرة! فلا جرم أنَّ محاسنها تخلب قلبه وتسبي مشاهدُها لُبَّه.
وكان البارون «دي لَيْنس» مع كثرةِ ما رآه من البلاد لا يتمالك من العجب لدى نظره هذه المدينة الفائقة ذات المناظر الشائقة، تدخل في البحر كأنها تقتحم أهوال الدأماء، وتتوسَّدُ جِبالًا تأتزر قممها بالسحاب وتعتمُّ بالثلوج الغرَّاء، دُورُها مُحكَمة البُنيان، وأشجارها باسقة الأفنان، وهي تجمع بين مرافق البرِّ والبحر والجبل والسهل.
غير أنَّ أفكار البارون لم تَرُق بعدُ كي يلتهي بمحاسن بيروت، ولما كانت خواطره كلُّها مُتَّجهة إلى مصيف سعادة القنصل «ب» ما لبث أن ركب العربة في غد ذلك اليوم ونزل عند الضحى أمام الدار الموصوفة آنفًا، فأسرَعَ لاستقباله أهلُ البيت وتحفَّوا به وبالغوا في إكرامه حتَّى نسي بعد هنيهةٍ كلَّ عناء السفر.
والحقُّ يُقال إنَّ منزل المسيو «ب» كان يجمع كل أسباب الهناء والرَّاحة، وأصحابه ممَّن يُراعون حقوق الضيف، وهم علاوة على ذلك مُتَّصفون بكلِّ ما يجمِّل الناس من الفضائل الأهلية والآداب الإنسانية.
فما رسخت قدم البارون في هذه الدار حتى انتعشت روحه وشعر بعودة قواه بين أصحاب لم تشُب أخلاقَهم شائبةٌ، ولم يُعكِّر صفاء مودَّتهم كدَرٌ، فشتَّان بين ما وجده عندهم من الأُنس ورغد العيش وبين أيَّامه السَّابقة في عاصمة اليونان؛ إذ كانت تُحدِق به هموم رتبته فلا يرى مناصًا من مُخالطة قومٍ أعماهم الجَخْفُ واستفزَّهم حبُّ الذَّات، فكان يتنسَّم في وسط الجبال الريح الطيبة وهو يتهنَّأ بنسيم الحرية.
ثم أخذ يتجوَّل بصحبة القنصل في الأنحاء المُجاورة لمنزله، وربَّما كانا يتسنَّمان صهوات الخيل فتارة يطويان البيد وأُخرى يهبطان إلى الوديان أو يسعيان في الجبال للصيد والقنص.
ومجمل القول: أنَّ البارون كان يصرف حياته في الهناء بعيدًا عن ضوضاء العالم وعن مجالس المسامرات الباطلة التي لا تجدي القلب راحةً.
إلَّا أنَّ ما زاد البارون بسطًا وانشراحًا إنما كان اجتماعه مع لفيف عائلة القنصل «ب» في طرفي النهار، فينبذ عندئذٍ كل تكلُّف، ويطلق لعواطفه العنان، ويقضي بحديث أهل الدار ساعات يعدُّها من أهنأ زمن حياته.
وكان منذ أوَّل يوم وصوله شعر قلبه مائلًا إلى ابنتَي القنصل؛ لِما وجد فيهما من السجايا الفريدة، وهما شُعبَتا أصلٍ واحدٍ نتقَتْهما أمومةٌ في اليوم ذاته.
واسم الأختين «سوسنة» و«وردة»، لم يكد عمرهما يُربي على الثماني عشرة سنة، وهُما مع ذلك تتشابهان قَدًّا وحُسنًا.
أمَّا مولد الفتاتين فكان في أرض المغرب لكنهما نمتا وترعرعتا في الشرق، فجمعتا بين خصال الخافقيْن، فكنتَ ترى فيهما سذاجة البلاد الشمالية مُدمَجةً بشيءٍ من ترف أهل الشرق ورزانة طباعهم، فتمتزجُ بشخصيهما أوصاف كلا الصقعين امتزاجًا رائقًا.
وكانت أمهما من السيدات العاقلات المجمَّلات بأحسن الصفات قد أرضعتهما بلبانها وأشربتهما منذ الصغر روح التُّقى والحشمة، فنشأتا في حِجْرها ومُهِّدتا في كنفها وسترها ودرجتا من وَكْرها، وهما تألفان الدار الوالدية لا ترضيان لها بديلًا، وكادتا لا تعرفان من العالم إلَّا اسمه، فكان من يراهما يستدلُّ بصفاءِ عيونهما على طهارة قلبهما.
وبمُجمل القول: إنَّ «سوسنة» و«وردة» كانتا تحقِّقان بشخصيهما ما افتتحنا به كلامنا عن ائتلاف الأخوات الشقيقات، والحق يُقال إن الأخُوَّة كانت تأنَّست منهما بملاكين أرضيَّيْن فأخرجتا إلى حيِّز الوجود ما تخيَّله القصَّاصون في رواياتهم المختلفة ذات الغلوِّ البيِّن عن أمر التوأم وما يوجد بينهم من العلائق الوثيقة.
ومن خواصِّ الابنتين المذكورتين تشابههما بالخِلقة والقَدِّ والصوت كتشابُه الذرَّة بالذرَّة، لم تفرز بينهما العين اللهم إلَّا عين والدتهما، أمَّا باقي أهلهما فاضطروا إلى أن يفرقوا بين النجلتين زمنًا طويلًا بعلاماتٍ خاصَّةٍ؛ لئلَّا يقع التباس بينهما.
وبقيتا على هذه الحال إلى السنة الثانية من عمرهما، حيث بدا في وجههما بعض تبايُن، وذلك بأنَّ لون «سوسنة» جعل يضربُ إلى البياض وشعرها إلى الشقرة، بينما أضحت «وردة» مُزدهرة اللون قانئة الشَّعر كأنَّ الطبيعة نَوَتْ فيهما تطبيق المسمَّى على الاسم، وجارت الأمُّ الطبيعةَ بأن كستهما ثيابًا تُشعِر باسميهما وخلقتيهما.
ولا غرو أنَّ ما سبق لنا من الوصفِ لخَلق الشقيقتين وخُلقهما وقع في قلب البارون «دي لَيْنس» موقعًا أثيرًا، وما زَادَ على ميله نحوهما ما طُبع هو نفسُه عليه من لين العريكة والهِمَم العالية، ونما اعتباره للأختين لمَّا رآهما تتباريان فضلًا وصلاحًا لا تعكِّر بينهما صفاء الوداد شائبةٌ فكان يشبِّههما بزنبقتين نمتا من فرعٍ واحدٍ تزدهيان حُسنًا وتتكاتفان ولاءً.
وفي واقع الحال كانت «سوسنة» و«وردة» مُرتبطتين ارتباطًا غير مُنفصم، تتشاطران الأفراح والأتراح وتتباثَّان الأفكار والعواطف فتخالهما نفسًا واحدة في جسدين.
وكان مع ذلك في طبعهما بعضُ اختلاف، فإنَّ «سوسنة» كانت كثيرة التصوُّن بينما كانت «وردة» فكهةً طيِّبَة النفس، فكانت من ثمَّ تميلُ «سوسنة» إلى التخلِّي والانفراد، وربَّما فكَّرت أن تلبس الثوب الرهباني في جمعية الرَّاهبات اللواتي ربَّيْنها صغيرة وهذَّبْنها فتاةً، وأفشتْ بسرِّها لأختها «وردة». بيد أنَّ هذه استولى عليها الكأْب وصرَّحت لأختها ألَّا سبيل للفراق مُطلقًا، فلم تَعُدْ «سوسنة» إلى الكلامِ بهذا الصدد.
أمَّا البارون «دي لَيْنس» فمع ما وجده في نفسه من الانعطاف إلى الأختين كان يشعر قلبه مائلًا إلى وردة أكثر منه إلى «سوسنة» يسرُّه منها طلاقة لسانها وتوقُّد ذهنها ودعابة طباعها، فضلًا عن سذاجة أخلاقها واستقامة قلبها.
فمذ ذاك الحين لم يَعُد يرى مانعًا لأنْ يتأهَّل؛ لأنه كان وجد المرأة الفاضلة التي يصفها السِّفر الكريم ويؤثرها على قيمة اللآلئ، ولم يلبث اعتباره لخصائل «وردة» أن يتحوَّل إلى مودَّة صادقة وحبٍّ متينٍ، ولمَّا انتهى بعد شهرين زمنُ رُخصته فآن وقت رجوعه إلى أثينة صرَّح إلى القنصل بنيَّته وخطب منه ابنته «وردة»، فبعد فحص الأمر وعرضه على الفتاة لم يرَ المسيو «ب» بُدًّا من الإجابة إلى طلبته.
٣
وكان خريف تلك السنة غزير الأمطار، فترطَّب من جرَّائها هواء السواحل، أمَّا الجبل فكانت أوراق أشجاره أخذت بالانتشار وصار برده نافحًا، فأسرع أعيان بيروت وبارحوا رُبوعهم الصيفيَّة مُنحدرين إلى السهول يتنسَّمون هواءها المعتدل ويُباشرون أشغالهم المألوفة، فعادت المدينة إلى ما كانت عليه من الحركة قبل فصل الصيف.
وكانت عائلة القنصل «ب» رجعت إلى بيروت فيمن رجع فحلَّت في دار القنصلية عند رأس المدينة، وهو منزلٌ رحبٌ كثير الثروة تُحدِق به حديقة غنَّاء ذات زهور وأشجار باسقة.
وكان هذا البيت عادةً ذا هدوٍّ يرتاح فيه أصحابه إلى السكينة، بيد أنك منذ بضعة أيَّام كنتَ ترى فيه حركة غير مألوفة، وما ذاك إلَّا لإعداد رُتبة الزيجة المَنْوِيَّة.
ولا غرو أنَّ الأختين كانتا أوَّل من نشط للعمل وعُني بتجهيز لوازم هذه الحفلة، إلَّا أن «وردة» كانت أقل اهتمامًا في الأمر من أختها، فلا تزال على طبعها فكهةً دَعِبة لا يكدِّر صفاء قلبها قلقٌ، كأنَّ الأمر لا يهمُّها بل يعني غيرها، بينما كانت «سوسنة» تزيد رصانة وتصوُّنًا.
هذا ولا يُخالجَنَّ فكر أحد أن خفَّة الطباع كانت غالبة على «وردة» تسيرُ إلى الزواج وهي لا تدري بما ستتكلَّفُ فيه من العناء، وبالحريِّ إنما كانت أعلم ممَّن سواها أنَّ تحت الزهر شوكًا لا يقوى على ألمه إلَّا من كان شديد النَّفس ذا حزمٍ وجدٍّ، وعليه فكانت الفتاة كثيرًا ما تختلي وحدها في غرفتها؛ لتُعدَّ ذاتها لهذا الاقتران، طالبةً من الله أن يزيِّن قلبها ما يقتضيه سر الزواج من الصفات والفضائل، ويجعل هذا المشروع ميمون الطَّالع سعيدًا موافقًا لإرادته عزَّ وجلَّ.
وكانت أمُّ «وردة» قد استدلَّت في مُدَّة الشهرين الأخيرين بمجرَّد النظر إلى ابنتها على ما يُخامِرُ قلبها من الأفكار الخطيرة، فانتهزت هذه الفرصة؛ لتمهِّد لها تلك الطريق الوعرة وترشدها في سواء السبيل.
أمَّا «سوسنة» فكان حدث في نفسها في المدَّة الأخيرة تغييرٌ يُذكَر، وذلك أنها كانت في بادئ الأمر تلقَّت خبر خطبة أختها بفرحٍ عظيمٍ، ولكن لم تمر عليها أيَّام قلائل حتى غَشي قلبها بعض الحزن لم يمكنها أن تستره عن أعيُن أختها، فلحظتْ منها ذلك «وردة» وجعلتْ تسعى في إزالة كربها ببشاشة وجهها وفكاهة طبعها، فلم يُجدِها فعلُها نفعًا، ومذ ذاك الحين لم يَعُد هذان القلبان على ما ألفاه من الوداد والمخالصة.
٤
إذا ما أَقبَلَ الخريفُ وضرب في الأرض أطنابه أصاب المرء بقدومه تنعُّمًا وراحةً لم يعهد بهما في غيرِ هذا الفصل، ولا شكَّ أنَّ في ترطُّب الهواء بعد لَهَبِ الصَّيف، وفي هبوب النسيم ومنظر الأشجار يعلو أوراقها لون الكمدة والاصفرار مُتعة وبهجة يحدوان به إلى التفكُّرِ والاعتبارِ، وذلك في ساعات المساء أكثر منه في غيرها من الأوقات لمَّا يكوِّر الله الليل على النهار، فيمدُّ على الطبيعة رداءً تلوح من خلاله كسَيِّدةٍ مهيبةٍ جليلةٍ، فتتَّسع الآفاق بأعيُن البشر وترتفع أنفسهم إلى الأعالي، فلله تلك الساعات اللذيذة! يقضيها المرء في الفكر وهذيذ القلب ويتقرَّب إلى خالقه شاكرًا له على ما أولاه من النِّعَمِ السَّابغة، بيد أنَّ هذه الآونة وشيكة الزوال تمرُّ بسُرعة البرق.
فلمَّا كان مُنتصف تشرين الثاني في مساءِ نهارٍ صفيِّ الأديم بهيِّ الأنوار عند امتداد الظلام على الأرض وطلوع زواهر النجوم في السماء كانت «وردة» جالسةً بقُرب أختها «سوسنة» في رواق الدَّار بإزاء الجنينة وفيها الأزهارُ تعطِّر بعرفها الأرجاء، والأشجارُ موسوقة بأثمارها الشهيَّة، لا يُسمع سوى صوت خرير الماء يتحدَّرُ من فوَّارة على شكل غِلالة في حوضٍ من رُخام بُني وسط الدَّار، وعن بُعد صوت موج البحر المتكسِّر فوق صخور الساحل.
فبقيت الأختان هنيهةً تسرِّحان النظر في هذه المناظر، وكلتاهما صامتة لا تبديان حِراكًا، كأنَّ الاجتماع أضحى لهما عِبئًا ثقيلًا بعد أن كانتا لا تذوقان بغيره لذَّةً، وإذا بمنار رأس بيروت سطع بغتةً فرمى بأشعته الذهبية على دار الأختين وأنار وجهَيهما، فالتفتت «وردة» إلى شقيقتها فرأت عينَيها مغرورقتين بالدموع، فما كان منها إلَّا أن صرخت: «ما هذا يا «سوسنة»؟ تُرى ماذا أصابك؟ إنَّكِ لكاسفة البال، يُؤلِمُ قلبَك البلبال، فما لك تُخفينَ عنِّي سبب حزنك؟ أفتكون سعادتي المأمولة عِلَّةً لشقائك؟»
فأطرقت «سوسنة» واجمةً ثم ألقت بنفسها على صدرِ أُختِها وهي تبكي ثم قالت: «يا أختاه، إنِّي سأفقدُكِ عمَّا قليلٍ، وإذا ما تأهَّلتِ لا يعودُ حبُّك لي كمن ذي قبل، وسوف تبرحين الدار وتصيرين إلى ما شاء الله … «أَوردة» شقيقتي لو أمكنك أن تشعري بما يحسُّه قلبي من الألم! فإنَّه حقيقة يتلظَّى على جمر القتاد، ولا أدري إذا لم يتفطَّر بعد فراقك.»
قالت هذا وأذرفت الدُّموع السخينة وعلا صوتُ بكائها، بينما كانت تحاول أن تخفي عن أختها ما في قلبها من الغَيرة والحسد.
أمَّا «وردة» فما لبثت أن تبيَّنتْ حقيقة الأمر فكان لاكتشافه في قلبها صدًى مُؤلم رنَّق عيشها وذهب ببهجته، فلم يَعُدْ يمكنها أن توجِّه نظرها إلى أختها دُون أن تلوم ذاتها على سعادتها.
فمرَّ على ذلك بضعة أيَّام، وكان كلَّما قرب النهار المعيَّن لحفلة العرس تزيد في قلب «سوسنة» مضض الأوجاع، لم تجد لسترها عن العيون طريقة، فتارةً تُظهِر ما اكتنَّه الفؤاد بحدَّة طبعها، وتارةً باختلائها عن أهلها، وحينًا بتغلُّب السوداء على خُلقها وخَلقها حتَّى شحب لونها وخاف أبواها أن تَضنَى منها القوى وينالها داءٌ عياء.
لكن الفتاة أحسَّت بعد حين أنَّ العيون شاخصة إليها تستشفُّ ما في جنانها، فتجلَّدت وتجمَّلت حتَّى حجبت عن الكلِّ مكنوناتِ ضميرها، فعَادَ التبسُّم إلى وجهها وأبدت لمن قاربها أُنسًا ولُطفًا كما اعتادت الأمر في السَّابق، ثم أخذت تجدُّ وتسعى بنشاطٍ جديد لتهيئة لوازم العيد القريب مع ما ترى في قدومه من زوال سعادتها، ومُجمل القول: أنه لم يَعُد أحدٌ في البيت يقفُ على ما يتنازع قلبها من الخواطر والهواجس، بيدَ أنَّ «وردة» لم تكُ لتنخدع بهذه الظواهر فلبثت مُرتابة في أمر أختها.
ولمَّا حان اليوم المعهود وواقع كلا الخطيبين على الشروط المألوفة في مثل هذه الظروف، احتفل المسيو «ب» بعقد الخطبة بما أمكنه من الأُبَّهَةِ والاحتفال، فنُجز الأمر إذًا وقرَّ ﻟ «وردة» أن تُكنَّى باسم بارونة «دي لَيْنس» باقترانها مع خطيبها الشريف.
٥
فبانت الأختان في هذا العيد مُرتبطتين بروابط المودَّةِ والولاءِ ما أمكنهما، فقضتا مع آلِ البيتِ قسمًا كبيرًا من النهار لاستقبالِ جماهير الحاضرين لتأدية فروض التهاني إلى العائلة، وكانت بطاقات الزيارة والمكاتيب والتلغرافات تَرِدُ من كلِّ الأنحاءِ داعيةً للقرينين باليُمن والرَّفاء.
ولمَّا كان البارون من أرباب السياسة تواردت عليه هذه الأنباء من كلِّ عواصم أوربة — كفِينَّة وأثينة وغيرهما — تتمنَّى له الخير والسعادة، وكان الجميع يتيمَّنون لهذا القِرانِ حُسن العُقبى؛ لما يروه في العِرسيْن من الخواص والسجايا التي لم تكد تجتمع في غيرهما كالغنى والجمال والآداب والدين، وكان الزوَّارُ يُطنبون في محاسن «وردة»، لا يرون بينها وبين الورد خلافًا سوى أنَّها لا شوكَ فيها.
أمَّا «سوسنة» فكانَ يلوحُ على مُحيَّاها بهجةٌ شديدةٌ حتَّى لم يشكَّ أحدٌ عن صفاء قلبها وإخلاصِ ودادها، إلَّا أنَّ أختها لمحت في بشاشة وجهها تصنُّعًا وتجمُّلًا مع امتقاعٍ في لونها واصفرارٍ في وجنتيها.
فلمَّا كان المساء نحو الساعة التاسعة دخل لفيفُ الأهل والأقارب إلى الديوان الكبير يتقدَّمهم الخطيبان الجديدان، وكانت «سوسنة» رافلةً في أبهى ملابسها تزينها الحلي والمصوغات وهي مُتمنطِّقةٌ بنطاقٍ أزرق ناصع اللون مُرصَّع بالحجارة الكريمة يبدو حسنه فوق ثيابها البيضاء كالثلج.
أمَّا «وردة» فكانت بخلافِ الأمر لابسةً لبسًا بسيطًا حتَّى لو رآها غريب لظنَّ أن أختها صاحبة العيد ليست هي، أمَّا الحليُّ فلم تَرضَ منها سوى بصليبٍ صغيرٍ من الذَّهب كان يلوح على صدرها وسواريْن من الفضَّة في زنديْها، وكان شعرها الأشقر مجموعًا فوق رأسها تضمُّه عصابة سوداء ذات عقدة واسعة، ولمَّا أشارت إليها أمُّها أن تستبدِل هذه العصابة بغيرها من اللون الأرجواني أجابتها ابنتها بلُطفٍ: «إني أُوثِر الأَسود، واختلاف الألوان في اللبس أجود، هذا وإن أحببتِ يا أمَّاه أن أغيِّر هذه العصابة لفعلتُ وفقًا لرضاكِ.»
فأجابتها أمها: «ابقَيْ كما شئتِ يا مُهجة الفؤاد، فدُونك هذه الوردة شكِّيها في نطاقك وكفى بذلك لهذا المساء؛ لأنَّ الوقت قد حان وجماعة المدعوِّين في انتظارك.»
فلمَّا دخل الجمهور إلى القاعة كانت نوافذها مفتوحة يزفُّ إليها هواء الليل روائح الزهور العطرة الفاغمة في حديقة الدَّار، وكانت أنواع الثريَّات تنعكسُ في مرايا الجدران والخشب المصقول، فتجعلُ الديوان كأنَّه شُعلة نار، هذا مع ما في القاعة من النقوش والصور الحسنة البهيَّة.
فانتظم القدم كلٌّ بمكانه، والمدعوُّون في ثيابهم العيديَّة وأرباب الأمر منهم في ملابسهم الرسمية، أمَّا السيدات فلم يدعنَ في ذلك اليوم شيئًا من الأزياء المستجدَّة ليَخطِرنَ في حللهنَّ ويتباريْنَ حُسنًا وجمالًا.
فابتدأ العيدُ بِفَرَحٍ ومزيد مسرَّةٍ، ولكن لمَّا أرادَ الخطيبان أن يفتتحا السهرة بالرَّقصِ المعهود، إذا ﺑ «سوسنة» امتقَعَ لونها فوقعت مغشيًّا عليها في وسط الديوان، فأسرع النَّاس حولها ونضحوا الماء على وجهها، فأفاقت بعد بُرهة.
فما شعرت بما جرى لها حتَّى علا وجهها الاحمرار خجلًا فانتصبت مُستميحة العذر لكثرة ما أصابها من التعب ذلك النهار، ثمَّ جلست مكانها وأبت أن تركن إلى الرَّاحة في غرفتها، بل أحيت ليلها رقصًا مع الرَّاقصين.
فلمَّا قرب منتصف الليل والقوم في جلبة وبسط، وجَّهت «سوسنة» النظر إلى أختها كأنها تريدُ أن تبيِّن لها أنها تُقاسمها فرحًا وتشاطرها سرورًا، إلَّا أنها لم تُبصر ﺑ «وردة» فجعلت تسرِّح الطرف في المجلس قلقة، فلم ترَ لها أثرًا، ثم قامت وسألت والديها ثمَّ البارون «دي لَيْنس» وبقية المدعوِّين أين أختها؟ فلم يُحِر أحدٌ جوابًا.
فهتفت سوسنة بصوت الكآبة واليأس: شقيقتي وردة شقيقتي ترى أين ذهبت شقيقتي؟!
قالت هذا وجعلت تسرع في الديوان ذهابًا وإيابًا كأنها فقدت رشدها، ثمَّ خرجت من القاعة والأهل في أثرها.
فأخذ الجميعُ في البحثِ والتفتيش في كلِّ حجرةٍ، وتفقَّدوا كل زاويةٍ من زوايا الدَّار حتى التمسوا من الجيرة عن الخطيبةِ خبرًا، إلَّا أنَّ طلبهم لها ذَهَبَ أدراجَ الرِّياحِ، وأنكر الجميع أنهم رأوها، فارتاع المدعوون لهذا الأمر واستولى الرعب على القلوب، أمَّا السيدة «ب» فاستُطير لبُّها روعًا وغُشي عليها.
الوداع يا أبتِ، الوداع يا أمَّاه، وإيَّاكِ أيضًا أقريتُ الوداع يا شقيقتي، لا يطلُبنَّنِي أحدٌ منكم فإنكم لا تجدونني. وأنت أيها البارون «دي لَيْنس» قد حُلَّت وثاقك فأنت حُرٌّ، اطلب سواي وعش لسعادة غيري، ودمتم.
والحقُّ يقالُ: إنه لو كانت الصاعقة وقعت في وسط الدار بين ظهراني القوم لما أثَّرت في القلوب تأثيرًا أعظم ولا أصابتها بِحَيرةٍ أشد.
فلِلْحال صمتت الألسن، وتبدَّدت أجواق الراقصين، وهدأت رنَّات المزاهر والملاهي، وطُفئت المشاعل والثريَّات، وهمَّ المدعوون في الخروج واحدًا بعد آخر.
أمَّا السيدات والصبايا اللواتي لم يأتينَ إلى هذه الدعوة سوى لترويح الخواطر وطلبًا للملذَّات والرقص فتبلبلت أفكارهنَّ وتولَّى عليهنَّ الدهش وأسرعن إلى الباب ليركبن العربات ويَعُدنَ إلى بيوتهن؛ لأنه مُذ حلَّ الدهر بنكباته في هذه الدار لم يُطِقنَ بها السكنى، والعالم كما لا يخفى لا يحبُّ بيوت المناحة ومعاهد الحزن، فتبًّا للدنيا من صديقة مماذِقة لا خير فيها!
هذا وإنَّ بعض الأصدقاء المخلصين تخلَّفوا بعد خروج الجمهور؛ ليُخفِّفُوا بحضورهم ألم المُصابين، ولكنهم لم يلبثوا بعد قليلٍ استأذنوا بالانصراف واستودعوا البارون والقنصل آسفين صامتين، فتلك غاية ما يصنع البشر في مثل هذه البلايا العظيمة، وتضميد مثل هذه الجراح البليغة.
فلمَّا صَارَ مُنتصف الليل لم يبق في بيت القنصل سوى البارون وأهل العائلة، فكنتَ ترى الديوان الكبير في حالةٍ يُرثى لها، وأثاث الدَّارِ مُبعثرًا مقلوبًا، وآثار الفرح والبُسط ملقاةً لا يُعبأُ بها.
وكان البارون جالسًا في زاويةٍ مُطرقًا إلى الأرض واجمًا وبقربه المسيو «ب» يسعى بأن ينهض عزيمته ويقوِّي همَّته، بينما كان يُخفي في قلبه ما كان هو عليه من الكآبة.
وفي قرنة أُخرى من الدار كانت السيدة «ب» وابنتها «سوسنة» تذرفان الدموع مدرارةً، فسُمعتْ وقتئذٍ طرقات السَّاعة الاثنتا عشرة فكان لها دويٌّ مُوجعٌ في قلوب أهل الدار، أمَّا البارون «دي لينس» فكان يُعدُّها كدقَّات جرس الحزن في يومِ وفاة بعض الأحباب كأنها تُنذر بخيبةِ آماله ونهاية ما تخيَّله لحياته من العزِّ والسعادة.
٦
لو دخلت أيها القارئ اللبيب بعد ثمانية أيَّام مضت على ما سردنا من الأخبار في بعض مخادع دار القنصل «ب» لرأيت كهلًا جالسًا تلوحُ على وجهه أمارات الحزن وملامح الكآبة، وما ذاك سوى البارون «دي لينس» بيد أنَّ ما جرى لخطيبته أثَّرَ في مزاجه فتحسبه وهو في ريعان شبابه كأنَّه أربى على الخمسين من عمره.
أمَّا الحجرة التي يسكنها البارون فهي غُرفة خطيبته «وردة»، فمنافذها المقفلة التي لا يدخلها إلَّا نورٌ طفيفٌ جعلتها أشبه بغرفةٍ تُعرَض بها الموتى، فهذه الحجرة كانت بقيت على حالتها من النِّظامِ والترتيب كما كانت في عشيَّة يوم العرس، فكان كلُّ شيءٍ في موضعه حيث تركته الفتاة بعد دخولها على المدعوِّين، وكان فراشها ذاته في حالته من التجعُّد لم تمسَّه يدٌ لتُهندمه، وكذا بقيت الوسادة والمصدغة وبقرب الفراش صوانةٌ فيها خُفَّان وقفافيز ومبذلةٌ ورديَّةُ اللون.
هذا وإنَّ القنصل مع كلِّ آل بيته من الحشم والخدم كانوا في مدَّة هذا الأسبوع بذلوا الجدَّ والجُهدَ ليقفوا للفتاةِ الضَّائِعَةِ على خبرٍ في البلدة أو أرباضها فلم يُجدِهم ذلك نفعًا، وكان كلُّ من يسمع بهذه القصَّةِ الغريبة لا يشكُّ في أنَّ الابنة التجأت إلى الانتحارِ، وكان النَّاسُ يُسندون قولهم هذا إلى ما كتبته «وردة» في بطاقة وداعها أنَّ من يطلبها لا يجدُ لها أثرًا ولا خبرًا.
وكان في ثاني يوم فقْدِ الفتاة قد رست صباحًا في الميناء سفينة رُوسية مُتهيِّئَة لأنْ تُقلِعَ عندَ الظُّهرِ فطلب القنصل من إدارة المراكب الرُّوسية لعلَّه تكون الابنة قد ركبت السفينة، لكنهم بعد التفتيش أجابَ العُمَّالُ أنَّ المطلوبة ليست من عداد الرُّكَّاب.
ولم يسهُ أهل الصبيَّة أن يرسلوا إلى مدن سوريَّة والأساكل عدَّة تلغرافات للاستعلام عن الأمرِ، فكانت الأجوبة كلُّها بلا فائدة، فكفَّ القنصل عن البحث؛ لئلَّا يطَّلِعَ على سرٍّ ما أفظع يجعل حياته وحياة ذويه أمرَّ من الحنظل، أمَّا القوَّاسون والخدم فكانوا يُطلقون لألسنتهم كلَّ عنانٍ فيخترعون قصصًا أغرب من أحاديث خرافة.
وكان البارون «دي لينس» طَلَبَ أن يُسَلَّم إلى يده مفتاح غُرفة خطيبته؛ ليكون هذا المسكن ذكرًا وسلوانًا له في بلائه؛ ولذلك كان أبقى كلَّ الأثاث على حالِهِ ساعة غابت الفتاة عن نَظَرِهِ، فكان كلَّ يومٍ ينفردُ مُعتزلًا في هذه الغرفة لتقرَّ عينُهُ بما يَراهُ من بقايا ذكرها لعلَّه يجدُ شرحًا لهذا السرِّ المكنون، فكان قلبه يُلقي السؤال على كلِّ هذه الذَّخائر ليطَّلِعَ بها على حقيقة الأمر، فما كانت تحير سؤالًا، كما لم ينل القنصل وزوجته جوابًا عن ابنتهما بعد الإصفاءِ في السؤال.
ولسائلٍ أن يسأل: و«سوسنة» ماذا كان من أمرها، وعندها كان نصف الخبر؟
نقولُ: إنَّ «سوسنة» بعدَ ما أصابها من الاضطرابِ لغيبة أُختِهَا بقيت مُطرقةً ساكتةً، إلَّا أنَّه كان يلوحُ على وجهها أنَّها جُهَينةُ الخبر قادرةٌ على فكِّ هذا اللغز، بيدَ أنَّه لم يجسر أحدٌ أن يُلقي عليها سؤالًا في هذا الصدد حتَّى ألحَّت عليها يومًا أمها وناشدتها الله بأن تُعلِمها عن حقيقة الأمر إن كانت تعرف منه شيئًا، فتنهَّدت الصعداء ثم قالت: «الويل لي يا أمَّاه! قد ماتت شقيقتي فداءً عنِّي، فإنِّي أنا سبَّبتُ لعائلتنا هذا الحداد الذي أصابنا جميعًا.»
لو درَتْ أختي ما استعر في صدري من اللهيب وأنَّها وحدها قادرة على أن تُخمِدَ فيَّ هذه النار لتنازلت لي عن حقوقها، ولولا ذلك لفاتتني السعادة وصارت شقيقتي الحبيبة عِلَّةَ هلاكي وسبب موتي.
كلا يا «سوسنة»، لا تموتين لأجلي، بل كوني سعيدة في مدى حياتك، ولستُ أنا بأهلةٍ أن أُعكِّر كأس سعادتك مع ما أعرفُهُ فيكِ من السَّجايا الحميدة والمزايا الفريدة، ولا أشكُّ أنَّ البارون خُلِقَ لكِ كما خُلقتِ له، فنُوبي عنِّي في الحظوى عنده، فهذه وصيتي أو بالأحرى أمري إليكِ، واعلمي أنَّ أختك عند الفراق لا تجدُ سلوانًا إلَّا إذا تحقَّقت كونك سعيدة وأنك صرتِ بارونة «دي لينس».
فما سمعت أم «سوسنة» هذا الكلام حتَّى اضطربت حواسها وخامر قلبها القلق، بيدَ أنَّها تجلَّدت وسألت ابنتها: «وما قولك في «وردة»؟ أترين أنها بعدُ في قيد الحياة؟»
– لا أدري يا أُمَّاهُ، إلَّا أنَّ في هذا الأمر الذي وجَّهتْه إليَّ مع قولها إنها ستسلو بسعادتي ما يُشعِر بأنَّ أختي لم تمت … ولكن كيف يميل قلب خطيبها إليَّ بعد ما طَرَأَ على قلبه من الحُزنِ بسببي؟
٧
بعد هذا الحديث بين الابنةِ وأُمِّها بقِيت الأمورُ على أحوالها في الدَّار القنصلية مُدَّة شهرٍ كاملٍ، أما البارون «دي لينس» فلم يزل يتردَّدُ إلى غُرفة وردة يقضي فيها الساعات الطويلة، وكان جعلها كمتحفٍ جمع فيه كلَّ ما أصابه من حوائج خطيبته، فنظَّمه فيها تنظيمًا حسنًا، فكان تارةً ينظرُ إلى ما طرَّزته يدها من الثياب، وحينًا يُطالِعُ كتاب صلاتها، أو يقرأُ صفحات من رسائلها الخاصَّة، فلا يدعُ شيئًا ممَّا يذكِّره بتلك التي شاطرها يومًا قلبه، وكثيرًا ما كان يأخذُ هذه الذَّخائر فيضمُّها إلى قلبه لتقومَ عنده بمقامِ شخصها الحبيب.
وكانت «سوسنة» تُحاولُ أن تضمِّدَ جراح قلب البارون، إلَّا أنَّ مساعيها كانت تذهبُ سدًى.
أمَّا الأمُّ فبقيت زمنًا طويلًا وهي لم تجسر أن تُعلِم أحدًا بما أوحت إليها ابنتها، وفي آخر الأمر أفشتْ سرَّها لزوجها القنصل آملةً أنه بدرايته وحذقه يدبِّرُ كلَّ شيءٍ على أحسنِ طريقةٍ، فما علم القنصل بحقيقة الأمر حتَّى رأى لهذه الحالة الحرجة مناصًا.
فلمَّا كان مساء بعض أيَّام كانون الثاني انقشعت الغيوم بعد أن همَّت طويلًا الأمطار المدرارة، وعادَ للسماءِ صفاءُ أديمها، وركدت مياهُ البحرِ فتحلَّت بزُرقةٍ ناصعةٍ، بينما كان جبل صنِّين يظهرُ للعيانِ عن بُعدٍ مُشتملًا ببُردة ثلوجِه الغرَّاء، وأشجارِ اللوز زاهية بأنوارها الفاغمة، وازدهت رُبى بيروت بزهورِ الرَّبيع فصارت كأنها روضٌ نضيرٌ، فانتهز القنصل هذه الفرصة ليعرض على صهره السفر إلى جهات بلاد اليونان، وكانت غايته بذلك أن يشغل بال البارون بزيارة أصحابه، ويُعيدُ لابنته «سوسنة» ما فقدته من الرَّاحةِ والسَّكينة، فأجاب البارون إلى سؤله، وبعد إعداد لوازم السفر ركبوا البحر طالبين مرفأ البيرة.
وفي واقع الأمر ما كاد البارون مع عائلة القنصل يطأَ أرضَ اليونانِ حتَّى انتعشت قواه وسكن بلباله وهدأ خاطره، وما لبثَ أصدقاؤه أن يأتوه زرافاتٍ ليقرءوا عليه السلام، ووافق وصوله اكتشاف عددٍ وافرٍ من العاديات والدُّمى والرسوم القديمة البديعة العمل، فكنتَ تراهُ يتردَّدُ إلى المتاحف؛ ليطَّلِعَ على هذه البقايا الجليلة، ويكتبُ عنها مقالات يرسلها إلى المجلَّات العلمية.
ولمَّا كان البارون لا يجهلُ شيئًا من أحوال أثينة وتاريخها وآثارها القديمة، أقام نفسه كدليل لحميِّهِ القنصل ولعائلته فزاروا أولًا هيكل الإلهة «مينرفة» الشهير ﺑ «البرتينون» ثمَّ سائر أبنية المدينة فردًا فردًا، وكان البارون يصف لهم رسم البلد فيشبِّهه بقرصٍ كبيرٍ من الحلوى قُسِّمَ إلى أربعةِ أقسام، فالخطَّان المعترضان هما سكَّتا إيول وهرميس، وفي الوسط مركز البلاط الملكي الذي بلغت نفقاته ثمانية آلاف ألف من الدرخمات، وهو مع ذلك أشبه بثكنة جنود أو بمستشفى المرضى، ويُحدِق بالبلاط بستان ليس سواه في البلدة جمعاء ليستظلَّ به الأهلون.
وكان عند دخول البارون وعائلة القنصل إلى أثينة قد حُشدت فيها الجنود فتُعرض يوميًّا على مرأى الشعب، وكان النَّاس يزدحمون في القهاوي فتعلو فيها جلبتهم، فيقرءون الجرائد ويصرخون طالبين إشهار الحرب، وينسبون رئيس الوزارة «تريكوبيس» إلى الجبن والفشل.
فكان القنصل وهو من مشاهير الضبَّاط لا يتماسكُ عن الضحك؛ لما يراهُ في جنود اليونان من سوءِ النِّظامِ وقِلَّةِ النظافة في الملابس الرسميَّة، وما كان يزيده عجبًا كثرة الضبَّاط بالنسبة إلى عدد الجنود، وكان أكثرهم من الشُّبَّان خرجوا حديثًا في المكتب العسكري، وهم مع ذلك يتباهون بهندامهم وقبعاتهم الواسعة المستطيلة وأطواقهم العريضة الصفراء.
وكان القنصلُ يفكِّرُ في ما عسى أن يفعل هؤلاء الضباط المرجَّلو الشعر المطيَّبون بأنواع الطيب كالنِّساءِ، وكيف تقومُ لهم قائمة بإزاء أعدائهم وهم يظنُّونَ أنَّ ثرثرة الكلام والبذخ يكفيان للفوز بالانتصار؟!
ولمَّا لم يبقَ في العاصمة ما يستلفت أنظار سُيَّاحنا وتصبو لمشاهدته العين، شرعوا لترويحِ النَّفس بامتطاءِ الجيادِ ذهابًا إلى الأرباض، فزاروا مَرَثون وأطلال دِلْف وأولمبية. أما «شرل» فقد عُهِد إليه القيام بإدارة وتنظيم شئون هذه الرحلات التي كان بمعارفه الواسعة وأساليبه الفنيَّة يزيدها رونقًا ولذَّةً بحيثُ تتوفَّر فيها الفائدة والانبساط.
بل كان كأنَّه تقمَّصَ من الحياة ثوبًا جديدًا في تلك الديار العظيمة بتاريخها، أجلْ، إنه بالوقوفِ لدى معاهد اليونان وأطلالهم تتنبَّه شعائر علماء الآثار القديمة وتزداد فيهم أميال التأمُّل والاستطلاع، فلا غرو والحالة هذه إذا ما رأينا «شرل» مُتغاضيًا عن جميع المشاغل إلَّا العلم؛ ولذلك فإنَّ شفتيه لم تكونا لتتلفَّظا باسم «وردة» إلَّا فيما نَدَرَ، وقد عادت سيماؤه تتدفَّقُ طلاقةً وهشاشةً وملامحه تُشيرُ إلى الرصانة والثبات، وهي الصفات الخليقة بأهلِ السِّياسَةِ، وليسَ هذا فقط، بل إنَّه أجاب دعوة الملك «جرج» والملكة «أولغا» إلى حضورِ الحفلات الشَّائقة التي أُقيمت في القصر الملكي، فاستقبله الملك والملكة بحفاوَةٍ ولُطفٍ؛ لما عَلِمَاهُ من حوادث أموره المحزنة، وهكذا أخذ جرح قلبه الصادق في الالتئامِ والالتحامِ رويدًا رويدًا دُونَ أن يشعرَ بالأمر.
٨
وبناءً على ذلك فإنهم نحو مُنتصف شهر آذار شخصوا إلى البيرة، ومنها ركبوا سفينة أقلعت بهم مارَّة بطريق «فالير» ورأس «سونيوم».
ووقفت لأوَّلِ مرَّةٍ لدى أرغاستيريه حيث مناجم «لوريوم» الشهيرة. أمَّا هذه المدينة فتبدو عليها مظاهر الهمجيَّة والبداوة، وترى مداخن كبيرة مُنتصبة فوق معاملها، وكان الدخان المتصاعد منها يجعل سماءها أشبه بسماء البلاد الشمالية المتلبِّدة فيها غيوم الأمطار على أنَّها لا توافق سماء شرقية تُبهِجُ الأبصار بصفائها الرَّائق وجمالها الفتَّان كما هو الغالب على جزائر اليونان.
ثمَّ دخلت السفينة الخليج الفاصل بين البلاد اليونانية وجزيرة أوبي وهو الخليج المتسع في أوَّلِهِ المتضايق رويدًا رويدًا حتَّى مدينة كلسيس حيثُ يتَّصِلُ الشاطئان بجسر يمكن تدويره، وفي هذا الموضع يبدو لك مشهد غريب من المدِّ والجزر، وذلك أنَّ جري الماء يندفع برهةً من الشمال إلى الجنوب ثمَّ يرجع إلى الوراء.
ثم وصلت السفينة غلوص «فولو» أحد ثغور تسالية البحريَّة، وهي مدينة كثيرًا ما ورد ذكرها في أخبار الحرب الأخيرة التي نشبت بين الدولة العثمانية واليونان.
ولا بُدَّ من القَولِ إنَّ غلوص إنَّما هي باب تلك الولاية كلها على أنَّ أصحابنا — أي البارون ورفاقه — لم يُطيلوا المكث فيها، فما لبثوا أن ساروا في وجهة لاريسَّة على قطار السكة الحديدية فوصلوا ثاني يوم «كالاباكا» وهي المحطة التي ينتهي بها الخط الحديدي لدى صخور «ميتيور» قريبًا من حدود البلاد العثمانية.
هذا وإنَّ الجائل في تلك الرُّبوع الجميلة يرى وراء «كالاباكا» على مسافةٍ من المخانق التي يستطرق فيها نهر بينايوس عددًا عديدًا من الصُّخورِ العظيمةِ الهائلة نحتَتْها الأدهارُ ونقشتها الأزمنةُ والأعصار ورسمت منها المياه المندفعة عليها رسومات مُتشكِّلة مُتنوعة، وعلى قِنان كثير من تلك الصخور بناياتٌ عاليةُ الدَّعائم وهي المعروفة باسم «ميتيور» أي الصوامع المبنيَّة في الهواءِ، فهذه الأديرة هي أشبه بأعشاش النسور قائمة على شواهق الصخور لا يُرتقى إليها بسبيل سابلة.
على أنَّ من أرادَ الصعود إلى تلك الأديرة فعليه أن يجلسَ في قفةٍ مشدودة إلى طرف حبلٍ طويلٍ يأتي الرُّهبان فيرفعونه إلى فوق بواسطة بكرة، ذلك هو «المصعد» القديم الذي ما برح مُستعملًا على بساطته في أديرة تسالية «الهوائية» في أيَّامنا هذه.
فأخذ أصحابنا في الصعود على الطريقة التي مرَّ بك ذكرها فأحسُّوا بالدوار؛ لأنَّ الصَّخر الذي صعدوا لدى حائِطِهِ كان مُرتفعًا جدًّا يبلغ علوُّه زهاءَ مائة متر، ولمَّا كان ثِقَلُ إنسانٍ واحدٍ أو اثنين لا يكفي لتركيز الحبل على خطٍّ عموديٍّ فيحدث عن ذلك أنَّ الصاعد على هذه الطريقة يرتفعُ تارةً بسُرعَةٍ كليَّة وتارة يميلُ ذاتَ اليمينِ أو ذاتَ اليسارِ تبعًا لصفقات الهواءِ ثمَّ يُصادِمُ الصَّخر مُباغتة حتَّى إذا بَلَغَ السطحَ تقدَّمَ راهبٌ وبيده خشبة طويلة مُحاولًا جذبه إليه، ولمَّا كانَ الرَّاهب يخشى على نفسه السقوط في اللجة فتراه يشرع في اجتذاب الصاعد إليه بتأنٍّ ورويَّةٍ، وربما أعياه التعب فيعود إلى مقره ليستريح ويبقى ذلك الصاعد المسكين يتمايلُ في الفضاءِ على ما يشاء الهواء مُنتظرًا قوَّة جديدة تجذبه إلى الداخل، وقد كان صعود أصحابنا في هذا المصعد بطيئًا جدًّا وكثيرًا ما أوشكوا أن يُصادموا الصخر.
على أنهم بلغوا السطح وذلك بعد أن أقبل إلى آلة الجذب هذه ثلاثة من الرهبان في سنِّ الشيخوخة أجسامهم ضئيلة عجيفة ووُجوههم متغضِّنة وظهورهم أحنتها الأيَّام، فلمَّا رُفع المسافرون الأربعة صافحهم الرهبان الثلاثة بهمَّةٍ وحرارة قلب، إلَّا أنَّ تلك الحرارة فترت بعض الفتور عند نظرهم النساء وعندما لحظ أولئك الرهبان الأرثوذكس أنَّ ضيوفهم ليسوا من جماعتهم.
وللحال بادر «شرل» فقدَّم لرئيس الرهبان رسائل التوصية من وزير المذاهب ومن مطران أثينة، وعندئذٍ أخذ الرهبان في إبداء الحفاوة والانعطاف مع شواهد المحبَّة والتودُّد.
وكان «شرل» مُبتهجًا فرحًا متأمِّلًا بذلك المصعد وما أحدثه من التأثير في نفوس رفاقه وشرع يتفقَّد معاهد الدير جميعها، فتارة يسألُ الرُّهبانَ مُستفهمًا عن الحوادث مُستطلعًا طلبهم فيما أُشكِلَ عليه، وتارةً يُشاهد بنظَّارته ما حول الدير من المشاهد الرَّائِقَةِ التي لا يُمكنُ استجلاؤها بالعينِ المُجرَّدَةِ، وقد استمالَ إليهِ قلوبَ الرُّهبان واستهوى ألبابهم بمعرفته اللغة اليونانية تمام المعرفة وبرقَّة حاساته وسلامة ذوقه، كما أنَّه أعرب عن محبَّتِهِ لهم واعتباره مقامهم وقدَّمَ لهم من لفائف التَّبغ «السيكارات» حيث كانوا مُولَعِينَ بتدخينه؛ لأنَّ التدخين كان اللذة العالمية الوحيدة التي كانوا متمتِّعِينَ بها وهم يُظهرونَ التَّجَرُّدَ عمَّا سوى ذلك من الأمورِ الأرضيَّةِ.
وكان «شرل» بأثناءِ تفقُّدِهِ قلاليَّ الدير عثر على كتاب يونانيٍّ خطيٍّ قديم فبادر إلى «سوسنة» وأطلعها على ما فيه من الرُّسومِ والنُّقوشِ.
وعند المساء قدَّم الرهبان لضيوفهم مأدبة العشاء وكان أخصُّ ما عليها من الطعام الزيتون والجبن وبعض أثمارٍ يابِسَةٍ، وبأثناءِ الطَّعامِ أخذ راهبٌ مُتقدِّمٌ في السِّنِّ يقصُّ على الضيوف أخبار البلاد وحوادثها فسُرَّ البارون بذلك مُنتهى المسرَّة.
وقد استرسل هذا الرَّاهب المخبِر في الكلام عن «إيتافروس» فقال عنه: إنَّه غول يقتات باللحوم البشريَّة، وأنه في كلِّ شهرٍ كانت تُقدَّم له فريسة يلتهمها إلى أن جاءت نوبة أسرة ملك تلك البلاد بتقديم الفريسة، وكان ذلك الملك شيخًا له بنتان شقيقتان توأمتان عمرُ كل منهما ١٨ سنة مُتشابهتان لُطفًا وجمالًا، اسم إحداهما «صوفية» والأخرى «إلْبيس»، فاحتار الملك فيمن يختارُ منهما ليُقدِّمها للغول، وبالقضاءِ والقدر أصابت القرعة «إلْبيس» التي كانت إذ ذاك مخطوبة لأميرٍ من أُمراءِ إبيروس، فأخذ اليأس من «إلْبيس» كلَّ مأخذٍ، ولمَّا نظرت صوفية ما كانت عليه شقيقتها من الحزن والقنوط تحرَّكَ دمُ النَّخوة في عروقها وعزمت عزمًا دُونه شجاعة الأبطال، وذلك أنَّها ليلة اليوم الذي فيه وجب على شقيقتها أن تُقرَّب للغول «إيتافروس» توارت «صوفية» عن قصر أبيها وانطلقت في سبيل الجبل مُتَّجِهَةً إلى المغارة التي كان الغولُ مُختبئًا فيها، ولكن رغمًا عن شجاعتها وإقدامها قد أَخَذَ منها الخوفُ كلَّ مأخذٍ، فاكفهرَّ لونها، وارتعدت فرائصها فصارت أشبه بالخيال …
فعندما وصل الرَّاهِبُ عند هذا الحدِّ من الخبر اصفرَّت ألوان البارون وشرع قلبه يخفق، فلحظ منه القنصل ذلك، وللحال تظاهَرَ أنَّه مُنحرف الصحَّة فنهض عن المائدة ونهض معه الجميع سائرين وراءَهُ.
ولمَّا كان صباح اليوم الثاني باكرًا غلسًا زايل قومنا دير القديس «بَرْلَعم» وانطلقوا يزورون ساحة الوغى الشهيرة في فرسالة، ولمَّا كان البارون عالمًا بالآثارِ القديمَةِ على ما مرَّ بك الخبر أخذ يدلُّ رفاقه على أماكن ومحالِّ الموقعة الشهيرة التي انتهت بها الحرب بين قيصر وبومبة، وكان يقصُّ عليهم حوادثها وبأثناء مُحادثته عادت إليه الطمأنينة وصفاء البال بحيثُ ظهر للحاضرين أنَّ ما كان حلَّ به بالأمس من التأثُّرِ زَالَ تمامًا، ثم عادت الجماعة إلى العاصمة أثينة بطريق لاريسة وغولص.
٩
ولمَّا بلغوا أثينة وجد البارون غُلافًا ورَدَهُ بالبريدِ فَفَضَّهُ وإذا فيه محرَّرات من وزارة الخارجية، ولمَّا قرأه بُهِتَ مُنذهلًا؛ إذ علم أنَّ دولته ناوية أن تُنَصِّبه سفيرًا مُرَخَّصًا لدى حكومة بخارست.
على أنَّه لم يتردَّد في أمره، بل بادر للحال للاستقالة من هذا المنصب، فرفع لحكومته مُفترَض الشُّكرِ والمنَّةِ؛ لما لها من الثِّقَةِ به، وصرَّحَ لها بما عزم عليه من الانقطاع عن الخطَّة السياسية ومناصبها، أجلْ! إنه عزم من الآن فصاعدًا على الانضمام إلى أسرة «ب» الكريمة مُشاطرًا إيَّاها حظَّها من الحياة؛ وذلك لأنَّ هذه الأسرة قد فتحت له صدرها شأن الأمِّ نحو ولدها، بل عاملته مُعاملة ابن لها بالذات؛ ولذلك عقد النيَّة على الرجوع إلى مدينة بيروت قصدَ أن يقضي فيها حياة مُنفردة مردِّدًا في ذهنه ما تُخطره تلك المدينة على باله من التذكُّرات.
ولمَّا علمت أسرة «ب» ما كان طرأ على «شرل» من الهواجس وما شغل قلبه من الشواغل التي جعلته أن يأبى المناصب الجليلة لينضمَّ إليها مدى الحياة — تأثَّرت لحسن وداده هذا وزاد انعطافها إليه، فصارت منزلته عندها منزلة الرُّوح من الجسد.
وقد علمتَ ممَّا مرَّ بك ذِكره أنَّ هذه الأسرة كانت قد أحبَّت «شرل» محبَّة الآباء لأبنائهم؛ لمَا كان مُتَّصفًا به من المحامد الفريدة، أمَّا الآن فقد تعزَّزَت هذه المحبة بما يُمازجها من الرَّجاء بمصاهرته، بل أصبح القنصل وزوجته يعلِّقان على هذه المصاهرة خير أسرتهما ورغدهما وحُسن حالهما في مُستقبل الحين.
أمَّا «سوسنة» فإنَّ حبَّها ﻟ «شرل» كان يزدادُ وينمو يومًا فيومًا، بل امتزجَ الحبُّ بنوعٍ من التجلَّة والتكرمة لذاك الشاب البالغ في نظرها مَبلغًا ساميًا من الكمال، بل كانت تشعر أنها هي ذاتها ترقى معارج الصلاح والكمال بمماسَّة نفسها نفس «شرل»، تلك النفس الكريمة الشريفة الغنيَّة بالفضائِلِ السَّامية، فنشأ في قلب «سوسنة» من جرَّاءِ ذلك مطمعٌ جديدٌ ألا وهو ألَّا تكون دُونه فضلًا وكمالًا.
أمَّا البارون فكان يستغرقُ أوقاته مهتمًّا في الآثار القديمة وما يتعلَّقُ بها من المباحث، على أنه لمَّا كان يرى مُلازمة «سوسنة» له بلطافةٍ ووداعةٍ وتأدُّبٍ أخذ رويدًا رويدًا يعتادُ النَّظَرَ إليها كنظره إلى ملاكٍ يقطر من يديه ندى التعزيةِ والرَّجاءِ، بل اتَّصَلَ به الأمر إلى أن يرى فيها صورةً حيَّةً لخطيبته «وردة» التي كان شحوب لونها يُوافِقُ تمام الموافقة ما في نفسه من حاسَّات الكآبةِ والحُزنِ، فكان من ثمَّ ينظر إليها عن رضًى ويُصغي بارتياح جُملة ساعات إلى كلامها، بحيث إنَّه عندما كان يتردَّدُ البارون عن قبول ما تعرضه الأسرة والأصدقاء من حضور حفلة انشراح أو الذهاب إلى النزهة كانت تتوسَّطُ «سوسنة» بالأمر، وكان النجاح دائمًا نتيجة وساطتها؛ لأن «شرل» لم يكن ليأبى عليها إجابة طلب.
ومُجملُ القولِ: أنَّ ذلك الأب الشهم بعد أن قضى مع أُسرته زهاء أربعة أشهر في عاصمة البلاد اليونانية ترويحًا للنفس عوَّل على الإياب، وكان قد نزل في قلبه وقلب زوجته شيءٌ من التعزية والسُّلُوِّ، بل لقد لمعت في عينه بارقة الآمال؛ إذ رأى «شرل» و«سوسنة» مُتكاتفين لدى ركوبهما السفينة الماخرة عباب البحر ذهابًا إلى بيروت.
١٠
وكان سفرهم شهر حزيران على الباخرة «الزُّهرة» التي تأخَّرَ موعد وصولها إلى بيروت نحو نصف نهار شأن جميع سفن شركة اللويد النمساوية، على أنَّ البحر لم يكن هائجًا ثائرًا لا تكادُ ترى على بساطه الأزرق غير جعودات يعقدها النَّسيم، لكن ضبَّاط سفن شركة اللويد النمسوية يُضرب المثل بحكمتهم وتحذُّرهم من الأخطار؛ ولذلك كانت السفينة «الزهرة» تسير الهوينا مُجتازة جزائر الأرخبيل في اليونان قاطعةً على رِسلها الرءوس والخلجان الواقعة عند سواحل إزمير وقرمانية وسوريَّة، ولمَّا انتهت إلى بيروت دخلت مرفأها بعظمةٍ ومهابةٍ، وكان في ساريها الكبير راية تخفق مُشيرةً إلى أنَّ في الباخرة قنصلًا أو أحد مُنَصَّبي السياسة.
وقد بلغت الباخرة بيروت عند الهاجرة، وكان القيظ مُستعرًا والهواء حارًّا ساكنًا على أنَّه كان يتخلَّلُ ذلك السكون نفحاتٌ تهبُّ من مخانق لبنان لكنها ما كانت لتصلَ بيروت إلَّا والحرارة الشديدة قد دبَّت فيها بحيثُ كان يُخيَّلُ للنَّاس أنهم يستنشقون لهيبًا لا هواءً.
وكانت السماء صافية يمازج زرقتها هبَوات القيظ حتَّى كأنَّ الجوَّ يستعرُّ استعارًا ويشعُّ نارًا، وكان ميزانُ الحرارَةِ قد بلغ الدرجة السادسة والثلاثين في الظلِّ، وكان منذُ الصباح آخذًا في الارتفاع دالًّا على كون ذلك النهار ذا حرارة نادرة المثل من شأنها أن تقتل الإنسان اختناقًا.
وكان ماء البحر ساخنًا جامدًا كأنَّه صفيحة مرآةٍ من الفولاذِ الصَّقيل، تنعكسُ فيه أشعَّةُ الشَّمس المُحرقة كأنها سهام من نار إذا نفذت في العين أدركها العمى. أجلْ، إنَّ بيروت بقعة سورية الخضراء كانت في ذلك النهار فريسة للقيظ الشديد الذي اشتدَّت وطأته عليها حتَّى لم يبقَ لها إلَّا أن ترتمي هزيلةً جعيفةً على الرَّملِ المحرق المُحيط بها.
وكان القوَّاسون قد أقبلوا على الشاطئ مُنذُ شروقِ الشَّمس بملابسهم الرَّسمية المزركشة بالذهب يتقدَّمون مأموري القنصلية وعددًا كبيرًا من الأصدقاء وجميعهم ينتظرون بذاهبِ الصَّبرِ قدوم المسيو «ب».
أمَّا السفينة «الزُّهرة» فإنها ألقت مرساتها على مهلٍ وبعد أن جرَت المعاملات الرسمية اللازمة دَنَت القوارب من السفينة وتعلَّقت بها، وعندئذٍ تصافح الأحباب والأصدقاء وتبادلت التهانئ بينهم، وكان وجهُ القنصل العام يتدفَّقُ بشرًا ويقطُر لُطفًا وهشاشة، والبارون نفسه مع ما يتنازع قلبه من الهواجس لم يتمالك عن الابتسام والبشاشة، وبعد هنيهةٍ من الزمن انطلقوا جميعهم قاصدين دار القنصلية.
وكانت الأم — لِما آتاها اللهُ من بُعدة الرَّأيِ وحُسنِ التدبيرِ — سبقت الجميع إلى الدَّار؛ لاتخاذ التحوُّطات اللازمة؛ لتصرفَ عن نظر خطيبِ ابنتها المشاهد التي من شأنِهَا إثارة الشجن، وكان أوَّل ما طلب البارون عند صعوده درج الدَّار القنصلية أن يزورَ غُرفة «وردة»، وكان أبقى مفتاحها معه، فأجابه الجميع إلى طلبه برقَّةٍ ولُطفٍ، وأقبل عليه المسيو «ب» وخاصره بحنان مُرافقًا إيَّاه في هذه الزيارة المحزنة.
ولمَّا رأى «شرل» الباب مُقفلًا شكر لمضيفه انصياعه إلى ما كان قد رَغِبَ فيه، وقال في ذاته: «إنَّ مَقْدسي لم ينتهك حرمتَه أحدٌ أثناء غيابي، وبناءً على ذلك سأجدُ فيه البقايا المكرَّمة والآثار المحبوبة لديَّ على ما تركتُها من الحالِ لدى تأمُّلي إيَّاها المرة الأخيرة.»
وبينا كان يتكلم هكذا اختلجت شفتاه وامتقعتا وابتسم ابتسامًا خالطه الحزن والكآبة، ثم اندفقت الدموع من عينيه فكانت لهما حجابًا شفَّافًا، ثم فُتِحَ البابُ فما كاد البارون يرمي إلى الغرفة بالنظر حتى ارتدَّ إلى الوراء مبهوتًا مذعورًا؛ لأنه لم يرَ ما كان تركه في تلك الغرفة من عدم الترتيب وقِلَّةِ الانتظام كما كان يوم توارت «وردة».
فلدى هذا المشهد تنهَّدَ البارون شديدًا وأنَّ أنينًا وأقبل على القنصل يلومه على هذا الصنيع، بيد أنَّ رفيقه أسمعه من عذبِ الكلامِ ما سكَّنَ منه جأشه، وأنشأ في نفسه شيئًا من الانتعاش.
ثم شرع نظر البارون يجولُ في الغرفة مُتفقِّدًا آثارها، فوجد كلَّ شيءٍ على ما يُرام من الانتظامِ والانتساق، فدلَّه ذلك الترتيب على أنَّ يد امرأةٍ حسنةِ الذَّوق بارعة اللطف قد تداخلت في الأمر، فألبست تلك الغرفة من الرونق ثوبًا بهيًّا بحيثُ إنَّ كلَّ ما فيها أضحى نظيفًا رائقًا يلمع بضوء شعاع الشمس.
فجعل البارون يبحثُ عبثًا عن الخُفَّينِ الحمراوين والقفَّازات «الكفوف» المتجعِّدة، ولكنَّه لمَّا لم يجد هذه الأشياء استولى على قلبه الحزن واليأس فرمى بنفسه وقد أعياه التأثُّر والكآبة على مقعدٍ في تلك الغُرفَةِ وهو مُنقبض الصَّدرِ تخنقه الحسرات … وإذا به للحال سمع من قصاء الغرفة حفيفًا خفيفًا، ثمَّ ارتفعت السجوف بلطافة وبدت «سوسنة» مُنجلية متوشِّحة بملابس شقيقتها الزَّهراء وفي قدميها خفَّاها الأحمران، فكانت على تلك الحال أشبه بشقيقتها من الماء بالماء حتى خُيِّلَ للبارون أنه يرى خطيبته عينها … فصاح متلهِّفًا: «وردة، عزيزتي وردة.» ثم أسرعَ مُتطايرًا إليها وألقى بنفسه فاقد الرشد بين ذراعي «سوسنة» وهو لا يستطيعُ أن ينطق ببنت شفة بعد تلفُّظه باسم «وردة».
وللحالِ بادَرَ إليه مُضيفوه يُحسنون القيام عليه بانعطافٍ يُمازجه الخوف، وقد بذلوا كلَّ ما في الوُسع لتسكين جأشه وإرجاعه إلى نفسه.
١١
لمَّا كان مساء بعض أيَّام الخريف كنت ترى الشمس عند أُفولها ترمي بأشِعَّتِها الأخيرة على بيروت، وتكسو قمم لبنان بحللٍ بهيَّةٍ تخالها من لونِ الورد والأرجوان، وكان في المرفأ عدَّة سُفُن من كبار البواخر تهتزُّ أعطافها لحركَةِ مياه البحر تُثيرُها الرِّيحُ الشمالية، فمن كان يسرِّح نظره في تلك مشاهد الطبيعة وجد نفسه تائقة إلى التخلِّي من هموم الحياة مجذوبة إلى الهذيذ في الخالق واعتبار المخلوقات.
وكان على باب المسيو «ب» عربتان ركب إحداهما القنصل الجنرال وزوجته المتردِّية بملابسِ الحدادِ مع خادمٍ وجاريةٍ، أمَّا الأُخرى فأصعدوا فيها رجلًا كهلًا فاقد الرشد ممسوسَ العقل، جلس على جانبيه لمناظرته طبيبٌ وفتاةٌ يحجبُ اصفرارَها برقعٌ أسود، والمصاب ببصيرته كان البارون «دي لينس» نفسه، وأمَّا الفتاة فكانت «سوسنة» ابنة القنصل «ب».
وذلك أنَّ «شرل» كان لدى نظره ﻟ «سوسنة» وهي متَّشحة بثياب خطيبته «وردة» أُصيبَ بدهشٍ وحيرةٍ عملا في عقله فخُبِلَ وجُنَّ، ولمَّا بقيت كل الوسائط المتخذة في بيروت لعلاجه غير ناجعةٍ مُدَّةَ شهرين وطَّدَ القنصل عزمه على نقله إلى فينة ليُعالِجه هناك بعض نطاسيِّي الأطباء النمسويين.
فأقلعت السفينة في مساء ذلك النهار وتمَّ السفر على غايةِ ما يُرام من مُوافقة الرِّياح وهدوِّ البحر، ووصلت أسرة القنصل «ب» إلى فينة في أواخر تشرين الثاني.
ففي هذا القصر الذي كان في سابق العهد منزلًا لأجداده نزل «شرل دي لينس» وهو في حالةٍ يُرثى لها، فكنتَ تراه صُلْبَ نهاره راقدًا على مقعدٍ في غُرفته وهو ممتقعُ اللون واهن القوَّةِ تغيَّرت بهجته وتنكَّرت بشاشته وخمد نوره وذهب بهاؤه حتَّى أصبح لا يعرفه من كان قد اعتادَ النَّظَرَ إلى ما كان عليه من الزُّهرة اللامعة والنضارة الرَّائقة.
وبينا كان نُطُس الأطباء يبذلون ما في وسع العلم لإصلاحِ الاختلالِ الذي طَرَأَ على عقل البارون، التمس والدا «سوسنة» مُساعدة جمعيَّة من الرَّاهبات الزاهدات اللواتي كان لهنَّ في فينة شُهرة طائرة بأعمال الرحمة، وكان من جُملة أعمالهن المبرورة ومساعيهن المشكورة الذهاب إلى منازل المرضى للقيام عليهم أثناء المرض، فأجابت رئيسة الراهبات هذا الطلب بمحبَّةٍ، ولمَّا لم يكن لديها إذ ذاك لمثل هذه الخدمة الشريفة سوى راهبة واحدة أَمَرَتْهَا أن تذهبَ لتمريضِ ذلك البارون المنكود الطَّالع وبذل الاعتناءِ به.
وكانت تلك الرَّاهبة صبيَّة اسمها «أغنس» قد مرَّت عليها منذ عهد قريب السنةُ المسمَّاة في عُرف الرهبانية بسنة الابتداء، وكانت تلك الرَّاهبة في زهاء العشرين من عمرها، بيد أنَّ النَّاظر إليها كان يخالُ له أنَّها في نحو الثلاثينَ على الأقلِّ؛ وذلك لِما أصابها من الهمومِ الباطنةِ والمشاغل العقلية والمتاعب الجسدية، فضلًا عمَّا قاسته في سبيل دعوتها الرهبانية الجليلة، تلك الدعوة التي لا تليقُ إلَّا بمن كانت في نفسه شهامة الأبطال.
أجلْ، إنَّ تلك المتاعب والهموم كانت لعبت بصحَّةِ الرَّاهبة المتقدِّم ذِكرُها، فذهبت بجمالها وغيَّرت منظرها البهيج وأزالت من ملامحها تلك النضارة السنية والرونق الطري الخاص ببعض الأسرات الحسيبة.
١٢
ولمَّا مثلت هذه الرَّاهبة لأوَّلِ مرَّةٍ بحضرة القنصل «ب» وزوجته اهتزَّت جوارحها وارتجفت فرائصها واختلجت أعضاؤها، وبأقلِّ من لمح البصر اندفع الدَّمُ من قلبها المضطرب فلوَّن خدَّيْها العجيفين الممتقعين بحمرةٍ ورديَّةٍ، على أنَّ الأب والأم المومأ إليهما لم يكونا ليلحظا ما طرأ على تلك الرَّاهبة من الاضطرابِ والتأثُّرِ السريعين؛ وذلك لأنَّ الحزن كان شديدَ الوطأَةِ عليهما لا يعيان شيئًا ولا يُدركان أمرًا.
وكانت الرَّاهبة الفتيَّة تقومُ بواجبات مهمَّتها بإخلاصٍ لا يُماثله في التناهي إلَّا تقواها الحميمة التي كانت تستطرق إلى النفوس مُحيطة بها كالشمس تنفذ أشعتها في الأجسام الشفَّافة، وفضلًا عن ذلك فإنَّ حركاتها وسكناتها كانت تُشيرُ إلى كرامة أصلها وطيب عنصرها، وكانت الديانة قد تجسَّدت فيها بصورةٍ حيَّةٍ، بل كأنها الرحمة قد تقمَّصت بها ثوبًا قشيبًا؛ ولذلك فإنَّ تلك الراهبة استهوت النفوس بدون أن تشعر بالأمر واستلفتت الأنظار إليها استلفاتًا.
وكانت السيدة تُسرُّ خاصَّة بمحادثتها ومكالمتها، وتشعر على أثر كل مُحادثة بابتهاجٍ داخليٍّ يُخامِرُ نفسها، بل كثيرًا ما كان صوت تلك الراهبة غير المعروفة منها يخترقُ أعماق أحشائها وتهتزُّ منه جوارحها دونَ أن يُدرِكَ لذلك سببًا، وحاولت مرارًا عديدة أن تستنطقها عن أمرِ بلادها وأهلها، ولكنها كلَّما تأتي بمثل تلك المفاتحات كانت الرَّاهبة «أغنس» تحوِّل المكالمة إلى موضوعٍ آخر؛ ولذلك عمدت السيدة «ب» إلى الإقلاعِ عن تلك المخاطبة؛ لئلَّا تحزنها، مُحترِمةً بذلك رصانتها وتحفُّظِهَا، بيدَ أنَّها أدركت رغمًا عن ذلك أنَّ والدَي الرَّاهبة ما برحا في قيد الحياة، وأنها غير مولودة في بلاد النمسة.
ومما يُذكر أنَّ الرَّاهبة كان يبدو على مُحيَّاها سيماء الانزعاج عندما كانت تجتمعُ ﺑ «سوسنة» بل كانت تبذل جهدها؛ لكي لا تقابلها على انفرادٍ، بل إنَّ «سوسنة» لحظت جُملة مرَّات أنَّ الرَّاهبة كانت تحوِّل عنها نظرها؛ لتكفكف دمعة تندفِعُ من عينها فورًا.
وفي أحد الأيَّام ورد بريد سورية وفيه للقنصل «ب» مكاتيب ورسائل متعدِّدَة، فأخذ يقرأها وشرع أهل البيت يتحدَّثُونَ بالأخبارِ الواردة من بيروت ولبنان، وكانت الراهبة «أغنس» في تلك الفرصة مُهتمَّة شديد الاهتمام بتحضيرِ دواء للبارون على أنَّها لمَّا سمعت كلمة بيروت التفتت إلى القوم بالرَّغمِ عنها، ولم تتمالك أن أبدتْ حركة دلَّت على اهتمامها ورغبتها في الاستجلاء والاستطلاع، لكنها انتبهت حالًا لأمرها ورجعت عن تلك الحركة الفارطة منها ذهْلًا، بيد أنَّ زوجة القنصل لحظت منها ذلك، فقالت لها مُستفهمةً: «يظهرُ لي أنَّ حوادث سوريَّة تهمُّكِ يا حضرة الأخت.»
فأجابت الرَّاهبة بقولِها: «صدقتِ أيتها السيدة الفاضلة، إنَّنِي كنتُ دائمًا أغبط سكَّان تلك البلاد الجميلة، أوَليست تلك البلاد وطن المخلِّص؟! أوَليس قد تمَّت فيها أسرار ديانتنا المقدَّسة المتناهية في تأثيرها بالنفوس؟! أجلْ، إنَّنِي في صباح هذا اليوم نفسه بينا كنتُ أتلو فرضي القانوني؛ إذ وقفتُ على وصفٍ جميلٍ عن لبنان وعن عظمة الأرز القائم على رءوسه … وفضلًا عن ذلك أنَّ الهواءَ في تلك الرُّبوعِ لطيفٌ مُنعِشٌ نقيٌّ صافٍ ليس فيه ما نراهُ هُنا من الكدورة والغيوم المتلبِّدة والمطر الرذاذ المنهمل عندنا منذ أسبوع …»
ثم انقطعت إلى موضوعٍ آخرَ فقالت مُلتفتةً إلى المريضِ بعينِ الشفقة: «لهفي على البارون، فإنه منذ جُملة أيَّام لم يستطع الذهاب لاستنشاق الهواء النقي.»
وقد اجتهدت أن تمزج بكلامها هذا السذاجة الفطريَّة بلهجة الانعطاف الخالص والصداقة المجرَّدة، وهي اللهجة التي عُرِفَت بها طائفة الرَّاهبات حتَّى إنَّ زوجة القنصل لم يخطر لها إذ ذاك أنَّ في الأمرِ سرًّا.
على أنَّها بعد خروج الرَّاهبة من الغرفة أخذت تُحادث زوجها بمحامد الرَّاهبة «أغنس» مُكرِّرةً ذِكر سجاياها، فوافقها على ذلك القنصل و«سوسنة» كلَّ الموافقة، بحيثُ إنَّ العائلة كلها فُتنتْ بجمال تلك الفضيلة اللامعة بالوداعة والإخلاص والحشمة والاعتدال.
١٣
إنَّ العلَّة التي كان «شرل دي لينس» مُصابًا بها كانت في ابتداءِ إقامته في فينة قد تمكَّنَت منه أيما تمكُّنٍ حتَّى غادرته هزيلًا نهيكًا، بل اتصلت به الحال إلى درجةٍ لم يكن ليقبل معها تناول الطعام إلَّا من يدِ الرَّاهبة القائمة بخدمته في مرضه، وكانت نوب السويداء تتعاقَبُ عليه بكثرةٍ فتثور فيه ثائرةُ الغضب، وإذ ذاك عندما كان يعجز الرِّجال الأقوياء عن إخماد ثورة حنقه كانت تُقبِل عليه تلك الراهبة الفاضلة فتتمكَّن بكلمةٍ واحدةٍ لطيفةٍ من تسكينِ جأشه المضطرب وتخميد نبضه النابض، وعليه فإنَّها كانت تقضي شطرًا كبيرًا من الليل لدى فراشه، بل إنها لم تكن لتلتمس لنفسها الرَّاحة إلَّا زهاء ساعتين أو ثلاث ساعات، بل كثيرًا ما تستيقظ أثناء تلك المدة على صراخِ واستدعاء البارون الذي لم يكن ليرضى بأن تُفارقه دقيقة.
ولمَّا كان الهواء نقيًّا والجو صافيًا كان يذهب البارون «دي لينس» المنكود الحظِّ إلى التماس النزهة في حديقة «شُنْبرون» الجميلة التي كانت مكارم الإمبراطور سمحت لأهالي فينَّة أن يروِّحوا النفس فيها، وكان يذهب إلى تلك الحديقة راكبًا عربة تحفُّ به كلٌّ من «سوسنة» والرَّاهبة اللتين كانتا مُتناظرتين في إخلاص الخدمة له والعناية به كأنهما له ملاكان حارسان، وكان وجه البارون الممتقع الكاسف يُوجِبُ الخيفة من أن يُصبِح داؤه عُضالًا عُقامًا لا دواءَ له، وكان يتبادَرُ للذِّهنِ لدى مُشاهدة عناية الصبيَّة «سوسنة» والرَّاهبة «أغنس» به أنَّ نفسيْهما الكريمتين متَّحدتان بعاطفةٍ واحدةٍ من النزاهة والإخلاص.
وقد حدث أنَّ البارون ورفيقَيْه الراهبة و«سوسنة» ذهبوا مساءً يومًا ما في التماس النزهة المحكيِّ عنها، فبقيت السيدة «ب» وحدها في البيت فتمكَّنت بانفراد عن «سوسنة» من إطلاق العنان لعاطفة أحزانها فجلست في غرفة البارون وشرعت تبكي سرًّا.
وهناك مرَّت بخاطرها ذكر حوادث السنتين المنقضيتين، فذكرت وصول البارون مصيفها في لبنان ثمَّ تبادر لذهنها كيفَ أنَّها شهدت ذلك الانعطاف القوي الذي اجتذب قلب البارون إلى نفس ابنتها «وردة» بقوَّةٍ غالبةٍ، وكيف أنَّها هي ذاتها حسبت نفسها سعيدة بتعزيزِ الانعطاف في فُؤادِ ذلك الشَّاب الشريف اللامع كالشهاب.
ثمَّ أخذت تهذُّ في تلك الأماني الحلوة العذبة الشهيَّة التي كانت هي وزوجها يعقدان الآمال على تحقيقها في مُستقبل الحين، تلك الآمال التي كانا يعلِّقان عليها سعادة بنتهما العزيزة باتحادها برباط الزِّيجَةِ مع أكرَمِ رجُلٍ، تلك الآمال التي كانت تريهما أنهما لدى بلوغهما في الشيخوخة سيُلاقيان «شرل دي لينس» سندًا قويًّا لضعفهما ودعيمة معزِّزة لوهنهما …
ولدى مرورِ هذه التذكرات ببال زوجة القنصل كانت تبتسم ابتسامًا يمرُّ بين دموعها كالسهم اللامع ينشب في الظلام الحالك.
ولكن على أثر تلك الصور البهجة التي كانت ترسمها المخيِّلة قامت التذكرات المحزنة السوداء، أجلْ، إنَّها ذكرت حفلة الخطبة الرَّاقصة ثمَّ الحادثة الفاجعة التي جرت أثناء رجوعهم من أثينة، وهكذا كانت التصورات الأُولى لديها كالحلم الجميل والتذكرات السوداء التي عقبتها كالحقيقة المحزنة تنجلي للنائم لدى استيقاظه من الرقاد.
فقضت تلك الوالدة المسكينة حينًا في هذه الهواجس وهي تشعرُ بآلامٍ مبرِّحة بانفرادها في تلك الغرفة، ثم قامت بعزمٍ وخرَّت ساجدة على المصلَّى الذي كانت الراهبة «أغنس» تقضي عليه نصف لياليها، وقد شعرت من نفسها بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى الصلاة.
ولمَّا كانت حالتها تضطرها أن تُخفي في قلبها الهموم والأحزان التي كانت تتآكلها فأصبح من اللوازم الضروريَّة لها أن تُبيحَ بأمرها لله تعالى إله الرحمة ومُهبِط التعزية الحقيقية.
وكان على المركع الذي سجدت عليه كتاب صلوات وهو نفس الكتاب الذي كانت الراهبة تستعمله مصلِّية، ففتحته بلا انتباهٍ رجاءَ أن تَجِدَ فيه صلاة تُناسِبُ حالتها، ولكن حالما وقع بصرها على الصفحة الأولى استثبتت أنَّ اسمًا كان مكتوبًا عليها وأنَّ ذلك الاسم كانت مُحيت كتابته باعتناء فلم يبقَ منه إلَّا الحرف الأول وهو «الواو» مرسومة بالخطِّ الثُّلُث، فوقع الكتاب بغتةً من يديها المرتجفتين، ولم يبقَ لها من استطاعةٍ إلى الصلاة، بل ثار ثائرها، ونبض نابضها، واضطرب بالها، وشرعت تقلِّبُ أوراقه أشكالًا وألوانًا طمعًا بأن تبدو لها دلائل جديدة. على أنَّ مسعاها كان باطلًا، فإنَّ فحصها المدقَّق لم يُجدِ تلك الوالدة التعيسة نفعًا، فأضحى ذلك الحرف حرف «و» سببًا لانشغال بالها وبابًا للحذر والتخمين.
وبناءً على ذلك أخذت الافتراضات الغريبة تتعاقَبُ على ذهنها، فخطر لها أنَّ الرَّاهبة «أغنس» ربما كانت بنتها «وردة».
ولم يكن هذا الافتراض أمرًا مُحالًا؛ لأنَّ صوتها ووجهها لم يكونا بالشيء غير المعروف لديها، بل كانت كلَّما نظرت إليها أو سمعت صوتها تشعر باضطرابٍ داخليٍّ لم تكن لتدرك سببه، بل كانت منذ نظرت إلى الرَّاهبة المرَّة الأولى أحسَّت بانعطافٍ شديدٍ ومحبَّةٍ عظيمةٍ لها … وكانت تقول في نفسها: «إنَّ للقلب أدلَّة وحُججًا لا يفقهها العقل أحيانًا، فعلامَ لا نتبع الهامات القلب …» ثمَّ كانت تعودُ إلى رشدها فتقول: «كلَّا، إنَّ هذه أوهام، بل أضغاثُ أحلام، فإنَّ «وردة» قد ماتت دُون إشكال، وعلى فرض أنها ما برحت حية، فإنَّها تكونُ أصغر سنًّا من الرَّاهبة «أغنس» بزهاء عشر سنين على الأقل.»
وبينا كانت مُتردِّدَة في الأمرِ على ما مرَّ بك الكلام: تُصدِّق مرَّة أنَّ الرَّاهبة «أغنس» هي بنتها «وردة»، وتُنكِر مرَّة الأمر على نفسها، عزمت أن تستجلي الغامض، وتستطلع الحقيقة بأسرع ما يمكن لها، وهي لهذه الغاية باحت لقرينها بما كان يُخامرها من الظنونِ، فعزم الزوجان أن يكاشفا الرَّاهبة بما يتردَّد على بالهما رجاءَ أن يحملاها على الإباحَةِ بسرِّها، وأنهما إذا لزم الأمر يكاشفان الرئيسة ويستطلعانها طلع الرَّاهبة، وبالجملة: إنَّ الزوجين تواعدا أن يتَّخذا جميع الوسائل لإزالة الخفاء وكشف الغطاء.
على أنَّ عربة البارون تأخَّرت ذلك المساء عن الإياب في الوقتِ المعيَّن خلافًا للعادة.
وكانت الحالة الجويَّة قد تغيَّرت في ذلك المساء بغتةً كما يحدُثُ غالبًا في مثل هذا الفصل من السنة، فتلبَّدت الغيوم في كبدِ السماء، وانهمل الغيثُ مدرارًا يندفع على زجاج النَّوافِذِ، وكانت الرياح السوافي تهبُّ من وقتٍ إلى آخر وتسمع أنينًا مُزعجًا أشبه بالنعيق، وبالجملة: كانت مظاهر الطبيعة تنبِّه في النفس عواطف الحزن والشجن.
وكان المسيو «ب» وزوجتهُ قلقين بما لا مزيدَ عليه، بل استولى عليهما الرُّعب والخوف بشدَّةٍ شديدةٍ من جرَّاءِ تأخُّر الجماعة عن القدوم، وبينا كانا على تلك الحال سمعا وقعَ حوافر الخيل، ثم أقبلت عربة ووقفت لدى باب البيت، فنزلت منها «سوسنة» و«شرل» وحدهما مُتخاصرين، أمَّا الرَّاهبة فلم تكن معهما، بل أخبرت «سوسنة» أنَّ الراهبة «أغنس» أحسَّت بضعف على بغتةٍ بينما كانوا قادمين من النُّزهَةِ، ولحُسنِ الطَّالع لم يكن الدير بعيدًا، فنقلوها إليه حالًا، ثم استُدعي الطبيب بسرعة كليَّة، وبعد أن فحص أمرها بتدقيقٍ صرَّحَ بأنَّ حالها تُنذِرُ بالخطرِ نظرًا إلى ما كانت عليه المريضةُ من الضعف الشديد والهزال.
١٤
نحن الآن — والساعة التاسعة من الليل — في حُجرةٍ حقيرةٍ من حُجَرِ دير الرَّاهبات خادمات المرضى في مدينة فينة، وفي تلك الحجرة راهبة تُصارِعُ الموتَ ويصارعها وتُنازله ويُنازلها، وحول مرقد هذه الرَّاهبة التي صارت على مقرُبَةٍ من هوَّة الأبديَّة جُملة من الرَّاهبات الزَّاهدات راكعات يصلِّينَ سِرًّا … وكان الكاهن الذي أودعته تِلكَ الرَّاهبة المنازعة آخر ما فِي نفسها من الأسرار يعظها في ساعتها الأخيرة المهيبة قائلًا: «تشجَّعي أيتها الأخت العزيزة، فإنَّ الإكليل المعدَّ للنُّفوسِ الكريمةِ إنما ينتظركِ فوق في السماء … إنَّ الله قد قبل الضحيَّة التي قدمتِها له بمروءةٍ وشهامةٍ وشجاعةٍ، وسيقبل أيضًا صلواتك وتقدمة حياتكِ فدى الأشخاص الأعزاء لديك.»
وعندئذٍ ظهرَ على وجه الرَّاهبة سيماء الموت القريب بصورةٍ أدركها الحاضرون، فسجد الكاهن على ركبتيه ليُصلِّي الصلاة التي بها يُستودَع اللهُ نفسَ المُحتضرة، فقال وقد خشعت نفوس الحضور: «اخرجي من هذا العالم أيتها النفس المسيحية باسم الآب القدير على كلِّ شيءٍ الذي خلقكِ، وباسم يسوع المسيح ابن الله الحي الذي تألَّمَ من أجلك، وباسم الروح القدس الذي حلَّ فيك، وباسم الملائكة ورؤساء الملائكة، وباسم الآباء والأنبياء، وباسم الرسل والإنجيليين … وباسم القديسات العذارى، وسائر أولياء الله وقديساته، وليكن اليوم مقرُّكِ في السلام ومسكنك في صهيون المقدَّسة.»
«أستودعُكِ الله القدير على كلِّ شيء أيتها الأخت العزيزة، وأُسلِّمك إلى من أنتِ خليقته حتَّى إذا ما وفَّيتِ بالموت دَين البشريَّة تعودين إلى مُبدعك الذي أنشأك من تُراب الأرض، ولتلقَ نفسُكِ الخارجة من الجسد مُواكبَ الملائكة النيِّرين ومحافل الشهداء المنتصرين وصفوف العذارى المجيدات، ولتقبل قُبلةَ السلام قُبلةَ الرَّاحة الدَّائمة في أحضان الآباء، ولتظهر لك صورة يسوع المسيح منشأ الحلاوة ومغرس الرجاء، ولينهزم من أمامك إبليس الرجيم وأعوانه حتَّى إذا ما رأوك في صحبةِ الملائكة ترتعدُ فرائصهم ويولُّوا مُدبرين مُنحدرين إلى دركاتِ الجحيم حيثُ الظُّلُماتِ الدَّائمة …»
وعندها أمسك الكاهن عن الكلام ثمَّ نهض ومنح المُحتضرة البركة الأخيرة، وانطلق من الغُرفة حاملًا بيده الزيت المقدَّس.
ولم يعد يُسمَع في الغرفة إلَّا لهجة الرَّاهبات الرَّاكعات يُصلِّين بصوتٍ مُنخفضٍ ثم تنفُّس بل حشرجة الرَّاهبة المُحتضرة … على أنَّ هذه الرَّاهبة نهضت بصعوبة كليَّة بغتةً وأبدت حركة أشارت بها إلى أنَّها تريدُ أن تتكلَّمَ، فللحال وقفت الرئيسة عند رأس الرَّاهبة «أغنس» ودفنت حزنها في أعماق صدرها مُحاولةً بذلك أن تنزعَ من مخالب الموت تلك النفس الكريمة المعزَّزَة بالشجاعة والشهامة، تلك النَّفس التي أُعجبت منذ زهاء سنة بفضيلتها السَّامية القائمة على أقوى الدَّعائم، فانحنت إلى المُحتضرة مُنعطفة وأصغت إليها … فأخذت «أغنس» تودِع في أُذُنِ الرَّئيسة كلامًا سريًّا ويظهر أنَّ ذلك الكلام كان ذا تأثيرٍ في نفس الرَّئيسة حتَّى إنها رفعت جُملةَ مرَّاتٍ منديلها إلى عينيها، ومسحت الدموع المنهملة كالغيث المدرار، وفي آخر الأمرِ التفتت الرَّئيسة إلى المُحتضرة، وقالت لها ما يأتي من الكلام: «كوني باطمئنانٍ وسلامٍ أيتها الأخت العزيزة، فإنَّنِي سأتمِّمُ مُقتضى إرادتك بمُنتهى التدقيق، أيتها الفتاة عنوان الشجاعة والشهامة ليتني أتمكَّنُ من أن أفديكِ بحياتي …»
فعندما حقَّقت الرئيسة للراهبة «أغنس» أنَّها تقومُ بما أسرَّته إليها ابتسمت إشارةً إلى الشُّكر والإحساس بالجميل، ثم ألقت رأسها على المصدغة التماسًا للرَّاحة، فرآها الحضور تُحرِّكُ شفتيها، وترفعُ عينيها إلى السماء بحميَّة، ففهموا أنَّ صلاةً حارَّةً كانت تصعد إلى العلاء من تلك النفس الكريمة مغرس البرارة والطهارة.
وعند ذلك أُتيَ بناء على أمرِ الرَّئيسة بمنضدة «طاولة» فجُعلت على مقربة من سرير المحتضرة، وكان على تلك المنضدة جُملة أشياء موضوعة بدونِ انتظام وهي: أسفاط، وسبحتان، وكتاب الاقتداء بالمسيح، وكتاب القوانين الرهبانية، ومكاتيب وبعض تصاوير ورسوم شمسية قليلة العدد، وصليبٍ صغيرٍ وسوارٍ من ذهبٍ، فشرعت الرَّاهبة «أغنس» تتأمَّلُ هذه الأشياء بابتسام، وكان بعض التصورات القديمة تتمثَّلُ لدى عينيها التي كاد ظلام الموت يحجب ضياءها.
أجلْ، إنَّ تلك الأشياء كانت كأنَّها ألسنة ناطقة تُخبرها بحوادث حياتها المنقضية، وتنبِّه في ذهنها التذكُّرات المتعلِّقة بتلك الحوادث، بل كأنَّ كل قطعة منها لدى تقليبها إيَّاها بين أصابعها العجيفة التي استطرقت إليها برودة الموت تقولُ لها: أتذكرين هذا الأمر؟ … وكيف لا تتذكَّرُ جميع هذه الأمور وهي من أجل ذلك تتبسَّم بلطافة لدى تفكُّرها بالحوادِثِ الماضيَةِ التي تجعلُ موتها القريب شهيًّا … ولا ريبَ أنَّ صُورة الوطن كانت في تلك الساعة تتراءى لها، ولا إشكال أنَّ ذكر العائلة كان يتمثَّلُ لدى نظرها.
وهي لذلك قد تأثَّرَت في تلك السَّاعة، فاندفع شيءٌ من دمِ قلبها الضَّئيلِ، فصعد إلى خدَّيْها وصبغهما بحُمرةٍ ورديَّةٍ إثر الاصفرار، ثم انهملت من عينيها دمعتان كالدرَّتينِ فوق تينك الوجنتين البهيتين، وبعد أن تأمَّلت تلك الأشياء العزيزة لديها، شكرت للرئيسة شكرًا أخيرًا شكر الوداع قائلة لها بصوتٍ مُنخفضٍ: «أَسألك أن تُصلِّي من أجلي قليلًا.»
أجابت الرئيسة: «بل كثيرًا جدًّا.»
فقالت الرَّاهبة المحتضرة: «أجلْ، أجلْ، أقيمي الدُّعاءَ من أجلي، والآن إنِّي مُشعرة بأن كلَّ شيءٍ قد انقضى … قد حان وقت الثواب … إنَّنِي أشكرك يا ربُّ شكرًا حميمًا على ما أفضتَ عليَّ من النِّعم.»
ثمَّ التفتت إلى الرئيسة قائلة: «أمَّاه، هل تأمَّلت مرَّةً ما تلك الآية التي قالها «بولس» الرسول وهي: «إنني تائقٌ إلى الموت»؟! … فأنا … أنا هائمةٌ بالموتِ … ولكن رُبَّما كان إثمًا عليَّ أن أتمنَّى الوفاة …» قالت ذلك ثم ألقت رأسها إلى الوسادة، وأخذت تتكلَّمُ برهة بصوت عالٍ قائلة: «لقد احتملتُ من أجله الآلام … وأنا أُقدِّم حياتي من أجله، فاقبل يا إلهي ضحيتي … السماح … السماح يا أبوَيَّ المحبوبين، السماح يا شقيقتي الحبيبة … آه! أنتِ ههنا، أنتِ على مقربةٍ منِّي، وأنتم ههنا أيضًا يا ملائكة النزاع السريين … ارحمني يا إلهي … ارحمني.»
ولمَّا كانت أصابعها تنقبض بحركةٍ عصبيَّةٍ على غطاء الفراش، اقتربت الرئيسة منها، وأخذت يدها بلطفٍ، وعندئذٍ فتحت الرَّاهبة عينيها ولم تعد تتلفَّظ ببنت شفة، بل شخص بصرها إلى العلاء، وكانت كأنها تسمع أصواتًا حلوة تقول لها: «تعالي أيتها الأخت الحبيبة … تعالي … فإنَّ المسيح يستدعيكِ إلى سمائه، إنَّ آلامك قد انتهت، وأجاعك قد انقضت، وإنَّ أجنحتنا ترفُّ حواليك وتنبسطُ لتحملَكِ إلى أقصى مكانٍ … إلى أعلى السماوات.»
وعندئذٍ نهض جسدُ الرَّاهبة المحتضرة بانزعاج كأنَّهُ يريدُ أن يتبع أشخاصًا غير منظورين، ثمَّ تنهَّدت تنهُّدًا خفيفًا، فخرجت من صدرها نسمة لطيفة، ولفظت بنفسها البارَّة، فأسلمتها بين يدي خالقها.
وفي تلك الدقيقة انقطعت آلامها، وانتهت أوجاعها بالموت …
وما فاضت نفس الرَّاهبة التقيَّة حتى سُمعت ساعة برج القديس إسطفانوس تدقُّ نصف الليل، وانفتحت وقتئذٍ أبواب ملاعب العاصمة النمسوية، فانبعثت منها الأنوار والأصوات الموسيقية، وكان النمسويون يخرجون منها زَرَافات حتَّى امتلأت الشوارع بشرًا، منهم يركبون العربات الناهبة بهم الأرض نهبًا، فيُسمَعُ لها أعظم دويٍّ، ومنهم يسيرون مشاةً فرقًا فرقًا يتحدثون بتلك اللهجة الحميمة التي عُرِفَ بها سكَّان فينة، على أنه لم يمض المديد من الزمن حتى عاد السكوت والسكون إلى تلك الشوارع التي أصبحت كالقفر خلوة من بني آدم.
بيد أنَّ الجرس الذي في قُبَّة دير «الرَّاهبات الممرضات» كان إذ ذاك يرنُّ رنَّةَ الحُزنِ، وكان صوت الجرس الشبيه بأنين الباكي أو تلهُّفِ الشَّاكي يُعلِنُ للمارَّة القليلين المتأخرين في الإياب إلى منازلهم أنَّ نفسًا من النفوس اجتازت من هذه الدنيا إلى ما وراء أبواب الأبدية.
١٥
وكانت الحياة قد أصبحت علقمًا مُرًّا على المسيو «ب» وزوجته بعد أن رحلت عنهما الراهبة «أغنس» وسمعا بانحراف مزاجها، أجلْ! إنَّ وجود تلك الرَّاهبة عندهما كان من شأنه أن يُنشِئَ من وقتٍ إلى آخرَ أشعَّة من شمس الرَّجاء في قلب تلك الأسرة التي جار عليها الزمان، واتخذتها المصائبُ مقعدًا ومركبًا، بل كانوا يحسبونها لهم روحًا مُحييًا، وإذا ما رأوها في البيتِ تخطو ذهابًا وإيابًا عدُّوها من جُملة الملائكة الذين تخيَّلهم الشعراء واقفين على أمهاد الأطفال ليزجُّوها ويتولوا حراستها.
وكان أهل البيت طلبوا مِرارًا بإلحاح إلى تلك الرَّاهبة الفاضلة أن تخفِّفَ العناء والتعب عن نفسها؛ لِئلَّا تقصر أيامها قبل الأوان، أما هي فكانت تجاوبهم قائلة والابتسام يبدو على ثغرها بلطفٍ عجيبٍ: «إنَّ الحياة ليست بالأمر المهم لدينا، فإنَّ الواجب المفروض علينا نحن إنما هو أن نخلص الخدمة بنزاهة ونشاط، بل أن نموت في سبيل خدمة القريب إن لزم الأمر؛ ولهذا فإني إن متُّ فإنَّ واحدة من رفيقاتي الرَّاهبات تقوم مقامي في الخدمة، أما هو — وقد أشارت بقولها إلى البارون — فمن الواجب أن يحيا، بل وقد تحدِّثني نفسي أنه سيحيا بل سيُشفى تمامًا.»
وكانت قائمة على ذلك المريض في مرضه تخدمه بإخلاصٍ ونزاهةٍ، وترقُبُ حركاته وسكناته آناءَ الليلِ وأطراف النهار، وبأثناء ذلك لحظت أنَّ ذلك العليل الفاقد الصواب كان يتخلَّل هذيانَه فتراتٌ يبدو فيها على أحسنِ حالِ التعقُّلِ والرُّشدِ، وذلك ما كان يدلها على أنه سائرٌ في طريقِ الشِّفاءِ.
وكانت في بعض الليالي يستولِي عليها العناءُ من كثرةِ السهر، فتنطبقُ جفونها من شدَّةِ النعاس ومن الحمَّى التي كانت أخذت في أن تُضنيها وتتآكل لحمانها رويدًا رويدًا، على أنها ما كانت تلبث أن تستيقظَ مذعورة بظنِّها أنها أهملت الواجب المفروض عليها، ولا يسكُنُ جأشها ويعودُ إليها الاطمئنانُ حتَّى تقوم وتدنو من المريضِ وتستقصي خبره وتمسح عرق جبينه.
وكان البارون يُكثر من الهذيان نهارًا، فإذا ما حان الليل وقدِمَت الرَّاهبة «أغنس» لتبيتَ عند فراشه كان يعودُ إليهِ شيءٌ من عقله، وكان في بعض الأحيان يبسط ذراعيه إلى الأمام كمن يرى شبحًا محبوبًا لا ينظره سواه، وإذ ذاك كانت شفتاه الرقيقتان تتلفَّظَان باسم خطيبته «وردة».
وقد دامت هذه الحال أسابيع كثيرةً بدونِ أن تقبل الرَّاهبة «أغنس» التماس شيءٍ من الرَّاحة تحيي الليل في الصلاة حتَّى كادت سبحتها تتلفُ لكثرة ما مرَّت حبَّاتها بين أصابعها العجيفة.
ولمَّا رآها يومًا الدكتور فون … على هذه الحال — وهو طبيبٌ شيخٌ من أساتذة مكتب فينة الطبي — قال لها زاجرًا متوعِّدًا: «احذري لنفسك أيتها الأخت، وإلَّا شكوتُ الأمر لحضرة رئيستك؛ لأنك بخدمتكِ وعنائك تسيرين على حافة الهاوية وتتلفين صحتك.»
أما هي فأجابته وكانت لهجتها تُشيرُ إلى التوسل والاستعطاف والاسترحام: «أسألُكَ يا سيدي ألَّا تفعل هذا! اصبر عليَّ بضعة أيَّام؛ لأن لي تمام الثقة أن البارون سيُشفى … أجلْ، من الواجب أن يُشفى.»
وكانت هذه الكلمات التي لفظتها الرَّاهبة بتأكيدٍ ووثوق لم يكونا معهودين بها قد حرَّكت المسيو «ب» تحريكًا عظيمًا … على أنَّه لم تمضِ بضعة أيَّام حتى مرضت الرَّاهبة المسكينة مرضًا عُضالًا كما سبق، فرقدت على السرير تتقلَّب على قتاد الأوجاع، وكان ذاك مرضها الأخير؛ إذ إنها رقدت ولم تقُم.
وعندما أخبرتها الرئيسة المرَّة الأولى بالخطر المحدق بها وإشفائها على الموت استمعت الرَّاهبة «أغنس» هذا الخبر بفرحٍ وتهلُّلٍ، وعانقت الرئيسة هاتفة: «الشكر لك يا ربَّاه! إنِّي أضرعُ إليك أن تستدعيني من هذه الحياة؛ لأن بموتي خلاص البارون.»
وبينما كانت «أغنس» تتململ على فراش المنون ازداد مرض «شرل» كأنَّ تلك العلَّة قصدت أن تكذِّبَ رأي تلك الفتاة القديسة تكذيبًا موقَّتًا.
فتكاثرت النُّوَب عليه، وأصبحت تتعاقَبُ المرَّة إثر المرَّة سريعًا، وخُشي عليه من الموتِ العاجِلِ؛ إذ إنه غاب عن الرشد تمامًا حتى إنه لم يكن ليعرف أحدًا، وأصبح حضور «سوسنة» لديه من أبغضِ ما يكون عليه؛ ولهذا فإنَّ تلك الفتاة المسكينة — أي «سوسنة» — كانت تقضي نهارها باكيةً مُنتحبةً ناسبةً إلى نفسها موت شقيقتها والبارون معًا.
وبأثناءِ ذلك أخبروا المدام «ب» بوفاة الرَّاهبة «أغنس» وسلَّموها بالوقتِ ذاته دستجة تتضمَّنُ تذكارًا من الفقيدة، فاقتبلتها تلك الوالدة المسكينة كذخيرةٍ مُقدَّسَةٍ، ولكن ما فتحتها حتَّى صرخت صرخةً عظيمةً، ووقعت مغشيًّا عليها بين ذراعي «سوسنة».
أي والدتي الحبيبة
لا تبلغ هذه السطور إلى يديكِ حتَّى تكون المنيَّة أنشبت أظفارها في ابنتك «وردة».
كنتُ أودُّ أن أعانقك وأعانق والدي و«سوسنة»، ولكنِّي أردتُ أن أبعد عنكم جميعًا مُقابَلة الحزن هذه، بل أردتُ أيضًا أن أُضيفَ هذه التضحية إلى تضحية حياتي، إنِّي قدَّمت لله هاتين التضحيتين من أجلِ شفاء «شرل»، وإنِّي على ثقةٍ بأنَّ الله قَبِل ضحيَّتي، فما أحلى هذه الثقة لديَّ … إنَّنِي أموتُ راضية فرحة مسرورة؛ لأنَّ الواجب المفروض عليَّ في هذه الدنيا قد كمل وتمَّ، وإنِّي لأنتظركم في السماء حيث يكون اجتماعنا أبديًّا.
يجبُ على «سوسنة» أن تقترن ﺑ «شرل»، ذلك جُلُّ ما تبتغيه شقيقتها المائتة، بل ذلك أمرٌ منِّي لا بدَّ من إجرائِهِ …
كفكفوا دُمُوعكم يا أقاربي الأحياء … إنَّنِي واثقةٌ بأنَّ الدموع التي تذرفونها الآن إنَّما هي آخر بكاءٍ تبكونه … لم يكن ليخطر لي مُطلقًا أنَّ في التضحية وفي الموت حلاوة مثل التي أشعر بها …
اضربوا الصَّفحَ عمَّا سببته لكم من العناء … ولمَّا كانت الحال تقضي بأن أموتَ أنا أو أن تموتَ شقيقتي افتكرتُ أنَّه لم يبقَ مجالٌ للترَدُّدِ، فجعلت نفسي فدًى عن تلك التي أحبها أكثر من حياتي … إنكم بموتي تفقدون ابنة، ولكن الابنة الباقية لكم هي خيرٌ منِّي … الوداعُ يا والدي، الوداع يا والدتي، ويا شقيقتي الحبيبة … بل أودعكم على أملِ اللقاء.
أمَّا البارون فإنَّه عندما نظر حلي خطيبته الكريمة ظَهَرَ عليه كأنه خرج من سباتٍ عميقٍ وتنفَّسَ الصُّعداء ثمَّ أجالَ البصر نحو الحضور دهشًا كأنه لا يدري من سابق أمره شيئًا، ولم يلبث أن قام مُتعافيًا وآب إليه رُشده وأوَّلُ ما صنع أنه ترامى على تلك الآثار العزيزة لديه وقبَّلها بتأثُّرٍ وهُيامٍ شاكرًا له تعالى على عظيمِ منَّته وجميل رحمته، وكانت الدموع تنهمل من عينيه كالغيث المدرار …
أجلْ، إنَّ التقدمة التي قدَّمتها «وردة» قد قُبلت لدى الله، وبناءً على ذلك قد نال خطيبها الشفاء من دائه العياء.
١٦
اليوم الذي نروي حوادثه الآن إنَّما هو يوم أحد الشعانين، أكرم به يومًا صفا هناؤه وتوفَّرت بهجته، وكان أهالي فينة قد ارتدوا بملابس العيد وذهبوا إلى الكنائس والمعابد يقضون فروضهم الدينية، وكنتَ تراهم بعد انقضاء صلواتهم يخرجون من الكنائس زرافاتٍ يحملُ كلٌّ منهم في يدِهِ غُصنًا من البقس وكان يمتزجُ بالهواء عرفُ البخور الطيِّبِ بينما كانت أجراس الكنائس تصدح كالبلبل الصيَّاح، وتشدو كالهزار في جميع أرجاء تلك العاصمة الفيحاء، أمَّا الهواءُ فكان نقيًّا والجوُّ صافيًا والسماءُ رافلة بحُلَّةٍ زرقاء بهيَّة ترتاحُ إليها الأبصار، وكانت شمسُ نيسان الساطعة قد بدَّدت منذ زمانٍ مديدَ الضَّبابِ اللطيف المتصعِّد من وادي الطونة، وكانت الأشجار المنتصبة صفوفًا مُنظَّمة في رياض فينة ومُتنزَّهاتها قد ظهرَت عليها البراعم زاهرةً والأوراق مُخضرَّة، وكانت الطيور تأتي على أغصانها مغرِّدة صادحةً بنغماتها الطيبة المطربة كأنها بذلك تحيِّي الربيعَ المُقبل وتستقبل الطبيعة المنتعشة.
ففي تلك الضحى وعلى تلك الحال التي وصفنا كانت جثة الراهبة «أغنس» راقدة في ردهةٍ من ديرِ «راهبات المرضى» في ظلِّ صليبٍ مرتكِزٍ لدى رأسها … وكانت تلك الفتاة القدِّيسة كأنها نائمة بهدوِّ النوم الأخير.
وكأنَّ الموت ذاته قد وقَّر فريسته الكريمة واستهابها، فلم يجسر على إتلاف تلك الجثة الطاهرة فلم يَعترِها فسادٌ، بل كانت وهي جُثَّة مُبتسمة ذلك الابتسام العطوف اللطيف الذي كان أثناء حياتها يبدو دائمًا على شفتيها.
وكانت الردهة التي فيها جسد الفقيدة مُظلِمةً بعض الشيء؛ لِما على نوافذها من السجوف المسدولة، وحول الجنازة صفٌّ من الشُّمُوعِ تحدث أنوارها مشهدًا مهيبًا يُنشِئُ في النفس شعائر يعجزُ اللسانُ عن وصفها، وكانت الرَّاهبات رفيقات الفقيدة منتقبات بنقبهنَّ البيضاء يتناوبن الركوع حول مرقدها ويسكبن من عيونهن الدموع ومن أفواههن الصلوات.
وقد أقبلَ أيضًا على الردهة التي كان فيها جسد الفقيدة عددٌ كبيرٌ من الغرباء تِباعًا مدفوعين إلى الأمر بتلك الجاذبية غير المعروفة التي بها تجتذب القداسة النفوس وتستهوي الألباب.
ثمَّ انفتح باب الغرفة ودخل منه أربعة أشخاص بملابس السَّوادِ ووشاحات الحداد الكامل وهم رجلٌ وامرأةٌ عليهما سيماءُ الوقارِ، ثمَّ صبيَّةٌ يستند إلى ساعدها شابٌّ عليه آثار المرض، وكنتَ إذا أمعنت النظر إلى ما كان عليه ذاك الشاب من الهزال واصفرار اللون صعب عليك أن تعرف أنه البارون «دي لينس» خطيب «وردة» الذي كان ممتلئًا صحَّةً وقُوَّةً ونشاطًا، والذي كانت عناصر الحياة والبهجة تبدو على حركاته وسكناته، فتقدَّم الأربعةُ إلى مرقد الفقيدة، وجثوا حوله واستمروا مُدَّة راكعين خاشعين متأمِّلينَ يُصلُّون ويبكون سرًّا … أجل إنَّهم كانوا يجدون لدموعهم رغمًا عن مرارتها مجرى عذبًا وشهيًّا، فإنهم ببكائهم على الابنة المحبوبة والشقيقة العزيزة والخطيبة المأسوف عليها كانوا يعتقدون أنها في السماء بين مصافِّ القدِّيسات، ويلتمسون صلواتها، وهي البارَّة شهيدة الإخلاص.
أمَّا الرَّاهباتُ، فإنهن خرجنَ من الغُرفة إجلالًا للزَّائرين المتقدِّم ذكرهم وتلطُّفًا بهم في حال حزنهم.
وكان البارون لا يستطيعُ أن يحوِّلَ نظره عن جُثَّةِ الفقيدة التي كان يظهر وجهها مُتغَيِّر الهيئة كأنه قد أشرقت عليه شعاعٌ من المجدِ السَّماوي الذي أصبحت نفسها تتمتَّعُ به مع أولياء الله، ثم هتف «شرل دي لينس»: «أيتها الخطيبة الكريمة القدِّيسة، إننِّي لم أكن أهلًا للاقترانِ بكِ، مع أنِّي قضيتُ ثلاثين سنة بالكدِّ والعمل؛ لكي أستحقَّ امتلاك مثل هذا الكنز الثمين، إنَّ الله قد سمح أن ألحظ فضائلك بُرهةً … فليكن اسمه مُباركًا … على أنَّنِي أنحني خاضعًا لأوامره وأحكامه التي لا يُدرِكُ أسرارها بشرٌ.»
وبينا كان البارون يسترسلُ في تبيان حزنه وإظهار تلهُّفه إذ نهض المسيو «ب» بمظهر المهابة ثمَّ قبض بسلطة أبويَّة على يدِ «سوسنة» وجعلها في يد «شرل» قائلًا: «ليحب كلٌّ منكما الآخر يا ولديَّ، وابقيا متحدين زمنًا مديدًا، تلك أمنية فقيدتنا العزيزة، وهي من أعالي السماء تبارككما كما أنِّي أبارككما أنا أيضًا.»
وبينما كان المسيو «ب» يتفوَّه بهذه الكلمات خنقته التأثُّرات، فانقطع عن الكلام، ثم نهض جميعهم ولثموا يد «وردة»، وعانقوا ذلك المصلوب الذي كان فوق رأسها، ومنه التمست الفقيدة المحبوبة الشجاعة أثناء النزاع الذي انتهى بتضحية حياتها.
ثمَّ إنَّ هذه الأسرة التي اشتدَّت عليها التجارب والامتحانات أحسَّت وقتئذٍ بسكينةٍ وسعادةٍ لم يشعر بها أعضاؤها منذ سنتين، فتعانقوا جميعًا وعيونهم مغرورقة بالدموع، بيدَ أنَّها كانت آخر دموع أذرفتها عيونهم في حياتهم حسبما تنبَّأت لهم «وردة» قبل وفاتها.
•••
هذا ولم تطل المدَّة حتى برح القنصل العام وذووهُ مدينة فينة عائدين إلى سورية، وما حان أوَّلُ الصَّيفِ حتَّى اقترن «شرل دي لينس» ﺑ «سوسنة».
وما زالت هذه الأسرة السعيدة عائشة مُذ ذاك الآن بالرَّغدِ والصَّفاءِ في منزلها القديم تقضي عيش السلام والطمأنينة، وتحفظُ على صفحات الصدور ذكر الرَّاهبة «أغنس» مع حاسَّات الشكر وعواطف المحبة والتكريم.
أمَّا غُرفة التذكارات فما برحت في الدار على حالها، قد جُعل «شرل» ناظرًا عليها يدبِّر شئونها، وقد أضافوا إلى ما كان «شرل» قد جمعه فيها جميع الآثار التي كانت سببًا لتعزية «وردة» في حال نزعها واحتضارها، وفي كلِّ سنة «يوم أحد الشعانين» يدخُلُ كلُّ أفرادِ العائلة تلك الغرفة المعتبرة عندهم كمتحف، بل كمقدس للنقاوة والتُّقى، ويتذكَّرون جميع الحوادث الماضية التي تُخطِرُها على بالهم تلك الآثار الباقية، ثمَّ يجثون راكعين أمام ذلك المصلوب الذي أودعته «وردة» قُبلتها الأخيرة، ويلتمسون حماية من كانت بحياتها ملاكًا قائمًا على حراسة تلك الأُسرة الفاضلة، وهي لا تزالُ بعد مماتها تشفع بها لدى الله.
وبعد مضيِّ سنةٍ على الحوادث التي مرَّ بك ذكرها كنتَ ترى «سوسنة» تضمُّ إلى صدرها وبين ذراعيها بحنوٍّ وانعطافٍ بنتًا رزقها الله إيَّاها، وكان أهلها عندما نصَّروها سموها «أغنس دي لينس» ليعيش بينهم اسم خالتها عنوان الشجاعة والشهامة، ولئن كان ذكرها مُنطبعًا على صفحات الصدور لا يمحوه الدَّهرُ ولو مرَّ، ولا الزَّمانُ ولو كرَّ.