الفلسفة الحديثة
وسبب زوال فلسفة ابن رشد والفلسفة اليونانية من طريق الفلسفة الحديثة يومئذ دخول هذه الفلسفة في طريق جديدة؛ فإن فلسفة ابن رشد تحملت هجمات أنصار أفلاطون واللاهوتيين ومجمعي لاتران وترانته، واضطهاد ديوان التفتيش وردت الجميع على أعقابهم خاسرين، ولكنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة. وقد كان أبطال هذه الفلسفة ودعاتها المؤسسين ليوناردي فتسي وبروتو وساربي وأكونتريو وغاليله المشهور،الذي غير وجه الأرض باكتشافه دوران الأرض، وديكارت ولوك ولبنز ونيوتن وفرنسيس باكون.
وفرنسيس باكون هذا هو أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان. وقد كان من البديهي قيام قاعدة كهذه القاعدة بعد الاختلاط الغريب الذي كان في الفلسفة الأوروبية قبله؛ فإن علماء السكولاستيك كانوا في فوضَى، بعضهم يعتمد على أرسطو العربي وبعضهم على أرسطو اليوناني، والاختلاف في التفسير والتأويل قائم بينهم على ساق وقدم. وكان مناظروهم من علماء الطبيعة في نضال ونزاع معهم، ولكنهم كانوا محتاجين إلى بوق جهوري الصوت يترجم عما في نفوسهم ويغطي صوته أصوات خصومهم. فكان فرنسيس باكون هذا البوق. بل كان الريح العاتية التي كنست الفلسفة القديمة كنسًا، وذهبت بتعاليمها الجدلية وتصوراتها الخيالية.
وإليك تاريخ هذه الحركة الفلسفية التي انتهت بالقضاء على الفلسفة القديمة.
كانت الفلسفة الأوروبية مبنية من قبل على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو ونقلها إلى أوروبا ابن رشد وفلاسفة العرب. وكان يكفي أن يقال «قال أرسطو» لينحسم كل جدال. فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تُحدث شيئًا حَذَرًا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد «القياس» وهو المعروف «بإله أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة. ثم أنك تقيس اللبن على الماء فتقول: بما أن اللبن سائل كالماء؛ فهو يتبخر أيضًا مثله. وبناءً عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء، هذا هو القياس.
فلما جاء باكون ورأى ذلك الخمول الفلسفي رام إصلاحه. فكتب في ذلك عدة كتب منها كتابه «القياس الجديد» و«الإصلاح العظيم» وهو أهم كتبه ولم يصدر منه سوى جزئين في عام ١٥٩٧ — وإليك خلاصة الآراء الفلسفية التي نشرها في كتبه.
رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته — يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته إن كل ما يدرسونه اليوم (أي في أيام باكون) يدرسونه بناءً على أقوال اليونان، ولاسيما أرسطو مع أن اليونان لم يعرفوا شيئًا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئًا في كتابها السامي.
فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها. وفضلاً عن ذلك؛ فإن اليونان أمة قديمة وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة. فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذن أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك؛ فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئًا إلى الآن ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية. وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقًا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة. فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارًا عملية.
ولكن قبل هدم القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولاً وفروعًا، لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب. وبناءً على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه وعليه يعتمد العلماء.
الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوَى نفس الإنسان في هذا الترتيب ثلاثة أقسام؛ «الذاكرة. والتصور والعقل». وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث. فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة.
ثم إن باكون يأخذ التاريخ. والشعر، والفلسفة، كلاً بمفرده ويفرع منه فروعه. فالتاريخ طبيعي وبشري. والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علوم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا الخ. والتاريخ البشري يشمل التاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي (الغير ديني) وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر؛ فإنه يكتفي بقسيمه إلى ثلاثة أقسام وهي: الشعر للوصف. والشعر للروايات. والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون؛ فن معرفة الله. وفن معرفة نظام الطبيعة. وفن معرفة نظام الإنسان. ثم يفرغ باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعًا عديدة يضيق المقام دونها. ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارجًا عن هذه الدائرة.
ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم وشرحه كل أصوله وفروعه شرحًا كافيًا وافيًا، وجَّه همته إلى وضع قاعدة لبنائه. فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو توجب. كما تقدم أن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسًا طبيعيًا. وقد ذكرنا مثال ذلك ف تجربة تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون؛ فإنه قال: إن التجربة عدة مرات لا تكفي بل يجب معها أمران؛ الأول إعادة التجربة والامتحان في نفس المادة المطلوب فحصها إلى ما شاء الله، حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها. وثانيًا عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي بل إجراء امتحان سلبي معه. مثال ذلك: بخِّر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائمًا. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي؛ فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ماءً كان العمل صحيحًا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسًا طبيعيًا. ولا يجوز لك أن تقول: إن أرسطو أو أفلاطون أو أيًا كان قد قال ذلك وأثبته، فعلينا أن نصدقه؛ فإننا نريد أن نحكم في أمورنا عقولنا لا عقول الذين تقدمونا. أي أننا لا نصدق أحدًا ولا نبني حكمًا على حكم أحد ما لم تظهر لنا صحة قوله بالتجربة والامتحان والمشاهدة والبرهان — فبناءً على ذلك كنست جميع المبادئ القديمة والتعاليم التي من وراء العقل كنسًا، وحل محلها علم المحسوسات، أو ما يسمونه العلم الوضعي أو الامتحاني. وقد أطلق باكون وأنصاره بذلك عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي وأعدوا للعلم ميدانًا فسيحًا قرن فيه العلم بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة. فكأنه روح الحرية بُث في العقل والعلم والعمل فأحياها معًا.
ولكن فلنبحث الآن بعد مرور القرون الطوال وانتصار العلم والفلسفة في هذا العصر. هل قام العلم بكل الوظيفة التي انتدبه العقل البشري لها؟ هل قدر إلى اليوم على استئصال كل الشقاء والرذيلة من الأرض وإصلاح شأن البشر فيها إصلاحًا تامًا. هل استطاع إرواء ظمأ الإنسان إلى ما وراء هذه الطبيعة التي هي عظيمة، ولكنها واأسفاه مادية جامدة. وبعبارة واحدة نقول: هل حل العلم محل الدين حلولاً نهائيًا بعد تلك الحرب العقلية الكبرى، التي دارت رحاها في أوربا بين أمم مختلفة وفلسفات مختلفة.
كلاَّ.. لم يصنع العلم ذلك صنعًا تامًا بعد، وإن كان قد صنع شيئًا كثيرًا منه. ولسنا نعلم السبب الحقيقي في هذا العجز. هل هو ضعف العلم نفسه عن إرضاء الإنسانية وتسكين تأثرها، أم هو ضعف الإنسانية نفسها عن احتمال قوة العلم الهائلة.