الفلسفة الرُّشدية عند اليهود
وقد روى بعض المؤرخين أن موسى هذا كان من تلامذة ابن رشد. وقد أقام ضيفًا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها، ولكن بعضهم أثبت أن موسى برح الأندلس قبل نفي ابن رشد بثلاثين سنة، فرارًا من الاضطهاد الذي كان يصيب المشتغلين بالفلسفة في بعض الأزمان. ومع ذلك؛ فإن موسى يقول في أحد مؤلفاته إنه كان تلميذًا لأحد تلامذة ابن بجا. غير أنه لا يُسمى ابن رشد. وأول مرة سماه فيها كانت في كتاب كتبه في سنة ١١٩١ للميلاد من القاهرة مُلجئُه إلى تلميذه يوسف بن يهوذا الذي تقدم ذكره. وهذا نص هذا الكتاب: «لقد وصلني في المدة الأخيرة كل ما ألفه ابن رشد في تلاخيص أرسطو لكتابه (الحس والمحسوس). وقد ظهر لي أنه قد أصاب كل الإصابة، ولكني لم أتمكن إلى الآن من البحث في مؤلفاته بحثًا وافيًا».
ومنذ هذا الحين أخذ موسى يدرس فلسفة ابن رشد، ويقابلها بفلسفة أرسطو الأصلية. ثم استخرج من الفلسفتين فلسفة رامَ تطبيقَها على الشريعة اليهودية. فقال: إن العالم غير قديم، أي أن المادة غير أزلية كما يقول الفلاسفة، ولكن ما ذُكر في سفر التكوين من خلق العالم لم يقصد به موسى سوى وصف ترتيب الكائنات بعد تكوينها، لا في بدء تكوينها. ومع ذلك؛ فإنه لا يُعتقد بأن القول يقدم العالم كفرٌ؛ لأن ذلك يمكن تطبيقه على الشريعة. وهو يعتقد في شخصية العقل أي انقسامه في الإنسان حتى يصير كل عقل فيه نفسًا قائمة بذاتها، ما يخالف اعتقاد ابن رشد في هذا الموضوع من بعض الوجوه. وسبب هذه المخالفة رغبته في التسوية بين حزب الفلسفة وحزب الدين الإسرائيلي. وهذه الرغبة جعلته يؤوِّل مسألة البعث وحشر الأجساد تأويلاً ظهر فيه ارتباكه واضطرابه. وخوفًا من أن يقع في شيء شبيه بتعليم المسيحيين بشأن الألوهية لم يجسر أن ينسب إلى الله تعالى صفات خصوصية كالوجود والوحدة والأزلية؛ لأن هذه الصفات تجر إلى غيرها وهذه إلى غيرها وهلم جرَّا. ولذلك قال المقريزي المؤرخ العربي المشهور أن موسى هذا كان يعلم أبناء وطنه الكفر والتعطيل. وقال غيليوم دوفرن طاعنًا على الفلسفة، ومستنكرًا إقبال اليهود عليها. إن جميع اليهود الخاضعين للعرب في أسبانيا تركوا شريعة إبراهيم وتَمَذْهَبوا بمذهب العرب والفلاسفة.
أما رأي موسى في العلم والنبوءة فهو أن العلم ضروري للإنسان إذ به كماله وتمامه. والعالم تبدأ جنته وسعادته في هذه الدنيا، ولكن العلم لا يدركه إلا الخواص، ولذلك لا بد من النبوءة للعوام. وهذا هو السبب في إنزال الله الوحي على الأنبياء. وما الوحي إلا حالة كمال طبيعي يبلُغه بعض البشر المختارين، لذلك فهو بمنزلة فيض العقل الفاعل على الإنسان المختار فيضانًا مستمرًا.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن الأكليروس اليهودي قاوم تلك الأصول الفلسفية كما قاومها أكليروس باقي الأديان في كل مكان. وسيرِد تفصيل ذلك في موضع آخر، ولكن حزب الفلسفة تغلب على حزب التقليد الديني في بدءِ الأمر، فاستمر الباحثون اليهود في أبحاثهم الفلسفية إلى أجل مسمَّى.
ولما هجر اليهود الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينة فرارًا من الاضطهاد وخالطوا جماعات الإفرنج في بلادهم هجروا اللغة العربية التي كانوا يكتبون ويؤلفون بها، وشعروا بالحاجة إلى ترجمة كتبهم الفلسفية السابقة إلى اللغة العبرانية. فأخذوا منذ ذلك الحين في هذا العمل. وأول من شرع منهم فيه أسرة تُدعى أسرة طِيبون، أصلها من الأندلس، وقد هاجرتْ منها إلى لونل في فرنسا. فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طِيبون وصموئيل بن طِيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو. فكانا أول مترجمي فلسفة ابن رشد إلى لغة أجنبية. وكان الإمبراطور فردريك الثاني — إمبراطور ألمانيا — من محبي نشر الفلسفة ومحالفي الإسلام والمسلمين على الأكليروس المسيحي، كما سيرد تفصيل ذلك، فعهد إلى كثيرين من كَتَبَةِ اليهود في إخراج فلسفة العرب إلى اللغة العبرانية واللغة اللاتينية. وكان يهوذا بن سليمان كوهين الطُّليطِلي من مقربيه؛ فألَّف له في سنة ١٢٤٧م كتابًا سمَّاه (طلب الحكمة) واعتمد فيه على ابن رشد. فكان هذا الكتاب في مقدمة كتب ابن رشد التي صدرت باللغة العبرانية.
ومن الكُتاب الذين عهد إليهم الإمبراطور فردريك ترجمة فلسفة العرب، مؤلف يهودي من بروفنسيا كان مقيمًا في نابولي، وهو يُدعى يعقوب بن أبي مريم بن أبي شمشون أنتولي. وكان هذا الكاتب صهرًا لعائلة طِيبون التي تقدم ذكرها. فترجم للإمبراطور في حوالي سنة ١٢٣٢ عدة كتب من تأليف ابن رشد، وقد أثنى في خاتمة أحدها ثناءً عظيمًا على الإمبراطور، وتمنى لو يظهر المسيح (أي المسيح الذي ينتظره اليهود) في عهده. ذلك لأن هذا الإمبراطور كان مقاومًا للأكليروس المسيحي كما تقدم.
ثم قام بعد ذلك كالونيم بن كالونيم بن مير من مدينة أرل الذي ولد في سنة ١٢٨٧ وأخذ يترجم كُتبَ ابن رشد إلى اللغة العبرانية. وقد كان هذا الكاتب يعرف اللغة اللاتينية؛ فترجم إليها كتاب (تهافت التهافت) في عام ١٣٢٨ ثم قام بعده عدة مترجمين.
وهكذا لم يأت القرن الرابع عشر حتى بلغت فلسفة ابن رشد عند اليهود أعلى منزلة. ومما زاد في رفعة سلطانها قيام فيلسوف يهودي يُدعى «لاوي بن جرشون» من مدينة بانيول، وهو معروف عند الإفرنج باسم «لاون الأفريقي» فهذا الفيلسوف كان أكبر فلاسفة اليهود في عصره، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو. أي أنه شرح فلسفة ابن رشد شرحًا تامًا، حتى صار شرحه هذا قرينًا لفلسفة ابن رشد، كما كان شرح ابن رشد قرينًا لفلسفة أرسطو. وذلك يدل على أن العصور الماضية كانت تؤثر التلخيص على التطويل. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الملخص الماهر إنما هو بمثابة الغائص على الدُّرر واللآلئ، يلتقط الأنفَس فالأنفَس، ويترك الحشو الممل، الذي كان ضروريًا في زمنه، وليس بضروري في كل زمان.
وكان هذا الفيلسوف (لاون) أجرأ فلاسفة اليهود الذين تقدموه. فأقدم على ما أحجم عنه موسى ميمون (زعيم فلسفة ابن رشد) فقال بقدم العالم وأزلية المادة وباستحالة إمكان الخلق من لا شيء وبأن النبوءة قوة من القوة الإنسانية الطبيعية. وبذلك لوى قواعد الشريعة اليهودية ليطبقها على العلم وجعلها تابعة له. وكان موسى نربون في ذلك الزمن يفعل فعل لاوي جرشون في الفلسفة.
ولكن لم يأتِ القرن الخامس عشر حتى ضعفت الفلسفة اليهودية وذهب دور الجرأة والجسارة في العلم والفلسفة. وكان آخر فلاسفة اليهود المشهورين إلياس دل مديجو الذي كان أستاذًا في كلية بادو. وكانت كلية بادو تدرس يومئذ فلسفة أرسطو، فامتزجت يومئذ فلسفة اليهود الرُّشدية بفلسفة بادو المبنية على المبادئ العربية. قال رنان: وقد تحققت إن هذه المدرسة تدرس إلى هذا الزمن كتابًا لابن رشد في مختصر المنطق نُشر في ريفادي ترنتو باللغة اللاتينية في عام ١٥٦٠.
وفي أوائل القرن السادس عشر انتبه حزب التقاليد الدينية اليهودية من سباته، وأعاد الكرة على الفلسفة. فنشر أحد رجاله وهو ربي موسى المشنيو كتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي، وذلك حوالي عام ١٥٣٨ ردًا على فلاسفة اليهود الذين كانوا يؤيدون فلسفة ابن رشد وأرسطو. ثم ضعفت هذه الفلسفة شيئًا فشيئًا بإزاء الفلسفة الحديثة التي أخذت تحل محلها. فمن ذلك يظهر أن الفلسفة الرُّشدية لولا اليهود لانطفأ نورها في العالم كما انطفأ في الأندلس ولم تصل إلى الأمم الأوروبية. ولذلك كان لليهود فضل على الفلسفة لا يُنكر. وكان شأنهم بين العرب وأوروبا شأن النساطرة والسريان بين اليونان والعرب. فكأن العرب أخذوا من اليونان بأيدٍِ سريانية نسطورية، وأعطوا أوروبا بأيدٍ يهودية.