الفلسفة الرُّشدية وتاريخها في أوروبا
قد يؤخذ من الأسطر السابقة أنه لولا اليهود لما انتشرت فلسفة ابن رشد في أوروبا. والحقيقة أن هذا الانقطاع والاختصاص لا وجود لهما في الطبيعة. فإن فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له، تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواجَ هوائه. فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك، إذ ليس في استطاعةِ أحد أن يوقف وصولها إلى الحد الذي رسمته لها اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي. فلو لم يقم اليهود بنقل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا لقام غيرهم، أي الذين يكونون في مكانهم؛ لأن الفراغ مستحيل في النواميس الطبيعية.
ولقد كان في العصور الوسطى دليلٌ على هذا النظام الذي يحكم العالم الأدبي كما يحكم العالم المادي، أي نظام تبادل الأفكار في العالم وامتزاج الأشياء بعضها ببعض. وهذا أمر يذكرنا وا أسفاه بانقلاب الحال وتبدل الزمان؛ فإنه ما كما أن الكتب العلمية والأدبية والفلسفية الجديدة التي تنشر في جميع أقطار أوروبا اليوم لا تصدر حتى ترسل إلى المكاتب الإفرنجية القائمة في شارع شريف باشا والإسماعيلية في مصر، وتعرض في بيوتها الزجاجية على الناس، هكذا كانت الكتب العربية ترسل حال صدورها من القاهرة وبلاد المغرب والعراق إلى مكاتب باريز وكولونيا وغيرها. وربما كانت هذه الكتب أسرع في الانتقال من الكتب الإفرنجية التي تنقل اليوم إلينا؛ لأنها كانت مطلوبة في أوروبا طلبًا، وهذه معروضة على الشرق عرضًا.
ذلك أن الغرب كان يومئذ مغرمًا بمعارف الشرق. ولم يكن مغرمًا بها لذاتها فقط، بل لأنه رأى أن ذلك التمدن الإسلامي العظيم الذي قام بجانبه وفي بلاده، لم يقم إلا بها ولم يبن إلا عليها. ولذلك لم ينكر أخذ العلم عن الأجانب عنه ولم يكره التشبه بهم في فضائلهم وحسناتهم؛ لأنه كان يعلم أن التشبه بالكرام فَلاحٌ، وأنه لم يكن يحذو حذوهم ويتلو تلوهم إلا لمحاربتهم بعد ذلك بنفس سلاحهم. وهذا مطابق لما جاء في القول الجليل: «اطلبوا العلم ولو في الصين».
ولقد كان الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية لرئيس أساقفة طليطلة مونستيور دريموند؛ فإن هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة ١١٣٠ إلى سنة ١١٥٠ دائرةً لترجمة الكتب العربية الفلسفية، أخصها كتب ابن سينا، إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية؛ فقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي. وقد جعل هذا الأسقف الأرشيديا كردومينيك كونديسالفي رئيسًا لدائرة الترجمة. وكانت هذه الدائرة مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الأشبيلي. فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرًا من مؤلفات ابن سينا. وبعد بضع سنوات ترجم جراردي كريمون وألفريد دي لولاي بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي. وبذلك كانت أوروبا مديونة لأسقف طُليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها. ومن الغريب أن الفلسفة التي صنعت في أوروبا بعد ذلك ما صنعته بالدين إذ كان دخوله إليها على يد واحد من أكابر رجال الدين.
وكان عالم الأدب الأوروبي متصلاً يومئذ بالعالم من جهتين. الأولى من جهة الأندلس وعلى الخصوص طُليطلة التي تقدم ذكرها. والثانية من جهة صقلية ومملكة نابولي. وكان المترجمون يترجمون الكتب العربية في هاتين الجهتين. وكانت دائرة الترجمة مؤلفة دائمًا من اليهود وأحيانًا من بعض المسلمين الأندلسيين المنضمين إلى الأوروبيين، وفيها الرئيس من الرهبان لمراقبة صحة الألفاظ اللاتينية. وكانوا في القرن الثاني عشر والثالث عشر يترجمون من العربية إلى اللاتينية مباشرة، إلا أنهم بعد هذا الزمن صاروا يترجمون الكتب العربية من العبرانية.
ولا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا مقابلة حالة الغرب الماضية بحالة الشرق الحاضرة. فنقول: إنه إذا كان مبلغ نهضة الأمم يقاس باهتمامها بالمعارف، فجدير بنا أن نقول بعدما تقدم بيانه أن نهضة الشرق بعد كبوته لا تزال في طفولية مؤلمة؛ لأنه إلى الآن لم تتألف فيه دائرة لترجمة نفائس الكتب الأوروبية، فضلاً عن إحياء الكتب العربية القديمة.
فعسى أن يعين الله «الجامعة» على عجزها وضعفها للقيام بشيء يسير من ذلك الواجب المقدس، وينبه الشرق من سباته بواسطة نبهائه وفضلائه لطلب المبادئ والحقائق لا التجارة الكُتُبية والصحافية.