الكتاب الأول: مباحث تمهيدية لتاريخ صلاح الدين الأيوبي
(١) دعوة الإسلام ونضاله مع الأمم
قام دين الإسلام في صحراء العرب، ثم نما وزاد حتى شمِل كل الجزيرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وجعل ينشر جناحيه كي يُظِلَّ بهما ما يليه من أمم الأرض من قِبَل المشرق والمغرب؛ فإن دخلوا تحته راضين كانوا إخوانًا، وإن هم أَبَوْا ذلك جاهدهم حتى يُدْخِلَهم في حوزة العقيدة والإيمان أو يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وكان الإسلام يرضى بتلك الخطة الأخيرة عالِمًا أنها الخطة العملية لإدخال الناس في حظيرته على طول الزمن إذا هم قاوموا الصدمة الأولى، علمًا منه بأن دفع الجزية والخضوع سيدفعان بعد حين إلى الدخول في الدين عندما تهدأ ثورة الإباء.
وقد وجد الإسلام من العرب عُدَّةً واستعدادًا، فجعل سَيْلُهم يتدفَّق على ما جاوره من البلاد؛ فاجتاح فارس وهبط على ما يليه من بلاد الروم حتى أقام دولةً فتيَّةً لم يشهد مثلها التاريخ إلا قليلًا، فبلغت في نحو تسعين سنةً اتساعًا لم تبلغه دولة الروم في قرون طويلة، وكان من أسباب انتصار هذه الدولة الفتيَّة تلك الحماسة الدينية العجيبة التي لم يذكُر مثلها التاريخ لشعبٍ آخر من الشعوب، حماسةٌ قائمةٌ على عقيدةٍ كالصخر، لا يدخل إليها شكٌّ ولا يُضْعِف من سَوْرتها ظُلْم، بل كانت عقيدةً حرَّةً ثابتة، فشهِدَ العالم نوعًا جديدًا من أنواع الدولة يقوم على الجهاد في سبيل العقيدة الدينية، فلا تقوى دولةٌ من دول الأرض على الوقوف في وجهها، وكان ذلك أول عهد جديد طلع على العالم المعروف.
وسارت دولة الإسلام بعد ذلك قُدُمًا في سبيلها، فهدأ تيار الفتح بعد حين، وجعلت أمورها تستقر، وأخذت تلتمس المدنيَّة من وجوهها، فنقلت ما نقلت عن دولٍ سبقتها مثل فارس ومصر، وأنشأت لنفسها فوق ذلك مدنيةً طريفة صبغتها بصبغتها، حتى إذا كانت أواخر القرن السابع بعد الميلاد (النصف الأخير من القرن الأول للهجرة) صارت دولة الإسلام (دولة بني أمية) هي دولة العالم الكبرى، وكان إلى جوارها في أوروبا دولة الروم الشرقية من قِبل آسيا الصغرى.
وكانت أوروبا في هذا الوقت قد طرأ عليها تغيُّر كبير من حوادث ذات بالٍ وقعت بها منذ أواخر القرن الخامس للميلاد — قبل الهجرة بنحو قرن ونصف؛ وذلك أن دولة الروم العظيمة الغربية بلغت شيخوختها وضعفت وجعلت أممٌ من المتوحشين تُغِير عليها من سهوب الشرق المجاورة لبحر قزوين وما إليه، فما زالت تلك القبائل الهمجية تُصدِّعها حتى تصدَّعت وتفكَّكت وسقطت، وآلت رومة العظيمة عاصمة العالم إلى يد الفاتحين من قبائل القوط، ومن ذلك الوقت ضاع أمر دولة الروم الغربية، وتقسَّمت أرضها بين المُغِيرين، فأخذت قبائل الفرنج (الفرنك) بلاد غالة (فرنسا الحالية)، وهبط «الواندال» ثم قبائل القوط الغربية في إسبانيا حيث ظل حكمهم أكثر من قرنين، إلى أن أتى العرب فقاموا على أنقاض دولتهم هناك، ثم استقرَّت دولة القوط الشرقية في إيطاليا، وبذلك صارت مدنية الدولة الرومانية إلى تلك الأيدي الخشنة، فما لبثت أن ذهب رواؤها وأصبحت أثرًا بعد عين.
على أن العالم الغربي قد كسب شيئًا وإنْ فقَد مدنية الرومان؛ وذلك أن الشعب الروماني القديم كان قد بلغ مرتبة الشيخوخة والضعف وكان لا بد له من الفناء في نضال البقاء، فلما غلبت عليه تلك القبائل المتوحِّشة واختلطت به دخلت في دين المسيح وأدخلت على شيخوخة الشعب الروماني فتوَّتها وخشونتها وبداوتها، فدخل دم الشباب من هذه القبائل إلى الشعب القديم، وعادت إليه قوة حيوية كبرى، وبقيت المدنية القديمة محلًّا للتقديس ولو أنها كانت غير مفهومة ولا مدرَكة، وكان الدين المسيحي الذي اشترك فيه الشعبان: القديم والحديث علاقة متينة زالت بواسطتها الفوارق تدريجًا، حتى إذا ما أتى القرن الثامن بعد الميلاد (القرن الثاني للهجرة) كانت عوامل الاختلاط قد أتت بنتائجها وأصبح الشعب القديم غير ظاهر وحده، بل صار الناس خليطًا من الشعب القديم والشعوب الهمجية، وبدأت كل جهة تمتاز عن الأخرى لهجةً وعاداتٍ وطبائع بحسب السُّنَّة الطبيعية لاختلاف البيئات ولهجات القبائل المختلفة، وبذلك وضع أساس أمم أوروبا الجديدة.
- الجبهة الأولى: الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها في القسطنطينية، وهي تتاخم دولة العباسيين عند آسيا الصغرى.
- والجبهة الأخرى: حطام الدولة الرومانية الغربية التي استولى الهمج على أنحائها وكوَّنوا فيها الدول الجديدة البدوية، وكانت الدولة الإسلامية القريبة من تلك الجبهة دولة الأندلس.
على أنه قد بدأت في أوروبا في القرن الثامن للميلاد حركةٌ ترمي إلى توحيد الدول المسيحية وإعادة إنشاء دولة واحدة عظيمة شبيهة بدولة الروم الغربية القديمة.
وكان قوام تلك الدولة الجديدة شعب الفرنج تقوده أُسرة من نسل البطل الفرنجي الكبير شارل مارتل صاحب الانتصار على العرب في وقعة «تور» سنة ٧٣٢ بعد الميلاد، وهو الذي تُعِدُّه أوروبا الغربية حاميًا لها من سيل العرب الجارف الذي كان يهددها من الأندلس.
بلغت تلك الدولة شأوًا كبيرًا في أيام الملك شارلمان أو شارل الكبير حفيد شارل مارتل، ويمكن أن تُعتبر دولته إعادةً لسيرة الدولة الرومانية القديمة، مع فارق عظيم يجب ألا يُنْسَى وهو أن تلك الدولة الجديدة كانت — في الواقع — دولة فرنجية؛ أي إن قوامها كان من الفرنج سلالة الهمج الذين اشتركوا في هدم الدولة الرومانية الغربية منذ ثلاثة قرون، فكانت دولة متسعة على رأسها حكومة واحدة ويحاول ملكها العظيم أن يجعلها شبيهة بالدولة الجليلة القديمة في نظامها، وإن كان لا يستطيع أن يعيد ذلك النور الذي انطفأ على يد أجداده الغزاة الأوائل.
فبعد قرون ثلاثة من سقوط رومة استقرَّ العالم على حالٍ جديدة، وأصبح فيه دول ثلاث أو أربع؛ ألا وهي دولة المسلمين، ودولة الفرنجة (الإمبراطورية الغربية)، والدولة الرومانية الشرقية.
نقول: دول ثلاث أو أربع؛ لأن دولة المسلمين في ذلك الوقت كانت — كما قدَّمنا — غير متَّحدة؛ فقد انفصلت بعض أطرافها فكانت دولًا مستقلة أكبرها دولة الأندلس؛ ولهذا كانت دولة المسلمين في الواقع دولتين كبيرتين: دولة العباسيين المشارقة، ودولة المغاربة بني أمية بالأندلس.
(٢) علاقة الإسلام بأمم أوروبا منذ القرن التاسع
استقرت تلك الدول بعد ذلك الاضطراب الطويل الذي غيَّر وجه العالم، وصارت لها فيما بينها علاقات وروابط، وتبدَّلت وجهة ما بينها من العلاقة إلى ما يكون عادةً بين المتجاورين من علاقات معامَلة ومنافَسة ومنازَعة، ولعل من أكبر ما يسترعي النظر في حروب المسلمين مع مَنْ جاورهم أن لفظ الجهاد كان لا يزال مستعملًا؛ فلا نزال نسمع اسم ذلك (الجهاد) يُعبِّر به المؤرخ الإسلامي عن حروب العباسيين أمثال هارون الرشيد والمعتصم مع الدولة الرومانية الشرقية، وكذلك يتردَّد ذلك الاسم — وهو الجهاد — في وصف حروب عبد الرحمن الأوسط مع جيرانه ملوك الفرنج وأمراء القوط بجبال الأندلس.
والحق أن ذلك اللفظ — وهو الجهاد — يجب أن يُقصَر على العصر الأول من غزوات المسلمين؛ أيام كان القصد الأول من الحروب بثَّ الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض؛ فقد كان المسلمون إذ ذاك أصحاب مبدأ جديد وفكرة يريدون أن تسود العالم؛ فكان أول شيء في نظرهم إبلاغ الناس ما عندهم من الدعوة، والعمل على أخذهم بها ولو كلَّفهم ذلك مُهَجَهم؛ فما كانوا يَعْبَئُون أيُحارِبون في صحاري قاحلة أم في وديان خصبة، ولا يُبالون أنالهم بأسُ البرد أم حرُّ القيظ في سبيل ما يدعون إليه. وكان العدو بعد الانتصار يصير صاحبًا؛ له ما لهم وعليه ما عليهم إذا هو قَبِلَ دعوتهم.
وما كان لهؤلاء المجاهدين الأولين أن يفرِّقوا بين جنسٍ وجنس أو بين لونٍ من الناس ولون، بل إنهم كانوا يغلبون العدوَّ وهم يرون أنهم يؤدون له أكبر خدمة بإبلاغه الدعوة وتمهيد السبيل أمامه إلى السعادة الأخروية. فكان شأنهم في ذلك شأن كل أصحاب الدعوات والمبادئ، ولكن لقد كان للجهاد عصره ثم انقضت الروح التي كانت تدفع إليه. ثم دخلت دولة الإسلام في دور حياة مدنية، وحلَّت في بلاد ذات مجد قديم، وسارت في مواطئ أقدام الأمم الغابرة، وأخذت بمدنياتها تدريجًا، وتكوَّنت فيها حكومات منظمة سلكت في معاملاتها مع جيرانها سلوك مَنْ تَقدَّمها من الدول؛ فحلَّت العلاقات السياسية محلَّ الحماسة إلى الدعوة الإسلامية؛ حتى لنجد هارون الرشيد — خليفة المسلمين — يراسل إمبراطور دولة الفرنج ويهاديه، ولعلَّ ذلك كان التماسًا لصداقته نكايةً للدولة المتاخمة لدولته؛ نعني دولة الروم الشرقية، على حين نجد عبد الرحمن الأوسط بالأندلس يراسل إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية ويهاديه؛ التماسًا لصداقته ونكايةً للدولة المتاخمة له وهي دولة الفرنجة. فهل إذا حارب الرشيد دولة الروم الشرقية أمكن أن نَصِف تلك الحرب بأنها جهاد من أجل فكرة دينية؟! وهل إذا حارب عبد الرحمن الأوسط دولة الفرنجة أمكن أن نَعُدَّ ذلك جهادًا بالمعنى الصحيح؛ ونعني به نشر دعوة الإسلام؟!
الحق أن الدول الإسلامية عندما تكوَّنت واستقرت أصبحت في تعاملها مع مَنْ يجاورها من الدول دولةً دنيويةً لها علاقات ودِّيَّة في جانبٍ وعدائيةً في جانب آخر بحسب ما تقضي به مصلحتها، وأصبحت فكرة الجهاد المجرَّد غير حقيقية، وإنما أُبْقِيَ اسم الجهاد مستعمَلًا في وصف الحروب مع العالم المسيحي؛ سيرًا على التقاليد الأولى وإعلاءً من شأن الدولة بوضعها في مكان السائر على سنن أهل الدعوة الأوائل الأجلَّاء، وتبريرًا للحرب واستنهاضًا لهمَّة الناس؛ كي يبذلوا ما يُرْغَب منهم بذلُه راضين شاكرين. أما من جهة المسيحيين فإنهم كانوا في حروبهم مع المسلمين إلى القرن العاشر لا يحاربون لأجل نشر مبدأ ديني، بل كانوا أصحاب بلاد يحاولون الدفاع عنها، وعلى ذلك لا يمكن أن تسمَّى حروبهم إلى ذلك الوقت حروبًا دينية؛ إذ لم يكن لهم قصد من بثِّ دعوة دينية. حقًّا لقد كان الفرنجة المسيحيون أحيانًا يقومون بحروب دينية. ومثل تلك الحروب ما شنَّه شارل الكبير على ما جاور بلاده من سكسونيا الوثنية في أواخر القرن الثامن وأوائل التاسع للميلاد، ولكن تلك الحروب كانت محليةً قليلة الشأن، ويمكن أن نقول — بوجه الإجمال: إن العالم المسيحي قبل القرن الحادي عشر لم يعرف الحرب الدينية بالمعنى الصحيح، أو بقول آخر: لم يَقُمْ بحروب صليبية لبث دعوة المسيح في أنحاء الأرض بثًّا منظَّمًا في دائرة واسعة كما فعل العالم الإسلامي أيام الجهاد الأول، فإذا نحن جئنا بعد ذلك إلى القرن الحادي عشر ورأينا اسم الجهاد يتردَّد في أنحاء العالم الإسلامي من نهر دجلة في العراق إلى نهر دورو في الأندلس، وإلى جانب ذلك يتردَّد اسم الصليب على طول خط الحدود الفاصلة بين العالمَيْن؛ العالم الإسلامي والعالم المسيحي. إذا رأينا هذا عرفنا أن هناك شيئًا جديدًا، وأن عاصفة قد ثارت فأعادت اسم الجهاد يُهْتَف به من جانب المسلمين، وأثارت اسم الحرب الصليبية يُهتف به من جانب المسيحيين، فما الذي أثار تلك العاصفة؟
(٣) صريخ القسطنطينية
في أواخر القرن الحادي عشر وجَّه إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية دعوةً إلى البابا؛ ليدعو أمم الغرب من فرنجة وألمان وإنجليز إلى نصرة الصليب وتخليص بيت المقدس من أعدائه المسلمين، فوجَّه البابا دعوته إلى أوروبا فسارت في الشعوب كما تسير النيران في الهشيم، وقامت أوروبا كرجلٍ واحدٍ إلى الغرض الذي دعا إليه البابا؛ فكانت حروبٌ دمويةٌ بين الشرق والغرب استمرت ثائرةً مدة قرن، ثم خبا لهيبها تدريجًا بعد ذلك ولو لم تنطفئ ناره جملةً، فما الذي جعل إمبراطور القسطنطينية يرسل تلك الدعوة؟ وما الذي جعل البابا يقبلها رغم الحفيظة التي كانت في قلبه على الكنيسة الشرقية؟ وما الذي جعل أوروبا تُجيب دعوة البابا بهذه الحماسة العجيبة التي بَدَتْ منها؟
لقد كان الخلاف الذي بين شقَّي العالم المسيحي خلافًا يكاد يمس أساس العقيدة، فكان المسيحيون في الشرق يعتبرون المذهب الغربي خرافة، على حين كان الخليفة القديس بطرس في رومة (البابا) ينظر إلى الشرق أنه منشقٌّ عنه خارج عليه، ولَكَمْ كان بين الاثنين مواقف عاصفة وتراشُق بالألقاب، بل لقد كان بينهما تنافُس حربي. ومثل ذلك أن بوهمند «بيمند» بن روبير جيكار الملك النرماندي على جنوب إيطاليا وصقلية عَبَر البحر الأدرياتي وجعل يغزو أرض الدولة الشرقية بتحريض سيده البابا صاحب ولائه.
ولكن تلك الفروق وتلك المنازعات لم تقف أمام التيار الجارف الذي اجتاح أوروبا فنَسيت كل العداوات القديمة، وسُوِّيت الحزون، وتعانق أبناء المذهبين، حتى إن بوهمند — ذلك الأمير الذي غزا أرض الدولة الرومانية الشرقية — صار أحد القواد الكبار الذين ذهبوا إلى القسطنطينية لنصرة كلمة المسيح.
أما هذا الانقلاب الذي طرأ على سياسة الدولة الشرقية وجعلها تطلب مساعدة البابا فيمكن كشفه من تتبُّع علاقة تلك الدولة بالدول الإسلامية إجمالًا منذ القرن الثامن للميلاد؛ فقد كانت الدولة العباسية في القرن الثامن للميلاد في عُنفوانها، فسَلبَت جارتها الرومانية كثيرًا من أملاكها، فلما انشغل العباسيون في مشاغلهم الداخلية أمكن دولة الروم أن تبقى ثابتة الحدود عند شرق آسيا الصغرى، ثم مضت قوة الدولة العباسية وذهب أمثال المهدي والرشيد والمأمون، وتلا ذلك استبداد جنود الأتراك بالخلافة العباسية؛ فأخذت الدولة تضعُف في نضالها الخارجي، وزادها ضعفًا أن انفصل عنها كثير من البلاد التي بدأت تستقلُّ كالأغالبة والأدارسة في أفريقية، وأخيرًا جاءت الضربة القاسية وهي استبداد بني بويه الشيعيِّين بأمر الخلافة، فأصبحوا وزراء في الاسم ولكنهم كانوا المسيطرين على الأمر كله، وكان الخليفة أحيانًا يحاول أن يُثبت لنفسه أمرًا فكان يحدث من وراء ذلك تشاحنٌ وتنازعٌ بينه وبين الوزير، فاضطربت أمور الدولة الإسلامية وتفرَّقت كلمتها وانفجر جثمانها، فصار أجزاءً متناثرة من إمارات في فارس وخراسان وأخرى في الشام وسواها في مصر. وهكذا وجدت الدولة الرومانية دونها فرصةً سانحة فانتهزتها، وأثار أباطرتها حربًا طاحنة لا سيما أيام نقفور «نيقفراس فوكاس» و«حنازيمس» «جون سيميسز» بين عامَي ٩٦٠–٩٧٥ بعد ميلاد المسيح، فلم يستطع أمراء الحمدانيين — الذين كانوا على حدود دولة الروم — أن يَثبتوا في ذلك النضال، بل أخذتهم كتائب الدولة الرومانية بما لا قِبَل لهم له، ثم فُتحت سواحل الشام وعبرت جنود الروم نهر الفرات، وكانت على طريق بغداد، وذُعر الخليفة المطيع حتى لقد باع عليه الأمير البويهي أثاث قصره ليستعدَّ بثمنه للحرب، ولكن لحسن حظ دولة الإسلام رجعت عند ذلك جيوش الروم وانقضت تلك الموجة ولم تحطمها. كان هذا في القرن العاشر، ثم طلع القرن الحادي عشر بحظ غير هذا، وكان الأمر ككفَّتَي ميزان إذا رجحت كِفَّة شالت الأخرى.
في القرن الحادي عشر استولى على بغداد قوم من الترك، وهم السلاجقة، وكان أميرهم طغرل بك رجلًا من أهل السُّنَّة شجاعًا غير مأخوذ بالألقاب كما كان ملوك البويهيين؛ فحفظ على الخليفة جلاله وهيبته ظاهرًا، وأخذ في يده أمر الدنيا يتحكَّم فيها بسيفه وإرادته فعلًا. وباستيلاء السلاجقة على بغداد سنة ١٠٥٥ بعد الميلاد/٤٤٧ للهجرة دخلت الدولة الإسلامية في دور غير ذلك الدور الذي مرَّ بها في أواخر القرن العاشر.
فقد استعادت على يدهم قوة شبابها، أو إن لم يكن ذلك فقد عاد جيشها — على الأقل — إلى سيرة الفتح والانتصار الذي نسيَتْه الدولة في آخر أيام بني بويه، وقد توالى على أمر الدولة العباسية ملوك ثلاثة عظام من السلاجقة وهم: طغرل بك وألب أرسلان وملك شاه ما بين سنتَي: ١٠٥٥ و١٠٩٢م/٤٤٧–٤٨٥ هجرية. وكانوا في سياستهم الداخلية مع الخلافة قانعين بالسلطان الدنيوي الفعلي تاركين كل مظاهر الرياسة والسيادة الاسمية للخلفاء من البيت المبجَّل الذي له المكانة السامية في قلوب المسلمين وهو بيت بني العباس.
وأما في سياستهم الخارجية مع مَنْ جاورهم — ولا سيما دولة الروم الشرقية — فقد كانوا لا يَقْنعون بسوى السيطرة والغلبة، فبدأت جيوشهم من جبال طوروس وأرضروم، وما زالت تنحدر إلى الغرب في وديان آسيا الصغرى وهضابها، وهناك شهدت مدينة قيصرية جيوشهم الغالبة، ثم خضعت بلاد أرمينية والقوقاز بعد دفاع لم تستطع الثبات عليه، ثم كانت بعد ذلك موقعة «ملاذ كرد» بين أرضروم و«وان» سنة ١٠٧٢، وكان هناك الانتصار الذي لا يزال يُذْكَر للسلطان ألب أرسلان، وأُخِذَ الإمبراطور الشرقي «رومانوس» أسيرًا وهو جريحٌ بعد دفاعِ بطلٍ مستميت، وقد سار ملك شاه بن ألب أرسلان على سُنَّة أبيه بعد مقتله، وزاد على الحرب مع الروم حروبًا أخرى مع ما يليه من البلاد، وكان من بينها بلاد الشام التي كانت لا تزال فيها بقية من حكم الفواطم. وما كان عام ١٠٩٠م حتى كان ملك شاه يطأ بحدوده الشرقية أكتاف الصين ويدوس بحدوده الغربية عواصم الفواطم والرومان من قِبل الشام وآسيا الصغرى، وتكوَّنت دولة للسلاجقة في أحشاء هضبة الأناضول، وأملى ملك شاه إرادته على مَنْ يليه، وكان من بين مَنْ يرتجفون من خوفه الإمبراطور ألكسيوس إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية.
وكانت تلك الحروب — ولا شك — حروبًا لا يُقْصَد بها سوى مدِّ السلطان والغلبة؛ فإن السلاجقة كانوا قومًا محاربين أتوا من أواسط آسيا، فما زالوا يحاربون بعد ذلك من أجل فتح سائر ما يليهم من الأقاليم، وكانت تلك الأقاليم التي تليهم في أيدي الرومان على الأكثر، ولو أنها كانت في أيدي سواهم لحاربوهم ولو كانوا من أمراء المسلمين.
وقد سبَّبت تلك الحروب — كما تُسبِّب الحروب في كل عصر — عداوةً بين الجانبَين المتحاربَين، فحدثت حوادث لا يخلو من مثلها وقتٌ مضطربٌ مثل ذاك الوقت، وما كانت تلك العداوة وما نشأ عنها من الحوادث لتأخذ صورة خاصةً في التاريخ لولا ما وقع بعدها من الحوادث الجليلة التي هزَّت العالم أجمع.
بينما كان ألكسيوس يفكِّر في طريقٍ يُخرجه من حرج موقفه أمام ملك شاه إذا بالموت عدا على عدوِّه المخيف وتمزَّقت بموته دولة السلاجقة التي بناها ثلاثة من ملوكهم العظام، وهناك تنفَّس الإمبراطور، وكان رجلًا من رجال الدهاء والاحتيال؛ فرأى أن ينتهز فرصة انثلام ذلك الهيكل العظيم الذي إلى شرق بلاده فيحطمه ليأمن غائلته، فأرسل إلى فِتية في أوروبا معوَّدين الحرب؛ كي يأتوا ليعيدوا له ما فقدته دولته، متناسيًا ما كان بين الغرب والشرق في العالم المسيحي من منافسة وخلاف، وكانت الظروف مُساعِدةً له فرأى أن يُلْبِسَ الحقائق لباسًا يجعله يستفيد منها.
فصوَّر المسلمين أنهم قوم أتوا إلى بلاده لا يقصدون إلا حربًا دينية يهدمون بها ديانة المسيح، وعزا ما ارتكبه الجنود السلاجقة من الاعتداء على المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى إلى رغبة كمينة في نفوسهم في أذى النصارى، وساعد على إذاعة أمثال هذه المزاعم جماعة من المتحمسين أمثال بطرس الراهب الذي ثارت نفسه عندما رأى قبر المسيح في يد السلاجقة الظافرين وهم حديثو العهد بظفرهم. وهكذا سمعت أوروبا نغمة لم تطرق أُذُنها من قبلُ: دعوة إلى نصرة المسيح على المعتدين المسلمين، وما هو إلا أن صرخ ألكسيوس حتى أُجِيبت الدعوة بثورة هزَّت أرجاء العالم؛ فلقد أرسل إلى البابا «أربانوس الثاني» — وهو في مجلس ديني في «كليرمون» سنة ١٠٩٥ — يدعوه إلى نصرة المسيح واسترداد بيت المقدس من السلاجقة، فما انفضَّ ذلك المجلس حتى نادى البابا نداءه التاريخي الذي دوَّى في أنحاء أوروبا. وانطلق المتحمسون في أنحاء البلاد يصوِّرون الإسلام ظالمًا عاتيًا مُغِيرًا، ولم تكن حكاياتهم خالية من الحقيقة، ولكنها — كما قدَّمنا — كانت حوادث طبيعية في عصر ثارت فيه ثائرة الحروب بين متنافسَين قديمَين. على أنه لم يكن أحد ليُمحِّص تلك الحُجج التي أوردها أمثال بطرس الراهب؛ فثارت العاصفة هوجاء تخبط خَبْطَ عشواء.
(٤) لماذا لبَّت أوروبا الدعوة؟
إذا كان ألكسيوس قد تناسى ما كان بين دولته وبين الغربيين، فأعجبُ من ذلك أن يأتي الغرب إلى مساعدته بتلك الحماسة العظيمة؛ فالحقُّ أن أوروبا في هذا الوقت كانت مستعدَّة أعظم استعداد لإيقاد النيران، وكان البابا والكنيسة هما الطريقان الوحيدان إلى إثارة تلك النيران، وقد عرف ألكسيوس أن يلمس المكان الذي فيه سرُّ الانفجار.
كان الدين في القرن الحادي عشر سيد أوروبا، وكان رجال الدين — وعلى رأسهم البابا في ذلك القرن — أصحاب عواطف أهل أوروبا، وكان في أوروبا في ذلك الوقت رجال يحبون الحرب ويعيشون له ولا يسعهم إلا تلبية الداعي إليه، ولا سيما إذا كان لنصرة الدين، وذلك كله يرجع إلى أسباب لا بد من بيانها موجزةً في الفقرتين الآتيتين:
الانقلاب في نظام أوروبا
حَدَثَ انقلاب عظيم في نظام الدولة الفرنجية في أواخر القرن التاسع للميلاد؛ وذلك أن شارل الكبير كان قد أقام دولةً عظمى تشمل أكثر بلاد الدولة الرومانية القديمة، ثم خلع البابا عليه لقب الأباطرة، وأصبح لقبه إمبراطور الدولة الرومانية الغربية، وقد حاول شارل أن يجعل دولته على نظام شبيه بنظام الدولة الرومانية القديمة، وأكبر ما يرمي إليه جَعْلها دولة واحدة وأن يكون هو على رأسها ومركزها، ولقد كان تحته طائفة من الحكام والرؤساء ولكنه عمل على أن يكونوا عمالًا له مؤتَمِرين بأمر الحكومة المركزية، ثم سار ابنه «لويس التقي» على مثل ذلك بما استطاع، لكنه لم يكن كأبيه درايةً وكياسةً وقوةً، فما هو إلا أن مات لويس حتى تقسَّمت الدولة الرومانية الغربية إلى أقسامٍ ثلاثة بين أولاده، وبدأت بذلك أول حلقة من سلسلة تقسُّم لَبِثَ يحطم تلك الدولة إلى آخر القرن التاسع للميلاد.
وقد كانت أوروبا في ذلك القرن التاسع مهدَّدة بأخطار جسيمة من تجدُّد إغارات القبائل المتوحشة وأكبرها عند ذلك قبائل النرمانديين والمجريين، زيادةً على ما كان يُصيبها من غزو العرب في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا برًّا وبحرًا، وقد كان لهذه الغزوات أثر بعيد المدى.
كان النرمانديون يُغِيرُون على الدولة الرومانية في خفاف السفن من مصبَّات الأنهار؛ لأنهم كانوا قومًا من بلاد الشمال وشواطئ البحار، لهم جراءة على المحيط ودراية بتسيير السفن، وكانت إغاراتهم للسلب والتدمير، ولا تستطيع دولة الرومان الغربية أن تدفعهم عن نفسها؛ إذ لم يكن فيها مدن حصينة ولا كتائب سريعة، وكان المجريون في إغاراتهم فرسانًا يجتاحون البلاد ثم يعودون بعد أن يسلبوا ما شاءوا ولا تردهم حصون ولا أسوار، ولم يكن دونهم عند الفرنج كتائب ذات دراية بحركات الفرسان؛ ولهذا استقرَّ رأي أمراء الدولة الرومانية الغربية على أن يُعْنوا بأمرين لا غِنَى للدولة عنهما إذا شاءت حماية نفسها من أعدائها؛ وذانك هما: بناء الحصون الكثيرة والأسوار على المدائن من جهة، ومن جهة أخرى تكوين كتائب للفرسان معوَّدة الكر والفر على أسلوب سريع؛ كي يستطيعوا دفع عادية المغيرين السريعين، وبذلك وجد أمراء الدولة أنفسهم — بعد حين — ولهم حصون وأسوار تحميها كتائب من الفرسان مدرَّبة خاضعة، فكان لكلٍّ منهم بذلك دائرة خاصة به عليه حمايتها وله بطبيعة الأمر إدارتها، فنما نظام جديد عُرِفَ فيما بعد في القرن العاشر وما يليه بنظام الإقطاع.
أحدث نظام الإقطاع نقضًا في أساس الحكومة القديمة التي كانت في أوروبا منذ أيام الدولة الرومانية الأولى؛ وذلك أن الحكومة المركزية أصبحت صورةً لا حقيقة، وأصبح الأمراء هم أصحاب الحكم في جميع الأنحاء، وصارت العلاقة الجديدة بين طبقات المجتمع قائمةً على أساس السلطة والسيادة؛ يعني أنه أصبح بين الأمراء من جانب وبين الحكومة المركزية من جانب آخر عقد يتعهَّد فيه كلا الجانبين تعهُّدات يقوم بأدائها نظير حقوق يكتسبها، وكانت أكبر واجبات الأمراء الاشتراك في حروب الدولة بأنفسهم وفرسانهم، وإمداد الحكومة المركزية بشيء من الأموال، وكانت أكبر حقوقهم أن يكونوا حكامًا يخضع لهم مَنْ دونهم من الأمراء ويدفعون لهم الضرائب، ويشتركون فيما يُكلِّفهم به صاحب ولائهم من الأعمال، وكان كبار الأمراء متعاقدين مع صغارهم على شروط شبيهة بتلك. وهكذا كان هؤلاء مع مَنْ يليهم، فكان نظام الإقطاع أشبه شيء بالهرم: رأسه الحكومة المركزية وقاعدته صغار الأمراء والفرسان ثم الشعب، وكان الشعب العام مرتبطًا بواجبات نحو الأمير الذي يحكم بلاده فيدفع الأموال إليه ويخضع لقضائه، ويهب له مقدارًا معينًا من العمل في أرضه في نظير حماية الأمير له من اعتداء الغير وصد غارات المتوحشين عنه.
على هذا تقسَّمت أوروبا إلى أقسام صغيرة من الإقطاعات، وكانت الحكومات المركزية — في الواقع — لا علاقة لها بالأفراد، بل كانت علاقتها بكبار الأمراء تارة على سِلْمٍ وتارة على حرب.
مضى القرن العاشر وفي أوروبا دول ثلاث كبرى، كلٌّ منها مقسَّم بحسب ذلك النظام الإقطاعي، وتلك هي ألمانيا ويحكمها حكام من أمرائها بعد انقراض أسرة الفرنجة من نسل شارلمان، وكانت دولتهم مكوَّنة من ألمانيا وإيطاليا واسمها الدولة الرومانية المقدسة، ثم فرنسا ثم إنجلترة.
ولم تكن تلك الدول دولًا بالمعنى الحقيقي؛ إذ كان الحكام السياسيون لا يتعدَّى حكمهم إقطاعاتهم، وكثيرًا ما كان الأمير إذا لم يجد ميدانًا للحرب يصد فيه غارات الأجانب أو المتوحشين يغير على مَنْ يليه من جيرانه؛ ولهذا كانت أوروبا في ذلك الوقت وما بعده مجالًا لحروب لا عَدَّ لها ولا حصر بين الأمراء وبعض، ولم تَخْلُ الحكومات المركزية من مناوأة أمرائها، بل كانت تدخل في ميادين حروبهم مؤلِّبة جماعة على أخرى تنتصر تارة وتنهزم أخرى.
وهكذا عاد نظام الإقطاع على أوروبا بمنافع وأضرار؛ فقد ردَّ عنها غارات المجر والنرمان وأضرابهم، ولكنه نزع أمنها واطمئنانها في الداخل وجعلها بؤرة حروب دائمة.
في ذلك الوقت أتت دعوة الدولة الشرقية، فما كان أسرع أمراء أوروبا وفرسانها إلى إجابة ملتمسين هناك ميدانًا جديدًا للحروب.
روح العصر في أوروبا
كان عهد الإقطاع بطبيعة ظروفه عهد الفروسية وما يتبع هذه الصفة من مميزات؛ فكان الأمير — بحكم تعاقده — حاميًا لمن في كنفه يرى نفسه سيدهم المسئول عن سلامتهم ولو كلَّفه ذلك بَذْل نفسه، وقد جرت العادة مدة طوال السنين على تقاليد صارت على مضيِّ الزمن مبادئ يجب على الشريف أن يسير على مقتضاها، فكان من مجموع ذلك قانون به تفاصيل ما يحلُّ للشريف أن يعمل وما يحرم عليه، وكانت تلك المبادئ ترمي إلى حماية الضعفاء ونصرة الدين وإجلال الجمال والوداعة وسوى ذلك من صفات الحسن الذي يتجلَّى في المرأة، فكانت الشجاعة أولى صفات الشريف لا تقوم عنها صفة أخرى، وكان استخدام السيف من أول ما يجب عليه إتقانه إلى جانب المهارة في ركوب الخيل وأمل الرماية بالقوس والسهام فكانت مما يُتْرَك للمحاربين في المحل الأدنى.
وقد شهد القرن العاشر تغيرًا جديرًا بالذكر في عقول أوروبا؛ إذ قد مضت أظلم القرون مع القرن التاسع، وبدأت حياة جديدة تدبُّ إلى النفوس ولو أنها لم تكن تلك الحياة الفيَّاضة التي تمشَّت في العروق منذ القرن الثالث عشر، وقد بدأ دبيب تلك الحياة يظهر بشيء من الجلاء في القرن الحادي عشر، وكانت أولى علاماتها تلوح هنا وهناك إما في بلاط ملك وإما في حنايا دير.
بدأت الأمم الفتيَّة تتطلَّع إلى الماضي وترى أنفسها حفدة الرومان أصحاب المدنية القديمة، فجعلت تلتمس العلم من بقايا مخلفاتها، ووجدت معلمين لها من رجال الدين الذين كانوا لا يزالون يحتفظون ببعض علم القدماء، فانصبغت تلك النهضة الصغيرة بصبغة رجال الدين، ولما تفتحت العقول أول تفتُّح للمعارف وجدت الميدان الذي فُتِحَ دونها مصبوغًا بصبغة الدين، فكانت حماستها — الشبيهة بحماسة الطفولة — تدفعها إلى الاهتمام بكل ما يمس الدين، حتى لقد ظهر أثر هذا في آداب العصر الذي يتكوَّن من قصص العهد القديم والحديث ممثَّلة في قالب روائي، وكان الممثلون في الغالب من القسوس.
ولعل ذلك العصر كان قصارى ما وصلت إليه الكنيسة من التسلط على قلوب الناس، ولما يحرفهم عن عقيدتهم شيء من زيغ العلم أو شك الفلسفة، حتى لكان أكبر عقاب يقع على الفرد حرمانه من الكنيسة وإخراجه من دائرة الإيمان والمؤمنين، وهو عقاب أذلَّ أكبر رأس في العالم إذ ذاك وهو الإمبراطور نفسه، وكان ذلك الحرمان إذا وقع على إقليم تعطَّلت شعائر الدين فيه فلم يجد الناس مَنْ يأخذ اعتراف الميت ولا مَنْ يقرأ عليه الصلوات التي توصله إلى الآخرة، وكان مثل ذلك العقاب كافيًا لإرغام أكثر الأمراء عنادًا وإذلال أحدِّهم شوكة، وكانت الكنيسة إذا فرضت على الناس فرضًا يُكفِّرون به عن ذنوبهم لم يسعهم إلا الإذعان، فيصوم الفرد أو يضرب أو يُذلَّ نفسه بالسؤال أو يُشهَّر به ويُخرج من بلده في زي النادم «قبَّعة خاصة وعصا طويلة وأقدام عارية» فيذهب إلى بيت المقدس أو إلى رومة ليمحو ذنوبه.
وقد اتفق في أواخر القرن الحادي عشر حدوث نضال كبير بين الإمبراطورية (السلطة الدنيوية) وبين الكنيسة (السلطة الدينية) وكانت نتيجة ذلك النضال انتصارًا باهرًا للبابا، وذهب الإمبراطور العظيم — وهو إذ ذاك «هنري الرابع» — إلى البابا «جريجوار السابع» في قرية «كانوسا» بإيطاليا، وهناك وقف حاكم الدنيا أيامًا ثلاثة عند باب رئيس الكنيسة عاري الرأس حافي الأقدام يطلب العفو والصلح.
وعقب ذلك بسنين قليلة كان البابا «أربانوس» في مجمع من رجال الكنيسة في «كلرمون»، فأتاه صريخ إمبراطور الدولة الشرقية يدعوه للمساعدة في حرب المسلمين، فما انفضَّ ذلك المجلس سنة ١٠٩٥م حتى كان البابا قد أعلن حربًا لنصرة المسيح والصليب على المسلمين واستنقاذ بيت المقدس منهم، فأية صيحة تكون صيحة البابا في مثل هذا العصر؟ لقد كانت صيحة تردَّدت كالرعد القاصف وسارع إلى تلبيتها شعب مؤمن مطيع على رأسه طائفة من الأمراء الذين لهم دراية بالحروب وبهم غيرة على الدين ورغبة في نصرته.
(٥) انتصار الصليبيين
بدأت الحرب الصليبية فذهبت جموع بعد جموع في سنة ١٠٩٦م/٤٨٩ هجرية، ولكنها لم تُتِمَّ شيئًا، ثم تبعتها جموع أخرى في سنة ١٠٩٧م بقيادة أربعة من كبار أمراء أوروبا وهم: «جودفري» حاكم بولوني، و«ريمون» كونت كولوشه، و«بالدوين» أخو «جودفري»، و«بوهمند» ابن «روبير جيكار» النرماندي حاكم جنوب إيطاليا وصقلية. وكان يساعدهم آخرون من الأشراف والفرسان، فلما بلغت الحملة القسطنطينية استوثق الإمبراطور ألكسيوس من حلفائه أنهم يردُّون إليه ما سلبه الإسلام من بلاده، ثم سمح لهم أن يجتازوا بأرضه، فساروا وعبروا المضائق وهزموا المسلمين في الأناضول، وكانوا أشتاتًا بعد ذهاب ملوكهم الكبار، وكان أكبر انتصار للصليبيين عند «دوريليوم» أو «إسكيشير» في غرب آسيا الصغرى، ثم ما زال النصر لهم إلى أن أتموا السير وبلغوا الشام، وأقاموا دولًا أربعة اقتطعوها من أرض الإسلام وهي «الرُّها» و«أنطاكية» و«طرابلس» و«بيت المقدس»، وجعلوا المُلْك في يد حاكم بيت المقدس وهو «جودفري»، وقنع الباقون من الأمراء بالولاء له حسب النظام الإقطاعي في أوروبا، وجعلوا نظام الحكم في تلك البلاد على الأسلوب الإقطاعي، وتمَّ ما أرادته أوروبا، وردَّت موجة الفتح الإسلامي عن أسوار القسطنطينية بتلك الضربة الشديدة، ولن تعود الدول الإسلامية إلى محاولة فتحها من جديد إلا بعد أن تُفيق منها، وذلك بعد نيف وثلاثة قرون على يد الأتراك العثمانيين.
(٦) العالم الإسلامي يستجمع قوته للدفاع
كان العالم الإسلامي في ذلك العصر؛ أي أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر، يشمل أقسامًا ثلاثة كبرى ولكلٍّ منها فروع وأجزاء؛ ففي طرفه الغربي كانت دولة الأندلس، وقد عبرت إليها جموع المرابطين من أفريقيا فهزمت المسيحيين الأندلسيين وأعادت إليها شيئًا يشبه ما كانت عليه من القوة أيام دولة بني أمية، وبعد المرابطين يأتي إليها الموحدون من أفريقيا فيرفعون علمها إلى أواخر القرن الثاني عشر، ثم تتحطَّم تلك الدولة حتى لا يبقى منها إلا غرناطة لتشهد تاريخ القرون التالية.
وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد رجال هذا الأمير العظيم وسيفًا من سيوفه، وليس بعجيب في التاريخ أن ينشأ رجل تابعًا لعظيم ثم يعلو شأنه ويظهر أمرُه حتى يغطِّي ذكره على ذكر سيده ويصبح المجد والعظمة للتابع دون المتبوع.
(٧) الدول الإسلامية بالشام والجزيرة ومصر
الشام والجزيرة
قُتِلَ عماد الدين زنكي وهو في ميدان الحرب، وبعد مقتله تقسمت دولته بين ابنيه: وأولهما سيف الدين غازي الذي استولى على الشرق وجعل مقرَّه الموصل، وثانيهما نور الدين محمود الذي استولى على الغرب وجعل مقرَّه حلب. على أن نور الدين هو الذي سار على سُنَّة أبيه، وقد عاش مدةً أطول من أخيه؛ ولهذا تمكَّن من بسط سلطانه على البلاد التي ورَّثها أبوه الشهيد عماد الدين، واستولى على غيرها مما فتحه من أملاك المسلمين المستقلين أمثال دمشق وبعلبك، ومما فتحه من أملاك المسيحيين بعد أن فشلوا في حملتهم الثانية التي اشترك فيها كنراد الثالث إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة ولويس السابع ملك فرنسا.
مصر
أما في مصر فكانت دولةٌ أخرى تخالف ما في الشام والجزيرة في وجوه كثيرة؛ فقد كانت دولة الفواطم — وهم شيعة علويون — لهم خليفة غير خليفة السُّنِّيِّين وحكومة مستقلة موحدة، ومدنية تالدة خلَّفها مؤسسو الدولة منذ قرنين.
وكانت مصر في القرن الثاني عشر ميدانًا لحوادث عظيمة كان لها أثر كبير في مصير العالم الإسلامي؛ كان شعب مصر الهادئ المنصرف إلى أعماله تاركًا الحكم إلى حكامه الذين استولوا على البلاد عنوةً منذ أيام المعز لدين الله في أواخر القرن العاشر للميلاد، وكان المصريون من أهل السُّنَّة، ولكنهم خضعوا لتلك الدولة الشيعية وانصرفوا إلى أعمالهم لا يهتمون بشيء من أمر الدولة؛ إذ كانت الحكومة — على وجه الإجمال — لا تتداخل كثيرًا في عقائدهم.
وقد حدث على مرِّ الأيام شيء عظيم من التفاهم بين الحاكم والمحكوم، حتى كادت الشيعية المصرية تكون سُنِّيَّة إلا في بعض المظاهر والرسوم، ولكن هدوء تلك البلاد لم يبقَ كما كان، بل حدث تغيُّر في القرن الثاني عشر عندما ذهبت أجيال الخلفاء العظام من الفواطم ووقع الأمر إلى سلسلة متأخرة من خلفاء لا حول لهم ولا قوة، فصار الحكم إلى قوَّاد الجيش والوزراء مَنْ عَزَّ منهم غلب واستولى على الخليفة. وكان الخليفة في العادة يُخْتَار طفلًا من البيت الفاطمي، فكان بعضهم لا يعدو سن الرابعة؛ كالفائز بنصر الله الذي حكم بين سنتَي ١١٥٤–١١٦٠م من الميلاد/٥٤٩–٥٥٥ﻫ، وجاء بعده العاضد لدين الله وكان في التاسعة من عمره عندما صار خليفة بمصر.
في أثناء ذلك العصر كان نور الدين قد هزم الفرنج ووحَّد دولة عظيمة في الشام والجزيرة، وكان من بين الوزراء بمصر مَنْ طمع أن يجعل صلةً بين دولة نور الدين وبين مصر، وذلك هو الرجل العاقل الصالح ابن رزيك، لولا أن اختلاف المذهب الديني كان حائلًا لا يمكن تجاوزه.
وكان الصليبيون يعرفون أن مصر بلاد غنية وأنها أسهل فتحًا من قلاع الشام وليس بها أمثال نور الدين وجنوده، وكانوا يتطلَّعون إلى أن يقيموا ضعفهم بضمها إلى ملكهم، ولولا خشية نور الدين أن يُهوي على بلادهم في أثناء محاولتهم ذلك الفتح، لبدءوا به منذ أخفقوا في الاستيلاء على دمشق واسترجاع الرُّها في حربهم الثانية في منتصف القرن الثاني عشر.
ولقد جرت بمصر حوادث وأراد القائمون بها الانتفاع بالموقف السياسي الذي حولهم، فكانت النتيجة الطبيعية تنافسًا بين الدولتين المجاورتين على أيهما تدخل تلك البلاد وتسُود فيها، وتانك الدولتان هما: دولة نور الدين ودولة الصليبيين.
ساد على مصر في سنة ١١٦٤م/٥٦١ﻫ رجل من العرب اسمه شاور، واستبدَّ بأمرها بعد أن قتل العادل رزيك ابن الصالح رزيك الوزير الكبير، وقد نازعه في الأمر أمير عربي آخر من قبيلة لخم من بلاد الصعيد واسمه ضرغام، وكان آخر النضال بين الزعيمين أن هرب شاور يلتمس مساعدةً من الخارج على خصمه؛ فذهب إلى نور الدين وعرض عليه شروطًا مغرية إذا هو أعانه على استرجاع أمره بمصر، وكان نور الدين يتطلَّع إلى التدخل في تلك البلاد، فسنحت له تلك الفرصة، وكانت شروط شاور أن يُعْطِي لنور الدين نفقات الحملة وثلث إيراد مصر جزيةً سنوية. وقد ساعدت الظروف على أن يسرع نور الدين بإجابة شاور إلى ما سأل؛ لأن ضرغام منذ أحس بسعي شاور أخذ هو من جانبه طريقًا آخر يزعم فيه سلامته، فأرسل يستعين بالدولة الأخرى — دولة الفرنج بالشام، فلم يتردَّد نور الدين بعد ذلك بل أرسل جيشًا مع شاور وجعل عليه مقدَّم جيشه أسد الدين شيركوه بن شادي، وجعل معه الشاب الممتاز يوسف ابن أخيه أيوب بن شادي.