بعد أن بدأ التأليف في ثلاثة أنواع أدبية ابتداءً من «تمثل الوافد» حيث كان التعامل
مع الخارج وحده وانتقالًا إلى «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» حيث كان التعامل مع
الخارج والداخل ولكن ما زالت الأولوية للخارج، ونهاية في «تمثل الوافد مع تنظير
الموروث» حيث تساوى الخارج والداخل؛ بدأ التأليف نفسه يتحول إلى تراكم فلسفي عندما
ينتهي المكونان الرئيسيان للتأليف الوافد والموروث، الخارج والداخل كمصدرين خارجيين
للوعي الفلسفي ويصبحان مصدرين داخليين. فيصبح الوافد موروثًا في نهايته بعد أن كان
وافدًا في بدايته، ويحدث الموروث تراكمًا داخليًّا بنقد الداخل بعضه لبعض. الفرق بين
التأليف والتراكم أن التأليف يتعامل مع مكونين خارجيين عن الوعي الفلسفي، الموروث
والوافد أي الخارج والداخل في حين أن التراكم يتعامل مع مكونين داخليين في الوعي
الفلسفي بعد أن أصبح الوافد موروثًا عبر الأجيال، وأصبح الموروث ناقدًا نفسه بنفسه
ومتعاليًا بذاته على ذاته بعد خبرة فلسفية طويلة من الكلام إلى الفلسفة، من الفكر
الديني إلى الفكر الفلسفي، من الجدل إلى البرهان. يعني هذا النوع الأدبي الرابع «تنظير
الموروث قبل تمثل الوافد» بداية التحول من الوافد إلى الموروث بعد أن تم تمثل الوافد
واحتواؤه داخل الموروث، في مقابل النوع الثاني «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث». وما
النوع الثالث «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» إلا حلقة متوسطة بين النوعين، وممر من
النوع الثاني إلى النوع الرابع. الوافد هو المؤقت والموروث هو الدائم. الوافد هو
الوسيلة والموروث هو الغاية. الوافد هو المحوي والموروث هو الحاوي. وقد بدأ هذا النوع
في مرحلة متقدمة للغاية، منذ القرن الثاني في عصر الترجمة، واستمر حتى القرن الحادي
عشر. ومن الطبيعي أن يظهر مبكرًا نظرًا لقلة الموروث وانتشاره وضعف جذبه وحضوره. يبدأ
التراكم الفلسفي بهذا النوع الأدبي الرابع «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» حيث تبدأ
الأولوية للداخل على الخارج، وللذات على الغير، وللأنا على الآخر بعد أن اكتسب الوعي
خبرات فلسفية كافية وامتلك من علوم الوسائل ما تجعله قادرًا على التوجه أكثر فأكثر نحو
علوم الغايات. ثم يزداد التراكم شيئًا فشيئًا فيظهر النوع الأدبي الخامس «تنظير
الموروث» حيث يختفي الوافد كلية ويعتمد التأليف الفلسفي على الداخل وحده، انتهى دور
الوسيلة وظهرت الغاية تنظِّر نفسها بنفسها، وفي النهاية يظهر النوع الأدبي السادس
«الإبداع الخالص» بفعل التأمل الذاتي واعتماد العقل على ذاته متحدًا بموضوعه واستغناء
عن المكونات الخارجية نهائيًّا، الوافد والموروث، والموروث التراكمي بعد تحولها عضويًّا
وذوبانها نهائيًّا في الوعي الفلسفي التاريخي.
(١) جابر بن حيان
مثال هذا النوع الأدبي الأول في «التراكم الفلسفي» وهو «تنظير الموروث قبل تمثل
الوافد» «تدبير الإكسير الأعظم» لجابر بن حيان (٢٠٠ﻫ).
١ وهي أربع عشرة رسالة في صنعة الكيمياء. وهي دائرة معارف تمثل ثقافة
العصر مثل رسائل الإخوان بعد ذلك بقرن. والإكسير الأعظم هو جوهر الفلاسفة القادر
على تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. فلا شيء يستعصي على صنعة الكيمياء. ولفظ
التدبير يعني العناية والتسخير لقوانين الطبيعة. وقد بلغت وفرة إنتاجه إلى حد
اعتبار جزء منها منحولًا أو إنكار وجود جابر تاريخيًّا.
٢ فالعبقرية تتجاوز حدود التاريخ مثل هوميروس والإسكندر والمسيح وامرئ
القيس. والعلم جزء من الحكمة. والحكمة صنعة تجمع بين النظر والعمل. والعلم الطبيعي
علم لدني يدونه صاحبه كي يفهمه القارئ حتى اختلطت لغة العلم بلغة السحر مثل الرازي
في «الطب الروحاني»، والسهروردي في «حكمة الإشراق». كل ذلك قبل الحديث عن الحجر
طبقًا لوعي منهجي أكد أولوية الحكمة على الصنعة.
٣
ويحيل جابر إلى عشرات من أعماله السابقة مما يبين وحدة مشروعه العلمي.
٤ واللغة مدخل لكل العلوم، فالعلم مصطلحات وألفاظ. اللغة مدخل إلى الشيء.
٥ وتكثر العبارات التي تصف مسار الفكر والتعريف بالغرض من كل كتاب وتصحيح
مسار الفكر الشعبي. ويظهر أسلوب المتكلم المفرد أو الجمع مما يدل على أن العلم
تجربة ذاتية، وليس نقلًا عن غائب مجهول ومعلوم.
٦ وأفعال القول من إضافة الناسخ وليست من المؤلف.
٧ والعمل مشترك بين المؤلف والقارئ من أجل تعليم القارئ الصنعة وتدبيره عليها.
٨
وتمثل الوافد أقل من تنظير الموروث. يتصدر الوافد سقراط وأمورش ثم آريوس وأندريا
وفوثاغوراس ومارية وأفلاطون.
٩ يستأنف جابر التراث العلمي من المتقدمين إلى المتأخرين. ولا يهم الوافد
التاريخي، فهوميروس كيميائي مصدر للعجائب. والحكماء هم الذين أسسوا التدبير واحدًا
تلو الآخر.
وتنظير الموروث أكثر من تمثل الوافد فقد كان جابر من تلاميذ جعفر الصادق، فهو من
علماء الشيعة. لا فرق في صنعة الكيمياء بين العلم والدين، بين الطبيعة والوحي. توحي
عناوين الرسائل بالحكمة الباطنية وبعضها بمصطلحات الشيعة مثل الباب، العهد،
الأسرار، الأركان، الفصول.
١٠ ولفظ عنوان الرسالة الأولى يدل على العلم والدين معًا. ويتصدر القرآن
الكريم الموروث كله.
١١ وبطبيعة الحال من الأسماء يتصدر محمد النبي ثم آل محمد ثم جعفر الصادق
(سيدي) ثم جابر ثم أصحاب محمد ثم ابن أميل وعلي بن يقطين.
١٢ ومن أسماء الفرق يتصدر أصحاب الطبائع ثم أصحاب الأفلاك ثم أصحاب البروج
ثم أصحاب الحق وأصحاب الكواكب.
١٣ وتظهر البيئة المحلية مثل أهل الهند والسند والمغرب ومصر واليمن لوصف
اختلاف الأسماء.
١٤
وتظهر العبارات الإيمانية البسملات والحمدلات على نحو زائد. العلم موجب من الله
إلهامًا، خاصة منه بناءً على شهوة صناعة الفلسفة، ومستمدًّا من صفوة النبي (جعفر
الصادق)، مما يوحي بجو شيعي مغالٍ في الروحانيات، الروح في العالم، ومعرفة أسرار
الطبيعة لمزيد من القوة. وكل شيء بتوفيق من الله وبمشيئة وما على الإنسان إلا
الاستغفار. والصلاة والسلام على النبي وآله الأطهار.
١٥
(٢) القوهي
وفي «شرح كتاب صنعة الأسطرلاب» لأبي سهل القوهي (٣٣٥ﻫ) يأتي تنظير الموروث قبل
تمثل الوافد.
١٦ وبطبيعة الحال يتصدر الموروث المؤلف أبو سهل القوهي وأبو سعد العلاء
بن سهل الشارح ثم ثابت بن قرة وكتابه في المخروطات. ويبدأ التراكم في الموروث يفسر
بعضه بعضًا مع التركيز دون الإطالة.
١٧ ولا يذكر الوافد إلا أبولونيوس وكتابه «المخروطات». والقوهي هو الذي
يقول. لذلك تنكر صيغة المتكلم المفرد «أقول».
١٨ وتكثر أفعال البيان والتفسير والبرهان مع عشرة رسوم توضيحية. ويبدأ
المقال بالبسملة والدعوة بالتيسير والعون والتوفيق وينتهي بالحمدلة والصلاة على
محمد وآله وحسبنا الله ونعم الوكيل.
١٩
(٣) ابن سهل
وفي «كتاب المسائل التي حللها أبو سعد العلاء بن سهل» يتصدر الموروث الوافد،
ويأتي ابن سهل قبل أرشميدس.
٢٠ وهو تأليف على تأليف، شرح لنص، عرض لموضوع وتوضيح المسألة بنفس ألفاظ
المؤلف الأول مع إضافة مقدمات تسهِّل طرق البرهان.
٢١ لذلك تكثر تعبيرات «برهان ذلك»، «برهانه». وبعد البرهان تكثر تعبيرات
«وهذا ما أردنا بيانه» أو «وهذا ما أردنا أن نعمل» أو أفعال البيان، بالإضافة إلى
واحد وعشرين رسمًا توضيحيًّا. ويقوم البرهان على اتساق النتائج مقدمات وإلا كان
البرهان خلفًا «هذا خلف لا يمكن». والمؤلف هو الذي يقول. لذلك تظهر أفعال القول في
صيغة المتكلم المفرد «أقول».
٢٢
وبين الحين والآخر تظهر بعض الفقرات التي تدل على عمل العقل في الرياضيات يكشف عن
دور العقل البديهي والأساس النفسي للرياضيات وأنها تأتي دائمًا بتحليل أو اكتساب.
٢٣ وفي نفس الوقت العلم هو أدب العلم وتواضع العلماء.
٢٤ وكما تبدأ الرسالة بالبسملة وتنتهي بالحمدلة والصلاة على محمد نبيه
وآله وأصحابه، وتاريخ النسخ.
٢٥
(٤) بازيار الفاطمي
و«البيزرة لبازيار المعز بالله الفاطمي» (٣٨٦ﻫ) من نفس النوع.
٢٦ والبيزرة أو البزدرة ليس البيطرة بل علم أحوال الجوارح من حيث الصحة
والمرض، من بيزار الفارسية أي صاحب الباز. وهو ما زال قائمًا حتى الآن في تربية
الصقور في الخليج، وتعتمد على الموروث الشعري، فالشعر قبل الوحي علم العرب وثقافتهم
مع حكايات ونوادر وروايات عربية. مثل كتاب «الحيوان» للجاحظ وليس من أرسطو. كما
يعتمد على الملاحظات الشخصية، وبالتالي يظهر التنظير المباشر للواقع تدريجيًّا وهو
محك الإبداع بعد اختفاء الوافد والموروث. ويوصف الطير، وزنه ولونه وأمراضه وعلاجه
دون طباعه كما يفعل الجاحظ. ويستشهد بالشعر فيما قيل عن العقاب والصيد بالفهد،
وابتذال الملك نفسه في الصيد وصفة الظباء ومواضعها وأسنانها وصيدها ومنافعها،
والكلاب وخصائصها وصيدها وعللها ودوائها وفي الجوارح بوجه عام، وصيد طير الماء في
القمر بالبازي والباشق. ويشعر المؤلف بالجدة والابتكار فهو موضوع لم يسبقه إليه أحد
ولم يدونه أحد في الكتب.
٢٧ ولا يظهر الطير فقط كموضوع بل في علاقة الإنسان معًا في الصيد.
فالإنسان سيد الحيوان. وعقل الإنسان قادر على أن يكمل ما ليس لديه مثل الحيوان من
مظاهر القوة. فالحيوان بعد إنساني.
ولا يتجاوز الوافد عَلمًا واحدًا هو أرسطوطاليس من مئات الأعلام الموروثة. ويزيد
الوافد الشرقي على الوافد الغربي خاصة فارس بذكر أنوشروان وبهرام شوبيه وشهرام.
٢٨ ويذكر أرسطو الصيد كصناعة مثل البناء والفلاحة وتولد الفهد من سبع
ونمر، وإذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى يأكلها.
٢٩
ومن الموروث تظهر مئات الأسماء للأشخاص والأماكن يتصدر محمد الرسول ثم امرؤ القيس
والحسن بن هانئ ثم عشرات آخرون.
٣٠ ومن أسماء الأقوام يتصدر الترك ثم قبيلة كلب وبنو العباس وبنو هاشم والروم.
٣١ ومن الأماكن يتصدر النيل ثم المشرق والمغرب ثم الإسكندرية والعراق ثم
برلس، والشام، اليمن، وعشرات آخرون. وتتضح البيئة المصرية لأن المؤلف من مصر.
٣٢
وقد كان الأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل من الرماة. وكان الخليل بن أحمد صائدًا
وهو صاحب مذهب فيه. ويستشهد بأقوال المفسرين وبالملوك والحكماء وبالأحاديث في الصيد
وكذلك الزهاد والعباد الذين يعيشون على الصيد وبالمأثورات الشعبية «كليلة ودمنة».
وفي البسملات والحمدلات والصلوات على النبي تظهر صفات الله مستمدة من علم الجوارح.
فهو الذي خلق الطيور وأنواعها وطباعها وأجسامها حماية لها ودفاعًا عن نفسها،
أشواكها وريشها ومخالبها ومناقرها، وللإنسان طعامًا وزينة، حكمة الله في الخلق.
٣٣