ثانيًا: حضور الموروث وغياب الوافد
وقد ظهر الفكر الشيعي بعد عصر الترجمة. وكان من الطبيعي أن يعتمد على المعقول والمنقول. كان فكر المعتزلة قد انتشر قبل أن ينقلب الأشعري عليه.
ويصعب تحليل كامل لمضمون الفكر الشيعي لأنه يكاد يخلو تقريبًا من تمثل الوافد وأقرب إلى تنظير الموروث؛ إذ إن أهمية تحليل المضمون هو قياس نسبة الوافد إلى الموروث عن طريق تردد أسماء الأعلام خاصة. وذلك يثبت مقدار الاستقلال الحضاري عن الوافد ونشأة الفكر الفلسفي من الداخل دون استعانة بالخارج، وأنه يكفي تفاعل الأصول الأولى، الكتاب والسنة، مع الواقع السياسي الاجتماعي. وهو أحد أشكال الإبداع قبل أن يتحول إلى إبداع خالص، استقلال النص عن الوافد والموروث معًا.
(١) أبو جعفر بن منصور
(٢) السجستاني
-
(أ)
وفي «الينابيع» للسجستاني (٣٣١ﻫ) يغيب الوافد اليوناني كلية ويحضر الوافد الشرقي باعتباره ثقافة وطنية لحكماء الشيعة. كما يحضر الشعر العربي باعتباره ثقافة وطنية للسنة. فتظهر فرق الثنوية والمجوسية والبهافريذية في بيان أن الشر لا أصل له في الإبداع ضد ديانات الشرق في الينبوع الخامس والعشرين. فقد قالت الثنوية بالنور والظلمة. وقالت المجوس والبهافريذية بالهرمذ دون الأهرمن. واستنكفوا من جعل الشر مخلوقًا فجعلوه أزليًّا مع الخير. ثم اختلفت مذاهب الشرق. فبينما جعل أحدهما أن صاحب الخير يهلك وصاحب الشر في نهاية الزمان، مثل قتل المسيح الدجال، وقعوا في التناقض؛ لأنه يستحيل إهلاك الأزلي.٨ كما يغيب الموروث الفلسفي؛ لأن الفلسفة كانت وما تزال في بدايتها الأولى، تعتمد على التنظير المباشر للواقع دون قراءة لتراث فلسفي سابق. ويحضر الموروث الأصلي، القرآن ثم الحديث، ولفظ قرآن، وتاريخ الأنبياء، والكتب المقدسة السابقة مثل الإنجيل.٩ القرآن هو كلام الله بالحقيقة أي الأساس الذي اتحد بالسابق من جهة التأويل. ويظهر لفظا القرآن والإنجيل. ويقتبس من نص الإنجيل لإثبات الثواب الأبدي. فالدين واحد، والله منزه عن المنافع والمضار ضد التصور اليهودي. والترجمة العربية القديمة للإنجيل ترجمة عربية سليمة عكس الترجمات اللبنانية الحالية عن اللغات الأوروبية.١٠ويتم تأويل القرآن مثل يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ الياء والسين على الأتماء السبعة. وهم أصحاب أدوار حدود الدين المحركون للأنفس إلى العبادة والتصور. القرآن هو الأساس، والحكيم صاحب التأويل، والأئمة المنصوص عليهم من آل البيت، وكل ذلك داخل في حساب الحروف. ويذكر حديث واحد في معنى الشهادة «لا إله إلا الله مفتاح الجنة». والجنة كلمة الله تعالى التي بها أبدع الأشياء.١١والعقل الأول مبدع. خاطبه الله في كُنْ. ولا يخاطب إلا العقلاء. فلما بلغه الأمر إلى إظهار العالم السفلي أضاف الخلق والتقطير في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وجعل الظلمات والنور، فاطر السموات والأرض إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، لا إلى أمر كُنْ التي تعني علاقة الله بالعالم، والعقل لا يفسد. إذا جاء العقل أمر كن لم يزد عليه، ولم ينقص منه، ولا أتى بخلافه. الفساد كيفية والعقل لا يفسد.١٢ وتذكر آيتان قرآنيتان في كيفية ابتداء الإنسان. فالإنسان في جميع الأزمنة على نسق واحد كما دل القرآن على ذلك فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِق، وأيضًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ. والله لديه قدرة على إبداع خلق كثير على دفعة واحدة وليس بالضرورة من الإنسان الأول والتناسل كما هو الحال في الغنم والأبقار. كما خلق السموات والأرض دفعة واحدة. وخلق العالم في ستة أيام بنص الآية خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لأن الزوج المركب الذي يتلو الأربعة هو الستة. فالقرآن له تفسير عددي. والنفس لا تبلغ مبلغ المبدع بالرغم من عدم نفادها لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.١٣والثواب هو العلم الدائم وليس اللذة الحسية المنقطعة. وكل نفس تنال ما تشتهي. وفي ذلك تتفاوت الأنفس وتتفاضل. والثواب والعقاب أساس خلق الكون وإلا كان عبثًا. وتبعث النفوس إلى دار المعاد لذلك. وعلى النفس يلزم اللوم إن خالفت العقل.١٤وفي قصص الأنبياء وتاريخ الأديان يظهر عيسى ثم آدم ومحمد. ويخصص لعيسى الينبوع الحادي والثلاثين في معنى الصليب لعيسى ابن مريم. يعبر المسيح المصلوب عن الكشف وقد كان صلبه يوم الكشف يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ. عيسى هو صاحب يوم القيامة وعلامته كشف حقيقة الشرائع. وآدم ومحمد دوران من الأدوار الستة، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهم أولو العزم من الرسل عند المتكلمين. وهم ستة لأن الزوج المركب الذي يتلو الأربعة ستة.١٥ والهدى أمر النطقاء السبعة وهو المسجد الأقصى. وقد احتوت كلمات الأنبياء جميع ما في العالم الجسماني والعالم الروحاني من أقسام وحدود لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
-
(ب)
وفي «إثبات النبوات» للسجستاني أيضًا تغيب الإشارة إلى الوافد اليوناني كلية.١٦ ولفظ «الحكماء» لفظ عام. ولا يعني تعبير «أهل اليونان» أو النطوط أو الأنباط أي إحالة إلى حكماء اليونان بل مجرد أمثلة.١٧ ويحضر الوافد الشرقي سواء الشعوب والأقاليم مثل العجم ثم المجوس ثم الهند ثم السند والصين، ثم الهند والسند، والترك والجزر، والصقالبة، والسريانية، والعبرية، ثم الزنج والخزر. ومن أنبياء وملوك الشرق ماني ثم مزدك، وزرادشت، وبهافريد ومروى، ثم كسرى. ومن فرق الشرق الثنوية.١٨ومن الموروث يظهر القرآن ثم الحديث ثم لفظ القرآن. ويتفوق القرآن عشرات المرات لأنه حجة سلطة في مواجهة سلطة سياسية. ومن الأنبياء يذكر آدم ثم نوح ثم إسماعيل وإسحاق، ثم هارون ثم مريم. وتزداد أهمية الأنبياء صعودًا من المسيح ومحمد إلى آدم ونوح. ومن أنبياء بني إسرائيل شمعون ثم سام وأشعيا وشيث. ومن شخصيات التوراة ابن عمران، وزكريا، ويوشع ويحيى. ومن شخصيات تاريخ الأنبياء يأجوج ومأجوج، وهابيل. ومن شخصيات الإنجيل يهوذا. ومن الكتب المقدسة التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومن الفرق اليهود ثم الصابئة. ومن رؤساء الفرق المسيحية ديصان ومرقون. يستمد الفكر الشيعي أصوله من مدينة السماء المنتصرة لتقويته على مدينة الأرض الطاغية. فالماضي أقوى من الحاضر، والتاريخ أقوى من الدولة.١٩
ومن الموروث الإسلامي، يذكر من الأئمة علي بن أبي طالب، ثم الحسين بن علي، ثم علي بن الحسين، ومحمد الباقر، والصادق وجعفر. ومن الفرق الإسلامية القدرية، والرافضة، والحرورية والجهمية. ومن الفرق غير الإسلامية النصارى. ومن الشخصيات في التاريخ الإسلامي يزيد، ثم حامد، وخالد وخزيمة. ومن القبائل قريش. ومن الأسماء العربية أولاد يتيم، عدي، أمية، مسيلمة، طلحة، القطري، بنو مدلج، بنو أسد. ومن الأماكن الشهيرة بيت المقدس، نيسابور، ثم جبل الطور، وغدير قم، والشام، وتهامة، والمدينة. كما يذكر الإسلام والمسلمون، ثم العرب والعربية. هذا هو الواقع الذي يتفاعل مع الموروث الأصلي ليبدع فكرًا فلسفيًّا لا صلة له بالوافد اليوناني.
-
(جـ)
وفي «تحفة المستجيبين» للسجستاني كذلك لا يوجد ذكر للوافد اليوناني أو الشرقي.٢٠ ويستعمل لفظ الحكماء على العموم ليضم الوافد والموروث. ومن الموروث الأول يأتي القرآن ثم الحديث ثم لفظا القرآن ومحمد. ومن الأنبياء يذكر نوح، وإبراهيم، وإسماعيل وموسى، ويوشع، وعيسى. ومن أنبياء بني إسرائيل سام، وشمعون. ومن الأئمة علي، والحسن، والحسين، وعلي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وإسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسماعيل. فالأئمة خلفاء الرسل.٢١