(١) أفعال القول والبيان وجدل الكاتب والقارئ
واستعمال أفعال القول ومشتقاته عادة متبعة لدى كل المؤلفين وليست فقط قاصرة على
الوافد، أرسطو أو فلاسفة اليونان بل تشمل أيضًا الموروث، حكماء الشيعة والسنة.
وتأتي معظمها قبل القول في ضمير المتكلم المفرد «أقول» أو الجمع «نقول» أو الغائب
«يقول». فالمؤلف هو الذي يتكلم وليس الآخر الغائب. وضمير المتكلم الجمع أكثر من
ضمير المتكلم المفرد لأن المؤلف هو العقل الحضاري والوعي الجمعي وليس شخص المؤلف
بمفرده. وعادة ما يكون مقرونًا بالإضافة «كذلك نقول» من أجل تأكيد القول أو
بالتعليل «لذلك نقول» من أجل بيان السبب. وغالبًا ما يكون في زمن المضارع تأكيدًا
لحقيقة وليس في الماضي إثباتًا لتاريخ في صيغة «قلنا» إلا في معرض التذكير بالقول
السابق، وإحالة القول الحاضر إليه. كما يظهر فعل القول في توقع اعتراض المعترض وقول
القائل في صيغة «فإن قال قائل» والرد عليه بصيغة «قيل له» سواء كان الاعتراض من فرد
أو من جماعة «يقال لهم» في المضارع «يقال» أو في الماضي «قيل». وأحيانًا يستعمل اسم
القول مع فعل آخر مثل «أجمل» في صيغة المتكلم الجمع «ولنجمل القول». وتحليل هذه
الآليات من صيغ العبارات لا يقوم على إحصاء شامل ودقيق بل يكشف فقط عن مسار الفكر،
ويكفي في إدراك الدلالة باستقراء معنوي كما يقول الأصوليون أو باستقراء ناقص مبني
على مبدأ الاطراد كما يقول المناطقة الغربيون المحدثون. وهو ليس هدفًا في حد ذاته
بل مجرد كاشف لمضمون الفكر. قد يكون ثقيلًا، وقد لا يراه البعض دالًّا كليًّا أو جزئيًّا.
١
ويوضح المؤلف فكره، ويبين مضمون قوله، ولا يشرح فكرًا خارجيًّا لأرسطو أو لغيره.
لذلك يكثر استعمال فعل «البيان» في الماضي والحاضر سواء بضمير المتكلم وفعل إرادي
«نبين» أو بفعل لا شخصي «فقد بان أن» وكأن الموضوع يكشف عن نفسه، وهو الأكثر
شيوعًا. وقد يكون البيان مختصرًا أو مطولًا ولكنه إلى الاختصار أقرب.
٢ والقرآن نفسه بيان، والله هو المبين كما تظهر أفعال الشرح والتوضيح.
فالشرح فعل مستمر للعقل. وقد يذكر بالاسم مثل شرح وتوضيح. وقد يجمع بين فعلين.
٣
والفكر الشيعي ليس مجرد تعبير عن أزمة اجتماعية وسياسية بل هو فكر برهاني يقوم
على إثبات الموضوع، وينتهي بالإعلان عن ذلك. وتنتهي معظم عبارات نهايات الفقرات
بالأداة «إذن» كما هو الحال في العلوم الرياضية أو بأسماء الإشارة «هذا» أو «هذه»
للإعلان عن الموضوع المطلوب إثباته. كما تستعمل أفعال «ثبت»، «صح»، «ظهر»، «وجب»،
«بان» لنفس الغاية. وقد تبدأ العبارة بفعلين مثل «فقد بان وصح». وأحيانًا يتم
الإعلان عن النتيجة بالقول «قلنا إذن». وأحيانًا تكون النتيجة معروفة للقارئ، وتتم
مخاطبته بفعل «فاعلم» و«فعلمت» في الماضي أو «فتعلم» في المضارع. فالنتيجة
والاستدلال له،
٤ كما تدل بعض الأفعال مثل ذكر، قدم، أورد، أخبر، رجع، عاد، سبق، على
إحالة الفكر إلى نفسه. يضع الفكر نفسه ثم يعود إلى ما وضع. يضع المقدمات ثم يُرجع
النتائج إليها. ويظهر الاستدلال في صيغ العبارات الشرطية، فعل الشرط وجوابه مما
يشير إلى مسار الفكر من المقدمات إلى النتائج، وأحيانًا في عبارات التعليل لبيان
الأوسط الذي يربط بين النتائج والمقدمات.
٥
ويحيل المؤلف الشيعي إلى عدة مؤلفات ليست له. فيذكر كتاب الحيوان بطريقة لا شخصية
دون ذكر أرسطو. فقد أصبح الكتاب ملكًا للجميع، عنوانًا لعلم بصرف النظر عن صاحبه
الذي مات. تحول الوافد إلى موضوع مستقل. ويشار إلى كتب مفكري الشيعة الآخرين مثل
عبدان. وقد يشار إلى مؤلفه ويتحدث عنه مبينًا غرضه وتكامل مشروعه الفكري. وقد يحال
إلى باقي مؤلفاته الأخرى التي تعرض لنفس الموضوع. ولا تخلو العناوين من جمل تدل على
الموقف الفكري والنفسي والحضاري مثل «تحفة المستجيبين»، «الينابيع»، «الأصول
والأحكام»، «الابتداء»، «العالم»، «المعاد»، «الكامل»، «النبوات»، «راحة العقل» … إلخ.
٦
ويخاطب المؤلف القارئ بفعل «اعلم». فهو صاحب رسالة يريد إيصالها إلى الناس.
والعلم رسالة متبادلة بين المؤلف والقارئ، ذو طابع شخصي بين المتكلم والمخاطب دون
الغائب، أرسطو أو غيره. وقد يشفع بالعلم «يا أخي» تأكيدًا لرابطة الأخوة بين الاثنين.
٧ وقد يشفع بفعل الأمر «اعلم» بدعوة قصيرة مثل «أيدك الله» أو بدعوة أطول
لإعداد القارئ نفسيًّا وتأهيله لقبول الرسالة، دعوة له بالخير كما هو الحال في
رسائل إخوان الصفا. وقد يستبدل بفعل «اعلم» فعل «اعرف» أو «تفهم».
٨ وقد يكون النص إجابة على سؤال في عدة صيغ مثل «لقد سألت عن»، «وأما
سؤالك عن»، «وأما ما سألت عنه» كما هو الحال في الفتاوى الفقهية بل وفي القرآن في
الآيات التي تجيب على أسئلة في صيغة «ويسألونك عن».
٩ وقد يكون الدعاء للمتكلم والمخاطب، للمؤلف والقارئ دون فعل «اعلم» مع
مخاطبة القارئ في صيغة الجمع تأكيدًا للتقدير والاحترام. ويتحول الدعاء إلى رجاء من
المؤلف إلى القارئ بالمبادرة إلى رحمة الله خشية ضياع الوقت وفوات الأوان
والاعتبار، والنظر في حال الدول، نهضتها وسقوطها.
١٠
وكما تتم مخاطبة القارئ في البداية إشراكًا له في الموضوع تتم أيضًا مخاطبته في
النهاية لتوصيته وتحذيره. وهو خطاب فلسفي خالص، مغرق في الفكر الشيعي مثل تحذير
القارئ من عدم طلب هوية وراء السابق بعد ظهوره لأن الكلمة علته. كما يلجأ الخطاب
إلى كشف مأساة الإنسان في الحياة، وانغماسه في الحياة المادية، وإشراق جوهره من
الحياة الروحية. ويطالب القارئ كما يفعل الصوفية بالتجرد عن أثقال البدن حتى تخف
الروح وتشاهد بواطن القلوب، والسبع الطباق مشاهدة الذات للذات. هذا الإغراق في
التصوف تعويض عن مآسي الحاضر. وهو ما يتسم به فكر المضطهدين من أجل الخلاص في
المستقبل. والغاية سلب القارئ من إرادته وتخليصه من عالمه، وإدخاله في عالم الخلاص
الوهمي لطاعة قيادة جديدة يكون لها النصر في المستقبل. ويتم الاعتماد على الأسلوب،
السجع والبيان من أجل التأثير في النفس. فالحقائق صور وليست وقائع في الخارج. تهبط
من العالم العلوي ولا توجد في العالم السفلي كما هو الحال في نظرية الفيض، من
الأول، الفرد العلوي المبدع إلى الثاني الزوج المنصت … إلخ. وتظهر لغة النور
والظلمة، النور صعودًا والظلمة هبوطًا، النفس والبدن. والطريق إلى ذلك البحث عن
إمام الزمان، والسلوك في دعوته، وطاعة أوامره. فهو فكر يهدف إلى إقامة تنظيم سري
باسم الحكمة، وجذب البساط من تحت النظام القاهر، كلها إنسانيات وعاطفيات من أجل
التعارض بين عالمي الواقع والخيال، والدعوة إلى الانسلاخ عن العالم تعويضًا أو
هروبًا. تقوم على التشبيهات والتحليلات النفسية، والسجع والإنشاء، والمترادفات
العقلية التي لا تدل على شيء. وأحيانًا تكون الدعوات مشتركة بين المؤلف والقارئ بأن
يجعلهما معًا من أنصار التأويل واتباع الشريعة. والإيمان بالرسل، والاعتماد على
العقل، وعدم اختيار الإمامة بالأهواء.
١١
وتظهر البدايات والنهايات الدينية الإيمانية في أول الرسائل وأواخرها. فتبدأ
بالبسملة بمفردها أو مع الاستعانة بالله. وتتكرر عدة لازمات مثل «الحمد لله الموفق
والشكر للملهم» أو «إن شاء الله تعالى» أو «تبارك الله أحسن الخالقين» في قائمة
المقالات. فالعلم اللدني أقوى أثرًا وأشد يقينًا وأعظم صوابًا من العلم البشري الذي
يقوم على الأهواء والصراعات وظلم الظالم وتسلط المتسلط. وهناك نهايات أخرى غير
نمطية تصلي وتسلم على الرسول وآله. وقد تجمع لازمتين مثل «إن شاء الله تعالى وبالله
التوفيق» أو «وبالله التوفيق» وحدها.
١٢ ولا يهم إذا كانت هذه النهايات من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو
المالك. فالوثيقة عمل جماعي. فبعد الدعوات والحمدلات والصلوات يضع الناسخ اسمه
طالبًا أيضًا المغفرة ومعبرًا عن أحواله وبلده وساعة الفراغ منها. ولا توجد في كل
الرسائل عبارات النساخ ولكن فقط الحمدلات والصلوات وأحيانًا التعبير عن الانتساب
للدعوة الإسماعيلية.
١٣
وفي الخاتمة قد لا يوجد فرق أحيانًا بين أهل السنة والشيعة في الدعوة إلى السلطان
القائم. فالسلطة والمعارضة كلاهما طلاب سلطة. فتدعو الرسائل إلى إمامة المعز لدين
الله الفاطمي وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المتممين. بل إنه اعتبر مفكرًا وكاتبًا
وصاحب رأي سديد ومقياسًا للفكر برفض تعدد الآلهة والتناسخ. وهو منصوص عليه ليس فقط
في سلسلة الأئمة بل في الكون. فإذا كان الكوكب الدري دليلًا على عبد المطلب
بن عدنان فإن السابع الثاني أتى من المغرب وهو صاحب الهجرة المصرية المعز لدين الله
الفاطمي؛ بل إنه كاتب ومؤلف. وفي خلاف بين رجلين حول معرفة الإمام بالغيب بين
الإيجاب والسلب، رفض النعمان الفصل في الخلاف تملقًا للسلطان الذي أفتى بأن الغيب
على ثلاثة أنواع: ما احتفظ به الله، وما هو مخزون لصاحب القيامة، وما هو محتاج إليه
في الشريعة.
١٤
(٢) الألفاظ والمصطلحات
وتظهر أحيانًا بعض الألفاظ المعربة مثل «الكروبي» لوصف الملائكة والجن، وهو لفظ
يوناني تم تعريبه أو عربي. وبين كل لفظ ومعناه مناسبة خاصة. فلو ترجم اللفظ إلى آخر
قد يتغير المعنى. وبتعبير آخر، بين الخاطرات واللغات مناسبات روحانية وشاكلات
نفسانية، بالسريانية أو بالعبرانية أو بالعبرية، ولكل منها أسلوبها. فإذا ما تم
التعبير عنها في مشكلة أخرى تغير الأسلوب،
١٥ وتظهر ألفاظ أخرى معربة مثل الأسطقس، السقمونيا أو ألفاظ مترجمة مثل
الأركان بمعنى الأصول. ولا تعني «العناصر» ترجمة للفظ اليوناني «أسطقسات» بل تعني
الأسس الثانية لأي شيء وهو المعنى العام مثل أركان العالم.
١٦
واللفظ العربي الغالب الذي تم نحته تلقائيًّا عند الكندي هو لفظ الأيس مفردًا
والأيسيات جمعًا، وأيس فعلًا والليس نفيًا، وقد تصل كثرة الاستعمال إلى حد الركاكة
وتغليب المصطلح على سلاسة الأسلوب، بل يظهر في الأدعية الأولى مع البسملات
والحمدلات مما يدل على شيوعه وألفته وتحوله من مصطلح فلسفي إلى لغة الحياة اليومية.
والغالب هو الأيس ثم الأيسية والأيسيات واسم الفاعل مؤيس ثم اسم الفعل تأييس،
والنفي ليس. وقد تضاف صفة إلى اللفظ مثل الأيس الأول، والأيسيات الأرضية، والأيسية
الإنسانية، والأيسية الحيوانية. وقد توضع الصفة قبل الاسم مثل «أول أيس». يوضع
اللفظ في عديد من العبارات الفلسفية مثل: المعاني تجعل الأيس ثانيًا. والأيس لا
يصير ليسًا، وأول أيس صور الأشياء كلها، والموجودات متساوية في حيز الأيس.
والأيسيات متناهية. والله هو الذي جاء بتأييس الآيات لا من أيس.
١٧ وتستعمل الأمثلة العربية مثل «زيد»، «خالد» في القضية، موضوعًا أو
محمولًا أو مضافًا إليه.
١٨
ولا تظهر بعض الألفاظ اليونانية وحدها بل تظهر بعض الألفاظ من اللغات الشرقية مثل
السندية والهندية والتركية والفارسية والزنجية. فهي مختلفة بالعبارة وفي مخارج
حروفها، الحلق واللسان والأنف والشفتين. ولا يعني هذا الاختلاف في الحروف والمخارج
أن تكون لكل لغة آلة وأداة خلاف اللغة الأخرى. هناك علم اللغة العام وعلم اللغة
الخاص، وهي التفرقة المشهورة بين علم اللسانيات وعلم النحو.
١٩ ومهما تعددت أوضاع الرسل وتباينت شرائعهم فإن معدنًا واحدًا يتصلون به
وإليه يدعون، ولغة واحدة وهدفًا واحدًا. فتعدد اللغات لا ينفي وحدة القصد. وقد قيل
إن أول صلاة فرضت تسمى بالفارسية «مارنين».
٢٠
ولفظ «الحكماء» هو اللفظ الموروث وليس لفظ الفلاسفة وهو اللفظ اليوناني الوافد.
وقد يتم تخصيصهم بالحكماء المنطقيين أي البرهانيين.
٢١ ولا يذكر المفرد إلا نادرًا. وهم فرقة مثل المتقدمين والروحانيين. أما
لفظ الفلاسفة فيستعمل على الإطلاق. ونادرًا ما يتم تخصيصه بالفلاسفة اليونانيين.
ولا يعني لفظ «الحكماء» المعنى اليوناني العتيق، محبة الحكمة بل يعني العلماء في
مقابل الجهال السفهاء. كلامهم مستمد من كلام الرسل، فالعقل والنقل بتعبير المتكلمين
شيء واحد، ولا فرق بين كلام الحكماء وكلام الرسل أولي العزم. وكما قسم الحكماء
الحكمة إلى علم وعمل كذلك فعلت الرسالة. فالحكيم له أستاذ وهو الرسول، والرسول له
أستاذ مثل الحكيم. ومع أن الفلاسفة ليسوا من نسل النبوة إلا أنهم توصلوا إليها. فلا
فرق بين التنزيل والتأويل، بين الشريعة والحكمة، بين الوحي والعقل. ويستعمل اللفظ
في معنيين، إيجابي وسلبي ومحايد. المعنى السلبي موضع نقد، والإيجابي موضع تأييد،
والمحايد مجرد عرض لعلوم الحكماء. والسلبي هو الأكثر شيوعًا مما يدل على الموقف
النقدي لحكماء الشيعة،
٢٢ والمعنى المحايد مثل قسمة الناس إلى أبرار وأتقياء وعلماء وحكماء مقابل
الفجار والأشقياء والجهال والسفهاء. وهو معنًى يقبله العقل ولا يعارضه النقل.
والحكماء هم أساسًا المناطقة وتعريفهم للإضافة أي النسبة وتقسيمهم الضد ثلاثة
أقسام، والجنس أربعة أقسام، والحكمة ثلاثة أقسام علم الطب والصناعات، وهو العلم
اللدني، وعلم التنجيم وحركات الأجرام العلوية وهو العلم الأوسط، وعلم اللاهوت، وهو
العلم الأعلى. أما العمل فهو أيضًا ثلاثة أقسام، سياسة العامة، وسياسة العامة
الخاصة، وسياسة الخاصة. وهي نفس القسمة للنبوة والرسالة؛ إذ إنها أوجبت معرفة الله
ومعرفة السموات والنجوم والأرض والتفكر فيها، ومعرفة الأبدان، منافعها ومضارها،
ومعرفة السياسات العامة والخاصة.
٢٣
ومع ذلك يظل التمييز بين الحكمة والنبوة قائمًا. فسياسة العامة عند الحكماء تعني
بناء المدن، وكيفية اللباس في حين أنها في النبوة إقامة الصلوات، وتسبيح الله،
وإيتاء الزكاة وتوزيعها على الضعفاء، ووضع ناموس شرعي به صلاح الناس. والحقيقة أنه
لا فرق بين الاثنين. فالسياسة العامة عند الحكماء والأنبياء إعمار الأرض، والشعائر
في النبوة مؤسسات اجتماعية وعمرانية. وضع الحكماء أساس المدينة الفاضلة للناس كما
وضع الأنبياء أسس الشريعة للأمة. وقد يكون الفرق بين الحكماء والأنبياء أن المعاني
اللاحقة في أنفس الحكماء غير كاملة لأنهم وصلوا إليها بالمقدمات والقضايا المقترنة
المتعاونة أي بأساليب البرهان وليس بالوحي المرسل، بالتأويل وليس بالتنزيل. وهو
تمييز غير دقيق. فالبرهان هو الطريق إلى التنزيل، وما لا دليل عليه يجب نفيه.
والتنزيل نفسه يطالب بالبرهان، ويجعل النظر أول الواجبات. وقد يوجد فرق آخر بين
الحكماء والأنبياء هي العبارات والمصطلحات مثل جبريل وميكائيل. هي معانٍ عند
الحكماء وصور عند الأنبياء. فالخلاف في اللفظ وليس في المعنى. ما يسميه الحكماء
العقول والنفوس المفارقة يسميه الأنبياء الملائكة. قام الحكماء بعملية التشكل
الكاذب، استبدال الألفاظ الجديدة ألفاظ الحكمة بالألفاظ القديمة، ألفاظ الدين. لذلك
قال بعض الحكماء الاسم غير المسمى وهو دليل عليه. وكانوا على وعي بهذا الاستبدال
اللغوي بدلًا من الباري استعملوا ألفاظ الموجود الأول، المبدأ العقلي، القوة
الفاعلة، وهو ما أطلق عليه الحكماء أيضًا أسماء العقل أو القلم فكان منها أثر منفعل
هي النفس الكلية. فالفيض عند الحكماء هو إحدى صور الخلق عند الأنبياء. ومع ذلك يمكن
الاعتراض بأن المعارف موجودة من دون الرسل، وأن الحكماء قد استطاعوا الوصول بالعقل
الصريح إلى الحكمة ومِن ثَم يكون السؤال: وما وجه الحاجة إلى الرسل؟ والجواب أن
الحكمة تلقين من أستاذ إلى أستاذ، ولا يوجد أستاذ أول. في حين أن في النبوة هناك
تعلم من الرسول الذي في غنًى عن الأستاذ. وهي حجة أشبه بإثبات وجود الله واستحالة
التسلسل إلى ما لانهاية. وقد توصل الحكماء إلى بعض المعارف. منهم أطباء ومنجمون
ومهندسون وموسيقيون.
٢٤
والمرة الوحيدة التي أشير فيها إلى الفلاسفة اليونانيين فلبيان حدودهم وقصورهم عن
النبوة بالرغم من محاولاتهم الوصول إلى حقائقها. وكل من أراد إدراك النبوة من
المذاهب الأخرى، يونانية أو غيرها لم يستطع حتى لو بذل أقصى الجهد. فقد وضع فلاسفة
اليونان أصولًا كثيرة من الطبيعيات والرياضيات حتى استطاعوا من خلال الرياضيات
إدراك الروحانيات ولكنهم قصروا في إدراك عالم النفس والعبادة، الأمر والنهي، والوعد
والوعيد. وأقصى ما وصلوا إليه حكايات ورموز متناقضة لا برهان عليها على عكس ما أتى
به الرسل الذين سبقوهم وإقرارهم بالمبدع، إرادته وخلقه وكأن المحك هي صور المعاد.
وهذا ظلم للحكماء لأنهم أيضًا أثبتوا خلود النفس، ثوابها وعقابها. والرموز
والحكايات مشتركة بين الحكمة والشريعة، بين الفلسفة والدين. كما استعمل الفلاسفة
البراهين والأدلة على وجود المحرك الأول ووحدانيته. فالفكر الشيعي هنا أقل انفتاحًا
من الفكر الفلسفي الخالص الذى وحد بين الفلسفة والدين كلية، ومِن ثَم ظل أقرب إلى
الكلام منه إلى الفلسفة. وقد ذكر الحكيم مرة واحدة، وبطريقة لا مشخصة في علاقة
النظر بالعمل، النظر ممهد للعمل، ونهاية الفكر أول العمل.
٢٥
وقد يعني الشيعة بالحكماء أئمتهم أي حكماء الشيعة خاصة. فقد خلق الله السموات
والأرض في ستة أيام عند الحكماء وذلك على النطقاء الست. كما أن صفات الفعل هم
الحكماء الأربعة وأوصياؤهم الأربعة. وقد صرح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن
الحكماء المطيعين للأئمة علموا أن الشهادتين تدل على حدود الله. وهي نفي وإثبات.
وهي ثلاثة حروف: ألف ولام وهاء إله تشمل جميع ما خلق الله، وما سن من شرائع نظرًا
للتطابق بين الحروف والأشياء والشرائع. وعند الحكماء يتم توارث الإمامة ولدًا عن
ولد، يمدون حججهم ولواحقهم بالتأييد. وبهذا المعنى يذكر أحد الفلاسفة أن أول ما يجب
على أبناء الحكمة، معرفة هذه الحدود ومراتبها والإقرار بها، ومعرفة الإمام الذي لا
مثيل له ولا نظير له في كل عصر وزمان. كما أن لفظ المتقدمين مثل الأوائل ليس حكرًا
على اليونان بل يعني متقدمي الشيعة. وهناك الروحانيون أيضًا الذين يحكم بينهم
الرسول أو الأئمة من الأولين ومن الآخرين إذا كان الرسول هو الابتداء والانتهاء.
٢٦
(٣) التأويل
والتأويل إحدى آليات الإبداع لأنه قدرة على إنطاق المسكوت عنه في النص وتمثل ما
في النص من تجربة شعورية تطابق واقع الاضطهاد وتتفق مع نفسية المضطهدين، وضرورة
إيجاد تأويل جديد يعارض تفسير السلطة القائمة ويشرع للمقاومة. لذلك استشهد حكماء
الشيعة أو سجنوا بينما استوزر كثير من حكماء السنة. وقد يصل حد التأويل إلى وقوع في
الباطنية والدخول في أعماق النفس وأعماق النص بعيدًا عن الظاهر الذي يستأثر به
السلطان وحكماء البلاط حتى يأتي يوم يثور فيه الداخل على الخارج، والعمق ضد السطح،
والإمكان ضد الواقع، والإبداع ضد التقليد، والحركة ضد الثبات. ويدل على ذلك عنوان
«الينابيع» للسجستاني. يتم تركيب القرآن على المضطهدين، علي وآله. لذلك ارتبط الفكر
الشيعي بالمسيحية، استشهاد الحسين وصلب المسيح. كما تتعاطف المسيحية مع الشيعة
تعاطف النموذج الفريد مع النموذج المتكرر مثل صلب الحلاج، والمسيح يصلب من جديد.
الكشف عن الساق من السجود مثل صلب المسيح على الخشبة مكشوفًا وإن كان قلبه مستورًا.
٢٧
ومن كثرة التأويل استحال وجود فكر مجرد بل مجموعة من التأويلات المذهبة الشيعية
ضد التأويلات المذهبة السنية. والعجيب اتفاق الآية مع الواقعة وكأنها نزلت عليها
مما يجعل التأويل أداة في يد كل صاحب قضية ظالمًا أو مظلومًا، على حق أم على باطل.
والعجيب اتفاق القرآن مع مذهب الشيعة. موضوعيًّا أو ذاتيًّا أو قراءة. ربما أن
القرآن بطبيعته حمال أوجه قادر على أن يكون منقرئًا لكل قارئ؛ لذلك أعجب به فلاسفة
التأويل شرقًا مثل الشيعة وغربًا مثل الهرمنيطيقا الغربية المعاصرة.
٢٨ وربما يوحي اتفاق الآية مع التفسير الشيعي والسني في آن واحد أن القرآن
صورة بلا مضمون، قادر على أن يحتوي كل المضامين الممكنة. وهذا هو أحد معاني
التشابه.
نشأ الفكر الشيعي من تأويل القرآن وحده، قراءة الواقع في النص، والنص في الواقع
وكأن الواقع الشيعي الخاص سبب نزول جديد. وقد كثر القرآن إلى حد تكراره وتقطيع
الآيات. ولم توضع الآيات في النص بين قوسين، فلا فرق بين النص والآية خاصة وأن محقق
النص شيعي أيضًا، والقرآن يساعد على التشخيص نظرًا لأسلوبه الإنساني. فالله يخاطب
السموات والأرض والجبال كما يخاطب الإنسان. بل ويشخص الأشياء مثل جدار يريد أن
ينقض، وإجابة الأرض والسماء
قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ كنوع من التصوير الفني والتعبير البلاغي والأسلوب الأدبي في
عصر الشعر وعند أهل الفصاحة. ويكون ذلك تقوية للخطاب الفلسفي في نشأته لما تتصف به
الآية من بلاغة وقدرة على التأثير في النفوس.
٢٩ التأويل رغبة في شد القرآن إلى الوضع النفسي المتأزم والعالم الضائع
كنوع من التأييد المعنوي للذات. ومن تخلف عن التأويل لا يحيط بحقيقة الشيء، ويقع في
التشابه والشك. لذلك كان العلم بالتأويل هو علم بالانتهاء والإحاطة.
ويشمل التأويل تأويل النص وتأويل الواقع. فالمولود يخرج من بطن أمه باكيًا نظرًا
لدخول الهواء الرئتين، وخروج الصوت عند الأطباء، وحزنًا على العالم كما يُؤَوِّل
الشعراء، وأحيانًا يكون التأويل من الكون إلى الشرع، من العالم إلى الإنسان، من
العام إلى الخاص، وأحيانًا من الشرع إلى الكون، من الخاص إلى العام. يحول النص إلى
خاص، والخاص إلى أخص، والنص إلى شيء دون الاكتفاء بالدلالة اللغوية. فاللفظ يحيل
إلى المعنى، والمعنى يحيل إلى الشيء، ويكمن جمال التأويل في تحويل الخارج إلى
الداخل، والداخل إلى الخارج كما هو الحال عند الشعراء.
٣٠ وفي القرآن
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ
* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ،
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، تقابل العالم الصغير والعالم
الكبير عند إخوان الصفا، وعلم الميزان عند الكرماني. لذلك يختار الشيعة الآيات التي
بها ظاهر وباطن مثل الحجاب، قصة عيسى ومريم وزكريا، موسى والخضر، لذلك اشتق لفظ
القرآن من القران أي الربط بين شيئين والجمع بين طرفين كما هو الحال عند إخوان
الصفا التي خرجت من نفس البيئة وتحت نفس الظروف. التأويل هنا شيئي يقوم على
المطابقة بين الكلمة وما تشير إليه في الخارج. ولا يختلف ذلك عن التفسير التاريخي
عند أهل السنة. مطابقة الوصف القرآني للحدث التاريخي. إنما الخلاف في التاريخ
المختار، تاريخ السلطة عند السنة وتاريخ المعارضة عند الشيعة، تاريخ الدول عند
السنة وتاريخ الشعوب عند الشيعة.
والفكر الشيعي كله يقوم على التأويل أي تحويل المنقول إلى معقول دون برهان علمي
أو عقلي رصين باستثناء التجارب النفسية والمواقف السياسية. ويتراوح استعمال المنقول
والمعقول في ثنايا النص. وعادة ما يبدأ بإحكام عقلي في البداية ثم تظهر الشواهد
النقلية بعد ذلك متقطعة حتى تصبح بديلًا عن الخطاب العقلي. ثم تتكاثر حتى تصبح كل
شيء، ويصبح الفكر الفلسفي الشيعي مجرد إسقاط الأحوال النفسية الفردية والاجتماعية
على النصوص وقراءة النصوص عليها بلا توسط من وافد أو موروث. وأحيانًا تذكر الآيات
دون وضعها بين قوسين كبديل عن الخطاب الفلسفي وكأنها معبرة بذاتها وليست في حاجة
إلى صياغة نظرية عقلية. وتستعمل بديلًا عن الأسلوب في بناء الموقف وعند الحوار.
وأحيانًا تكون الآية جزءًا من آية يتم تفسيرها ثم يأتي الجزء الآخر وكأن الآية تدخل
في النسق العقلي جزءًا جزءًا مثل آية
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فكثر الآيات حتى إنها لتصبح بديلًا عن الخطاب
الفلسفي. ولا توضع بين قوسين بل تستعمل كأسلوب حر كما هو الحال في النصوص الفقهية
أو عند الجماعات الإسلامية المعاصرة لإيهام العامة وتجريدها باستدعاء سلطة النص
مقابل استعمال أئمة الظلم. فالنص سلاح ذو حدين. ولا يفل الحديد إلا الحديد.
٣١
ويدل القرآن الحر على أنه لا فرق بين الآية القرآنية والخطاب الفلسفي. إذ يقوم كل
منهما بدلًا من الآخر على التبادل. كما يدل على أن الفكر الفلسفي قريب من مصدره،
وأنه لا يتداخل بين المصدر والفكر الفلسفي أي مصدر آخر وافد أو موروث. كما يدل على
أن التنظير العقلي التلقائي ما زال في بدايته. مساحته ما زالت قليلة. وأحيانًا تكون
الآية حرفية ولكنها متداخلة مع الخطاب الفلسفي بلا بداية ولا نهاية. وأحيانًا يبدأ
الخطاب بقال الله تعالى، ولكن القرآن أقرب إلى النقل بالمعنى وليس حجة نقلية.
وأحيانًا يبدأ الخطاب بقرآن حر وينتهي بقرآن حر وكأن القرآن الحر هنا بديل عن
الخطاب الفلسفي.
ويستمر ذلك عبر العصور حتى القرن الرابع عند السجستاني والقاضي النعمان وحاتم
بن عمران. ويبدأ بالاختفاء كلما زاد التنظير العقلي وملأ مساحة كافية بين النص
كمصدر وبين الخطاب الفلسفي كتنظير له.
٣٢ وابتداءً من القرن التاسع لم تعد الآيات تثبت شيئًا، ولا تدخل في منطق
الفكر بل تظل خارجه، مجرد رصد لتكملة الخطاب الديني. وكلما تأخر الزمان قل الإبداع
وزادت لحظة الإنشائيات مع عناوين تغلق الاجتهاد، وتعلن الكمال مثل «الكافية».
وتستمر طريقة تفتيت النص وتخريج المناط وبيان كل جزء إلى أي شيء يشير مثل التفسير
الشيعي في علوم التفسير. يبدأ التفسير بالواقع، والإنسان الحي، وينتهي بالخيال،
المنتقى الروحاني.
ويستعمل لفظ «القرآن» كثيرًا مما يدل على أنه المصدر الوحيد، والمرجع الأوحد في
الفكر الفلسفي الشيعي، وأحيانًا يبدو مشخصًا وكأنه كائن حي مثل الأتماء السبعة،
والأساس، والحكيم، وصاحب التأويل. وهو كلام الله. ينطق بالحق منزل من اللوح
المحفوظ. ومن هنا جاء شرفه، على قلوب الناس، ويخاطب كل مؤمن كما يخاطب النبي يدخل
في قلوب المؤمنين، في القلب وفي الطبيعة، في الداخل وفي الخارج، وأحيانًا يتحسر من
القلب ويتحسر على الطبيعة فلا يبقى منها إلا رسمه، ويصبح حبرًا على ورق. وهو معجز
لأنه لا يخلو منه شيء من ضروب الكلام، ومليء بالأعاجيب، وبه من الحكمة بلاغة وأداء.
له ظاهر وباطن، ويسمح بالتأويل. يخاطب المستحق في منزلة استحقاقه، يعطي كل شيء
وصفه، ويضع كل شيء في موضعه. فالقرآن والطبيعة عالم واحد. وهو هيولى لسائر العلوم
الرياضية والعقلية، ومعدن معرفة الحدود الروحانية للقائمين بالقسط المؤمنين بمثالهم
ودليلهم. يمدح خلق الأنبياء. ودور القرآن هو دور محمد، خاتم الدائرات العظمى. هو
الدور السابع، خاتم الدائرات، ومنتهى السدرة طبقًا للسبعة التي في القرآن: محمد،
وأحمد، ويس، والمزمل، والمدثر، والضحى. وله أربعة عشر اسمًا، سبعة مذكورة وسبعة
أخبر هو بها.
٣٣
ويظهر التأويل العددي للقرآن أولوية العدد سبعة بالرغم من أن القرآن يذكر الأعداد
كلها من الواحد حتى الثاني عشر بلا تفضيل، وكذلك المائة والألف. فالسموات سبع طباق
أي النطقاء السبعة. التأويل العددي له ما يبرره، وجود الأعداد في القرآن. وبضربها
وجمعها وقسمتها دون طرحها، فالطرح سلب ونقص، تخرج أعداد أخرى مثل السبع عشرة ركعة
مجموع الصلوات الخمس، وتكبيراتها أربع وستون، وتسليماتها خمس. فيكون المجموع تسعًا
وتسعين، عدد أسماء الله الحسنى. ويتكرر نفس التأويل لنص جديد. والقرآن نفسه هو الذي
يعطي الأولوية للعدد سبعة. وتتعدد الحسابات وتنتهي كلها إلى العدد المطلوب إثباته
مثل العدد تسعة وتسعين الذي قد يثبت أيضًا السبع المثاني، والأربعة عشر نبيًّا،
حججًا ظاهرة، واثني عشر نبيًّا حججًا باطنة وست مراتب للإيمان: المؤمن، والمحرم،
والمحل، والمأذون، والمباح، والحجة نقلًا لأحكام التكليف الخمسة فيكون العدد تسعة
وتسعين. الكواكب سبع طوالع، والبروج اثنا عشر، وكلاهما تسعة عشر. وأحيانًا تدخل
الكواكب في الحساب، السبع سموات، والسبع الأرضية. والسبع الشداد وما بينهما،
فالكواكب لا تدبر بنفسها لأنها لا تعقل بل لأنها ترمز للملائكة. الكواكب المثل،
والملائكة الممثول. ولأول مرة يظهر المصطلح عند القاضي النعمان وإن لم يظهر عند
السجستاني. فهناك اثنا عشر ملاكًا روحانيًّا، وتسعة عشر ملاكًا لحراسة النار. فلا
فرق بين أسماء الله الحسنى ومظاهر الطبيعة في العدد. كلاهما تسع وتسعون. ويتم تكييف
حساب الملائكة والأجرام والسموات والأرض وما بينهما بحيث ينتهي الحساب إلى هذا
العدد. ومِن ثَم يخطئ المنجمون في اعتبارهم أن هذه الكواكب الظاهرة هي المدبرة.
وكيف تكون كذلك وهي جماد لا عقل لها ولا نفس؟ وكيف تكون مدبرة والله هو المدبر؟
ومِن ثَم يكون تصور الشيعة للكواكب أفضل من تصور الفلاسفة الذين جعلوها نفوسًا
وعقولًا وحياة عوالم متوسطة بين الله والعالم الطبيعي.
٣٤ وبالرغم من أن السابع من النطقاء هو الآخَر إلا أنه لأجله خلق النطقاء
الستة الأولى. وهو ما يشبه قول المسيحيين عن علاقة المسيح بأنبياء بني إسرائيل.
بالرغم من أنه آخرهم إلا أنهم خلقوا أو تكرروا لأجله. فالوسيلة تؤدي إلى الغاية،
والغاية تخلق الوسيلة. الخلق في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع.
الأيام سبعة، والنطقاء ست، والسابع القائم عليهم. وبينهم أئمة مستوون.
ويتكرر التأويل العددي عند أكثر من حكيم شيعي. ويستأنف قيس بن منصور في
«الأسابيع» ما بدأه
بِسْمِ اللهِ سبعة حروف
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اثنا عشر حرفًا تدل على الأئمة
السبعة والحجج الاثني عشر. والملائكة الموكلون بجهنم تسعة عشر كما يظهر التأويل
العددي في أحاديث الرسول في التوحيد بين يوم الصوم ويوم النحر وبينهما تسعة وتسعون يومًا.
٣٥
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أفضل الصفات
وأعلاها لأنها أربع تدل على الأصول الأربعة.
والسؤال الآن: هل التطابق بين الأعداد والحروف مصادفة أم أن له ما يبرره في
الواقع والحقيقة؟ هل هو مجرد رغبة عند الإنسان الفصامي في البحث عن الاتساق؟
وأحيانًا يتحول التفسير العددي إلى فلسفة في التاريخ عن الأيام وتداولها بين الناس،
وأن علامات الدول، بدايتها ونهايتها ليس الحرفيون بل النطقاء السبعة مثل الأنبياء
بين أقوامهم. فكل نبي دور، وكل ناطق دور، وقوانين التاريخ لا تتغير.
٣٦
ويقوم التأويل على حساب الحروف والجمل. ويأتي في المقدمة العدد سبعة ومشتقاته مثل
السبعوية. وكل من الياء والسين والنون في
يس لها عدد
رمزي. وتشير الياء والسين على الأنحاء السبعة. وكلمة
كُنْ تدل على سبعين حدًّا في حساب الجُمَّل التي تدل على السبعة أدوار
التي تقوم مقام السبعة حدود العلوية والسبعة الجسمانية الحادثة عن العلوية، وهي
السلسلة التي ذراعها سبعون ذراعًا. فالكاف تدل على ثلاثة أحرف تدل على الحدود
العلوية هي الكلية والسابق والتالي. والنون تدل على ثلاثة أحرف تدل على الحدود
العلوية هي الجد والفتح والخيال. والحدود السفلى ستة: الناطق، والأساس، والإمام،
والحجة، والداعي، واللاحق. وتتداخل الحروف مع حساب الجمل مع تاريخ الأنبياء. وحروف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تسعة عشر
حرفًا وهي حروف محمد وعلي والحسن وفاطمة. وهي عدد الملائكة الكبار الشداد. الأربعون
ستة مقام النطقاء أي أربعون حدًّا بين يديه يخبرونه بظهور القائم الذي بلغ حد
النطق. والعدد سبعون حجج مثل: جناح، وملحق، وداعي، ومأذون، وصاحب، ومستوجب،
ومستأنف، ومحرم، ومستجيب، ومستعيذ … إلخ. والبسملة أم الكتاب وتمامه. لها أربعة
حدود ودلالة على الأصليين. والقائم تسعة عشر حرفًا دلالة على الأئمة السبعة
والاثنتي عشرة حجة، أربع كلمات، وتسع قطع، وعشرة جواهر، وتسعة عشر حرفًا. ومجموعها
أربعون لا تنسخ إلى يوم القيامة. بهذه الطريقة يمكن جمع الأعداد في كل آية والعثور
فيها على دلالات نفسية من صنع الخيال لإيجاد نوع من الاتساق مع النفس كبديل وتعويض
عن عالم الواقع والتضاد.
٣٧
ويجتمع العدد مع الحرف ويصبح حساب الحروف والجمل ضمن التأويل العددي. فالألفات في
البسملة خمسة، والحدود الأربعة الروحانية هي: النفس، والجد، والفتح، والخيال.
والهاء في البسملة مرة واحدة أي إن الحد لا يناله أحد من الجسمانيين إلا واحد هو
الناطق. والميم ثلاث مرات أي إن الخيال لا يناله من الحدود الجسمانية إلا ثلاث:
الناطق، والأساس، والإمام. فيفيدون اللواحق الاثني عشر، وهي الأبواب المتفرقة.
والنون واحدة تعني أن ما ناله الناطق من الأصلين إفادة أهل النجدين على نوع واحد
رمزًا من غير شرح ظاهر أو باطن، تنزيلًا بلا تأويل. والأصلان بسين وحرفين ومرتبتين
في البسملة أي إن ما استفاده الأساس من الأصلين لأهل النجدين على وجهين، ظاهرًا
وباطنًا، رمزًا أو سرًّا، تنزيلًا أو تأويلًا. والباء مرة واحدة، أصل واحد، أي إن
ما ناله الإمام من الأصلين إفادة أهل النجدين على نوع واحد رمزًا من غير شرح والسين
مرة واحدة أي إن اللاحق يفيد ما هو دونه من الأجنحة ما يناله من متممه شرحًا من غير
رمز على وجه واحد. والباء دليل على الجناح لأنه به ينال المستجيب سبيل الرشاد. وبه
يعمل كل مسترشد إلى البيان والثواب الأبدي مرة واحدة أي الجناح اللاحق يفيد
المستجيبين شرحًا من غير رمز على سبيل واحدة. والباء زائدة وليست أصلية منها، وسائر
الحروف منها. وكل حرف إما برمز أو من غير رمز، بوجه واحد أو على أوجه عديدة.
والحقيقة أن هذا التفسير لغوي حرفي وليس اشتقاقيًّا شخصيًّا في الأئمة والأوصياء.
وهو مذهب يمكن رفضه أو مقابلته بمذهب آخر، خاص وليس لكل عصر، وهمي في عالم الخيال،
طائفي حتى ولو كانت طائفة المضطهدين. ويكون التفسير الثوري أفضل في الإعلان عن
الاسم. ويظهر الجمع بين التفسير العددي وتفسير الحروف عند معظم حكماء الشيعة. الباء
دليل على الإمام لأنها حرف نداء في أول الكلمة وحرف النسبة في آخرها لأن النسبة
الروحانية متصلة به من جميع الحدود عند الكشف.
٣٨
ويبدو الفكر الشيعي أحيانًا معاديًا للقياس والاستنباط دون معرفة الطبيعة والكون
والأجرام وعللها؛ لذلك ذم القرآن القياس. وإذا كان القياس أداة السلطة في السيطرة
فإن التحرر منه يصبح أداة المعارضة؛ لذلك قال الشيعة يقول الإمام المعصوم كأصل من
أصول الدين بدلًا من القياس، لا فرق بينهم في ذلك وبين أهل الظاهر في رفض القياس.
الاستنباط ضد النص، والقياس ضد الآية، والعقل ضد الوحي، والاستدلال ضد الإيمان،
والروحاني له الأولوية على الجسماني. شياطين الإنس هم الذين عكفوا على الظواهر دون
الحقائق. وشياطين الجن هم الذين اقتصروا على العقليات دون الحق وإدراك الأمور
الخفية فانفروا عن السمع. والشياطين من الشطن أي البعد. وراحة العقل ضد الإحساس
بالفصام بين واقع مرفوض ومثال لم يتحقق لتحقيق الوئام بين الأنا والنحن، بين الذات
والموضوع. بين المعرفة والوجود كما هو الحال عند الصوفية.
٣٩
والاستشهادات غير دقيقة، والتأويلات غير موضوعية، مهمة التأويل إعادة تفسير الآية
بحيث تتفق مع النسق المذهبي. فالنسق سابق على التفسير، والفكرة سابقة على الآية
وليست مستمدة منها، والآية تالية لها وشهادة عليها كما هو الحال عند الفقهاء وأصحاب
النقل والأشاعرة. هذا هو منطق التفسير كله، الفكرة من خارج الآية وليست من داخلها،
والآية شهادة عليها.
وخطورة التأويل المشخص هو أنه تأويل محدد، لفرقة واحدة، في نسق واحد، في موقف
نفسي واجتماعي واحد يقضي على عموم الحكم لصالح خصوص السبب. كما أنه تأويل وقائعي
تاريخي حدثي يقضي على الدلالة العامة التي يمكن أن تتكرر في حوادث مشابهة. وهو
تأويل شخصي ذاتي يقضي على الشمول والموضوعية إذا لم تتوافر التجربة المشتركة. وقد
يكون التأويل أحيانًا بعيدًا يرفضه العقل، ويعارضه الفهم وتأباه البداهة. فالموقف
النفسي ليس كل شيء في التطابق بين المعرفة والوجود.