رابعًا: من علم العقائد إلى تاريخ الأديان
نشأ الفكر الفلسفي الشيعي بتطوير علم الكلام إلى فلسفة وتحويل علم العقائد إلى تصورات
نظرية في العالم سواء بنفس المصطلحات مثل «النبوة» و«المعاد» أو مع قراءة جديدة لها مثل
«المبدع» و«الإبداع» بدلًا من الخالق والخلق، وتحويل الفرق غير الإسلامية إلى تاريخ
مقارن للأديان، وتحويل قصص الأنبياء إلى فلسفة في التاريخ. ويختفي العدل للشعور بالظلم.
يتضح من الفكر الشيعي خروج علوم الحكمة من علم الكلام. فالموضوعات واحدة، تحولت من
الكلام العقائدي إلى رحاب الفلسفة الأوسع بمصطلحات جديدة. فالذات هو المبدع، والخلق
الإبداع، والعقل والنقل التأويل. وبعض الموضوعات الكلامية بقيت في علوم الحكمة بألفاظها
مثل النبوة والمعاد والإمامة. ويتم ذلك كله دون استعانة بالوافد بل اعتمادًا على تحليل
التجارب النفسية والاجتماعية لجماعة المضطهدين. استطاع الشيعة أن يعطوا فلسفة للعقائد
أو أن يحولوا العقائد إلى نظريات فلسفية حول الإبداع والخلق، والنبوة والمعاد، وفلسفة
الأديان وفلسفة التاريخ.
ويتم عرض فلسفة الشيعة مرة واحدة دون استعراض نصوصها زمانيًّا نصًّا نصًّا لتفادي
التكرار وفي نفس الوقت المحافظة على تاريخيتها. وكان يمكن وضع هذه النظريات في الأجزاء
الثلاثة الأخيرة عن الإبداع في علوم الحكمة النظرية والعملية ولكن تم وضعها هنا مع أنها
خاصة بالمضمون وليس بتشكله من الوافد والموروث لبيان كيفية تنظير الموروث دون الاعتماد
على الوافد بل في أتون المعارك السياسية كنموذج للتنظير المباشر للواقع اعتمادًا على
النصوص الأولية وحدها. كما أن المجلد الثالث بأجزائه الثلاثة الأخيرة عن الإبداع خاص
بإعادة كتابة علوم الحكمة القديمة بناءً على الوافد الغربي الجديد وظروف العصر السياسية
والاجتماعية الحالية باعتباره أيضًا فكر المضطهدين، طبقات وشعوب.
(١) الإبداع والخلق
وهو ما يعادل نظرية الذات والصفات والأفعال عند الأشاعرة وأصلي التوحيد والعدل
عند المعتزلة في علم الكلام القديم. والحديث عن الإبداع كفعل أكثر من المبدع كشخص
خوفًا من التجريد على عكس أهل السنة الذين يتحدثون عن المبدع كشخص أكثر من الإبداع
كفعل خوفًا من التشبيه. فأهم صفة في المبدع الفعل ونفاذ الأمر، المبدع العملي وليس
المبدع النظري، المبدع في إبداعه وليس المبدع في ذاته؛ لذلك أتت الأولوية للإرادة
على الحكمة كما هو الحال عند الأشاعرة إرادة المظلوم في مواجهة إرادة الظالم، ما
أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة فلا يفل الحديد إلا الحديد. وتتوالى على المبدع
الصفات والأسماء والألقاب قبل أن يتجلى في أفعال الإبداع. ويتداخل الاسم والصفة
واللقب واللفظ معًا. ومع ذلك ليس المهم اللفظ بل المضمون. فكما كتب الرسول
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعترض من لا يعرف
معاني اللفظين، ورضي الرسول «باسمك اللهم»، وهو موضوع صغير نظرًا لأن المبدع يتجلى
في الخلق والنبوة والمعاد وربما الإمامة. ما قيل عن المبدع قليل في حين أن ما قيل
عن الإبداع أكثر، وما قيل عن تجليات الإبداع في النبوة والمعاد أكثر فأكثر.
والأسماء أهم من الصفات، إذ يسهل فيها التأويل والإبداع.
١
وقد ذكرت الصفات في القرآن مثل العلم والوحدة والكلمة والجد أي القوة والبخت أي
القوة المتصلة به. وهي لا تشبه الحدود الدنيوية من صفاته الجد والفتح ومثلها عند
الصوفية مثل ابن عربي. وهي صفات مركبة بالخيال. وأفضل الصفات. وأعلاها بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أربع كلمات دالة على
الأمر والإرادة. وقد تم تجسيد الصفات الإلهية في أشخاص الأئمة وحركاتهم. فإذا جاء
الرب فإنه يجيء كرب المنزل. له وجه وعين ونفس ويدان. الوجه دليل على السابق، متحد
بالكلمة وهي غير الله. والأعين الأصلان والحدان والخيال. والنفس هي النفس الكلية.
ونفس عيسى نفس الرسالة. واليدان هما الأصلان، وكلاهما يمين، دليل على الباطن لأن
الشمال هو الظاهر. والسموات المطوية بيمينه دليل على النطقاء أرباب الظواهر.
فدعوتهم وفضلائهم مطوية في التأويل.
وقد اختلف علماء الشيعة في العلم الإلهي. إذ قال علماء العامة وهم أهل العمى
والتيه أن الله علم آدم كل شيء وهذا جهل. وقد يعني علماء العامة هنا فقهاء أهل
السنة، فقهاء السلطان، وهو أن الله علم آدم أسماء الأشياء. فاللغة توقيف. وقال بعض
علماء الشيعة أن الله علم أسماء أئمة الحق وأسماء أئمة الجور، وليس الأمر كذلك.
ويرى القاضي النعمان أن الله علم أسماء من اختص من عباده ليقيم عليهم الحجة حتى لا
يكون للناس حجة.
٢
ولله أسماء عرفها البعض وجهلها البعض الآخر. وتشير الأسماء الحسنى إلى الأئمة.
وهم تسعة وتسعون بين حكماء وأوصياء ونطقاء وأسس وأتماء وخلفاء وأصحاب الكشف كما نص
على ذلك الحديث. ويمكن الاعتماد عليه لتأويل أسماء الله التسعة وتسعين التي يدخل
الجنة من يحصيها مع تطبيقها على الأئمة. فهي صفات فعل دون أي فرق بين الصفة والاسم.
وهم الحكماء الأربعة وأوصياؤهم الأربعة في كور الإقرار، والثانية والعشرون في
أدوارهم الأربعة في كور الإقرار، ثم النطقاء الأربعة في كور التعبد، ثم الناطق
وأساسهما والأتماء الأربعة عشر في دوريهما، وصاحب الكشف، والخلفاء الثمانية في كور
العلم. فهؤلاء التسعة وتسعون اسمًا على النحو الآتي:
ومن الواضح أن الحديث بصيغته المذكورة به زيادة مثل زيادة حديث الفرقة الناجية
عند أهل السنة طبقًا للإيقاع والوزن، اليهود واحد وسبعون، والمسيحيون اثنان وسبعون،
والمسلمون ثلاث وسبعون وجعل فرق الشيعة من الضالة، وفرقة أهل السنة وحدها الناجية.
٣
وإنكار التأويل وقوع في الشرك والتشبيه. والشرك طبقًا للحديث أخف من دبيب نملة
سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء،
٤ فالرحيم في البسملة دليل على الأساس. والحروف الستة تعني الأسس الستة
لأنه ليس للقائم شريعة يحتاج فيها إلى أساس لتأويلها. والرحيم أرق من الرحمن أي إن
الأساس أرق لأهل الحرم بما فلتحم فيه من بيان ظاهر.
الناطق تعطفًا عليهم ورحمة لهم. والرحيم مشتق من الرحمة طبقًا لحديث الرسول أي إن
رحمة الأساس صلة الرحم للمحققين دون المبطلين، وللأبرار دون الفجار، بها ينالون
المغفرة. فضلة الرحم تزيد في العمر كما هو في الحديث. وهي من وصل الأساس بالناطق،
واللاحق بالمتمم، ومِن ثَم يُؤَوِّل الفكر الفلسفي الشيعي أحاديث التوحيد على الإمامة.
٥
ويهتم الشيعة بالقدم والأصل والنشأة تأصيلًا للأشياء، وبحثًا عن الأصول من أجل
ربق الظلم والذهاب إلى ما وراءه لمزه من الأساس وكما هي الحال عند الصوفية في عهد
الذر وعند إخوان الصفا في أمر كُنْ ويرتبط الخلق
بالمادة، مادة الخلق، وبالزمان، درجات لخلق وتكون النشأة والأصول للطبيعة والإنسان،
ما من مادة قديمة أو من لا مادة بفعل الأمر كُنْ
فَيَكُونُ. فتم خلق الأرض مثل النبات بظهور الأخسام من غير منطقية،
والأسواح بقوة إلهية. ثم استوى إلى السماء وهي دخان. وأمر السماء والأرض بالإتيان
طوعًا أو كرهًا فأتتا طائعتين. وخلق كل دابة من ماء ومنها الزواحف.
وقد تكون نشأة الإنسان مادية، «من ماء دافق، من مني يمنى، من نطفة أمشاج». وهي
نشأة الإنسان من حيث هو إنسان. أصل الإنسانية. جميعًا على نسق واحد. وهذه هي النشأة
من شيء، خروج شيء من شيء طبقًا لنظرية التطور التي تقوم على الاتصال. وهنا يبدو
ارتباط الفكر الشيعي بعلوم الحياة كما هو الحال عند إخوان الصفا، فالموت والحياة
مرتان. أما الجان فمخلوق من نار السموم وهو المستودع للطائف منذ البداية وفي
الانتهاء هو الأساس. والسموم غاية للطائف، والنار حد الكروبية العالي على حد
الروحانية لأن منهم مبتدأ الأدوار وهم نهايته. الحمل ابتداء، والكره الإظهار
للوجود. فتصبح المراتب أربعة: من الحدود الجسمانية إلى الحدود الروحانية إلى النفس
الكلية إلى الإبداع الأول صعودًا أو من الإبداع الأول إلى النفس الكلية إلى الحدود
الروحانية إلى الحدود الجسمانية نزولًا.
٦
وخلق الإنسان على سبع طبقات. والعقل مثل الشمس، والنفس مثل القمر لأن الشمس لا
تختلف في حركتها. والعقل يظهر في الإنسان من أربعة مواضع، اثنان لطيفان، واثنان
كثيفان. الأول العزيزة، والثاني الرسول، والثالث الشريعة، والرابع التأويل. والأول
دون الثلاثة يوقع في التعطيل، والأول والثاني دون الاثنين الآخرين يوقعان في العمى
والضلال. والأول والثاني والثالث دون الرابع توضع في القمة والتشبيه. أما الأربعة
فهو التمسك بالعروة الوثقى.
الحكمة بالعزيزة، والتدين بالرسالة والمعرفة بالتأويل. وترتيب الأربعة بحسب
اللطافة والكثافة. وهما مفهومان طبيعيان. وواضح المراتب والتدرج والمقامات الفلسفية
عند الشيعة. والظل ساكن والشمس دليل عليه. فالكون تمام الكون بقوة الشمس والقمران
أصلان واسمان. والعلم هو عهد على النفس إلى ما فيه نجاتها من ظلمة الجهل إلى نور
العلم على المستوى الروحانيات دون البقاء في الطبيعيات وإلا كان الخسران المبين.
٧
ويرتبط الخلق بالزمان فقد يكون دفعة واحدة وقد يكون على فترات. والزمان نسبي؛ إذ
إن يوم الله خمسون ألف سنة مما يعد البشر، وهو يوم صاحب الدور. لذلك ظهرت الأعداد
أساسًا للخلق. إذ خلقت السموات والأرض في ستة أيام، وفي يومين. وقدرت فيها الأقوات
في أربعة أيام. وخلق سبع سموات في يومين، وفي ستة أيام إشارة إلى النطقاء
الستة.
والحمل والفصال ثلاثون شهرًا أي الاتصال بالحدود الجسمانية وهي اثنا عشر. والشهور
اثنا عشر؛ أربعة حرم، بعضها في الأحسام وبعضها خارجها. مقاماتها ثابتة في اللوح
المحفوظ الذي انتعشت به أنفس الأشخاص الضالة. ومع ذلك الإنسان قابل للارتقاء في
المقامات حتى إذا بلغ الحد الخامس أصبح له من الحدود أربعة حرم. ويكون تسلم الحدود
الخمسة السفلية، واتصل به الفيض من الخمسة العلوية حتى يصل إلى حد الثمانية التي هي
حملة العرش، عرش الله الأدنى لأنها جسمانية ومثالتها الحدود العالية في الحضرة
الباقية الحاملة لعرش الله الأعلى. ثم يرتقي بالرفعة والكمال إلى حد الأحد عشر وهي
بمنزلة القمر إلى حد الشمس. وهي بمنزلة المتم إلى حد الكمال. وروح المتم هو حجاب
الشمس. فالفيض نيل العطاء من أعلى تعويضًا عن الأشداد والقحط من أسفل. والحدود
والنظام والرقي من أعلى تعويضًا عن كسر الحدود والنفاق استتاب النظام من أسفل.
وكذلك يتم تفسير السبع المثاني والسبع الشداد على نفس النحو. هناك الأتماء الستة
والسابع التمام. وهي موجودة في العالم البسيط، روحانية لطيفة، وبواطن سبع رجال من
الأتماء ترتقى مراتبها. والسابع هو الناطق عنها، وهي السبع الشداد. وكذلك العدد
تسعة عشر هي النفس اللطيفة أو نفس الشخص الكامل تلوح بعشرة، وهي الحدود الواقفة على
الصراط، والثلاثون شهرًا. منازل القمر، والابتداء الثاني بالشخص الثاني. وتدور
الدائرة على القطب الحقيقي الممتد إلى الثلاثين، والعلة الماسكة للجميع، الصورة
البشرية المرتقية في الوجود. والأربعون الناطق السابع صاحب الكشف القائم الذي تحول
من القوة إلى الفعل ليشير له أربعون حدًّا. تظهر مع قائم الزمان. والأربعون حسنة هي
أيضًا حجاب المراتب العالية، رفقاء الاسم الجليل.
٨
وهناك نشأة أخرى تقوم على الانفصال، خروج شيء من لا شيء دفعة واحدة، مثل خلق
السموات والأرض بأمر
كُنْ فَيَكُونُ مع أنها أيضًا في
سياق آخر
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ولكن ليس على التخالق
أي خروج شيء من شيء بل على الإبداع، خروج شيء من لا شيء. يكون الخلق دفعة واحدة،
الأمر والعلم والكلمة.
٩
والإمامة جوهر الخلق. فمن أجل التفاوت في الخلق استقامت أمور العالمين. وإن
استحالة التفاوت في الخلق فإن ذلك يعني عدم تفاوت الخلق لما خلق له أي الموافقة بين
النطقاء. وكما خلقت السماوات سبعًا طباقًا يعني النطقاء السبعة الذين بينهم مطابقة
المؤيدين بالأصليين، ومن التأويل للأسس بعدهم. التفاوت استقامة، والسلب إيجاب،
والفتق رُتق بلغة الصوفية. وكما بدأ الخلق بآدم يعود بالقائم، وللحروف دلالة على
الخلق في أمر
كُنْالكاف على السابق، والنون على اللاحق
في دور آدم لذلك يتسم القسم بالحروف، والكتابة أي الخلق.
١٠
والله هو الفاعل الحق كما هو الحال عند الأشاعرة. وهو قادر على فعل الضدين،
الحياة والموت، الموت والبعث، النار من الأخضر. والكلام الأول سبب استقامة أركان
العالم وأجرامه وأحواله وليس اختيار الناس. كل شيء بأمر الله. وتظهر الأحاديث
كشواهد على أن الله هو الفاعل الحق. فهو الذي خلق القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن
إلى آخر القيامة مثل باقي الأحاديث المروية في علم العقائد التي تجعل السعيد من سعد
في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه. كما أن الله يبعث كما تروي الأخبار مع كل
قطرة ملكًا ينزلها حيث يشاء. وهو أقرب إلى الخيال الشعبي في إبداع الأخبار
والمأثورات، تشخيص المطر، وقدرة الله، والسائط. بل إن الاستطاعة هو التأييد من الله
وليست القدرة من الإنسان.
١١
وقد تم إشهاد الخلق ساعة الخلق على التوحيد. لذلك كانت النبوة عاملًا منبهًا أو
مذكرة بالشهادة الأولى في عهد الذر، عهد ألست كما هو الحال عند الصوفية. الغاية من
الخلق الإشهاد ورؤية ما في التفاوت وما في النفس. لذلك ضم أصل التوحيد إلى العدل
كما هو الحال عند المعتزلة. لا توحيد بلا عدل أي بلا فعل، ولا فعل بلا توحيد.
والملائكة مطيعون لأوامر الله وليسوا أبناء له. لذلك طرد إبليس لعصيانه
واستكباره.
والإنسان سيد الكون، وأشرف المخلوقات، خليفة الله في الأرض. تسجد له الملائكة
تقديسًا لله وتسبيحًا له. فعبادة الله تتم أيضًا بواسطة السجود للإنسان كما أن
الحديث معه يتم أيضًا بواسطة ومن ترك الإحسان لمن دونه، والشكر لمن أعلى منه فإنه
لا يزال في انحطاط حتى الهلاك. والله هو الميسر للرقي نحو اللذات الروحانية
والعقلية والصور النفسية. والإنسان أفضل من الحيوان تركيبًا، وأعدل مزاجًا وأحسن
تقويمًا؛ لذلك لزمته أحسن الشرائع والسياسات حتى إنه ليصعب تكذيبها. فلا فرق بين
عالم القدس وعالم الإنس، بين عالم الروح وعالم الطبيعة، بين عالم الإنسان وعالم الحيوان.
١٢ ومع ذلك لا يتدخل الله في شئون البشر. ولو شاء الله لهداهم جميعًا ولكن
أكثرهم للحق كارهون.
وللخلق غاية وهو التكليف ثم الاستحقاق كما هو الحال عند المعتزلة، فالشيعة
والمعتزلة كلاهما من فرق المعارضة، ومِن ثَم ينتفي العبث والمصادفة والمزاج؛ لذلك
يرتبط الخلق بالمعاد ارتباط البداية بالنهاية. المعاد نتيجة الخلق، والخلق مقدمة
المعاد. وبكاء الطفل بعد خروجه من بطن أمه للروح التي فارقت عالمها. فإذا ما لف
بالقماط سكت استجابة للمرشد. والمعاد، ثوابًا أم عقابًا، إلى عليين أو أسفل سافلين.
خلق الإنسان من الأن وإليه يعود. زمنه يخرج تارة أخرى، دورة بين الحياة والموت.
الحياة من الموت، والموت من الحياة ثم الحياة من الموت مرة أخرى. والفهم العامي فهم
مادي جسمي، والفهم الأعمق هو الفهم الروحي. فالإنسان خلق من الروح، وإليه يعود.
تنزل الروح إلى البدن ثم تصعد منه. وهذا هو معنى الموت مرتين والحياة مرتين. ويتفق
حكماء الشيعة على مصطلحاتهم مثل الناطق والقائم والأساس، والدور والكور. وهي نفس
المصطلحات التي تظهر عند إخوان الصفا مما يدل على صلتهم بالتشيع.
١٣
(٢) النبوة
قد تكون النبوة هي الموضوع الأساسي الذي منه تنبثق كل العقائد الأخرى مثل الإبداع
والخلق والعدل والإمامة. فالسمعيات أقوى من العقليات، والخيال الشعبي للعامة أقوى
من الاستدلال العقلي للخاصة. ويتضخم موضوع النبوة على باقي العقائد لأنها الصورة
الأولى للإمامة. النبوة هي الجامعة لكل العقائد. ومن طريقها تتم معرفة التوحيد
والعدل والمعاد والإمامة. وتبدو أهمية الموضوع في العودة إلى مصدر الشرعية ضد
اغتصابها من الأموية وإعادة عرضها حتى تتحول من شرعية السلطة إلى شرعية المعارضة،
ومن إيقاف التاريخ إلى تحريك التاريخ.
وهناك ثلاثة مواقف من النبوة. الأول إنكار النبوات قياسًا على المحسوس لا على
المعقول؛ إذ إن وظيفتها الكشف عن البعد العقلي في الشعور، فالرسول يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق، ولا بد أن يكون معه ملك أو نذير أو كنز أو جنة يأكل منها وإلا
كان رجلًا مسحورًا. والثاني إنكار النبوات؛ لأنها تقوم على طلب المعجزات وهي من
الممتنعات لأن الممتنع ليس من أجل ذاته بل من أجل عجزه عن إظهاره أي لغياب الدليل
العقلي. والثالث قبول النبوة من عترة النبي والوحي. فقد وضعوا الحق في موضعه،
وتواصلوا معه، فشهدوا الآفاق والأنفس والتراكيب والألفاظ. وشهدت لهم على صدق القبول
على بصيرة ويقين. وهو الموقف الذي يقوم على القبول ثم البرهان بالرغم مما في القبول
كما يعرضه الشيعة من تقليد وتسليم وكان النبوة لها ورثة من آل النبي. فالأدلة
أربعة: الآفاق أي الكون، والنفس، والألفاظ، والتراكيب. ويكتبها السجستاني بالهمزة
«النبؤة» وليس النبوة تأكيدًا على دورها في معرفة المستقبل. وهي في «إثبات النبوات»
أكبر وأكثر عقلانية من «الينابيع». فلماذا الدفاع عن النبوة وإثباتها ضد منكريها؟
ومن هم هؤلاء المنكرون؟ البراهمة، المعتزلة، ابن الراوندي، الرازي المشهورون في كتب
الفرق؟ هل الفكر الشيعي ما زال فكرًا كلاميًّا سجاليًّا يقوم على إثبات النبوة ضد
من يرى في العقل غنًى عنها دون أن يتحول من الكلام إلى الفلسفة، زمن النقل إلى
العقل، ومن السجال إلى البرهان؟
ولا يمكن إنكار النبوة والطبيعة تشهد لها كما قال الرسول. فالنبوة علم لدني، يلقى
في القلب، والدليل عليها الشمس والقمر، فالقمر يستمد نوره من الشمس. والنبي يرتقي
إليها صاعدًا، راكبًا طبقًا عن طبق. ويتصل الرسل بالأسماء وهي الصفات كما اتصل بها
الجن أيضًا. وتتأسس النبوة من جهة الفصول الطبيعية لا فرق بين جماد وحيوان وإنسان،
بين أجرام علوية وأجرام سفلية. وكل حيوان له خصلة من خصال النبي. ومن ثم تثبت
النبوة من جهة الأعراض الطبيعية. والعرض هو الذي يتوهم رفعه مع عدم فساد حامله.
وكذلك النبوة لها أعراض لا تفسدها، ولذلك تم رفع بعض العادات القديمة مثل شرب الخمر
والصلاة إلى بيت المقدس دون رفع حواملها، وهذا هو معنى النسخ، رفع الحكم وإبقاء
المحكوم عليه. وتثبيت النبوة أيضًا من جهة الحركات الطبيعية واتجاهاتها إلى أعلى أو
إلى أسفل، إلى الأمام أو إلى الخلف، إلى الداخل أو إلى الخارج، إلى الطرف أو إلى
الوسط، تأييدًا ورفعًا، هبوطًا وصعودًا، تنزيلًا وتأويلًا. وهما حركتا الناطق
والأساس، وهذه حركة العناصر الأربعة أيضًا طبقًا للنقل والخفة. ولما كانت الطبيعة
تتحرك ثلاث حركات، إلى أعلى وإلى أسفل وإلى الوسط كذلك تتحرك النبوة. ويظل السؤال:
هل النبوة حركة طبيعية أم ثورة اجتماعية؟ وهل حصار الثورة في المجتمع جعلها تمتد
إلى الطبيعة والكون لفك الحصار؟ وحركة الناطق موازية لحركة الطبيعة. كما يتشابه
القائم مع الزمان، بالساعة واليوم وهما أقل الوقت. فالصور الروحانية لا تحتاج إلى
زمان طويل كما تحتاج الصور المادية.
١٤ لذلك يظهر الله في كل مكان، وفي كل دين، وفي كل شريعة. تشهد له النبوة
بفردانيته. وصارت الأماكن الطبيعية سخرة للأماكن الدينية. مثل مكة للتجارة والحج.
تثبت النبوة بشهادة الفرد وشهادة الخلق. في العالم الأصغر وفي العالم الأكبر، وتثبت
النبوة من جهة الكون والفساد. فكل شيء يكون بفساد آخر من أجل تجديد الحياة
وتواصلها. وهذه أدوار النبوة، تجدد مستمر، اتصال وانقطاع. والتأكيد على التغيير
والجدة والإبداع ضد الأمر الواقع وثباته في الدولة السنية. وتثبت النبوة أيضًا بحجة
التضاد. فالتضاد في النبوة على ثلاثة أنواع الأول وقوع الضدين تحت جنس واحد كالصوم
للمقيم والإفطار للمسافر تحت شريعة الإسلام. والثاني وقوع الضدين تحت جنسين مختلفين
مثل صوم رمضان للمسلمين وإفطاره للنصارى واليهود. والثالث اختلاف الجنسين مثل
اختلاف الشريعة الإسلامية كليةً عن الشريعة النصرانية. فالنبوة ثابتة من جهة
الأضداد أو الطبيعية إذا وافقتها مثلًا بمثل. فالأضداد برهان وليس الاتساق. وبه ثبت
أيضًا صحة ديانات الطبيعة مثل كل الديانات الثنوية. وتثبت النبوة أيضًا ببعض
الأحاديث الحرة كإخباره عن المستقبل في هزيمة الفرس تنبؤًا بحركة التاريخ ومساره.
كما تثبت شمول رسالته وبعثه إلى الأحمر والأسود، لأهل الظاهر ولأهل الباطن للإنس
والجن. ويقوم بالدعوة لرسالته قتالًا حتى يقول الناس «لا إله إلا الله» إحساسًا
بضرورة الكفاح المسلح ضد أهل الظلم والطغيان دون التفات إلى أنه.
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ،
فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وكل من لا يؤمن بمجيء
الرسول ويقر برجعته فإنه يكون بريئًا منه لا فرق في ذلك بين الرسول والإمام الغائب.
والرسول يؤدي رسالته دون أجر في حديث يشبه القرآن.
وخطاب الرسول يتم بثلاث طرق: الأول الوحي الصريح مثل ما أعطي للنطقاء من حقيقة.
والثاني الوحي من وراء حجاب مثل الوحي إلى الأسس بالشريعة. والثالث وحي بواسطة
الرسل عن طريق الخيال إلى المتم من قبل الناطق. وهو تغيير رأس المفهوم أهل السنة
وذلك لتدخل الأئمة في الأنواع الثلاثة. فالناطق نموذج الوحي المباشر، والأساس نموذج
الوحي الذي منه وراء حجاب، والخيال إلى المتم من الناطق هو نموذج ألوهية الرسالة.
وسبب الواسطة تسهيل قبول الرسالة من المرسل إلى الرسول حتى لا يقع الزلل في الإيصال
بلا واسطة كما أراد موسى فتجلى المرسل للجبل فاندك لما كان الجبل متوسطًا لتحقيق
رغبة رؤية المرسول للمرسل. وتتكرر الفكرة، ويتكرر نفس الاستشهاد في سياق آخر ليس
الواسطة بل التبليغ.
١٥
والوحي مقروء في كتاب، والنبوة مشاهدة في الطبيعة. والشعور جامع بينهما، مسطرة في
الآفاق ومسطرة في النفس. وعلوم المنطق تنفصل عن عالم النفس انفصال الصور عن المادي.
واللغة لغة البيان. فالناطق عن عالم النفس، والأساس معرب عن بيانه. ويوم الفصل هو
حد القائم.
وإذا ما استقرت الرسالة في قلب الناطق فإنها تنطق باللسان للتبليغ. فتثبت الرسالة
في الجماعة بعد النطق بها وتبليغها ومحبتها وغلبتها. وكلها عواطف إنسانية في الرغبة
في الحفظ في الصدور بعد أن ضاعت في الدهور مثل المحبة التي ألقاها الله على صفيه
موسى، والاعتصام بحبل الله الذي مده الله للمسلمين والتأليف بين قلوبهم، ونعمة
الأخوة بينهم، والغلبة مثل غلبة يوسف على إخوته ونصرته عليهم، وتتكرر الآيات لإثبات
نفس الأفكار مثل حفظ الرسالة في النطق والطبيعة والمجتمع. فالموضوعات أزمات نفسية
يتم التعبير عنها في تصورات عقلية.
والغاية من التبليغ الإصلاح في الأرض، والغاية من ظهور النطقاء في عالم الفساد هو
أيضًا الإصلاح. فالنطقاء يكملون دور الأنبياء في كل عصر. كان هذا هو دور موسى
وفرعون وسجود قوم فرعون إنما كان تسليمًا. فأفعال الإيمان أفعال حرة لا يستطيع
القاهر السيطرة عليها. يقرأ علماء الشيعة الحاضر في الماضي، الصراع بين الحق
والباطل، بين موسى وفرعون، بين العلوية والأموية. الرسالة رؤية ثم تبليغ بلغة ولسان للناس.
١٦
والنبوة محفوظة عن النبي، ولم تبطل بعد غيبته. أقام بحفظها المشاركون له في
النوع، عدد كثير، يجتهدون فيها. الرسالة ثابتة ليست فقط في اللوح المحفوظ بل في قوة
موجودة عند نفر من الناس يذكرون عظمة الله وجلاله، وعلو مرتبته، وسمو رفعته
وتنزيهه، ويتفكرون في حال الخلقة من السموات والأرض وما بينهما من أحوال البشر. فلا
فرق إذن بين النبي والقائم والناطق والأساس، بين النبوة والإمامة، بين النبوة
والخلق والإمامة واسطة بينهما، بين الحفظ في السماء والحفظ في القلب والحفظ في
الكون والحفظ في التاريخ تعويضًا عن ضياع الإمامة في الأرض بعد استيلاء الأموية
عليها. النبوة محفوظة عبر الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، إن ضاع الحاضر منها
لحساب دولة الظلم. وهذا هو الذكر الذي تثبته الرسالة.
١٧
والوحي لا ينطق عن الهوى. وهو ليس كلامًا فقط بل هو أيضًا وجود. فواقعية الوحي
هنا لا تأتي من أسباب النزول بل من الكون كله. الوحي إن لم يتحقق في الوجود لا يكون
وحيًا. لذلك كان علم الرسول ليس فقط علمًا بالوحي بل علمًا بالواقع وبالطبيعة
وبالتاريخ. والعلم بالوحي ليس فقط علمًا بالشريعة بل أيضًا علمًا بالمجتمع والطبيعة
والتاريخ. ففي الشريعة تتحول الأفكار إلى وقائع، وفي التاريخ تتحول الوقائع إلى
أفكار. ليس الوحي فقط في نفس الرسول بل في الوجود في كل درجاته، الوجود الأول ثم
المعلول الثاني، ثم الجد، ثم الناطق وهو النجم الثاقب الذي يثقب قلوب النطقاء ليثبت
فيها الحكمة والعلوم الربانية كما أن النجم الجرماني يثقب المواليد لإخراج الصور الجسمانية.
١٨
يعرف الأنبياء التوحيد. فالذات والصفات هي الحدود الروحانية التي تدل على وحدانية
الله. وكل واحد منهم يدعو إلى التوحيد بالإضافة إلى صفات هويته وهي صفات الفعل. وهو
علم سمعي منذ إبراهيم يتحقق في الطبيعة، ويمكن الاستدلال عليه منها كما فعل
إبراهيم، فتحول من سمعي إلى بصري للإيقان بالقلب والفطرة، من سمعي إلى بصري للطبيعة
إلى قلبي للباطن وربما إلى بصري من جديد وكما حدث للنبي في سدرة المنتهى وكأننا في
درجات العلم عند الصوفية من علم اليقين إلى حق اليقين إلى عين اليقين. وهو ما أشار
إليه القرآن بالسمع والأبصار والأفئدة.
والرسل منزهون عن الجور. يزهدون في الدنيا بعد معرفتهم لها يتسمون بالشجاعة
والرحمة بأمتهم بالرغم مما لاقوا من عناء وبلوى، والصدق، وهي من صفات الأنبياء في
علم العقائد. وينطبق عليهم أيضًا قانون الاستحقاق. وينالون الجزاء على الأعمال بعد
أداء الرسالة كما أجزوا أمتهم به وكما وضع المعتزلة قانون الاستحقاق. فإذا ظهرت
الخصومات والمنازعات بين الناس ظهر القائم بالحق ليفصل فيها ويبين للملل ما اختلفوا
فيه. وتشرق الأرض بنور الرب، وتأخذ الطبيعة معنى الحق والنور معنى الكشف. ولكل ملة
سمة تعرف بها، ويعرفها القائم يوم الفصل. فالقائم خليفة الرسول.
ولما غلب الباطل على الحق قام أهل الحق بالسكوت والكتمان. وهذا معنى الستر
والحجاب، وتحويله من الخارج إلى الداخل، ومن الجسم إلى القلب، ومن الوجه إلى
اللسان. فقد نبذ أهل الباطل الشرائع وراء ظهورهم دون أن يتقدم أحد بردهم إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وهم أهل الحق. هنا ينظر إلى النبوة من خلال الإمامة وينقلب
الأصل فرعًا، والفرع أصلًا. وطاعة الرسول من طاعة الله، لا فرق بين الحديث النبوي
والقرآن الحر.
(٣) المعاد
إذا كانت النبية تميل إلى الماضي فإن المعاد يشير إلى المستقبل؛ لذلك ارتبط
الموضوعان في التاريخ العام قبل أن ينظر التاريخ الخاص في الإيمان والعمل والإمامة.
١٩ وكثير من الأسئلة تدور حول آيات المعاد مثل اليوم والساعة والميقات.
والمعاد هي جمع الناس في ميقات يوم معلوم. يبدأ بالبعث المادي وينتهي بالبعث
الروحاني. البعث المادي هو إعادة البشر الذين خلقوا من تراب ونشرهم من جديد. هناك
البعث العام عند تمام حروف المعجم وتمام الشهر. ينقض دور الجسم إذا ما انتهى
الاتصال بالعالم الروحاني. ليس بعد النفخ في الصور. وهو ما يأتي به سابع النطقاء
والصور الشرعية المحيطة بجميع الشرائع وبعد النفخ في الصور يصعق من في السموات. وهم
النطقاء وما فيها من أهل الظاهر، ومن في الأرض، الأسس ومن فيها من أهل الباطن الذين
ستروا الأمر باستثناء من شاء الله، وهم المؤمنون الصابرون على السراء والضراء. وتتم
هذه الكشفة الأولى على يد القائم. وأما الثانية فهو القيامة، وإشراق الأرض بنور
الرب. ومن علامات الساعة شروق الشمس من المغرب، وغروبها من المشرق، وظهور الناس
سكارى وما هم بسكارى.
٢٠ والمعاد الروحاني كشف الحقيقة في الآخرة كما يتم كشفها في الدنيا،
كشفًا للعلم، وكشفًا للطبيعة.
ويوم تقوم الملائكة صفًّا، ويقوم ملك بإزائهم. يحاسب الله واحدًا، والواحد يحاسب
ستة، والستة يحاسبون العباد كلهم. وهذا تفويض للسلطة، وإشراك الله في الحساب.
والواحد هو الإمام، والنطقاء هم الستة. ويتوارى دور محمد وهو شاهد على الأمم جميعًا
بعد أن يشهد كل نبي على أمته.
٢١ والملائكة تهبط إلى الأرض في كل ليلة جمعة تقف في الطرقات، وبأيديها
أقلام من فضة وألواح من ذهب. وتكتب الصلاة على محمد إلى انقضاء الصلاة كما يروي
الحديث. وواضح تدخل الخيال الشعبي بالإضافة إلى التأويل. فالملائكة حجج الإمام
الدعاة، والأرض الدعوة الباطنة، ومالكها الوحي رب الدعوة وكتابة الملائكة تأكيد
الولاية على أساس الرسول ووحيه. والكتابة اتصال الوصية بالنبوة والإمامة. والصلاة
على النبي اتصال الوحي به والأئمة والحدود. والألواح الذهبية الحجج المؤيدون،
والدعاة والأئمة. فالخيال الشعبي الموضوع، والتأويل المنهج. الخيال يضع الموضوع،
والروح تُؤَوَّل بالرغم من عدم الدقة في التقابل بين الحجج والدعاة. وكل صنف من
الملائكة يأتي الله يوم القيامة بمعزله عن حده وقت النفخة الثانية، صف منهم يوم
النشور وهم الرسل، وصف وهم الأسس ثم الأئمة واللواحق والأجنحة والمستجيبون وكل من
فارق هذا العالم.
وفي المعاد يتحقق قانون الاستحقاق المشهور عند المعتزلة. فمن فضائل البشر إرسال
الرسل. ولهم فضائل سبع منها القصاص، ومحبة أصحاب النواميس، والبقاء، والحساب
والثواب، وإحاطة أهله بما فيه أهل العقاب. وكلها أقرب إلى الواجبات العقلية عند
المعتزلة إذ يتوقف حسن المعاد في الآخرة على صفات النفس في الدنيا. وثنائية الخير
والشر في المعاد تؤكد على التفاوت في الخلق. فالمعاد ليس فقط على الأعمال بل على
الطبائع والمخلوقات، لا فرق بين الشرع والطبيعة.
وينقد السجستاني في عقيدة أهل التناسخ، والشيعة أقرب إليها، وجود الأرواح وجودًا
مسبقًا قبل عالم الأجساد. والخلاف في عودتها إلى جسم جديد؛ لأنها ضد قانون
الاستحقاق الذي يقوم على الفردية والمسئولية. بالرغم من بعض الأحاديث القدسية التي
يساء تأويلها.
٢٢ كما ينقد القاضي النعمان غلاة الشيعة «العلوية» الذين يقولون بالرجوع الروحاني.
٢٣
ويقوم الاستحقاق على قانون
مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ كما هو الحال في الاعتزال. فالدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء.
ويوم المعاد لا ينفع فيه الندم والحسرة. ويتحقق الوعد، الثواب والعقاب في الأرض وفي
السماء، في الدنيا والآخرة، ويتحقق أمر الله. كل مستحق مستوفٍ استحقاقه بحسب درجته.
وهذا هو القيام بالقسط. ويصبح الكتاب هو الهيولى السفلي والاستحقاق الصورة العليا
والجزاء ثواب أو عقاب، نعيم أو عذاب. وهو جزاء معنوي. وهو أقوى وأشد على الإنسان من
الجزاء الحسي. الالتذاذ في عالم النفس بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر إذا بلغت النفس غايتها، واستقرت في هويتها، ورمت بثقلها. وقانون الاستحقاق هو
قانون العدل. يختلف الناس في الشيء الواحد أحزابًا وشيعًا ولكن المهم عدم الظلم حتى
لا يقع الجزاء. وإثبات الاستحقاق وقوانينه في الثواب والعقاب رد فعل طبيعي عن
الإحساس بالظلم وأهل الظاهر هم أهل الكلم والنصيحة، ينالهم الأذى، ويؤخذ منهم المال
في الدنيا. فإذا ما جردوا سيوفهم مع الإمام فلا سبيل إلى إيذائهم، والناس على ثلاثة
أقسام: المؤمن، والمستضعف، والتائب. وإن طالت البلوى والمحن وأمسك بالدعاة عن
الدعوة، وعظمت المعارضة لها يكون حال الإمام مثل شكوى زكريا وضعفه. فالشيب هم
المنافقون وسيطرتهم على أهل الباطن، والخروج من المحنة عن طريق الرمز وعدم الحديث للناس.
٢٤
وتنقسم الرسالة إلى علم وعمل من أجل الثواب والعقاب. وإذا كان العلم منقسمًا إلى
ثلاثة علوم: العلم الأعلى وهو علم اللاهوت، والعلم الأوسط وهو معرفة حركات الأجرام،
والعلم الأدنى وهو علم الطب والصناعات، وكان العمل أيضًا منقسمًا إلى ثلاث: سياسة
العامة، وسياسة الخاصة، وسياسة الحاقة. فإن الرسالة أوجبت معرفة الله بهذه الأقسام
الثلاثة للعوالم وللعلوم. ومع ذلك تظهر الحكمة في النفس أكثر من ظهورها في العالم.
العلم في النهاية آلة القبول الفوائد العقلية والآثار الإلهية والوصول إلى المقام
المحمود والخروج من هذا العالم بالفوز.
العلم والعمل واجهتان لعملة واحدة. العمل بغير علم جهل. في حين يركز أهل السنة
على أهمية العمل تعبيرًا عن العلم، فهم أصحاب العلم ويريدون العمل، والشيعة أصحاب
العمل ويريدون العلم الراسخ. والإيمان التصديق بمحمد وبصاحب القيامة الذي أشار إليه
الرسول في حديثه بالرغم من أن الساعة ليست القائم، والمستوى الأفقي غير المستوى
الرأسي. العلم في النهاية آلة لقبول الفوائد العقلية والآثار الإلهية للوصول إلى
المقام المحمود والخروج من هذا العالم بالفوز ولا يسقط من الأعمال شيء، ظواهرها
وبواطنها. وتقبل أعمال الواصلين الذين دخلوا دور الجرم، ويقفون في بعد الجزاء في
مقابل المنافقين الذين في الدرك الأسفل.
٢٥
ويتم تأويل الشرائع أيضًا إلى الداخل، من أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب كما هو
الحال عند الصوفية أو إلى الخارج المشخص، إلى الأئمة المظلومين. وأحيانًا يتم
النداء إلى العمل المعبر عنه الإيمان كما تفعل أئمة الظلم دون تأويل. مع أن العلم
والعمل من نفس المصدر، ونفس الاشتقاق، ونفس تكوين الحروف مع التبديل، اللام قبل
الميم في علم، والميم قبل اللام في عمل. وكلاهما يبدآن بالعين مع تأويل «الملم
الطيب» بأنها اللطائف الراجعة إلى عالمها. فلا فرق بين الكلم والوجود. والإيمان هنا
بالأئمة بعد تسميتهم بأسمائهم. والسبيل إلى استطاعة حج البيت ليست الوسائل المادية
بل العلم والإيمان الحي المقرون بالعمل غير الإيمان المذموم الفارغ من أي
عمل.
وأفضل الأعمال الصلاة. وهي نظرة شرعية فقهية عادية لا تأويل فيها بما في ذلك
الصلاة الوسطى. والحج أيضًا نظرة شرعية فقهية. والجديد في التفسير لا يوجد دائمًا،
بل يكون مجرد مقدمة عادية يأتي بعدها الجديد حتى يبدو التأويل الجديد مشوقًا
مسترعيًا الانتباه أمام التفسير القديم وبارزًا وحتى لا يمل القارئ وينفر ويخاف من
كثرة الجديد وحتى يرتبط بذاته، ويقبل الجديد خارجًا من القديم، وليس متصلًا به وليس
منقطعًا عنه. والركوع والسجود هو الأساس أي الأمر بإقامة الظاهر لصاحب الدور وأن
الباطن حجته. وغسل الوجه هو الإقرار بالناطق، واليدان طاعة الوحي والمسح على الرأس
الإقرار بالسابق، والمسح على الرجلين الإقرار بمعرفة الأصلين والصيام هو الستر
والكتمان كما فعلت مريم.
٢٦
وأحيانًا تكون أركان الإسلام أو الشرعة لا جديد فيها وعلى ما يألفه الناس كبداية
وليس كنهاية وكوسيلة للدعوة، والبداية بالمألوف والانتهاء بالغريب. الشهادة مفتاح
الجنة والشرك على وجوه ستة. منه ما يكون أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة
الصماء في الليلة الظلماء. وأكبر درجات الشرك جعل الله شركًا في ملكه أو معينًا في
قدرته أو مشيرًا في أمره. وأقرب ما يكون العبد إلى الله ساجدًا. الصلاة عماد الدين
ومن لا صلاة له لا دين له. الصلاة زاد، شفع ووتر، والوتر تفرد. وصلاة ركعتين من
عالم منقطع خير من خمسين ألف صلاة. تضمن الصلاة ستة أركان: الوقوف، والتكبير،
والركوع والسجود، والتحميد، وسابعها النية. وكلها إشارات إلى النطقاء الستة. وقد
يكون لهذه الأركان الستة معانٍ أعمق. فالتكبير تلاوة العلم، والركوع حد الأساس،
والسجود حد الناطق، والتمجيد الحدود العلوية، والتسليم درجة الإجلال. وكل صلاة لا
يقرأ فيها أم الكتاب فهي خداع. وأم الكتاب هو الحمد لأن جميع الحدود موجودة فيها.
الحمد فيه سبع آيات، وخمسة وعشرون كلمة، ومائة وخمسون حدًّا، معرفتها كلها شرط
الصلاة وليوم الجمعة فضل خاص كما تدل بذلك أحاديث الرسول. الجمعة وحدها ممثول
الناطق. وإذا كانت الدواب مشفقة من يوم الجمعة فإنها تشير إلى أولياء الله وحججهم
ودعائه كما أن الدعاء يوم الجمعة مستجاب. والحدود ثلاثة، تحريم الخمر لأنها نصب
للمكائد كما وكز موسى، والسحر المذموم، والملك المذموم، ثم تحريم الميسر، ثم تحريم
الأزلام والأنصاب، والدعوة للمتعة بالنساء مطلقة ولكن زالت بالنكاح كما قال الرسول
بأن النكاح بخمسة، زوج وزوجة وولي وشاهدين، بكل ما يوحي به العدد خمسة من
رموز.
(٤) الإمامة
والعجيب أن الإمامة ليست موضوعًا رئيسيًّا مستقلًّا في الفكر الفلسفي الشيعي، وهي
مرتكزه الأول في علم الكلام. ومنه كان الصراع قائمًا حول ألوهية الأئمة.
٢٧ ومع ذلك فتبدو الإمامة منتشرة في نسق العقائد كله، في التوحيد والعدل،
لب العقليات، وفي النبوة والمعاد لب السمعيات. ولا تظهر كموضوع شرعي حرفي كجزء من
شرعيات. فهي من الأصول وليست من الفروع.
والطاعة للأئمة واجبة مثل طاعة الأنبياء وكما هو الحال عند أهل السنة طاعة
الخلفاء والأمراء، طاعة السلطة وطاعة المعارضة، سلطتان تتنافسان على نفس الجمهور
دون جعل طاعة الحكام مشروطة بطاعة الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في كلتا
الحالتين.
وكما أن النبوة متوارثة في المصطفين وذريتهم كذلك الإمامة تكون في نفس العقب.
وتجتزئ الآيات التي توحي بتوالي الأئمة والذرية وكأن القرآن شيعي المذهب مع أن
النبوة ليست وراثة والخلافة مشروطة بالصلاح في الأرض وليس بالنسب. لقد نصب اللهُ
الرسولَ ووصيه، وإقامة عن أمر ربه، وأخذ عليهم البيعة لهم، وأعلم أن أمير المؤمنين
مولاهم. فإتمام الإسلام بولاية الوحي وطاعته. بل إن الدواب هي أيضًا أولياء الله
وحججه ودعاؤه. فالبداية أو الجناح حجة، والطائر الداعي، هو الطائر الذي نفخ فيه
عيسى الداعي من قبل الإمام وكذلك هو الهدهد في قصة سليمان. التفسير الحرفي للدواب
بأنها حيوان تفسير سطحي للجهال. لديَّ إذن إحساس حاد بالدعوة والرسالة لمقاومة
الظلم وتحقيق غاية الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ.
٢٨
والفتح على الرسول في القائم على ذكره وعلى أيدي خلفائه قبل ظهوره. ومنهم حجته.
فالفتح قادم ولم يتم بعد. والقيامة فتح بهذا المعنى لأنها كشف عن الحقيقة والنطق
بعد النبوة، والجدار الذي يريد أن ينقض أي ينطق بالقوة التي أتت بعد اتصاله
بالنبوة. وما دامت الآية تتحمل التشخيص وتصف الجماد وكأنه كائن حي فلا فرق بين ظاهر
الآية وتأويلها بتحقيق مناطها. ويتم تخرج المناط بلا دليل من لغة أو حس أو
عقل.
والمستودع مثل يوشع بن نون وصلته بولد هارون. والبقرة الصفراء تعني العلم.
والفاقع يعني المسارعة بالتأييد. والناظرون هم غير الأئمة، والشعائر يعني عدم كشف
حدود الله، والشهر الحرام هو الناطق، والهدى كشف الأساس، وهو بداية الخلق، والقلائد
هم الأئمة المستورون القائمون بظاهر الناطق باطن الإسلام بعدهم لأنهم هم الذين
يقلدون الناس العهود والمواثيق والآمون البيت الحرام. هو القائم. وهذا كله نوع من
تخريج الناطق على المذهب وليس على العقل.
٢٩
والباب دليل على الأساس كما وصف الرسول نفسه بأنه مدينة العلم وعلي بابها. والباء
دليل على الإمام لأنها حرف نداء في أوله الكلمة وحرف النسبة في آخرها ولأن النسبة
الروحانية متصلة به من جميع الحدود عند الكشف. والباب الواحد دليل على
الأساس.
والقائم وهو الرسول، مالك لجميع الحدود كلها. وكل النطقاء والحدود والأولياء
والنخباء موقوفون لظهوره. القائم هو الذي يثيب ويعاقب الثواب الأكبر والعذاب
الأكبر. واليوم ظهور بالقائم في الصورة الروحانية في النفخة الثانية، يوم فصل القضاء.
٣٠
كما أن لكل أمة نبيًّا، كذلك لكل قوم إمام. وكما تدعى كل أمة مع نبيها، كذلك يدعى
كل إمام مع قومه. وإذا كان الرسول قد أشار إلى السبعة أتماء، ثلاثة منه وأربعة من
غيره فالثلاثة ولده وولد ولده، والأربعة من غير عصره ولا ذريته، الأحدث والمختلس
وأخ المختلس والقداح. وربما هم الدعاة واضعو رسائل إخوان الصفا. وكيف يعقل أن يشير
الرسول إلى إخوان الصفا وقد أتوا بعده؟ وكيف يكون لرسول ذرية وليس له ولد والذرية
من البنات على غير عادة العرب؟ وكيف تكون الإمامة من خارج ذرية الرسول، وهي الأكثر،
أربعة من سبعة؟ وماذا تعني الألقاب: الأحدث والمختلس والقداح؟ وأليس لأخي المختلس
اسم؟ هل لهذه الألقاب دلالات على الحالة النفسية والاجتماعية للمضطهدين بالرغم من
أن البعض منها سلبي مثل المختلس حتى ولو كان الحقيقة والعلم. وكلهم عبد الله
انتسابًا إلى الله. وكما قام محمد بمبادئ شرائع من تقدم قبله فالأئمة من بعده
متممون الشريعة ومحيون السنة. فالإمامة متممة للنبوة وكاشفة لها مثلما كانت آخر
مرحلة متممة وكاشفة لما قبلها.
بل إن علاقة الأنبياء بعضهم ببعض هي علاقة إمام بإمام. فالإمامة منطق النبوة.
إسماعيل وإسحاق إمامان بعد إبراهيم، من ملة واحدة. تجوز عليهما على التبادل، ولكنها
في أولاد إسماعيل لأنه هو القواعد التي رفعها إبراهيم وجعلها في عقبه. وصاحب العصر،
وناطق الوقت هو رسول مريم الذي أعطاها التأويل ما لم يصل إلى زكريا وهو رسول الإمام
وداعيته. لا تهم كثرة أضداده إذ تدل الكثرة على الأمل المستمر والجهاد المتواصل
وكثرة الخصوم. وقد اجتمع بها رسول الإمام خزيمة وبشَّرها بظهور المسيح.
٣١
وكما أن الأئمة ورثة الأنبياء فإن النطقاء ورثة الأئمة. وكما أن لكل نبي إمامًا
فإن لكل إمام ناطقًا. والدليل على أن الزمان على حد الناطق ومضاف إليه اتفاق الناس
على القول بالزمان الصالح والزمان الفاسد. ليس المراد بالفاسد حدة مرور الشمس
والقمر والحركات العلوية لأنها طبيعية وليست أخلاقًا، موضوعًا وليست وصفًا بشريًّا،
ولكن المراد ظهور الناطق في العالم الجسماني الذي به صلاح النفس في معادها، والزمان
الفاسد ظهور الضعف الذي يصد الناس، وهو فساد الأنفس في معادها. وهو معنى إشارة
الرسول إلى استدارة الزمان كالهيئة وقت خلق السموات والأرض أي ظهور حده وشريعته
وتنزيله الذي يجمع حدود الخلق، وخلق التراكيب. هناك تبادل بين الطبيعة والشريعة،
بين الكون والإمامة، بين أدوار الأنبياء ودورات الأفلاك. وكلاهما في الزمان.
ويستمر النطقاء في الآخرة كما كانوا في منزلتهم في الدنيا. القائم هو الذي يثيب
ويعاقب، الثواب الأكبر والعذاب الأكبر. واليوم المعلوم يوم ظهور القائم في الصور
الروحانية في النفخة الثانية يوم فصل القضاء. ثم يظهر أهل المقامات حتى توفى كل نفس
ما كسبت دون ظلم. وهو ما تقوله المسيحية في المسيح الذي يحاسب ويعاقب أيضًا في
الآخرة. فالظلم الذي وقع على الإمام وعلى المسيح واستشهادهما ومصيرهما واحد.
وتنتهي النبوة والوصاية والولاية والإمامة تبدأ. النبوة للماضي والولاية للمستقبل
حسب زمن الأفعال في اللغة العربية. تعني نهاية النبوة وختمها أن الشريعة لا تنسخ
ولا تتبدل ومع ذلك باقية في عقبه بتفويض من النبي إلى الولي. وهو ما يتناقض مع
مسئولية العالم في الحفاظ على تطبيق الشريعة وبصرف النظر عن عقبه ونسبه.
٣٢
ويكون التأويل تحيينًا أي تطبيقًا للنص على الأئمة، علي وبنيه، كنوع من تحقيق
المناط في علم أصول الفقه. الواقع في أزمة، والأئمة مضطهدون ومستبعدون. ومِن ثَم
يأتي النص تحريرًا لهم وتأكيدًا على سلطتهم. الأنفس في القرآن تشير إلى النطقاء
السبعة، والمهدي وهو أحدهم هو المسجد الأقصى الذي يعبد فيه الله كما هو الحال عند
اليهود. فالاضطهاد والتفوق بنية نفسية واحد للمظلوم والظالم. وقد يكون التعيين
للأماكن كما هو للأشخاص. فالأئمة أصحاب القدس. قلة مؤمنة، أفضل الخلائق. التأويل
يرد النص إلى الذات لإثباتها والدفاع عن حقوقها وكأنها هي سبب نزول النص، ولزعزعة
الشرعية عن الذي يعتمد على نفس النص. الغاية تفريغ النص من مضمونه القديم وملته
بمضمون جديد يقوم التأويل على تحقيق المناط، علي وبنوه.
وتُؤَوَّل الطبيعة أيضًا على الأئمة. فالجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام لا تعني
الألواح والسفن بل ما قاله جعفر بن محمد من ضرورة الخلف للسلف، والإمامة للنبوة،
والصامت للناطق والأساس للقائم. وتقوم حركة التأويل على تحويل مسار الآية إما إلى
الوراء إلى الأئمة أو إلى الأمام نهاية العالم، والإمام المنتظر، أو إلى أعلى، عالم
الأجرام السماوية والكون أو إلى أسفل والطبيعة. الآية ممثل في حاجة إلى
ممثول.
والسؤال هو: هل التأويل يأتي من داخل النص موضوعيًّا أم من خارجه ذاتيًّا ويتم
ملء النص به؟ وتتوقف الإجابة على تصور النص هل هو شكل أو مضمون؟ هل مهمة المفسر
إخراج المضمون من النص أم أن النص مجرد شكل يأتي مضمونه من الخارج كما تفعل الشيعة
صراحةً وربما السُّنة ضمنًا بدعوى موضوعية التفسير طبقًا لأسباب النزول وقواعد
اللغة العربية. وقد قيلت مثل هذه الأحاديث في عديد من الصحابة. كانت إعادة الرسول
مدح أصحابه ثم يتم تحقيق المناط في الشخص إذا كان الحديث عامًّا عن المسئولية بعد
النبوة. وإن أشار الرسول إلى شخص من خارج البيت فإنه يشير إلى الحد الجليل والنفس
المستودعة في دور القائم.
ويتم تفصيص آية النور بنفس الطريقة. فالله نور السموات والأرض جمعت دور محمد
وشجرة النبوة التي تمتد من الحدين العلويين حتى شجرة طوبى فسدرة المنتهى. والزيتونة
المباركة القائمة بالحروف الروحانية والحدود الجرمانية والجسمانية. والنور هو
الناطق والأساس. والمشكاة في المصباح هي الوصية. والمصباح في زجاجة أي سر النفس في
النفس الكلية، ويوقد أي ما ظهر أي ما يوقد من فاطمة وولدها إلى القائم. والشجرة
التي لا هي شرقية ولا غربية بل كونية إلهية قدسية أزلية تجمع النطقاء والأسس
والأئمة واللواحق والأجنحة والمأذونين والمستجيبين. والمشكاة ظهور الشمس. والمصباح
المضيء اسم النبي والقنديل الزجاجي كنية عن إسماعيل. والكوكب الدري عبد المطلب. أما
السابع فهو القادم من المغرب صاحب الهجرة المصرية، الإمام المعز لدين الله الفاطمي.
وينتهي الأمر إلى تبرير السلاطين والحكام وكأن القرآن قد ذكره وقد أتى بعد نزوله،
وبالتالي يمكن تطبيق الآيات على كل إمام. ويمكن كما فعل البعض في جعل رزق كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا أي شخص يدعى رزق. وواضح الجو الصوفي. فهي الآية
الأثيرة عند الصوفيين. الإمام يشرق من المغرب وليس من المشرق كما هو الحال في
الفلسفة الإشراقية وعند الحكماء المشرقيين. تحارب الشيعة بنفس السلاح السلطان الذين
يدعون للإمام السني على المنابر. كل فريق يطبق الآية على إمامه، ويجعل الأضداد
وخصومه والأولياء أنصاره، نصًّا بنص، وسلاحًا بسلاح كما يحدث الآن في معارك النصوص
التي لا تنتهي طالما بقي الصراع الاجتماعي قائمًا. مثل اللهُ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ
مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ
يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ
يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وكل نبي مع ناطق مثل موسى وهارون ومحمد وعلي. لقد قرن الله الوحي الناطق بالدور
الصامت وكما عبر عن ذلك في قصة نوح وموسى ومريم. صنع نوح الفلك بأعين الله وصية.
والذين مع محمد على، شديد على الكفار. والرحماء بينهم الحسن والحسين، وهما من
الأتماء بعد الوصاية. والركع السجود زين العابدين والباقي، والذين يبتغون فضلًا من
الله ورضوانًا الصادق وإسماعيل. والزرع الذي أخرج شطأه الذين لم يكن لهم نظير.
والمؤازرة حيازة الإمامة، والاستغلاظ تقوية الظهور على الأعداء، الثالث من
المستورين الذين نشروا الدعوة، والاستواء على السوق أي الإمامة. وإعجاب الزراع أي
المستجيبون. وإغاظة الكفار بظهور المهدي. والوعد للذين آمنوا بظهور القائم، وهو
نهاية النطقاء وعلة الأوصياء.
٣٣ يخرج الشيعة المناط على الأوصياء تأكيدًا للواقع التاريخي، وتثبيتًا
للخراصين، وإقالة للظالمين. فالتعيين ضد الظلم. هناك آيات نمطية عند جميع حكماء
الشيعة مثل
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ وآية النور المشهورة عند الصوفية، يتم تقطيعها، وتطبيق كل عبارة
منها على أحد الأتماء لتخريج المناط مجسمًا مع أن الآية صورة فنية واحدة لا تنطبق
على أحد بعينه. ولا تضمن أحكامًا بل تعطي دلالة عامة لكل موقف دون تعيين أشخاص.
ولكن الضياع جعل حكماء الشيعة يقرءُون أنفسهم اسمًا ووصفًا في النص، وتترك باقي
الآية بلا تفتيت ربما لصعوبة في إيجاد الشخص المطابق.
وفي التاريخ نفسه خارج الوعي التاريخي هناك خلاف بين الشيعة أنفسهم في ذرية
الأئمة. أنكر البعض إمامة أولاد إسماعيل بالرغم من نص النبي عليها ولو ببعض
التأويل. يعكس الفكر الفلسفي الشيعي الخلاف فيه، أهل الظاهر وأهل الباطن، العامة
والخاصة، المعتدلون والمتطرفون. وحديث الذرية قد يوحي ببعض العرقية أو الشعوبية أو
القبلية، يختلف فيه الناس على عكس اتفاقهم في العلم والفضل وباقي القيم الإنسانية
العامة. قد تكون الأحاديث ضعيفة ولكنها تُؤَوَّل طالما أنها تتفق مع المذهب وتؤيده.
فالنص بصرف النظر عن صحته التاريخية يعطي الشرعية النفسية للأزمة السياسية
والاجتماعية للمضطهدين. وكثير من الأحاديث التي يذكرها الشيعة ضعيفة أو موضوعة مثل
الأحاديث عن الوصاية بعده ثلاثة منه وأربعة من غيره حتى يتم النطقاء إلى سبعة. بل
يذكر البعض بالأسماء مثل سلمان وعلي.
٣٤
ومع ذلك فإن نسق العقائد عند الشيعة أكثر ثورية من النسق الأشعري. ويعتمد في
التوحيد والعدل على أصول الاعتزال. فالتشيع والاعتزال من عقائد المعارضة في مقابل
عقائد الأموية. وقد انضم بعض المعتزلة إلى ثورات الأئمة ضد الحكم الأموي وتعاطفوا
معهم، والصلة بين أبي حنيفة وجعفر الصادق، بين أهل الرأي والتشيع، صلة تاريخية
وليست فقط ألفة فكرية. ربما كانت ثورة الشيعة أكثر فاعلية ضد السلطان من ثورة
المعتزلة. فثورة الشيعة تجربة حية ودم، تهدف إلى تغيير نظام الحكم. في حين أن ثورة
المعتزلة استنارة عقلية درءًا لمخاطر المواقف المتطرفة، بحثًا عن المنزلة بين
المنزلتين.
(٥) تاريخ الأديان
ارتبط الفكر الشيعي بتاريخ الأديان المقارن نظرًا لبحثه عن الأصول الأولى التي
يمكن أن يستند إليها في مواجهة أهل السنة. فالأنبياء أقوى من الخلفاء والأمراء،
والأئمة ورثة الأنبياء. وفي قصص الأنبياء وانتصارهم على خصومهم خير شاهد على انتصار
أئمة آل البيت وهم من نسل الأنبياء على خصومهم في السلطة، مثل انتصار موسى على
فرعون. وتاريخ الأنبياء يصب كله في غاية واحدة، انتصار الحق على الباطل، والعدل على
الظلم في مقابل حديث «الفرقة الناجية» وجعل أهل السنة هم أهل الاستقامة والحديث،
الفرقة الناجية وكما فعل السجستاني في «إثبات النبوات». ولا ينفصل تاريخ الأديان
المقارن عن فلسفة الدين نظرًا لأن جوهر الأديان واحد، ويرجع الخلاف بينها في
التصورات واللغات وأشكال الشعائر وليس في التوحيد أو العدل، وهي الأصول العقلية
التي يقوم عليها كل دين.
وقد لجأ الشيعة لتاريخ الأديان لعدة أسباب منها:
-
(١)
البحث عن العمق التاريخي لزعزعة النظام السياسي الحاضر، في ثقافات
الشعوب التي تحولت إلى الإسلام، اعتمادًا على الثقافات الوطنية للشعوب،
خاصة وأن الثقافة الوافدة كانت أحد عناصر ثقافة البلاط.
٣٥ فلا يقوى على الحاضر إلا الماضي. ولا يزحزح النظام
الاجتماعي إلا التراكم التاريخي.
-
(٢)
الحاجة إلى ثقافات جديدة تساعد على التأويل من أجل نزع الشرعية عن
تأويل السلطة. وتاريخ الأديان أكبر رصيد لتأويلات الفرق ولتجارب الأمم
السابقة.
-
(٣)
البحث عن تصورات جديدة لبناء عالم ثقافي جديد يشعر فيه الناس
بالسعادة خارج العالم الأرضي الذي تسيطر عليه دولة الظلم، وبالتالي
إنشاء مدينة فاضلة جديدة بل وفرق تمارسها مثل إخوان الصفا.
وتاريخ الأديان مصدر داخلي موروث من تاريخ العرب قبل الإسلام في العصر الجاهلي
مثل ديانات العرب أو اليهودية والنصرانية أو ما وجد منها في فارس قبل الإسلام بعد
أن فتحها المسلمون أو بعد الإسلام مثل الفرق الإسلامية بما في ذلك فرق الشيعة أو
المتنبئون. وهي ديانات وثقافات الشعوب التي دخلت الإسلام، عربية أو عجمية والتي
سميت في كتب المقالات الفرق غير الإسلامية. فهي أقرب إلى الموروث منها إلى الوافد
بما في ذلك الموروث الفارسي. بل إن الوافد اليوناني يعتبر موروثًا عربيًّا في الشام
بعد أن تم نقله إلى السريانية. ولما فتحت الشام أصبح موروثًا ثقافيًّا عربيًّا مثل
ديانات فارس وديانات العرب قبل الإسلام.
٣٦
تاريخ الأديان مصدر داخلي للفكر الفلسفي الشيعي وليس مصدرًا خارجيًّا نظرًا
لاعتمادهم على الموروث الثقافي الشعبي. والثقافة الشعبية أقرب إلى الجماهير من
ثقافة الخاصة، ثقافة البلاط التي ساد فيها الوافد اليوناني. ومن السهل تثوير
الثقافة الشعبية، الموروث الديني لأنها حية في قلوب الناس ضد ثقافة الخاصة، الوافد
اليوناني. فالفرق غير الإسلامية بتعبير علم الكلام هي فرق إسلامية بمعنى أنها نشأت
في بيئة إسلامية وعلى اتصال تاريخي بالإسلام مثل الصابئة، دين آل إبراهيم،
واليهودية، والنصرانية، وديانات العرب قبل الإسلام، وديانات فارس. ولم يكن للروم
ديانات في شبه الجزيرة العربية غير النصرانية.
ويمكن التمييز بين سبع فرق على الأكثر:
-
(١)
الديانات الفارسية مثل الثنوية، والمجوسية عبدة النيران، والزرادشتية
والبهافريذية، والمزدكية.
-
(٢)
الديانات العربية قبل الإسلام مثل الصابئة أي عبادة الكواكب، وعبادة
الأصنام والآثار أي الشرك.
-
(٣)
اليهودية وفرقها وكتبها المقدسة.
-
(٤)
النصرانية وفرقها مثل الديصانية والمرقونية.
-
(٥)
الفرق الإسلامية مثل المرجئة، والجهمية، والتناسخية، والقدرية،
والرافضة، والحرورية، والحنفية، ويحكمها جميعًا الفعل ورد
الفعل.
-
(٦)
الشيعة وفرقها مثل العلوية وأئمتها علي بن أبي طالب، وجعفر الصادق،
وعلي زين العابدين.
-
(٧)
المتنبئة مثل مسيلمة، وطلحة، والقطري.
٣٧
وإذا كانت النبوة مقياس التصنيف تصبح الملل عند السجستاني أربعًا: اليهودية،
والنصرانية، والمجوسية، والإسلام، ثم تختلف بعد ذلك في الأنواع الدينية. وهنا تبدو
الديانات والثقافة الوطنية في فارس القديمة كأحد مكونات الفكر الفلسفي عند
الشيعة.
كما يظهر التشيع في جعل القائم هو الذي يفصل بين الفرق الإسلامية وليس العقل أو
الواقع أي المصالح العامة لما كان النقل مختلفًا عليه. وكلهم إلى رسول الله منتسب،
استبدال سلطة بسلطة، سلطة المعارضة بسلطة الدولة السنية، إمام الشيعة بفقيه
السلطان.
وكما أن عند أهل السنة حديث الفرقة الناجية الذي يجعل فرق الأمة الاثنين وسبعين
كلها ضالة باستثناء واحدة منها الثالثة والسبعين هي الناجية وهي فرقة السلطان يبين
الشيعة أن فرقتهم هي أيضًا الناجية لأن السعادة والعز والرئاسة لا تكون إلا من جهة
الرسل، ولا يوجد علم إلا من جهة الرسل، وإن رؤساء العالم كلهم الذين بأيديهم
الأحكام والملك جارون تحت أحكامهم، براهمة وسوابدة وأساقفة وجواليت وعلماء
وفقهاء.
وتتراتب الملل والشرائع فيما بينها على هيئة الأنواع والأجناس مثل الملل الست.
ويتم الانتقال من الطبيعة إلى الشريعة، ومن الشريعة إلى الطبيعة، من الخارج إلى
الداخل، ومن الداخل إلى الخارج. فالحق بالحق، وإقامة الحدود بالحق للخلق. الخلق
والحد يقومان على أصل واحد وهو الحق.
والرسالة عقل له حدود أربعة مثل الجهات الأربع، الشرق والغرب والشمال والجنوب.
حدها الغربي خصوص الرسالة بتأييد السابق. وحدها الشرقي ما اطلع على سرائر التراكيب.
ومن شمالها تأليف الشريعة. ومن جنوبها إقامة الأساس للتأويل.
٣٨
(أ) الثنوية
وهو اللفظ الجامع لكل ديانات فارس التي تقوم على الثنائية المتضادة بين الخير
والشر، النور والظلمة، الحق والباطل. ويعرضها السجستاني مع نقد لها ورفض
لعقائدها دفاعًا عن التوحيد، ورفضًا لانتصار الخير على الشر أو لمساواة الشر
للخير أو للوجود وليس التوحيد الذي يجعل الخير هو الأصل والشر طارئًا عليه من
فعل الإنسان وسوء حكمه وتقديره واتباع أهوائه وغوايته كما حدث لآدم. ويتم تفريع
فرق الثنوية على هذا الأساس ورفضها جميعًا، وضع الشر في مقابل الخير على حد
المساواة مثل الثنوية، أو جعل الشر (الهرمزد) هو الأصل وليس الخير (الأهرمن)
مثل المجوس، أو إضافة الشر إلى المبدع وجعله أزليًّا مع الخير مثل الهافريدية.
وهلاك الشر بالخير ممتنع لأن الشيء الأزلي لا يهلك. فوقع الدين كله كمذهب فلسفي
في تناقض.
وتشارك فرق الثنوية الديانات الأخرى في بعض العقائد والشعائر مثل أسماء الله
والحج. إذ يذكر المسلمون والنصارى واليهود والمجوس والصابئة أسماء الله ويدعونه
بها. ولكنهم عرفوا الظاهر دون الباطن، والاسم دون المعنى، والمثل دون الممثول.
والحج في الإسلام قصد بيت الله الحرام مثل بيت المقدس عند اليهود والنصارى،
وبيوت النيران عند المجوس، وهياكل الأصنام لعبدة الأوثان. والصيام عند المسلمين
واليهود والنصارى والزمزمة للمجوس.
٣٩
ويعترض السجستاني على هذه الديانات بأنها ديانات طبيعية وليست ديانات وحي ما
دامت الحجة في الدين تبعية القوم الكثير لرؤساء الملل. ولا يعتبر السجستاني
ماني وزرادشت وبها فريد ومزدك وديصان ومرقون وغيرهم أنبياء أو رسلًا. بل هم من
المتنبئين. لم يتنبهوا إلى شيء باستثناء زرادشت الذي وضع كتبًا في عمارة هذا
العالم يميل فيها إلى الشهوات الحسية، ويؤجر عليها صاحبها ويثاب. فإذا ما
انتشرت هذه الدعوة أتت بالفضائح وأدت إليها. الرسالة إذن نوعان: نوع مخترع
وكاذب ومبتدع مثل ديانات هؤلاء، ونوع صادق مثل دين الإسلام لولا أنه انحرف على
أيدي أهل السنة وجاء الشيعة لتصحيحه. ديانات الطبيعة باطلة، وديانات الوحي حقة،
وكأن الدين الطبيعي خالٍ من العقل والفضيلة، والوحي نفسه يقوم على العقل
والفطرة أي الطبيعة. في حين أن أهل السنة يضمون فلاسفة اليونان إلى زمرة
الأنبياء مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ. وإذا كان الفكر الفلسفي
الشيعي نفسه يقوم على ثنائية الخير والشر، العدل والظلم، الشرعية والتسلط،
الثورة والسلطان فلماذا إخراج أنبياء الشرق من زمرة الأنبياء كما أدخل أهل
السنة فلاسفة الغرب في حظيرة الأنبياء؟
وتشارك فرق الثنوية، الزرادشتية، والمزدكية والبهافريدية والمانوية بعض فرق
النصرانية مثل الديصانية والمرقونية في نفس النقد. فرؤساء هذه الفرق زرادشت
وماني ومزدك وبهافريد وديصان ومرقيون قد اخترعوا لأنفسهم مللًا وشرائع ألزموا
الناس بها فصاروا لهم تابعين أكثر من تبعيتهم للدين. مأساة الدين رجاله. لا
يوجد رسول من الله يطالب الناس أن يكونوا له تابعين لدرجة اشتقاق اسم الدين منه
وكما يقول المستشرقون المعاصرون «المحمدية». لقد آمن عامة بلاد الصين ومانين
بمذهب ماني، يتقربون به إلى الله، ويدرسون كتبه. وانتشر في سائر الجبال والبلاد
مذهب زرادشت لعبادة النار. وسبب ذلك قانونًا عامًّا ينطبق على جميع الحالات،
وهو تفرع الملة الواحدة إلى مذاهب كثيرة، بعضها على حق والآخر على باطل. وينطبق
نفس القانون على الإسلام عندما تفرعت ملة إبراهيم إلى مذاهب مثل اليهودية
والنصرانية والإسلام. ومعيار الحق والباطل هو طلب الرئاسة وإضافة جزء إلى الدين
لتبريره وهو ليس منه. حدث ذلك في المانوية والديصانية والمرقونية بإضافتهم إلى
ما شرع المسيح بدعوى تجديد دين إبراهيم ودين المسيح. وينطبق أيضًا على أحبار
اليهود وفقهاء السلطان، وهو ما لاحظه الكندي من قبل في رسالته إلى المعتصم
بالله في الفلسفة الأولى في نقده لرجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة
في وضعهم تعارضًا باطلًا بين الفلسفة والدين.
(ب) النصرانية
وتشمل اليهودية نظرًا لأن النصرانية إكمال وإتمام لها. وتذكر بعض الأسماء مثل
جرجس ويهوذا، ثم إصطفانوس ثم مثيانوس وفينان. ويستشهد السجستاني بالكتب
المقدسة. التوراة والإنجيل، بتوجه القرآن والعودة إلى الأصول، ونظرًا لوحدة
الوحي وتصحيح مساره في التاريخ في المرحلة الأخيرة. كما يريد الشيعة تأصيل
الحاضر في الماضي، والتعويض بتقدم التاريخ في الماضي عن انهياره وسقوطه في
الحاضر، وإيجاد العمق التاريخي اللازم لتأييدهم ضد الاستيلاء على السلطة في
الحاضر. ويستشهد بالإنجيل على تنزيه الله عن جلب المنفعة ودفع الضر عن نفسه إلا
على سبيل المجاز، المنفعة والضرر للإنسان منفعة وضرر لله نظرًا للتوحيد المعنوي
بين الله والبشر. ويتم الاستشهاد بسِفر أشعيا الذي تنبأ بقدوم المسيح راكبًا
الحمار مثل محمد راكبًا البعير. ويبدو جمال الآيات في تقابل الإيجاب والسلب كما
هو الحال في الطوباويات في طريق الإبداع الغني خاصة وأن النص ليس رواية تاريخية
متواترة كما هو الحال في النص القرآني، من ترجمات عربية رصينة. ويشير إلى شريعة
النصرانية مثل طقس العماد، وشريعة اليهودية مثل الختان حتى لا يطرأ الفساد على
الحق عامة والنبوة خاصة. وكل شريعة خاصة بذاتها لا تضاف إلى شريعة أخرى. وإذا
كانت النبوة متصلة فإن الشريعة منفصلة، وإذا كانت الأديان واحدة فإن الشرائع
كثيرة. وقد تعني الشريعة معنيين عامًّا وخاصًّا. العام هو الدين المنزل
كالتوراة والإنجيل والزبور، والخاص مثل الأوامر والنواهي.
٤٠
(ﺟ) الفرق الإسلامية
ويعني بها السجستاني فرق أهل السنة وحدهم. ومن الشخصيات الإسلامية تذكر فاطمة
ثم خزيمة، وعبد الله بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله ميمون، ودحية
الكلبي، وبنو العباس، ثم المعز لدين الله، وعمار، وحسام، وبرد، ويغوث، ونسرى من
آلهة العرب. ومن الأماكن المحلية الغرب ثم مكة ثم اليمن، والشام، وبيت المقدس،
ثم الطائف.
٤١ كما يشار إلى العرب لغة وبيانًا. ومع العربية تضاف السريانية.
فالعبادات ثلاث وثلاثون حرفًا، ثمانية وعشرون في السريانية، وخمس في اللغات
الأخرى طبقًا للتقابل بين الشعائر والحروف. ويشار أيضًا إلى الواقع المحلي
الجغرافي التاريخي كمادة للأمثلة، قريش، ونيسابور بأمثلة للجنس المنطقي، ومكة
كمثل للحج الذي يقصده الناس بالرغم من عناء السفر، والعراق كمثل للخصب
والاعتدال وأحد أسباب غلبته. كما تذكر بغداد كدار هجرة بني العباس، مكانًا
لوفاة الإمام، والجيزاية مكانًا لدفنه.
ولما كانت ملة الإسلام ظاهرة، وامتلأ العالم بالمسلمين فإن ذلك يكون بفعل
فاعل. وعلى مقدار شرفه يكون شرف رسوله على سائر الرسل.
والنبوة قاصرة على أهل بيت النبوة ولا تخرج من نسل النبي، وهو التصور اليهودي
الذي يجعل النبوة وقفًا على بني إسرائيل كنوع من تقوية النفس ضد القبائل الأخرى
في صراع القوى. ومِن ثَم فكل المتنبئين مثل مسيلمة الكذاب وطلحة والقطري وغيرهم
مهما اجتهدوا في وضع شيء ينبع من قلوب الناس ويستقر في عقولهم فإنهم لا
يستطيعون إقناعهم لأنهم ليسوا من بيت النبوة وكأن الإقناع بالنسب والذرية وليس
بالعقول والحجية. ولا تخرج الإمامة أيضًا عن بيت الأئمة وهو بيت النبوة. فإذا
خرجت إلى أولاد تيم وعدي وأمية ظهرت الفتنة ودب الشقاق وسفكت الدماء، ونهبت
الأموال، واستحلت الفروج. وازداد الشر كل يوم حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه،
ومن القرآن إلا رسمه، ويرجع الناس إلى الجاهلية، وانشغل الإمام بلذاته الحسية،
وشهواته الجسدية، ولم يراعِ شئون الرعية بل سامها أشد أنواع الظلم والجور. أما
إذا كان من بيت النبوة فإنه يرعى مصالح العامة ويزهد في الدنيا ويهديهم سواء
السبيل. فالناس لا تستقر إلا في بيت النبوة والإمامة. وهو وصف العلويين. فهم
أيضًا من بيت النبوة والإمامة. وكلاهما إلى رسول الله منتسب.
وتشهد الطبيعة عند الشيعة على بقاء النبوة في نسل واحد. فالمعادن توجد في بقع
عديدة دون أن تنتقل إلى غيرها. والحيوان أيضًا موجود في بيئات خاصة دون غيرها
مثل الفيل والببغاء في الهند، والسباع في المغرب. وكذلك يوجد البشر في بقاع
مختلفة مع خصائص متغايرة مثل الضيافة عند بني مدلج، وزجر الطير في بني أسد،
والخفة واللعب في أهل الهند، والصناعات العجيبة عند أهل الصين، والفلسفة عند
اليونان. لكل شعب خاصيته لا يشاركه فيها غيره. أما النبوة فغير متنقلة من بقاع
إلى بقاع على عكس الحكمة التي لا يخلو منها موضع في العالم، الحكمة لا يستحقها
إلا ذوو الفضل في حين أن الحكمة قد تكون قرينة لمن لا يستحقها من تركي وصقلبي.
وهذه محاباة للنبوة ضد الحكمة فالحكمة أيضًا تقوم على الفضيلة. العلم فضيلة،
والجهل رذيلة. بلاد السند والهند والصين والزنج والترك والخزر والصقالبة والروم
كلها خالية من النبوة ولا تخلو من ملك يحكمها. أما النبوة فقاصرة على مكة إلى
الشام وبيت المقدس. وهي متعددة الأسماء مثل تعدد الأجناس والأنواع، اليهودية
والنصرانية والصابئة والمجوسية والثنوية. وهذا تحديد جغرافي للنبوة ولماذا
استبعاد أنبياء الشرق؟
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا
فِيهَا نَذِيرٌ؟ ولماذا وضع المجوس والثنوية ضمن النبوة وهما خارج
المنطقة الجغرافية الممتدة من الحجاز إلى الشام؟ كما أنهما ديانات طبيعية وليسا
ديانات وحي كما أقر بذلك الشيعة من قبل؟
٤٢
وتقوم ملة الإسلام على أركان خمسة بناءً على الحواس الخمس نظرًا للتقابل بين
عالم الشرع وعالم البدن. وهو قائم أيضًا على أركان سبعة إذا أضيف إلى الأولى
الجهاد وطاعة أولي الأمر. والواقع أنهما ركنان متضادان نظرًا لأن الجهاد قد
يكون ضد الحاكم الظالم، وأن طاعة ولي الأمر مشروطة بطاعة الله وإلا وجب الخروج
عليه بعد النصيحة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واللجوء إلى قاضي
القضاة. كما أن أهل السنة يركزون على طاعة أولي الأمر لأنهم في الحكم، والشيعة
تركز على الجهاد لأنهم في المعارضة. ومن آثار النبوة إحاطتها بالأشخاص عند
التكوين وبعد الفساد مثل إيجاب العقيقة عن المولد وذبح شاة طبقًا لعادة
الساميين في سيل الدماء دليلًا على التقرب إلى الله، وتطورًا من التضحية للبشر
في الديانات القديمة إلى التضحية بالحيوانات عند الساميين حتى العقيقة في
اليهودية والإسلام. وقد قبل الإسلام أهل الذمة كجزء من أمته نظرًا لوحدة دين
إبراهيم. ووقع النسخ في شريعة الإسلام. كانت الخمر حلالًا ثم حُرِّمت. وكانت
الصلاة إلى بيت المقدس ركعتين ثم ركعتين ثم حولت إلى الكعبة أربع ركعات. وهذا
لا يدل على فساد الشريعة بل تأكيدها وتثبيتها. كما أن الإسلام إذا دخل بلدًا
غلب باقي البلدان وفتحها. فهو قوة في الأرض. كما تستطيع النبوة التوحيد بين
القلوب، بين الغرباء قبل الأقرباء. فقد يبغض الإنسان ولده وأخاه، ويحب مملوكه
من السند والترك.
٤٣
(د) فرق الشيعة
والشيعة لهم أئمة أكثر مما لديهم من فرق اثني عشرية أو إسماعيلية. وأئمتهم
مثل علي بن أبي طالب، وجعفر الصادق، والحسن، والحسين، ومحمد بن إسماعيل، وعلي
زين العابدين. علي بن أبي طالب هو مصدر العلم وعديد من الروايات عن العقائد
والشعائر. وعبادة الاسم دون المعنى كفر. كما أنه طبق الشريعة. قطع يد السارق،
وجلد الزاني، وحد المفتري، وأقام الحدود، وجاهد في سبيل الله. وهو أحق بالعودة
الروحانية. كما يروى عن مآثره ومناخبه أنه نجم الله الثاقب وحبل الله المتين
وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. لم يشرك بالله طرفة عين لأنه لم يتصل إلا
بدعوة الحق أي دعوة الرسول دون شك أو ارتياب. ويتم تحقيق مناط الآية في علي.
فالشفع والوتر يشيران إليه. وهو الثاني الذي يبعث ويرجع. كما تروي العامة أنه
رد طلاق النساء لأنه أمر له بالتسليم والتفويض لأنه الناطق. وهو عالم هذه الأمة
كما أن الله ربها. وهو الذي نصبه الرسول يوم غدير قم. أقامه مقامه واستخلفه من
بعده. وحول خاتمه من يمينه إلى يساره. وأمر وصيه أن يختتم باليمين ولا يحوله
إلى الشمال إشارة منه بتسليم المنزلة إليه. وإذا كان اليوم اثنتي عشرة ساعة،
فهذه إشارة إلى أن الوصي نظرًا للتقابل بين الزمان والوصاية كما أعلن عن ذلك
الرسول في حجة الوداع عندما أرشد الناس إلى التأويل بأنه اشترى منهم أنفسهم
وأموالهم بأن لهم الجنة. كما تدل حروف البسملة التسعة عشر على مجموع حروف علي
ومحمد والحسن والحسين.
٤٤
ويأتي جعفر بن محمد في المرتبة الثانية بعد علي استشهادًا بقول له في الناطق
الرحمن بأهل الدنيا بالبر والفاجر الرحيم. بمن قال لا إله إلا الله. فظاهر
الناطق يناله أهل النجدين البر والفاجر، وباطن الأساس لا يناله إلا الموحدون؛
لذلك ظهرت الباء في الصامت ولم تظهر في الناطق. وظهرت في اسم الصامت، في اسم
ثاني الأئمة وابنه علي زين العابدين، ولم تظهر في أول الأئمة دون أولاه خامس
خاتمة. ثم تظهر في السبع المثاني. وكان أجر المؤمنين عليًّا قد جعل الرحمن من
الرحيم من المغفرة أي من الناطق الإيقاظ والإنذار. والإنذار رحمة لهم، ومن
الصامت البيان والهداية. ويرى جعفر بن محمد أن الأئمة مذكورون في القرآن وهم
الفلك الجارية في البحار، ولا يموت أحد إلا ويحيا آخر. وهم آيات الله الكبرى
وأسماؤه الحسنى، وأمثاله العليا، وكلماته عدل وصدق. ومن دعا غيرهم لا يجاب له.
هم آيات الله في البلاد، وحجته على العباد. من أطاعهم أطاع الله، ومن عصاهم عصى
الله لا فرق في ذلك بين سنة وشيعة. وتثبت الآيات في الأئمة ويتحقق مناطها فيهم
تأكيدًا للذات، وتعويضًا نفسيًّا عن الهزيمة والضياع فهم غير معترف بهم في
الدنيا لكنهم مذكورون في الآخرة، خارجون على الشريعة، ومذكورون في القرآن
تدعيمًا للثورة وتأصيلًا لها مثل الجاهل الذي يرى العلم في القرآن. كما بين
أهمية البصيرة للعامل. فالعامل بلا بصيرة كالبغل في الطاحون، يمشي طيلة النهار،
ولا يبرح مكانه.
٤٥