لم يكن الفكر الشيعي وحده هو الذي قام بتنظير الموروث بل ساهم معه أيضًا الفكر
السني. ولم يقم بذلك قادة المعارضة السياسية وحدهم بل أيضًا حكماء البلاط.
(أ) أبو الحسن العامري
في «إنقاذ البشر من الجبر والقدر» تحول طبيعي من الكلام إلى الفلسفة، ومن
المنقول إلى المعقول، ومن الاعتزال إلى الحكمة، بل ومن الفلسفة إلى المنطق، أي
الفلسفة الخالصة المجردة دون أي أثر من أفلاطون أو الأفلاطونية المحدثة كما هو
الحال في الاستشراق.
١ بل هي محاولة للتحول من الخطاب الفلسفي إلى الخطاب الأدبي حتى ولو
بطريقة السمع وبداية التأليف الفلسفي الطبيعي. الموروث فيها أقرب إلى الموروث
الشيعي، تاريخ الأديان والثقافة الوطنية الفارسية القديمة مثل الثنوية
والمجوسية بالإضافة إلى الثقافة الإسلامية، سواء من الكلام كالقدرية والمجبرة
أو من أئمة الشيعة مثل جعفر الصادق أو من فقهاء السنة المتعاطفين مع التشيع مثل
أبي حنيفة. هذا بالإضافة إلى أصل الوحي في القرآن.
٢
وفي «التقرير لأوجه التقدير» يعود الشرق للظهور، مملكة الشرق دليلًا على بزوغ
الفكر الجديد، وهي على يمين العالم في الجبلة.
٣ ومن الوافد لا يظهر إلا اللفظ المعرب «الأسطقسات» في «الفصول في
المعالم الإلهية» والكيموسات البلغمية. ومن الموروث تتصدر الآيات القرآنية أصل
الموروث الأول ثم الحكماء والطبيعيون والإلهيون من الحكماء. ومن الفرق الكلامية
تظهر فرقتا الجبر والقدرية. كما يحال إلى الرسول محمد وإلى إدريس النبي أو
هرمس. والرسالة مكتوبة إلى الشيخ أبي الحسين عبيد الله مما يدل على الظروف
المحلية للتأليف، جبال الهند والسند ومبادئ التنجيم. ويحال إلى باقي مؤلفات
العامري مما يدل على وحدة الفكر مثل «النسك العقلي والتصوف الملي» و«الإرشاد
لتصحيح الاعتقاد».
٤
(ﺟ) ابن سينا
وتمثل بعض رسائل ابن سينا في الحكمة والطبيعيات وفي النفس نماذج لما قبل
الإبداع الفلسفي، تنظيرًا للموروث وحده دون تمثل الوافد على الإطلاق إلا فيما
ندر وكبقايا من الماضي البعيد. لم يعد المطلوب هو تمثل الوافد كما هو الحال في
مراحل الشرح، التفسير والتلخيص والجامع أو العرض والتأليف والتراكم في تمثل
الوافد أو تفاعله مع الموروث. فقد تم الإجهاز عليه كلية وتحويله إلى جزء من
الثقافة الفلسفية حتى أصبح وافدًا موروثًا أو موروثًا وافدًا بل تنظير الموروث
فحسب حتى يمكن تجاوز الوافد والموروث معًا إلى مرحلة الإبداع الخالص، والابتداء
من المصدر الداخلي وهو الكتاب والسنة، وكان الحكمة علم كلام جديد لا شأن له
بالحجاج والدفاع والخصوم والفرق بل بالتنظير العام والتصورات الكلية
للعالم.
ويستعمل ابن سينا الأسلوب الشخصي المباشر وتحليل التجارب الحية. فالفلسفة لم
تعد نقلًا بل إبداعًا. ليست مجرد تجميع وتمثل واستيعاب بل معاناة وتجربة وحياة.
وقد استنفذ جهده في تصفح كتب العلماء. فوجد أن البحث عن القوى النفسانية بحث
عويص. واستدعى من أقوال الحكماء والأولياء «من عرف نفسه فقد عرف ربه» و«من عجز
عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة خالقه»، مرة إيجابًا ومرة سلبًا. لا
فرق بين سقراط والنبي، بين اليونان والقرآن في مصدر واحد هو الموروث بعد أن
أصبح الوافد مكونًا فيه ومتحدًّا به.
٧
وفي «رسالة في العشق» لا توجد إلا إحالة واحدة إلى تفسير ابن سينا لصدر
المقالة الأولى من كتاب «السماع الطبيعي»، لمعرفة العلل الطبيعية والعلة الأولى.
٨ وقد يكشف ذلك عن قراءة إلهية للطبيعيات؛ إذ إن العلة الأولى ليست
موضوعًا للطبيعة بل لما بعد الطبيعة. وقد يدل ذلك على أن الطبيعيات مقدمة
للإلهيات، وأن البحث عن العلل الأربعة تمهيد للوصول إلى العلة الأولى أو
باختصار أن الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل وأن الإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى
أعلى. ومن الموروث الأصلي يذكر ابن سينا حديثين، واحد غريب، والثاني قدسي.
الأول يقيد أن حسن الصورة لا يوجد إلا عند جودة التركيب الطبيعي. وبالحسن تقضي
الحوائج. ويصر ابن سينا على أنه حديث بنص القول. والثاني عن العشق المتبادل بين
الله والإنسان بمواصفات خلقية معينة للإنسان.
٩
ولم يذكر ابن سينا في «معرفة النفس الناطقة وأحوالها» أيًّا من فلاسفة
اليونان، بل ذكر ست آيات قرآنية وأربعة أحاديث نبوية مما يبين حضور الموروث
وغياب الوافد، وإن الإبداع ليس مشروطًا بالوافد وحده بل قد يكون بالموروث وحده.
وهو أكبر عدد من الشواهد النقلية في الرسائل النفسية الست.
١٠ في البداية يستشهد ابن سينا بآيتين من القرآن لبيان أن النفس أو
الروح من أمر الله وأن الإنسان لم يؤتَ من العلم إلا قليلًا، وأنها سر على
العلماء والدهماء على حد سواء. ويستشهد أيضًا بالقرآن لشرح معنى التسوية أي جعل
البدن بالمزاج الأنسي مستعدًّا لنطق النفس الناطقة به. وإضافة «من روحي» تدل
على أن النفس من جوهر مخالف لجوهر البدن وهو البرهان الثالث. فهناك «أنا» جامع
للإدراكات مخالف للبدن، جوهر فرد روحاني.
١١ ويسمي ابن سينا القرآن الكتاب الإلهي بعد الإشارة إليه كوحي يتضمن
السؤال عن جوهر النفس. كما يستشهد بالقرآن في آخر الفصل الثاني في بقاء النفس
بعد بوار البدن عن طريق الكمال بالعلم والحكمة والعمل الصالح فتنجذب النفس إلى
الأنوار الإلهية وأنوار الملائكة والملأ الأعلى كما تنجذب الإبرة إلى جبل عظيم
من المغناطيس، وفاضت عليه بالسكينة والطمأنينة حتى ينادي عليها من الملأ
الأعلى. ويقسم ابن سينا النفس إلى ثلاثة أقسام عقلًا. الأول الكاملة في العلم
والعمل وهم السابقون. والثاني الناقصة في العلم والعمل، والثالثة الكاملة في
أحدها الناقصة في الأخرى. هذه القسمة النظرية تنظير لقسمة القرآن. فأصحاب
الميمنة هم الكاملون في العلم والعمل، وأصحاب المشأمة هم الناقصون في العلم
والعمل. أما الدرجة المتوسطة فغير واضحة في الآية إلا إذا كان المقصود السابقون
السابقون أي المنافسة نحو الكمال فيصبحون كاملين في العلم والعمل. ويظل الإشكال
في الدرجة المتوسطة قائمًا في حاجة إلى مزيد من التنظير. هل يتساوى الكامل في
النظر الناقص في العمل مع الكامل في العمل والناقص في النظر أما أن الكمال في
العمل يجب النقص في النظر مؤيدًا بآيات أخرى مثل
قُلِ
اعْمَلُوا هذه القسمة الثلاثية تعادل قسمة خصال النفس إلى العفة
والشجاعة والحكمة ومجموعها العدالة، وهي خصال الكاملين في النظر والعمل دون
الإشارة إلى أفلاطون ولكن تعشيقًا عقليًّا للوافد في الموروث وجعل الموروث وعاء
لتمثل الوافد.
١٢
ويستشهد ابن سينا بأربعة أحاديث. الأول في الحقيقة ونسبتها إلى قائل الحق
تجاوزًا التشخيص. محمد قائل الحق وأرسطو هو الحكيم يكمل البعد الأفقي «من عرف
نفسه» بالبعد الرأسي «فقد عرف ربه»،
١٣ من الداخل إلى الخارج، ومن النفس إلى الله.
١٤ كما يستعمل ابن سينا الحديث للبرهنة على تمايز النفس عن البدن.
فمعرفة النفس وليست معرفة البدن طريق إلى معرفة الله. والثاني يثبت به ابن سينا
أن النوم أخو الموت في موضوع بقاء النفس بعد بوار البدن.
١٥ إذا نام الإنسان بطلت عنه الحواس، وصار كالميت. والإنسان في نومه
يدرك الغيب والمنامات الصادقة. وهو برهان على تمايز جوهر النفس عن جوهر البدن.
والثالث لإثبات النعيم الذي خلقه الله في السموات من الحور العين والأطعمة
اللذيذة وألحان للطيور مع الإيحاء بأنه حديث قدسي، صورة للمرتبة الثالثة من
النفس، وهي مرتبة المتوسطين أي النعيم الحسي. كما أن الحديث القدسي مرتبة
متوسطة بين كلام الله وكلام الرسول.
١٦ والرابع لإثبات أن العقل هو أول العوالم وأعلاها مرتبة فوق النفس
والجسم. يستشهد ابن سينا بالحديث القدسي لإثبات أن العقل له مكان مركزي في
الموروث كما هو الحال في الوافد بالرغم من تأويلات الصوفية له وزحف التصوف على
الفلسفة منذ إخوان الصفا وخلال الفارابي وابن سينا حتى الغزالي. لذلك كان
ابن سينا أقرب إلى الطبيعيات منه إلى الإلهيات في حين أن الفارابي كان أقرب إلى
النحو والمنطق حتى أتى ابن رشد فزحف علم الأصول على الفلسفة. ويشرح ابن سينا
الحديث على أنه ثلاث مقولات طبقًا للقسمة الثلاثية المعروفة عند أفلاطون دون
تصريح بذلك أو ذكره نظرًا لأن الوافد أصبح في اللاوعي المعرفي من ذكريات الماضي
البعيد.
و«في ماهية الصلاة» فلا يذكر شيء من الوافد. إنما يذكر الموروث الأصلي،
القرآن، (مرتان) والحديث (ست مرات). والموضوع جديد على الوافد وأصيل في
الموروث. الآية الأولى تثبت أن لله الأمر والخلق، والثانية أن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر. ومن الأحاديث يفسر الأول أن الصلاة عماد الدين، أنها وسيلة
الاتصال بالأفلاك وأداة لتصفية النفس بتشبهها بالأجرام السماوية. الدين هو
التصفية، والصلاة عماد الدين. الصلاة قاعدة الإيمان، ومن لا صلاة له لا إيمان
له، ومن لا أمانة له لا إيمان له. والثالث والرابع أن الصلاة مناجاة للرب،
والمناجاة تتم بالعقل. والخامس حديث قدسي في صياغته أن المصلي يناجي ربه،
ومذكور ثلاث مرات، مرتان في صيغة قصيرة، ومرة في صيغة طويلة. والسادس يميز بين
الصلاة الشرعية البدنية العددية الظاهرة في مقابل الصلاة الروحية القلبية
الباطنية كما هو الحال عند الصوفية.
١٧
و«في الحث على الذكر» ينظر ابن سينا آية قرآنية واحدة مرتين دون إحالة إلى أي
وافد لبيان سلاح ذكر الله لقمع النفس وإيقاظ القلب، وأنه يزداد بالفكر على
الذكر استخلاص النية الذكر من عادة المجادلين وسلط الذكر على الفكر لإذابة
تخييل الواردين. ويتبرأ عن أحوال الذكر وقوة الفكر بالإنابة إلى رب العالمين.
كل ذلك تنظير لآية واحدة. كما تتضمن الآية نسيان الخلق في الاستغراق في الذكر،
وأن الذكر لا يخلص عن النسيان مع انتشار الحواس في شهواتها، وأنه لا يصفو مع
هواجس النفس، وأنه يدخل في السر (النفس)، وتبرز عروقه في القلب. وذكر اللسان
يفتح القلب حتى تتم المشاهدة بعد المراقبة والمجاهدة. فيبلغ الإنسان منزلة
السكينة. وذكر الله والحق من ذكر الناس.
١٨
وموضوع التفسير موضوع موروث مباشر، علم نقلي بأكمله حاول ابن سينا تنظيره إلى
علم عقلي أسوة بالتفسير العقلي عند المعتزلة كتب فيه عدة رسائل. منها «الرسالة
النيروزية». ولها عنوان آخر «في معاني الحروف الهجائية». وواضح في العنوان
الأول أثر الثقافة الفارسية، وفي الثاني أثر الثقافة العربية. وكلاهما من
الموروث. موضوعها الحكمة الإلهية وليست المصلحة البشرية، كشف سر وليست رؤية
واضحة للحق، لطف الواقع من النفس وليس الأثر العملي. الغرض منها فهم فواتيح
السور، وهو ما ضرب عمر بن الخطاب السائل عنها بسببها. ويسميها ابن سينا
الفرقانية. تمثل سطح العلم، والأسرار ما زالت في العمق. تنظير الموروث يعني
تحويل المنقول إلى معقول عن طريق التأويل، والذهاب من السطح إلى العمق، ومن
الظاهر إلى الباطن، ومن الحرف إلى الكون، ومن اللغة إلى الطبيعة، ومن التنزيل
إلى التأويل.
١٩ يبدأ من ثقافة العصر، نظرية الفيض لاحتواء الآخر ثم تأويل الحروف
الهجائية المفردة بها قبل تفسير أوائل السور بناءً على هذا التأويل وإدخالًا
للآخر في وعاء الأنا. قسم الرسالة ثلاثة أقسام: الأول ترتيب الموجودات وهي
الثقافة الوافدة، نظرية الفيض بعد أن أصبحت موروثة. والثاني دلالة الحروف عليها
وهو الوعاء الموروث. والثالث الغرض أي هدف ضم الوافد إلى الموروث. الوافد هنا
ثقافة وليس شخصًا أو كتابًا أو علماء تعني الألف واجب الوجود، مبدع المبدعات،
ومنشئ الكل، ذات غير متجزئ أو متكثر أو متقدم بسبب. لا يوجد أفضل منه، حق وخير
وعلم وقدرة وحياة وكأن الفلسفة قد أعادت الذات والصفات من علم الكلام، مؤثرة
التنزيه على التشبيه. بل إن المفهوم منها عند الحكماء معنى واحد. وتعني الباء
العقل، أول ما أبدعه الله. وتعني الجيم النفس، وموادها الأفلاك. وتعني الدال
العالم الجسماني الطبيعي. وهو نوعان: الأثيري المستدير، والعنصري المكون من
مادة وصورة. وكلها في شوق إلى الله. ثم يتكرر الرباعي في الحروف الأربعة
التالية: الهاء تعني الباري، والواو العقل، والزاي النفس، والحاء الطبيعة، وهي
الأفضل. الطاء تعني الهيولى، والياء ليس لها إضافة تحتها على النحو
الآتي:
أ |
ب |
ﺟ |
د |
ﻫ |
و |
ز |
ﺣ |
ط |
ي |
الله |
العقل |
النفس |
الطبيعة |
الباري |
العقل |
النفس |
الطبيعة |
الهيولى |
ليس لها إضافة تحتها |
ثم يتحول الأمر إلى حساب الحروف وحساب الجمل عن طريق الضرب والجمع فالأربعة
الأولى، الله والعقل والنفس والطبيعة ذوات أو آحاد. والأربعة الثانية، الباري
والعقل والنفس والطبيعة مضافة إلى ما دونها. بعد الآحاد يكون الإبداع من إضافة
الأول إلى العقل. كما أن الأمر إضافة الأول إلى العقل، والخلق إضافة الأول إلى
الطبيعة، والتكوين إضافة الباري إلى الطبيعة. وتزيد الحروف وتشمل اللام والميم
والنون والقاف والكاف والسين والصاد دون باقي الحروف. ولكن المهم هو الدلالة
وليس الإحصاء الكامل.
٢٠ وأحيانًا تكون المعادلة حروفًا صرفة دون كلمات كما هو الحال في
المنطق الرمزي في الغرب فيستحيل الفهم كما تستحيل المراجعة، وهي أحجيات غير
مقنعة لا يمكن التحقق من صدقها.
٢١ ثم يطبق ابن سينا في القسم الثالث عن الغرض حساب الحروف والجمل على
أوائل السور. وكلها تخيلات وأوهام مثل خرافات علم التنجيم. وهو موضوع الإعجاز
وأسرار البلاغة عند المتكلمين. ويلاحظ أن الحروف في أوائل السور ليست كلها
مذكورة. وهناك حروف أخرى مذكورة ليست في القرآن مما يدل على إمكانيات تكاثرها
ما دامت حساباتها أصبحت معروفة والنسج على منوالها ممكنًا. ولما كانت الموجودات
إما روحانية وإما جسمانية، يتعلق الأمر بكل ذي إدراك، ويتعلق الخلق بكل تسخير.
٢٢
«وفي تفسير المعوذتين» اختار ابن سينا بعض قصار السور مثل المعوذتين التي
تشير إلى العلاقة بين الله والإنسان ليمارس فيها منهج التأويل تأكيدًا على هذه
الصلة، وتعميقًا للأشعرية عن طريق الاتصال وليس الانفصال. علوم الحكمة هنا
تطوير لعلم الكلام، وتنظير للعقائد، وتحويلها من عقائد دينية خاصة إلى تصورات
عامة للعالم. ابن سينا أول من حول التفسير إلى موضوع فلسفي، من علم نقلي إلى
علم عقلي كعلم مستقل وليس فقط كموضوع جزئي كما فعل الكندي من قبل في تفسير آية
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي
سَاجِدِينَ في رسالة «في سجود الجرم الأقصى». وقد اختار ابن سينا
المعوذتين لأنه يسهل تفسيرهما من خلال نظرية الاتصال مثل اختيار الأحاديث
الإشراقية. ففي المعوذة الأولى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ رب الفلق هو الموجود الأول الخير، والرب هو العناية وليس
الإله الذي لا يعتني بالعالم كما هو الحال عند اليونان. والشر في الخلق لا في
الخالق. والفاسق هي النفاثات في العقد من خلال القوى الحيوانية والنباتية. وشر
حاسد إذا حسد هو النزاع بين النفس والبدن الذي كان رمزه النزاع بين آدم وإبليس.
والسوءة تشير إلى كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي. ويشرح ابن سينا القرآن
والحديث ويستعمل حديث «إن لربكم في أيام دهركم نفحات من رحمته إلا فتعرضوا لها»
كما يستعمله الغزالي في «المنقذ من الضلال». وكلها تفسيرات ظنية تكشف عن دخول
ثقافة العصر التي أصبحت مزيجًا من الوافد والموروث، والصلة بين الخارج والداخل،
بين الفرع والأصل، بين المحيط والمركز، بين النقل والعقل حماية للثقافة من
الازدواجية المتصارعة بين علوم الأوائل وعلوم الأواخر، بين السلفية والعلمانية،
بين المحافظة والتجديد دفاعًا عن وحدة الثقافة كما يحدث في كل عصر.
وفي المعوذة الثانية
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ، الربوبية هي التربية والعناية. والناس هم الشعب أو
الأمة. ويُؤَوِّل ابن سينا أسماء الله باعتبارها قوى النفس. الرب بحساب المزاج،
والملك بحساب فيض النفس، والإله بحسب شوق النفس. والوسواس الخناس الذي يوسوس في
صدور الناس هي القوى المتخيلة. وهنا يعتمد التفسير على علم النفس كما تفعل
الشيعة والباطنية. كما يشرح القرآن بالقرآن مثل الاستشهاد بآية
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.
وتعني التربية المزاج.
٢٣
وفي تأويل «الصمدية» يبدأ ابن سينا بقرآن حر، مفسرًا القرآن بلغة القرآن أو
بأسلوب القرآن، السمع والإيقاع، والبداية بالبسملات والحمدلات. والموضوع
التوحيد. ولفظ «أحد» مبالغة في الوحدة وكأن القرآن فيه مبالغة وليس فقط
التأكيد. وتظهر ألفاظ «إلهي» و«إلهية» كثيرًا مما يدل على استمرار الموضوع
الأول في علم الكلام، كذلك استعمال صفات السلب وصفات الإيجاب. الفلسفة إذن دفع
للكلام نحو مزيد من التنظير العقلي كما هو الحال في علم الكلام المتأخر، عرض
فلسفي مجرد. لذلك يوجه ابن سينا إلى نفسه اعتراض معترض بطلب البرهان. ثم جاء
التفسير في النهاية صعب الفهم. فكيف تكون به نجاة الناس. وكيف تعادل حينئذ
«الصمدية» ثلث القرآن؟ هل تستطيع العامة فهم هذا التأويل وتنال به الخلاص؟ إن
الآية، ببساطتها ومباشرتها وتركيزها أفضل من شرحها وتأويلها. لا يعدو التفسير
الفلسفي للآيات كونه استيعابًا حضاريًّا للوافد، واستعمال ثقافة العصر في عرض
الموروث الأصيل وعدم تركه منعزلًا تجاوزًا لازدواجية الثقافة. قد لا تخرج عن
التفسير الصوفي القرآن في إطار أشعري عام يظهر في المقدمة أو الخاتمة سواء كان
من الناسخ أو الناشر. فالعمل جماعي. والعقل في حاجة إلى نقل. وهو حكم عام
يتجاوز ابن سينا دور علوم الحكمة.
٢٤
وفي «العرشية» يذكر القرآن (٧ مرات)، والحديث (مرتان) مما يدل على حضور
التفسير من علوم الحكمة قدر حضور علم الكلام من العلوم النقلية العقلية فيها.
وهي آيات يسهل تفسيرها على نحو أشعري؛ لأنها تتعلق كلها بقدرة الله المطلقة في
الإنسان والطبيعة، الآية الأولى تنفي التعدد، وتثبت أن الوحي غير قابل للتغيير
والانفعال في أم الكتاب في مقابل تفسير آخر، النسخ والاستبدال. الأول يؤثر
الثابت، والثاني المتحول. الأول يخرج من كل شيء هالك إلى وجهه،
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، والثاني يخرج من
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. والثالثة
والرابعة تثبتان القضاء والقدر، وخلق الله الأفعال، والخامسة والسادسة تجعل
الخير من الله وأنه يريد اليسر بالإنسان لا العسر. والسابعة تبين سيطرة الله
على مظاهر الطبيعة، إنزال الماء، وأحياء الموات، وخلق الحيوان والإنسان. ويفسر
ابن سينا الحديث القدسي الخاص بصدور الأفعال من العقل الأول سواء كان هو العقل
صراحة أم القلم. فالقلم هو العقل. ويستعمل القرآن الحر كأداة للتعبير، تفسير
للقرآن المباشر بالقرآن غير المباشر.
٢٥
وفي رسالة «الفعل والانفعال» يذكر القرآن (١٣ آية) والحديث (٤ أحاديث)
بالإضافة إلى قول مأثور واحد، ودون أي ذكر للوافد اليوناني. كلها محاولة لتنظير
الصلة بين النفس والجسم وبيان أثر النفسي في الجسمي وأثر الجسمي في النفسي،
علاقة الفعل الانفعال لا فرق في ذلك بين الوافد اليوناني والموروث القرآني بعد
أن انضوى الوافد التاريخي في أعماق اللاوعي المعرفي، وفي نفس الوقت يستعمل هذا
المخزون المعرفي التنظير الموروث مثل الوحي والإلهام والمعجزات والكرامات
والآيات والمنامات والسحر والعين والمؤثرات والنيرنجيات والطلسمات والحيل، حتى
يسمح بإدخال هذا العنصر الجديد الموروث فيه. فتجتمع علوم الأوائل مع علوم
الأواخر، علوم السلف وعلوم الخلف في رؤية حضارية واحدة. تفيد معظم الآيات
المذكورة العلم الجديد وهو الوحي الذي لم يكن يعلمه الرسول من قبل، ما أسماه
المتكلمون السمع أو النقل في مقابل العقل أو الحس بما في ذلك القصص. كان الرسول
أميًّا غير حاضر زمن الأحداث المروية. وبعض الآيات تفسير على التفسير الصوفي
الإشراقي لآية المشكاة المشهورة التي شرحها الغزالي في «مشكاة الأنوار».
٢٦ وتذكر آية أخرى تشير إلى التنبؤ بالمستقبل وبانتصار الروم على
الفرس. ويستشهد بآيات أخرى تشير إلى انفعالات النفس مثل الوسواس الخناس الذي
يوسوس في صدور الناس أو سحر الأعين، وبآية أخرى تعبر عن اتخاذ البعض عبادة
الأصنام قربى إلى الله، وبآية تكشف عن أن البرهان في الطبيعة وفي النفس، في
الخارج وفي الداخل. ويفسر ابن سينا الحديث القدسي الأول بأن الوحي يتم في حال
اليقظة والنفث في الروح في حال النوم. ويفسر الثاني بأن رؤية الرجل الصالح
جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة كما يقول الصوفية في الإلهام، والحكماء
في الاتصال، والفلاسفة في الحدس. ويفسر الثالث ببلاغة الرسول، والرابع بالقدرة
على التنبؤ، تنبؤ الرسول بقتل كسرى. كما يستشهد ابن سينا بالآثار والأخبار
المروية وبالثقافة الشعبية الشائعة حتى ترتبط الفلسفة بثقافة الجمهور وتصبح
نابعة منه ومن حياة الرسول.
٢٧
وفي «رسالة الطير» يظهر القرآن المرسل أو الحديث في أسلوب ابن سينا باعتباره
مخزونًا بلاغيًّا أدبيًّا كبديل عن النهاية الدينية التقليدية. كما يظهر في
«كتاب السياسة» التفكير والتقدير، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، والميثاق
الغليظ. ويظهر في «الزيارة» صور فنية عن شمول العلم الإلهي وإحاطته. وفي «حي
بن يقظان» يظهر الأسلوب القرآني الحر كوسيلة أدبية وتعبير بلاغي مثل البرزخ
والحفظة والكرام الكاتبين والعين الحامئة والميثاق الغليظ، وابن سينا أقل من
السهرودي وابن طفيل في استعمال القرآن المرسل.
٢٨
(د) ابن باجه
ويستمر ابن باجه في تنظير الموروث مما يبين قدرة الفلسفة على الاستمرار
اعتمادًا على الداخل وحده دون الخارج، وعلى المكونات الذاتية دون العناصر
الخارجية خاصة في موضوع النفس الناطقة باعتباره بؤرة الموروث، وما يتعلق بها من
علوم عقلية.
ففي «ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة» يحال إلى الفارابي والزرقالة
ويذكر القرآن.
٢٩ وهو نموذج للتراكم الفلسفي من الفارابي والزرقالة ومن العودة إلى
الموروث الأصلي، القرآن لمزيد من التنظير للموروث بعد أن أصبح الوافد موروثًا
من الفارابي والزرقالة. وصورة الفارابي في ذهن ابن باجه هو الشيخ أبو نصر
تأكيدًا على مقاييس الحس والعقل الإنسانية كمقاييس للصدق. فالفارابي في ذهن
ابن باجه صوفي أقرب إلى الغزالي. ويضرب ابن باجه، اعتمادًا على الزرقالة، المثل
على التعلم من المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث ثم ينتقل إلى نفس المستنبط لا
سيما في الأمور القريبة. فالعلم هنا من الموضوع إلى الذات.
٣٠
ويستشهد ابن باجه بثلاث آيات قرآنية، الأولى مكررة مما يدل على أن تنظير أصل
الموروث ما زال مستمرًّا، وأن الفكر الفلسفي له مصدره الداخلي المستمر بعد أن
تحول الوافد إلى الموروث الكبير. ومنها التفكير في خلق السموات والأرض تدعيمًا
لإدراك المعقولات وحصول القوة الناطقة بالفعل موهبة تتم بها رؤية المخلوقات
للوصول إلى الله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة. وهنا تأتي آية التفكُّر
تدعيمًا للطريق من المخلوق إلى الخالق، موهبة الاتصال بالعقل الفعال. وإذا كان
العلم بالله وكتبه ورسله يؤدي إلى الهدى فإن نسيانه يؤدي إلى الضلال لأنه يؤدي
إلى استبدال الهدى بالله فيكون من المغضوب عليهم أو الضالين. ولفظ الارتياض
يعني التعليم والتعوُّد أي النقل الموجه أو الهادف حتى يصبح جزءًا من الموروث.
التنزيل يصبح تأويلًا.
٣١
وفي هذا الموضوع يرضى ابن باجه عن الغزالي ويستسلم له بالرغم من نقده السابق
له. ويقبل التصوف، الجرثومة التي ازدوجت مع الأشعرية وقضت على المشروع النهضوي
في الغرب. النبي هو رئيس الصوفية والإشراقيين، وكلهم إلى رسول الله منتسب. فقد
تحول الفارابي من المنطق إلى الإشراق. ويدعو ابن باجه القارئ إلى المشاركة
والانضمام إلى الزمرة. ويستعمل تشبيهات الشمس والنور والظلمة. ويمكن للحدس
العقلي إدراك ما يدركه العقل الإشراقي إذا كانت الموضوعات بديهية رياضية
وبموهبة من الله وفيض منه. كما يستعمل بعض التعبيرات القرآنية الحرة. ويكرر
الإنسان النظر في المخلوقات حتى يصل إلى الخالق وهو العلم الذي ينكشف للأنبياء.
فيتحد الطريق الصاعد والطريق النازل. ويصبح التأويل والتنزيل علمًا واحدًا.
والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقًا لمعرفة أسبابها لأنه نظر أعلى وأرفع
وأنفع. فعن طريق الأسباب يصل الإنسان إلى الله وملائكته وكتبه ورسله والحياة
الآخرة. والناس متفاوتة في موهبة المعرفة بحسب ما يعطيه الله في أول الخلق من
الاستعداد لقبولها. والموهبتان الاستعداد والنطق، ليسا مكتسبين إلا بالتوفيق من
الله للعمل، وهذا هو الكمال الإنساني، ولا يتم إلا بما أتى به الرسل من الله.
ويؤدي اتباع الهوى إلى الشقاء والضلال. سماع الأنبياء وطاعتهم هو نفس طريق
التفكر في المخلوقات، لا فرق بين البصيرة والبصر، بين الوحي والطبيعة. يعلم
الله كل شيء ويقدر كل شيء. وعلم الإنسان مستمد من الأشياء، وقدرته قائمة على
الأسباب. ويحول ابن باجه الأسباب من العمل إلى النظر، وهو بداية الاغتراب.
ويحاول الجمع بين العقل والإشراق، بين المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية في
إطار صوفي إشراقي أقرب إلى التصوف منه إلى الفلسفة، وإلى حكمة الإشراق عند
ابن سينا وابن طفيل منه إلى منطق البرهان عند الفارابي وابن رشد. كما يحاول
التوفيق بين الحرية والجبر في نظرية الكسب بما تتسم به من غموض وأقرب إلى أحوال
الصوفية كما هو كمواهب منها إلى حقائقهم كمكاسب. وإذا كان التفاضل فطريًّا فكيف
يكون الاستحقاق؟ ويتم الخلق بالعلم لا بالإرادة، والصنع بالأسباب أي بالقوانين.
والاستنباط أشرف من الاستقراء لأن الذات أشرف من الموضوع. والعلم من الذات أي
الداخل أشرف من العلم من الموضوع أي الخارج. كل ذلك تنظير لا واعٍ لآية
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ *
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وجمع لا واعٍ بين أرسطو
وأفلاطون، وصب للوافد في الموروث. يتعدَّد خطاب ابن باجه، ويتنوع بين العقل
والقلب، بين الحكمة والتصوف. وينتهي الخطاب الرياضي المنطقي الطبيعي إلى خطاب
عقلاني صوفي فيما بعد الطبيعة. ويستعمل ابن باجه الأسلوب العربي مثل زيد وعمر
وكمثل للمبتدأ أو الخبر أو الفاعل في النحو أو الموضوع والمحمول في المنطق.
٣٢
وتبدأ الرسالة وتنتهي بالإيمانيات مع نداء للقارئ ودعوة له للمشاركة في
الطريق وكأن الفلسفة طريقة صوفية أو دعوة أشعرية، لا فرق بين المؤلف والقارئ.
وقد تكون النهاية أكثر من مجرد ترحُّم أو دعاء أو بسملة أو حمدلة بل إشارة إلى
جماعات الصوفية وعقائدهم والمؤمنين وكأنه داعية شيعي. فتصوف ابن باجه وعقلانيته
يجعلانه حلقة اتصال بين المشرق والمغرب، بين الغزالي وابن رشد، بين الفارابي
وابن مسرة. ولا يأتي ذلك من الوافد، إبرقلس وإيضاح الخير أو أفلوطين والتاسوعات
بل من الموروث، من التصوف الإسلامي وإلَّا تحوَّل الأصل إلى فرع، والفرع إلى
أصل كما هو الحال في الاستشراق وتوابعه.
٣٣
«وفي العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العلم» يحيل
ابن باجه إلى الزرقالة مستمدًّا منه المثل على التعليم من الذات قبل الموضوع
والميكانة التي أستنيطها، ثم بعد ذلك يعقل الذات مع الموضوع.
٣٤
(ﻫ) الشيخ حسن المعدل
واستمد الفكر الشيعي محولًا تاريخ الديانة إلى فلسفة التاريخ حتى القرون
المتأخرة. ففي «معرفة النفس الناطقة والعلوم الغامضة» للشيخ حسن العدل (٦٥٩ﻫ)
يتحوَّل تاريخ الأديان إلى الداخل إلى قوى النفس وقوى البدن وانحساره عن الخارج
والصراع السياسي بين الثورة القادمة ودولة الظلم والطغيان. فأولو العزم من
الأنبياء مع القائم يقابلون آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، والقائم
قوى النفس السبع والمميزة، والحافظة، والناطقة، العاقلة، والمفكرة، والذاكرة،
والمتخيلة، وقوى البدن السبع الجاذبة، والماسكة، والدافعة، والمصورة، والهاضمة،
والغاذية، والنامية على النحو الآتي:
٣٥
قوى البدن |
قوى النفس |
الأنبياء |
الأئمة |
الجاذبة |
العاقلة |
آدم |
علي |
الماسكة |
المفكرة |
نوح |
السبطان |
الدافعة |
الذاكرة |
إبراهيم |
علي بن الحسين |
المصورة |
المتخيلة |
موسى |
محمد الباقر |
الهاضمة |
المميزة |
عيسى |
جعفر الصادق |
الغاذية |
الحافظة |
محمد |
إسماعيل بن جعفر |
وكل إمام له لقب بعد محمد الغفور الودود، فعلى صاحب اليوم الموعود، والسبطان
الشهيدان وعلى ذريتهما الحجة على كل الوجود، وعلي بن الحسين الطاهر المحمود،
ومحمد الباقر صاحب النور الموقود، وجعفر الصادق صاحب السر الموجود، وإسماعيل
بن جعفر صاحب المقام المورود، والذرية الطيبة إلى اليوم المشهود.
وفي «مبتدأ العوالم وبدء دور الستر والتقية» تعود فلسفة التاريخ الأولى
انطلاقًا من تاريخ الدين، وتنظير للموروث وحده. فيذكر آدم ثم إبراهيم (الخليل)
ثم نوح ثم إسماعيل ثم إسحاق ثم موسى والنمرود ثم هابيل وسام وحام ثم هند وتاريخ
عيسى وعدنان.
٣٦ فيتداخل الأنبياء مع الأضداد. كما يذكر الإمام ثم إبليس ثم الحارث
بن مرة وهو إبليس على الأرض. ومن البيئة الجغرافية المحلية يذكر سرنديب وبوسباط.
٣٧ ويركز على الأنبياء والأضداد: آدم وإبليس، إبراهيم ونمرود، موسى
وفرعون، عيسى واليهود كلهم وليس يهوذا فحسب، ومحمد وأبو لهب. ولكل نبي دور منذ
آدم حتى ينتهي دور المشيئة ويبدأ دور الستر والتقية. ويعاد توظيف مصطلحات
الوافد مثل العقل الكلي، ويستعمل أسلوب القرآن الحر. ويتم الجمع كأساليب
للتعبير بين الشعر والنثر بعد أن يعود الشعر في العصور المتأخرة حافظًا للعلوم
كما كان الحال قبل الوحي حافظًا للآداب. يعبر المؤلف عن فكره بالشعر والنثر،
ويشرح شعره نثرًا. والشعر أقدر على التعبير عن الحالات النفسية. لذلك فضله
الصوفية كأداة للتعبير. وتخاطب الرسالة القارئ لتشركه في الفكر كخطوة نحو
إشراكه في الدعوة. وتبدأ بالبسملات وتنتهي بالحمدلات.
(و) علي بن حنظلة المحفوظي الوادعي (٦۲٦ﻫ)٣٨
ويستمر الفكر الشيعي في تنظير الموروث عن طريق تحويل علم الكلام إلى فلسفة في
الدين ثم تحويل فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ. ففي «ضياع الحلوم ومصباح
العلوم» يتم التحول من علم الكلام إلى الفلسفة، ويرتكز الكلام على عقيدتين،
التوحيد والمعاد، التوحيد لب الإلهيات أو العقليات والمعاد لب السمعيات أو
النبوات. والتوحيد مبدأ الخلق. والمعاد منه مذموم ومنه محمود.
٣٩ وتسود نظرية الفيض لربط الله بالعالم بدلًا من الخلق. وتتداخل
الإمامة مع الكون، فالإمامة هي القامة الألفية، والدعوة الذكية، والعلوم
الحقيقة، والذرية الإمامية والمرتبة الروحانية.
ثم تتحوَّل فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ عن طريق التواصل بين الأئمة
والأنبياء، بين آدم وموسى وعيسى وفاطمة والحسن والحسين وأمير المؤمنين وسليمان
ونوح وداود والحارث الأعور مخاطب علي وإبليس في جدل واحد بين الأنبياء والأئمة
والأضداد. ولقد وصى إبراهيم لإسماعيل كما يوصي الإمام لإمام. وأولاد إسحاق خدم
لأولاد إسماعيل. وعيسى صاحب الشريعة ثم محمد. وبين محمد وجده إسماعيل ثلاثون
إمامًا، فالإمامة تكرار للنبوة. وكما يستشهد بالقرآن والحديث يستشهد أيضًا
بالتوراة في ترجمة عربية رصينة. وأكثر النصوص عن الأحوال النفسية للمضطهدين،
إسماعيل الذبيح، وعيسى على الصليب.
٤٠ ويظل القرآن هو الموروث الأصلي، والمصدر الأول للفكر الشيعي.
وتتوجه الرسالة إلى القارئ للتواصل مع الكاتب. وكما تبدأ بالبسملات تنتهي
بالحمدلات.
(ز) الطوسي
وفي «شرح مسألة العلم» للمحقق خواجة نصير الدين محمد الطوسي (٦٧٢ﻫ) يتم
التعرض لمسألة العلم، وهو موضوع مشترك بين الكلام والفلسفة في صيغة حوار
افتراضي «قال … يقول».
٤١ وبطبيعة الحال يتصدر المتكلمون ثم المعتزلة والحكماء ثم الأشعرية
والأوائل ثم المنطقيون كفرق كلامية قبل ذكر أسماء الإعلام مثل الحسن البصري
وفخر الدين الرازي وهشام بن الحكم وصاحب المختصر.
٤٢ ومن الموروث الأصلي تذكر آيتان في الصلة بين الإدراك والعلم في
الإنسان وهل يمكن قياسهما على الله مثل
وَقَالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ
السَّعِيرِ،
وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ.
وتضم الرسالة أربعًا وعشرين مسألة عن أقسام العلم والمعلوم المستقبلي
والمعدوم، والعلم البديهي والنظري، والعلم بالمتقدمين والنتيجة والإدراك
والعلم. ثم يتم الانتقال إلى العلم الإلهي كصفة زائدة على الذات، والعمل
بالجزئيات، وصلة العلم بالقوة والإرادة، وصلته بالكلام والعناية واللطف
والهداية والجود وباقي الصفات. وهي موضوعات كلامية صرفة. نابعة من أصل الموروث
ولا شأن لها بالوافد.
٤٣
والرسالة في علم الكلام وفي الفلسفة في آنٍ واحد تدل على تحول الكلام المتأخر
إلى فلسفة وتحول الفلسفة المتأخرة إلى كلام. وهي أقرب للحوار، والسؤال والجواب،
«قال … يقول».
٤٤ ويبدأ بعشرة أبيات من الشعر. فالشعر ثقافة العرب لو جمد الموروث وتحجر.
٤٥
وينقد المعتزلة لقولهم الحقائق الثابتة، وإن المعدوم شيء. كما ينقد هشام
بن الحكم لجعله العلم تابعًا للاعتقاد. وينقد اعتبار العلم إضافة شعور العالم
بالمعلوم عند أبي الحسين البصري وفخر الدين الرازي. ويصاغ الموضوع في صيغة
تساؤلات مثل العلم تابع أم ليس بتابع.
٤٦ ثم تأتي التأكيدات أن العلم فعل وانفعال، أما علم الله ففعلي غير
انفعالي ويعرف حقيقة العلم مع التعريفات السابقة. ويعرض للصلة بين الإدراك
والوجود والذهن، وأقسام الإدراك وعلم الله، ونقد أن العلم هو الإضافة. ثم تأتي
بعد ذلك أربع وعشرون مسألة تدور أقل من نصفها حول العلم الإنساني والنصف الآخر
أو أكثر حول العلم الإلهي. وقد يتداخل العلماء في بعض المسائل. والعلم الإنساني
في الغالب مطروح في صيغة تساؤلية ما دام الأمر فيه وجهات نظر مختلفة. بل إن
العلم الإلهي أيضًا في أكثر من نصف مسائله معروض أيضًا بصيغة تساؤلية.
٤٧ وأحيانًا تعرض موضوعات العلم الإلهي بصيغة تقريرية إيجابية مثل بعض
موضوعات العلم الإنساني.
٤٨
(ﺣ) ابن النفيس
وفي «الرسالة الكاملية في السيرة النبوية» لابن النفيس (٦٨٧ﻫ) يختفي الوافد
كلية مع أن أصولها في «حي بن يقظان» عند ابن سينا والتي يرجع أصولها إلى
«سلامان وأبسال» اليونانية.
٤٩ ولا يظهر من الموروث إلا النبي، خاتم النبيين دون ذكر ابن سينا.
وفاضل ابن ناطق هو المؤلف الخيالي وكامل هو صاحب السيرة الخيالي. ولم يظهر من
أسماء الأنبياء إلا يعقوب والعيص وعيسى وإسماعيل، مع صفات زهراني ويهودي وهاشمي
وكافر وخارجي ومجوسي واليهود.
٥٠ ومن أسماء البلدان تظهر مكة. ولا يستشهد إلا بآية قرآنية واحدة
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ فيما يأتي به النبي من صفات الله. هي أقرب إلى الدين
منها إلى الفلسفة، ومن أصول الدين منها إلى أصول الحكمة، ومع ذلك هو حديث النفس
«مونولوج» كما تدل على ذلك عبارات مثل «ثم تفكَّر فقال».
٥١ وتحيل القصة إلى باقي مؤلفات ابن النفيس. فهي جزء من كل ويبدو فيها
ابن النفيس الطبيب.
٥٢
وهي أقل قيمة من الناحية الفلسفية من «حي بن يقظان»، لابن سينا ولابن طفيل،
تقوم على دفاع صريح عن النبوة، وخاتم النبيين بطريقة المتكلمين وليس بطريقة
الفلاسفة. موضوعها النبي وليس الله، إثبات سيرته الكاملة وليس إثبات وجود الله
عن طريق التأمل في الطبيعة كما هو الحال في «حي بن يقظان». هي أقرب إلى علم
السيرة منها إلى علوم الحكمة.
وتقوم على قسمة رباعية. كيفية وجود كامل في الجزيرة. وتحتوي على نظرية الولد
الذاتي وكيفية تعرفه على العلوم والنبوات ثم سيرة الرسول ثم شريعته ثم التنبؤ
بالحوادث بعده. فالقصة مركزة على شخص الرسول. وتقوم على شخصية واحدة كما هو
الحال عند ابن سينا وليس على شخصيتين مثل ابن طفيل للإشارة إلى الطريقين طريق
الوحي وطريق العقل، طريق النبوة وطريق الحكمة. والاسم نفسه له دلالته «كامل»
دلالة على خاتم النبيين، والمؤلف «فاضل بن ناطق» أي الفضيلة ابنة النطق وليس
«حي بن يقظان»، الحياة بنت اليقظة، ولا حياة دون يقظة.
٥٣
والعجيب إدخال العقل فما لا دخل فيه مثل تبرير الشرائع والتنبؤ بالحوادث
المستقبلة بعد موته وما يحدث بعده، والمعاصي في أمته وعقوبتها وحال الكفار
وأحوال بلادهم، وسلطانهم وهذا الملك المتاخم لها، وما يحدث في العالم العلوي
والعالم السفلي. ولو كان الأمر في بداية الإسلام وعدم الاستقرار السياسي لكان
نوعًا عن المصادرة على التاريخ، فالعقل هنا مجرد أداة لتبرير الدين بصرف النظر
عما يمكن وعما لا يمكن. ولا حرج من البداية أن يعلن عن المطلوب إثباته وهو وجود
الله واعتباره مقدمة. فالله تعالى لكرمه لا يمنع مستحقًّا حقه ويعطي كل مستعدم
ما يستعدمه.
٥٤ ولا بد أن يوجد لهذه الموجودات موجد وهو الله تعالى وأن يكون
عالمًا متقن الصنع، معتنيًا بكل شيء. فالمطلوب إثباته في النهاية تم الإعلان
عنه في البداية. والله هو الذي أحكم الخلقة والصنعة بما في ذلك شعر العانة.
وهنا يظهر الطبيب القاص الحكيم. وقد أخبر الله النبي أن يبلغ شرعه ويعرف الناس
بجلاله وبأحوال المعاد. وما دام ذلك مبلغًا من النبي فما وجه الحاجة للبحث عنه؟
والله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه ولا في جهة، ولا يشار إليه بالحس وهو ما
حاول الفلاسفة البرهنة عليه وبيان استحالته، وتذكره القصة بلا برهان كقواعد
الإيمان.
وتكثر العبارات الدينية في البداية والنهاية. فالمؤلف هو الفقير إلى الله
تعالى، عفا الله عنه مع البسملة والحمدلة والصلاة على خير الأنبياء والمرسلين.
وينتهي الكتاب بالاستعانة بالله وحده والصلاة على خير أنبيائه وصحبه وأصفيائه،
ونفس الشيء يقال بالنسبة للنبوة لا جديد فيها يثبته العقل وكأن القصة مجرد سيرة
تقليدية من سير الوعاظ المحدثين، نسبه وموطنه، وتربيته، وحاله، وهيئته، وعمره،
وأولاده، ودعوته، واسمه، وكتابه.
٥٥
(ط) إدريس عماد الدين القرشي (٨٧٢ﻫ)
ويستمر الفكر الشيعي حتى القرن التاسع منظِّرًا للموروث ومطوِّرًا لعلم
الكلام إلى فلسفة في الدين، ثم محولًا فلسفة الدين إلى فلسفة في التاريخ. ففي
«كتاب زهور المعاني» لإدريس عماد الدين القرشي. لا يظهر الوافد على الإطلاق.
٥٦ وإن ظهر خافتًا فمن خلال الموروث مثل اختبار المأمون أحد الأئمة
بعرض المجسطي عليه، والإشارة إلى هرمس باعتباره النبي إدريس، واستعمال لفظ
«السسوفسطائية» لفظًا معرَّبًا، وقسطا بن لوقا من المترجمين.
٥٧
ولا يعتمد إلا على الموروث الأصلي القرآن والحديث والأنبياء والأئمة
وأضدادهم. يتجاوز القرآن الحديث ثلاثة أضعاف. ومن يتصدر محمد والرسول والتراكم
الفلسفي التاريخي لمجتمع المضطهدين، ويتفاعل النص مع الواقع التاريخي ويتم
التأويل ويتم نسيج التصور للعالم.
٥٨ وتذكر بعض الأحاديث الضعيفة، فالمهم المتن وليس السند. وصحة المتن
المثنى في مطابقته مع النفس وليس في مطابقته مع قول القائل أو الراوي.
٥٩ يتم التعبير أحيانًا بالشعر لأنه أقرب إلى التعبير عن المأساة كما
هو الحال في الشعر الملحمي ويستعمل أسلوب القرآن الحر والحديث الحر كجزء من
الخطاب الفلسفي لإثرائه بلاغيًّا وفنيًّا. وتظهر أفعال القول الرواية أقوال
الداخل. أفعال القول إذن ليست خاصة بالوافد، أرسطو أو غيره بل هو أسلوب في
التعبير، في النقل عن الآخرين، يستعمله القرآن والحديث، وظهر في كافة العلوم
النقلية والعقلية.
والحكيم الفاضل ليس أرسطو، والحكماء الفضلاء ليسوا اليونان. وإذا أطلقت
الألقاب الأولى التي نشأت للوافد، أصبحت على العموم تشير إلى الموروث الذي أصبح
الوافد جزءًا منه. كما تظهر بعض مصطلحات الوافد مثل الهيولى والصورة بعد أن
استقرت وأصبحت جزءًا من الموروث الثقافي العام الذي لا تمايز فيه بين الوافد
والموروث بفعل التراكم التاريخي.
وكما يظهر الموروث الأصلي في القرآن يظهر أيضًا الموروث في التوراة استشهادًا
به على تاريخ الأنبياء تأصيلًا للجديد في القديم وعودًا إلى الجذور حتى يمكن أن
تهز أبنية الظلم في الحاضر. وكثير من الروايات ظنون وتخيلات ينقصها البرهان.
وبعض الأحاديث القدسية موضوعة لأنها تسمح بالخيال مثل كتاب «بدء الخلق» في
البخاري وهي أحاديث طويلة لأنها من صنع الخيال المنطلق في إبداعه. ولا تهدف إلى
بيانات عملية كما هو الحال في الأحاديث الصحيحة القصار. وكل التأويلات لتحقيق
المناط وتركيب النصوص على الأئمة والأوصياء والأضداد وكأن النصوص نزلت في هذه
المواقف الجديدة. لذلك تتعين النصوص في أسماء الأشخاص. بل يتم تأويل الشرائع
لتعميمها وإطلاقها من حدودها الخاصة إلى حدودها العامة مثل تأويل أركان الإسلام
الخمس. فالتأويل يقوم بحركتين من العام إلى الخاص في تحقيق المناط، ومن الخاص
إلى العام في تأويل الحدود.
٦٠
ويتم التحول من الكلام إلى الفلسفة، من الخلق إلى الفيض، ومن الإمام الشرعي
إلى الإمام الكوني. ويدل العنوان كله على ذلك، على التوحيد والإبداع والكمال ثم
ارتقاء الجسماني إلى الروحاني.
٦١ ويتجلى التوحيد في الإبداع أي الخالق في المخلوق حتى يتحقق في
الإمامة الكونية.
٦٢ ويتم نقد نظرية الذات والصفات والأفعال التي تحوَّلت إلى جوهر صنمي
عقلي بديلًا عن الأصنام الحسية من أجل بيان تجليات الذات الإلهية في الكون
بالطريقة الصوفية. ولفظ الإبداع وسط بين الخلق والفيض، وأقرب إلى التصور الفني
منه إلى التقرير الوصفي. ويقل المعاد لصالح النبوة. كما يقل الإيمان والعمل
لصالح الإمامة. ويتضخم التوحيد على حساب العدل نظرًا لغياب العدل في الدنيا
وثورة التوحيد على الظلم. والوراثة أفضل من الاختيار. العلم والملك وراثة أفضل
من سوء التأويل وسوء الاختيار.
ومن الفلاسفة يتصدر حميد الدين الكرماني وكتابه الشهير «راحة العقل» ثم
السجستاني في «إثبات النبوة»، وإخوان الصفا ورسالتهم خاصة «الجامعة»، ومؤلف
«ضياء العقول». ويحيل إلى مؤلَّفين: «الروضة»، «جلاء العقول وزبدة المحصول»
لعلي بن محمد بن الوليد.
٦٣ وتكثر أسماء أعلام الخلفاء والأمراء والعلماء بما يفوق المائة مما
يدل على مدى تفاعل الفكر الشيعي مع الموروث.
٦٤ كل ذلك رد فعل على الاستبعاد والإقصاء من رجال السلطة لرجال
المعارضة الذين يذكرهم التاريخ. ومن البيئة الجغرافية المحلية تذكر ديار مصر،
والإسكندرية، والقاهرة ومسجد عمرو بن العاص، وبرقة والقيروان ومدن الشام،
والشام، وأنطاكية، وملك الروم، ومن الأقوام العرب والعجم، ونظرًا لهذا العدد
الضخم من الأسماء جعل الفكر أقرب إلى التجميع منه إلى الإبداع، يظهر فيه
التراكم التاريخي أكثر مما يظهر فيه النقل النوعي.
ومن الأنبياء من يتصدر محمد الرسول، ثم موسى، ثم آدم، ثم عيسى، ثم إبراهيم،
ثم إسماعيل، ثم نوح، ثم هارون، ثم إسحاق ويوشع بن نون، ثم سام، ثم يحيى، ثم
مريم وتوما، ثم زكريا وفنحاس وداود ثم لوط وشيث وشعيب.
٦٥ ويذكر أضداد الأنبياء مثل إبليس ويهوذا وأبي جهل وأبي لهب، كما
يذكر النصارى وبني إسرائيل واليهود وهاروت وماورت. ويعاد بناء فلسفة التاريخ
على نحو تقليدي قديم النبي والضد المقيم والوصي. لكل نبي مقيم، قابيل وهابيل،
فالأنبياء أدوار تمثل مراحل التاريخ وكلها تمثل ارتقاءً وتقدمًا وانتقالًا من
الظاهر إلى الباطن على عكس تصور أهل السنة الذي يقوم على الانهيار المستمر من
الإمامة إلى الخلافة إلى الملك العضوض، من الصحابة إلى التابعين إلى تابعي
التابعين كما هو معروف في كتب الطبقات، طبقات المعتزلة، وطبقات الصوفية، وطبقات
الحنابلة … إلخ.
النبي |
الوصي |
المقيم |
الضد |
آدم |
سام |
هنيد |
إبليس |
نوح |
|
لافح |
ابنه |
إبراهيم |
|
صالح |
النمرود |
موسى |
|
جدعان |
فرعون |
ويستمر هذا التصور الجدلي للتاريخ على نفس النمط نظرًا لاستمرار النبوة في
الإمامة. فالمستنصر بالله ضده نزار أو محمد بن أبي قحافة. ويتكرر هذا الموقف في
كل عصر من أجل شحذ الصراع بين الإمام وضده.
٦٦
ومن الأئمة وآل البيت يتصدر أمير المؤمنين ثم الحسين وفاطمة ثم جعفر الصادق،
وهم قادرون على إجراء المعجزات مثل حواري السيد المسيح. وبين التشيع والنصرانية
وبين التشيع واليهودية هناك عناصر قربى؛ لذلك كثيرًا ما ينصره المستشرقون.
والأديان كلها تهدف إلى غاية واحدة بالرغم من تعدد مراحلها، ويصل حد الإشادة
بالقدماء أئمة وأوصياء وعلماء إلى غياب النقد، ووصول الأمر إلى درجة التقديس ما
يتنافى مع الاجتهاد والتطور وارتقاء التاريخ والفكر السني والفكر الشيعي عالمان
مغلقان، تصوران متضادان للعالم، تضاد السلطة والمعارضة، الدولة وخصومها، الأمر
الواقع والتغيير في المستقبل، شرعية الماضي وشرعية المستقبل. وكل باب له وحدته
يبدأ بالبسملات والحمدلات وينتهي بها مما يبين أن الفكر خارج من الموروث وتنظير لعناصره.
٦٧