أولًا: تجليات الإبداع
يعني الإبداع الخالص وجود نصوص فلسفية لا تعتمد لا على الوافد ولا على الموروث. إذ يستقل العقل بذاته ويضع نصًّا قائمًا بذاته اعتمادًا على العقل الصريح، وبنية الموضوع. لم يعد النص بحاجة إلى مكوِّنات من الخارج أو من الداخل كي يصوغ خطابه بل أصبح العقل قادرًا بمكوناته الذاتية أن ينسج خطابًا لا يحتاج إلى دعائم خارجية من الوافد أو من الموروث بعد أن تم تمثل الوافد وتنظير الموروث. لم يعد العقل بحاجة إلى عوامل مساعدة خارجية، «عكازين خارجيين يستند عليهما. فقد بلغ حدًّا من النضج والاستقلال تجعله قادرًا على أن يبدع خطابه المستقل دون إحالات إلى مكوناته الخارجية. يعتمد العقل فقط على طبيعته وقدرته على بناء الموضوع ووضع المقدمات والانتهاء إلى نتائج، والربط بينهما بمنطق محكم للاستدلال.
مقياس الإبداع الخالص هنا شكلي خالص طبقًا لمنهج تحليل المضمون وجدل الوافد والموروث، درءًا لشبهتين. الأولى شبهة الاستشراق، أن علوم الحكمة مجرد نقل للوافد وامتداد له في الحضارة الإسلامية مع بعض التشويه والخلط وسوء الفهم والتلوين بالدين حتى أتى الغرب ورفض هذه الشروح الإسلامية على الفلسفة اليونانية، وعاد إلى الأصول اليونانية ذاتها ينهل منها ويؤسس عليها النهضة الأوروبية الحديثة. والثانية شبهة الإسلاميين الذين يرون في علوم الحكمة فلسفة إسلامية تقليدية موازية لعلم الكلام دفاعًا عن العقيدة، لا فرق بين الحكماء والمتكلمين. فالله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة تنال الجزاء طبقًا للأعمال.
ولا يتعرض الإبداع الخالص إلى مواطن الإبداع. فتلك مهمة أهل الاختصاص، المناطقة والحكماء والرياضيون وعلماء الطبيعة. فالمناطقة هم الأقدر على معرفة مواطن الإبداع في المنطق العربي. والفلاسفة هم الأقدر على معرفة إبداع المسلمين في علوم الحكمة إضافة إلى التصورات القديمة للعالم الغربية اليونانية الرومانية أو الشرقية الفارسية الهندية. والرياضيون هم الأقدر، كلٌّ في ميدانه، الحساب، والهندسة، والفلك. والموسيقى على معرفة إبداعات العرب فيها بل وفي العلوم الموازية مثل الجبر، والمناظر، والحيل، والأكر المتحركة، والمنجنيق أي العلوم الرياضية التطبيقية. وعلماء الطبيعة هم الأقدر على معرفة إضافات العرب في علوم الطبيعة والكيمياء والطب والصيدلة والنبات والحيوان والمعادن.
ويمكن التطرق إلى الإبداع الخالص بعدة طرق. الأولى التتبع التاريخي للإبداع قرنًا وراء قرن من عصر الترجمة الأول، فقد كان المترجمون مبدعين حتى العصر المتأخر حيث اتحد العقل بالذاكرة الواعية حفاظًا على الإبداع القديم، وميزة هذه الطريقة تتبع مراحل الإبداع ومعرفة تطوره عبر العصور، والحكم على التاريخ، متى ساد النقل ومتى تحوَّل إلى إبداع، ومتى أصبح إبداعًا خالصًا. وعيبها أنها تقطع ميادين الإبداع، وتنتقل من الإبداع المنطقي إلى العلمي إلى الفلسفي عبر العصور. فيتم التضحية بالعلوم لصالح التاريخ. فتتجزأ وحدة العلم لحساب النزعة «التاريخانية».
والطريقة الثانية عرض الإبداع الخالص طبقًا للعلوم: المنطق، والحكمة، طبيعيات وإلهيات ونفسانيات، والعلوم الرياضية والطبيعية حتى يسهل الحكم في أي علم كان الإبداع أكثر. ويلاحظ أنه كان في العلوم الرياضية والطبيعية والذي دخل كجزء من تاريخ العلم الغربي في العصر الوسيط حيث توضع الحضارة الإسلامية طبقًا للتحقيب الغربي وكأن تاريخ الغرب، القديم والوسيط والحديث، هو تاريخ العالم كله وتاريخ الحضارات السابقة على الغرب والمعاصرة له. وفي نفس الوقت عرض الإبداعات في كل علم على نحو تاريخي لمعرفة تطوره. ومِن ثَمَّ الجمع بين ميزة المنهج التاريخي وفي نفس الوقت الحرص على وحدة كل علم وعدم التنقل جزئيًّا من علم إلى آخر.