ثالثًا: الإبداع الفلسفي
(١) الرازي
(٢) أبو سليمان السجستاني
وبالرغم من ارتباط أبي سليمان السجستاني (٣٣١ﻫ) بتنظير الموروث والتنظير المباشر للواقع وتفاعل النص مع التاريخ إلا أنه أيضًا من أصحاب الإبداع الخالص.
-
(أ)
ففي رسالة «في أن الأجرام العلوية ذوات أنفس ناطقة» يتم وضع الموضوع بالتركيز على الذهن دون ما حاجة إلى وافد أو موروث.٢ فكل جسم طبيعي له حركة تخصه. تتحرك من المركز إلى المركز حركة مستقيمة في أربعة اتجاهات. أما الأجرام السماوية فهي مخالفة لطبيعة الاستقامات؛ إذ إنها تتحرك حركة خاصة، لا خفيفة ولا ثقيلة، تتحرك على المركز حركة دائرية. والدائري أشرف من المستقيم. وفي نفس الوقت يظهر مسار الفكر، بداية ونهاية، مقدمات ونتائج، إحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، مع استيفاء الوسع وبذل الجهد مع خاتمة إيمانية، الحمدلة والصلاة على خاتم الرسالة محمد وآله.٣
-
(ب)
وفي رسالة «في الكمال الخاص بنوع الإنسان» له أيضًا، لا وافد ولا موروث باستثناء الاعتماد على الأمم السالفة ومذاهبهم على العموم كثقافة عامة دون إحالات خاصة، وبداية بالوعي التاريخي. فالغاية الإبانة عن الكمال الخاص بنوع الإنسان ووصف الشخص الذي ظهرت فيه جوامع ذلك الكمال في هذا الزمان من أجل سياسة العالم. فالحاجة تولِّد الإبداع. وهم المستقبل يحيل إلى الماضي.٤ وفي البحث عن الذات يتم استعراض مذاهب القائلين فيها؛ الذات المتحدة التي يقول بها النصارى والصوفية كما هو الحال في شخصية السيد المسيح، والأجرام السماوية التي يقول بها الفلاسفة مع العقل الإنساني، والقائلون بأصلين والمتكلمون، كل ذلك كتراكم فلسفي في الوعي التاريخي. ثم يبدأ تحليل قوى النفس على التوسط بين الإفراط والتفريط. ويرصد تسع عشرة قوة طبقًا لرمز الأعداد؛ ستًّا يشارك فيها الحيوان الإنسان مثل الموافقة والنزاع والشوق والحس والتخيل والوهم، وثلاث عشرة يختص بها الإنسان: التصور، والفكر، والرأي، والعزيمة، والحدس، والذكاء، والذهن، والحفظ، والذكر، والإنارة، والظن، والعلم، والعقل. والبداية فلسفية إيمانية. ويوصف الله بصفات الإبداع مع الحمدلة مثل «فالق صبح ظلمته العدم بضياء وجود الجود، ويثبت حجج الإلهية وبراهين الوحدانية». وأحيانًا يدعو الشيعة أيضًا إلى السلطان «ليتبين مولانا الملك أدام الله دولته وعلوه وأيد سلطانه».٥
(٣) يحيى بن عدي
ويبدو أن يحيى بن عدي قاسم مشترك في معظم الأشكال الأدبية للتأليف والتراكم، وفي الإبداع المنطقي والفلسفي.
-
(أ)
في «مقالة تبين أن كل متصل إنما ينقسم إلى منفصل وغير ممكن أن ينقسم إلى ما لا ينقسم» ليحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) يغيب الوافد والموروث معًا. والمؤلف من المترجمين الفلاسفة وأقرب عادة إلى تمثل الوافد كشكل أدبي. والموضوع بين الطبيعيات وما بعد الطبيعة. والغرض من المقال بيان أن كل متصل منقسم والمؤلف هو الذي يتحدث «نقول» وليس غيره «يقول». يشرح المعنى، ويعتمد على البين الظاهر. لذلك تكثر أفعال البيان وينتهي إلى «وذلك ما أردنا أن نبين» كما هو الحال في البرهان الرياضي. ويعتمد على منهج القسمة مثل قسمة المنقسم إلى منقسم بالفعل ومنقسم بالقوة. وهو موضوع عقلي خالص يتم تناوله بالعقل الخالص ربما له دلالة بعيدة في إثبات التوحيد الفعلي، ما لا ينقسم، ولكن الميتافيزيقيا هي الغالبة، وهو توحيد عقلي غير مباشر. ويبدأ المقال بالبسملة وينتهي بالحمدلة. ويتصف الله بصفات الحكمة مثل: ذو الجود والحكمة، والحول ولي العدل، وواهب العقل.٦
-
(ب)
وفي «رؤيا في تعريف النفس» له أيضًا، لا يظهر الوافد أو الموروث.٧ ويعتمد يحيى بن عدي على تجربة شخصية والتركيز عليها بالعقل الخالص مع استعمال منهج القسمة، والعد والإحصاء المشابه للسبر والتقسيم عند الأصوليين. فقد رأى رؤية، شخص يسأله عن ماهية النفس ويقول أنها مثارة أي؛ كثيرة. ويعطي الرائي عشر حجج لإثبات ذلك لتجاوز الكثرة إلى الوحدة، والكم إلى كيف. فهي جوهر والجوهر لا يتناثر. وهي المتعالية في مقابل السفل، و«الأصل في مقابل الفروع»، والوحدة وراء التنوع، والوجود وراء العدم، والثبات في مقابل التحول، والهوية في مقابل الاختلاف، والتواصل في مقابل الانقطاع، والبقاء في مواجهة الفناء، والروح القائم في مقابل البدن المتغذي.٨ فالسؤال من مادي والجواب من مثالي. ولا توجد عبارات إيمانية، بسملة أو حمدلة، لا في البداية ولا في النهاية.٩
-
(جـ)
وفي مقالة «في الكل والأجزاء» له أيضًا يغيب الوافد والموروث كلية.١٠ وهو موضوع بين المنطق والميتافيزيقيا ولكنه إلى الميتافيزيقيا أقرب نظرًا لتداخل مقولات ميتافيزيقية أخرى كالهيولى والصورة وغياب موضوع القضايا والقياس. وتكشف أفعال القول وصيغة ضمير المتكلم المفرد أن يحيى بن عدي هو الذي يتكلم ويحلل ويصف. فهو الدارس وليس الناقل. ويبدو البعد اللغوي في القضية عن طريق تحليل الكل والجزء كاسمين مشتقين. والإشكال معروف في تاريخ الفكر البشري، هل يرد الكل إلى أجزائه أم أنه مستقل عنها؟١١ والمنهج المتبع هو القسمة المتداخلة، قسمة الشيء إلى قسمين ثم كل قسم إلى قسمين وهو ما يعادل التحليل. والبرهان داخل الموضوع وليس خارجه، والدليل ذاتي وليس عرضيًّا. وبطبيعة الحال ينضم يحيى بن عدي إلى رأي العقليين المثاليين الذين يقولون بعدم رد الكل إلى الأجزاء ربما لتصور لا شعوري لصلة النفس بالبدن أو الله بالعالم. إذ يشار إلى الله في البداية وإلى النفس في النهاية. ويبدأ المقال بالبسملة وينتهي بالحمدلة في أقل قدر ممكن من العبارات الإيمانية.
-
(د)
ولما كانت الفلسفة تطويرًا لعلم الكلام فإن بعض الموضوعات الكلامية ما زالت مطروقة في الفلسفة مثل الاستطاعة عند الكندي والكسب عند يحيى بن عدي. ففي رسالة «في نقض الحجج التي أنفذها إليه في نصرة قول القائلين أن الأفعال خلق الله واكتساب للعباد» ليحيى بن عدي، الموجهة إلى أبي عمر السعدي بن سعيد الزيني ينقض يحيى باسم الفلسفة نظرية الكسب الأشعري التي سادت بعد أن خرج الأشعري عن خلق الأفعال عند المعتزلة. وكعادة الفلسفة لا يعتمد يحيى على أي من الحجج النقلية كما هو الحال في علم الكلام بل يعتمد على الحجج العقلية وحدها. وكما كانت المشكلة من الموروث الكلامي فلم يظهر الوافد على الإطلاق. ويستعمل يحيى طريق منطق الخلف، إثبات استحالة الكسب لأنه نسبة أفعال العباد إلى الله. واستحالة الجبر لنفس السبب فلم يبق إلا خلق الأفعال للعباد. ويصل يحيى لذلك عن طريق القسمة العقلية والانتهاء مسبقًا إلى ثلاث نظريات. يعرض أولًا حجة الخصم ثم يرد عليها ولا يذكر أي اسم من أسماء المتكلمين، أشاعرة أو معتزلة، مع تقابل «يقول … أقول». ويستعمل منهج تحليل الألفاظ مثل الفعل والخلق والاكتساب والعين. ويظهر منطق الاستدلال، والانتقال من المقدمات إلى النتائج، وإحالة اللاحق إلى السابق. والبداية بالبسملة والنهاية بالحمدلة مع الدعوة بالتوفيق وإعطاء الله صفات الحكمة مثل: ذو الجود والحكمة والمولى ولي العدل واهب العقل.١٢
-
(هـ)
وفي «تهذيب الأخلاق» واضح أن يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) قد ألف في كل الأشكال الأدبية منذ تمثل الوافد حتى الإبداع الخالص، وأن له فضلًا كبيرًا منذ الترجمة والتلخيص والشرح. فكتابه «تهذيب الأخلاق» نموذج الإبداع الخالص، لا يحال فيه إلى وافد أو موروث، يوناني أو نصراني، اسم علم أو نص.١٣ وهو نفس عنوان كتاب مسكويه الشهير بعد ما يقرب من نصف قرن.ويتضمن الكتاب مقدمة وخاتمة وثمانية أقسام.١٤ وفي المقدمة تظهر النزعة الإنسانية منذ البداية وارتباط الأخلاق بالإنسان. والإنسان هو قدرته على التمييز والرغبة في الكمال. ثم يتم تحديد الأخلاق ابتداءً من تحليل قوى النفس إلى ثلاث: الشهوية والغضبية والعاقلة. وهي قسمة أفلاطون بعد أن قبلها العقل الخالص ولم تعد من الوافد. فالأخلاق فطرية مغروزة في النفس، فضائل ورذائل.فَعِلَّة اختلاف الأخلاق هي تعدد قوى النفس. النفس الشهوانية مشتركة بين الإنسان والحيوان وقوامها اللذة. والنفس الغضبية أيضًا مشتركة بين الإنسان والحيوان وقوامها الشجاعة والقوة والنفس الناطقة خاصة بالإنسان وحده وقوامها التمييز وإدراك قائمة بالأخلاق الحسنة، وأخرى بالرديئة، وهي الفضائل والرذائل المعروفة عند الأخلاقيين في كل حضارة كماهيات عقلية مستقلة عن ممارساتها العملية وبيئاتها الاجتماعية وأطرها الحضارية.١٥ إنما الخلاف الوحيد في الرئاسة إذ تتميز هذه الفضائل والرذائل بين الرئيس والمرءوس. والرئاسة قديمًا هي الطبقة حديثًا. فالقناعة للمرءوس وليست للرئيس، للصغير وليست للكبير. وقد تختلف الفضائل طبقًا للرئاسة في الوجوب والندب. فالسخاء عند المرءوس مندوب وعند الرئيس واجب. وقد يكون للملوك فضائل أخص بهم مثل عظم الهمة. والرذائل قد تكون للصغار وليست للرؤساء مثل الشره الذي يعين الملوك على أداء الأعباء. وقد يكون بعضها أقبح عند الملوك مثل السفه والبخل والجبن، والأهم هو تقرير نسبية الأخلاق بالإضافة إلى الرئاسة. فالأخلاق قد تكون في بعض الناس فضيلة وفي بعضهم رذيلة مثل حب الكرامة، فضيلة عند الأحداث وأقل من ذلك عند الكبار، والإكرام والتبجيل، وحب الزينة، والمجازاة على المدح، والزهد.١٦وبعد رصد قوائم الفضائل والرذائل على المستوى النظري يتم الانتقال إلى الوسائل العملية لتحقيق الأولى وتجنب الثانية وهو ما يسمى «تهذيب الأخلاق». فالأخلاق علم نظري وعلم عملي. لا تجتمع الفضائل في إنسان واحد ولكن قد تجتمع الرذائل فيه، والتفاضل بين الناس في الفضائل وليس في الرذائل، في الإيجاب وليس في السلب. وليس الأقل جبنًا أفضل من الأكثر جبنًا. والإنسان قادر على أن يهذب نفسه بنفسه وهو معنى الرياسة أن يسوس الإنسان نفسه بنفسه عن طريق التهذيب الذاتي. فالاكتساب ليس للأموال فحسب، وهو طريق الارتياض والتعود على الفضائل عن طريق تذليل النفس الشهوانية والغضبية وتهذيب النفس الناطقة والتدرج في ذلك، وطريق قمع النفس الشهوانية هو تذكر أن اللذة رذيلة في ذروة الحصول عليها والإكثار من مجالسة الزهاد والنساك والرهبان وأهل الورع والواعظين والرؤساء وأهل العلم، وإدامة النظر في كتب الأخلاق والسياسة، وتجنب السكر. ويحيى بن عدي نصراني ليس السَّكَر بحرام في شريعته ولكنه يعبر عن الموقف الحضاري العام له. فتحريم الخمر، وهو حكم الإسلام، أقرب إلى الفضيلة من إباحته. كما يمكن الإقلال من السماع خاصة من النساء، الشابات والمتصنعات المثيرات للشهوات وهو ما يشار إليه في عصرنا بالأغاني الخليعة، والإقلال من الشبع، والتيقظ الدائم إلى العفة.١٧والطريق إلى السيطرة على النفس الغضبية هو تدبر أحوال الذين يسايرونها وسفههم كما يفعل الخدم والعبيد. فالأحرار أكثر قدرة على السيطرة على النفس الغضبية من العبيد. فمعايير الاختلاف في الأخلاق ما زالت إما الرئاسة أو العبودية بالإضافة إلى تخيل الإنسان نفسه أنه هو المجني عليه من الغضب. وعلى الغاضب تجنب حمل السلاح، وأماكن الفتن، ومواضع الحروب، ومجالسة الأشرار، ومعاشرة السفهاء، وتجنب السكر، واستعمال الفكر وسيطرة النفس الناطقة وتقويتها بالعلوم العقلية، والنظر في كتب الأخلاق والسياسات، والارتياض بعلوم الحقائق، ومجالسة أهل العلم، وإلا فمجاهدة النفس والتخلص من الحسد والحقد والخبث.١٨فإذا ما تم الارتياض وتحقق الإنسان بالأخلاق، تصفية النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل، ظهر الإنسان التام أي الإنسان الكامل بتعبير الصوفية، وهو الإنسان الذي لم تفته فضيلة ولم تشنعه رذيلة فكان أشبه بالملائكة منه بالناس. ويحتفظ هذا الكمال بالنظر في العلوم الحقيقية، محاطًا بأهل العلم، معتدلًا في سلوكه، وتجاوز الشهوة والغضب، ومواساة الإخوان متعودًا على محبة الناس، وأن يكون برًّا فاضلًا حليمًا وقورًا خاصة إذا كان من الرؤساء محبًّا للكمال.١٩ فإذا ما وصل إليه كان أحق الناس بالرياسة. ولا يمكن ستر العيوب ولا يجب تتبعها حتى يظل الإنسان جميل الذكر مخلدًا.
يقوم «تهذيب الأخلاق» على العقل الخالص وهو مناط الإبداع، والاستدلال والاتساق الداخلي والحسن والقبح العقليين. كما يقوم في نفس الوقت على التجربة الإنسانية والطبيعة والفطرة والخُلق الخير. هذه المثاليات الأخلاقية تحويل دلالي للإلهيات الغائبة تمامًا؛ إذ يمكن إقامة أخلاق مستقلة عن الدين، بلا إلزام ولا جزاء، ولا عقائد ولا شعائر، أخلاق إنسانية عامة لا تمايز فيها بين الأديان. تظهر فيها روح الفارابي. فقد كان يحيى بن عدي تلميذه خاصة في الرئاسة الفاضلة وكمال الأوصاف. قد يغلب عليه التكرار، ووضع ما يجب أن يكون دون وصف ما هو كائن. ويكون التحدي هو: ومن الذي سيربط الجرس في رقبة القط؟
(٤) أبو الحسن العامري
والموجود بالذات هو الباري تعالى هو المحيط بالموجودات كلها. يفيض على العقل الكلي أي القلم الصور العقلية أي الأمر. وتوجد هذه الصور في جوهر النفس أي اللوح بحسب التجزيء والتكثر دون أن تفسد. فهي متناهية من جهة ولا متناهية من جهة. هو مبدع العقل، وخالق النفس، ومسخر الطبيعة، ومولد الأكوان. ليس كالعقل أو النفس أو الطبيعة أو الجسم أو العرض أو الصورة العقلية أو الأكوان الطبيعية أو المدركات الوهمية. وليس مادة أو صورة أو قوة أو نهاية. ليس له نظر ولا شبيه أو شكل أو مثل، حق محض، وإنِّيٌّ محض، وخير، وتمام محض. وهو محدث العالم، مدبر الأشياء كلها. وهو الغني الأكبر لمن له الخلق والأمر، فوق التمام ولا يوصف بالنقص. يفيض بالخير، والمدبر للكل. هو الموجد للكل، معطي الحياة.
والتراكيب القويمة من الناس معتقدة كلها بإنِّيَّة الصانع بالرغم من اختلافات العقائد بين الوجود الدهري والزماني والوجود الروحاني والجسماني والوجود الوحداني والمتكثر. والجواهر على الحقيقة هي الصور وليس المواد. وهي المؤدية للأفعال على الحقيقة. وهي إما إلهية أو صناعية أو طبيعية. وكل جوهر قائم بذات الموجد فإن حصوله يكون من النقض إلى الكمال ولو لم يكن العقل الإنسي جوهرًا لما كان قابلًا للعلم والحكمة أو مفارقة المادة.
والموجود بالإبداع هو القلم، وهو العقل الكلي وهو جوهر لا يتجزأ. ليس بجسم ولا عظم ولا زمان ولا تجزيء. إنما يتعرض للانفصال. يتصور الأشياء الحسية لا كمًّا تدركها الحواس، بنوع جوهر نفسه. ويتصور الأعراض الجسمانية لا بعللها بل بالقوة الإلهية فيه وبفضيلتها. وبكماله يستفيد الفرقان من أعلى المتمم له، الأحد الحق. يعلمه لأنه سبب وجوده وكماله. ويحيط بالأكوان الطبيعية وبذات الطبيعة وبالمستولي على الطبيعة أي النفس بجوهريته لا بقوة قائمة به. هو جوهر مدبر للنفس وهي مستجيبة له. جوهره أن يكون مملوءًا بالصور العقلية التي هي أكمل في العقول الأولى عنها في العقول الثواني. منها عقل إلهي وهي عقول صفوة البشر أرباب الشرائع والأنبياء، ومنها عقل فحسب يقبل الصور بواسطة العقول الأولى مثل عقول الأئمة الراشدين. كل عقل يعقل ذاته بالفعل فيصبح عقلًا وعاقلًا ومعقولًا.
والموجود بالخلق هو العرش واللوح. وهي النفس الكلية التي تتسم بثلاث خواص: إلهية لتدبيرها الطبيعة، وعقلية لأنها تعلم الأشياء بحقائقها، وذاتية لأنها تعطي الأجسام صورة ونسيمًا أي حياة على الكمال. منها نفوس عقلية لأنها متعلقة بالعقل، ومنها نفوس فقط لا تتجاوز الحس. والقلم واللوح يوصفان بالوحدانية من أعلى وحملة العرش بالكثرة من أسفل وهم ثمانية. وجوهر النفس ثلاثي، اثنان للعقل والثالث كمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة، وهو تعريف وافد تحول إلى تصور عقلي خالص. والنفس ذات وجود وعقل وحياة. والنفس من جهة تكوينها واقعة تحت الزمان، ومن جهة تكاملها بالعقل واقعة تحت الدهر.
والموجود بالتسخير الأفلاك الدائرة والأجرام الأولية. وهو أقل المستويات الأربعة تحليلًا وعرضًا لأنه خارج الواحد والعقل والنفس والطبيعة. الأجرام العلوية جواهر وديمومتها في الزمان، تسخيرية، وكمالها في الصور الموجودة، بثرواتها في حيز الدهر، وبأفعالها في حيز الزمان. أما الجواهر السفلية التي لا ديمومة لها في الزمان وهي التوليدية فتتعلق مدتها بالأجرام العالية. فالدوام نوعان: دهري وزماني. الأول ثابت، والثاني زائل.
والموجود بالتوليد جميع ما يتكون من الأسطقسات الأربعة. ومن الطبيعة ما هي نفسانية لأنها تخضع لتدبير الأنفس ومنها ما هي طبيعية فقط. إذا اجتمعت قواها أدت أفعالًا عظيمة، وإذا تفرقت انحلت وضعفت. والطبيعة رباعية. والقوى الطبيعية في الجوهر الإنسي كالأساس للحيوانية، وهي المغذية والمنمية والمولدة للمثل. وتشمل الحيوانية الحساسة والمتخيلة والمتكلفة للرياضة. وهي اضطرارية في الإنسان أو شبيهة بالاضطرارية. وتتكامل بالطبع في الحيوان. والتعبيرات الشائعة «كبير النفس» صغير النفس تعبر عن حقيقة النفس وعامة عند كل الأمم والشعوب، وكذلك «ذكي النفس» «بليد النفس» «شره النفس» «عفيف النفس».
وتتخلل الفقرات العبارات الإيمانية مثل: والله أعلم، والله الموفق للصواب. كما تظهر الصفات الإلهية بالإشارة إلى الواحد الحق مثل «جل جلاله»، «عز اسمه» وتنتهي المقالة بحمد الله ومنِّه وجميل صنعه والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين وصحبه الأكرمين والسلام إلى يوم الدين.
(٥) ابن سينا
- (أ)
نسبة الشرح والتلخيص إلى نسبة التأليف لمعرفة المحور الغالب عليه وعلى الحضارة ككل انتقالًا من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع.
- (ب)
في مرحلة الشرح والتلخيص معرفة نسبة المنطق إلى الطبيعيات إلى الإلهيات ووضع الآثار العلوية بين الطبيعيات والإلهيات، والنبات والحيوان مع الطبيعيات والنفس مع الإلهيات لمعرفة المحور الغالب عليه، فكر منطقي أو علمي أو ميتافيزيقي.
- (جـ)
ما هي موضوعات التأليف هل هي مرتبطة بمرحلة النقل مثل العرض والتأليف في الوافد أم بمرحلة الإبداع والتأليف في الموروث أو التأليف المستقل الذي يجمع بين الوافد والموروث أو التأليف الخالص الذي يكون أقرب إلى رؤية الموضوعات ذاتها دون نصوص أي التنظير المباشر للواقع؟
- (د)
نسبة نصوص الفيلسوف الضائعة بالنسبة للموجود منها، ونسبة المخطوط للمطبوع لمعرفة إلى أي حدٍّ يمكن تعميم الأحكام على الفيلسوف.
والتأليف مرحلة طبيعية بعد الترجمة والشرح والتلخيص، الشيء وتمدده وتقلصه حتى يقضى على الشيء ويتم تفتيته كلية وتبخيره والقضاء عليه. بعد ملأ الشعور بالنقل يتم العطاء بالتأليف والتحول من الشعور القابل إلى الشعور المعطي. الترجمة مرحلة محدودة للوعي الفردي والوعي الحضاري تنتهي تلقائيًّا بعد التعليق والشرح والتلخيص. والاستمرار في النقل إجهاد وموت في حين أن الانتقال من النقل إلى الإبداع استمرار وحياة. قراءة الترجمة أصعب على النفس وأشق على الذهن من قراءة التأليف. ولولا التعليق لكانت قراءة الترجمة غير دالة إلا من حيث إعادة التجربة الحضارية الأولى، الاحتواء والتمثل والاكتمال، الترجمة وسيلة وليست غاية، مقدمة وليست نهاية، طريق وليست هدفًا، بدن وليس روحًا.
أما الفارابي (٣٣٩ﻫ) فكان هو نموذج العارض الذي تجاوز الشرح والتلخيص الذي قام به المترجمون من خلال التعليقات. قدم معاني النصوص بسهولة ويسر حتى يسهل التعامل معها بعد ذلك عمليًّا داخل الحضارة. ومن هنا أتى لقب «المعلم الثاني» وهو ليس بأقل فضلًا من الأول أو تلميذًا له بل لأنه علَّم المسلمين الفلسفة كمعانٍ وموضوعات مستقلة. وكثيرًا ما يكون المعلم الثاني أفضل من المعلم الأول لأنه هو الذي يعطيه معناه ويبرزه للناس. وبهذا المعنى يكون سقراط هو المعلم الأول وأفلاطون المعلم الثاني. ولولا أفلاطون لما كان سقراط.
ثم أتى ابن رشد (٥٩٥ﻫ) آخر الحكماء ليعود من البداية، للنصوص الأولى وتصحيح شروحها وتلخيصاتها حتى يعيد إلى النص معناه واتجاهه بعد أن ساء استخدامه لدى الفلاسفة الإشراقيين خاصةً ابن سينا. ومن ثم جعل مهمته الرئيسية الشرح والتلخيص وليس التأليف حرصًا على النصوص الأولى، وإنقاذًا لها من سوء التأويل حتى سماه اللاتين الشارح الأعظم؛ لأنه أعاد تقديم أرسطو كما هو عليه دون تأويل حضاري أو قراءة محلية، أرسطو التاريخي، العقلاني العالم.
(أ) الإبداع الكلي
بالرغم من أن ابن سينا هو فيلسوف العرض الكلي بلا منازع في موسوعاته الثلاث، إلا أن مؤلفاته منتشرة على عديد من الأشكال الأدبية في التأليف مثل تمثل الوافد، وتمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وتمثل الوافد مع تنظير الموروث، وفي التراكم في تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، وفي تنظير الموروث حتى الإبداع الخالص.
- (١) المنطق. ويضم أحد عشر مؤلفًا البعض منها أقرب إلى العرض الجزئي والعرض الكلي،٢٨ والبعض الآخر بين الموجز والمختصر الصغير والمتوسط والكبير مثل شروح ابن رشد الثلاثة: التفسير والتلخيص والجامع، وتمثل أكثر من ثلث الأعمال المنطقية.٢٩ وبالإضافة إلى المختصرات هناك أيضًا العروض مثل «الإشارة» و«الفاتح».٣٠ ويكتب المنطق بالشعر في بيئة ثقافية الشعر فيما يمثل الثقافة الشعبية حتى يسهل فهم المنطق بأداة بيئية، فهم الوافد بأدوات الموروث.٣١ (عملان على الأقل). وبالرغم من أن المنطق يعطي القوانين العامة، إلا أن علوم الناس فيه فردية فالعلم للتطبيق والمنطق للاستعمال.٣٢
- (٢) الرياضي. ويضم أيضًا أحد عشر مؤلفًا بين اختصار الوافد مثل تلخيص ابن رشد أو العرض الجزئي أو العرض الكلي.٣٣ الاختصار لفظ شائع في العلم قد يعني الحالة الراهنة له.٣٤ والباقي دراسة للموضوعات أي أقرب إلى التأليف في الموضوعات.٣٥ مثل دراسة الزاوية والجهة والحدود واللانهاية والصلة بينها وبين النهاية، وارتباط الرياضيات بالجسم.
- (٣) الطبيعيات. وتضم أربعة وعشرين محلًّا تدور حول الفلك كعلم طبيعي يقوم على الرصد بالآلات.٣٦ كما تضم موضوعات الجغرافيا الطبيعية مثل الأجرام السماوية وقيام الأرض وسط السماء وخواص خط الاستواء.٣٧ والجغرافيا السياسية مثل الممالك وبقاع الأرض. وقد يتكرَّر الموضوع في أكثر من عمل. وبطبيعة الحال يتم إبطال علم أحكام النجوم الذي يقوم على الخرافة والتنجيم.٣٨ ويدخل علم الكيمياء مع العلوم الطبيعية.٣٩ كما تدخل الموسيقى مع أنها من العلوم الرياضية أو لأنها تجمع بين الطبيعيات والرياضة كما هو الحال في الطبيعيات المعاصرة، دراسة الذبذبات (الطنين) رياضيًّا كما فعل الفارابي.٤٠ وتمثل هذه الأعمال نصف الطبيعيات. ثم يستغرق موضوع النفس النصف الآخر باعتبارها موضوعًا طبيعيًّا مع تحليل قواها الطبيعية والنفسية وانفعالاتها مثل الحزن والعشق ورؤياها وخلودها مع بعض الأقاويل الرمزية.٤١ وقد تتبقى بعض الأنواع الأدبية السابقة مثل الشرح.٤٢ كما قد يظهر التراكم الفلسفي اللاحق من خلال حوار الموروث مع نفسه مثل حوار ابن سينا مع النيسابوري حول النفس.٤٣وكما أن الرياضي ملحق بالمنطقي كذلك الطب ملحق بالطبيعيات. ويضم الطب اثني عشر عملًا تتراوح بين القوانين الكلية لعلم الطب ومسائله النظرية ووظائف الأعضاء وبين تشخيص الأمراض وطرق العلاج وأصناف الأدوية ومهنة الطبيب ورسالته وتواضعه.٤٤ ويظهر التراكم الفلسفي عندما يشرح الحكيم نفسه أو عندما يعلق على السابقين.٤٥
- (٤) الإلهيات. وتضم أربعة وخمسين عملًا. تضم بعض الموضوعات الطبيعية نظرًا لارتباط الطبيعيات بالإلهيات إن لم يكونا علمًا واحدًا. مرة مقلوبًا إلى أعلى ومرة إلى أسفل.٤٦ والموسوعات الثلاثة في الإلهيات بالرغم من اشتمالها على المنطق والطبيعيات.٤٧ وهناك مجموعات أخرى أصغر مثل الموسوعات تعطي نظرة شاملة للإلهيات بما في ذلك موضوع أقسام العلوم.٤٨ وتشمل الإلهيات أساسًا الموضوعات الأخلاقية.٤٩ ويرتبط التصوف بالأخلاق.٥٠ كما تظهر بعض الموضوعات الكلامية مثل القضاء والقدر والمعاد وخلود النفس.٥١ ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في الحكمة المشرقية.٥٢ ونقل الموضوعات الإلهية بالمعنى الدقيق مثل الأول والصلة بين الدين والفلسفة.٥٣ وتظهر بعض الموضوعات السياسية القليلة مرتبطة ببعض الموضوعات الغيبية دون أن تصل إلى مرتبة اللاهوت السياسي.٥٤ وتتباين الأنواع الأدبية في المؤلفات مثل الشعر والخطبة والرواية.٥٥ كما يكثر النوع الأدبي، والسؤال والجواب أو السؤال وحده أو التعليقات أو الرسائل مما يدل على أن الحكمة مستمدة من الواقع أيضًا وليس فقط من الوافد أو الموروث. وكلها أسئلة محلية مثل النوازل الفقهية.٥٦ ويتضح التراكم الفلسفي عند ابن سينا في كثرة حواراته مع باقي حكماء الموروث بأسمائهم مع الرد على من يدعي الحكمة مثل الهمذاني. ومعظمها بالعربية، وقليل منها بالفارسية.٥٧ والبعض كتبها في السجن.٥٨ ولا يوجد تأليف واحد في الوافد. وواضح أن ابن سينا أكثر الحكماء تأليفًا من حيث الكم وإن كان ابن رشد أهمهم من حيث الكيف.ويغلب على أسماء مؤلفات ابن سينا كلها طابع الإشراق: «الشفاء»، «النجاة»، «الإشارات والتنبيهات».٥٩ ومن مظاهر الإشراق تصور الأفلاك على أنها كائنات حية ناطقة.٦٠ وفي نفس الوقت تشير كتب التاريخ إلى ولع الحكماء بالعلم وقدرتهم على الاستيعاب، وربما أنانيتهم وإخفاء مصادرهم إلى درجة حرق المكتبات. وبصرف النظر عن صحة الروايات فإن دلالتها الحضارية تظل واردة.٦١
(ب) آليات الإبداع
(٦) ابن هندو
-
(أ)
الرسالة المشوقة. هي أقرب إلى الإبداع منها إلى التأليف أو العرض.٧٥ فلم يذكر أرسطو إلا مرة واحدة حيث إن أرسطو احتذى هذا الترتيب التعليمي الذي عرضه ابن هندو. فأرسطو هو الشارح لابن هندو والمؤيد له، وليس ابن هندو هو الشارح لأرسطو والتابع له.٧٦ يعتمد على العقل الخالص وهو مشترك بين الشعوب وليس يونانيًّا أو أرسطيًّا بالضرورة. وإذا كانت كتب أرسطو هي مادة التحليل فلأنها كانت الثقافة الفلسفية للعصر.
-
(ب)
ورسالته «في المعاد الفلسفي» هي أيضًا أقرب إلى أولوية الموروث على الوافد. وما بينها وبين الفوز الأصغر لمسكويه من تشابه لأن كليهما يشاركان في نفس النموذج الحضاري الجماعي الذي يساهم فيه كل الحكماء.٧٧ وقد تكون أقرب إلى الإبداع الخالص نظرًا لاعتمادها على النسق العقلي والرد على الاعتراضات السبعة بأسلوب «فإن قيل». فمن الدلائل القوية إثبات اتفاق الفلسفة مع الشرع في أن مذهب الفلاسفة في هذه الأشياء موافق لما جاء به أصحاب الشرائع عليهم السلام. ويقارن مع الهند في حرق الجثث كدليل على تمايز النفس والبدن.٧٨
(٧) بهمنيار بن المرزبان
وإذا كان ابن سينا قد وصل إلى أعلى درجة في التجريد والصمت عن مصادره فإن تلميذه بهمنيار (٤٥٨ﻫ) قد استطاع التحول إلى الإبداع الخالص في بعض رسائله مثل «ما بعد الطبيعة» و«مراتب الموجودات».
-
(أ)
تضم رسالة «ما بعد الطبيعة» اثتي عشر فصلًا: موضوع العلم، وأول الأشياء المنصورة وهو الوجود، والماهية، وصلة الماهية بالوجود، والتمييز بين الحكمة والواجب والممتنع، ومعنى المتقدم والمتأخر، والقوة والفعل، والفعل والانفعال، والتنفس وقبول المعقولات. وهو خطاب مركز للغاية يستبعد «حشو الكلام غير المفيد». ويتأسس على البرهان الداخلي وينقد الوقوع في الدور في تحديد الممكن والواجب والممتنع.٧٩
-
(ب)
وللرسالة الثانية عنوانان «مراتب الوجود» و«إثبات المفارقات وأحوالها». والعنوان الثاني شبيه بعنوان رسالة للفارابي. وتضم خمسة فصول الأول المفارقات. أربع مراتب مختلفة الحقائق: الأول الموجود الذي لا سبب له وهو واحد، والثاني العقول الفعالة وهي كثيرة بالنوع، والثالث النفوس السمائية وهي كثيرة أيضًا بالنوع. والرابع النفوس الإنسانية وهي كثيرة بالأشخاص. وتتصف بأربع صفات، ليست بأجسام ولا تموت ولا تفسد، وتدرك ذواتها، ولكل منها سعادة مفارقة للمادة. والثاني البراهين على إثباتها. والثالث إثبات العقول الفعالة. والرابع إثبات النفوس السمائية، والخامس إثبات النفوس الإنسانية ومفارقتها وسعادتها. وكلها براهين عقلية مجردة أشبه بالبراهين الرياضية.٨٠
(٨) ابن باجه
وهناك صورة أخرى لابن باجه من تلميذه ابن الإمام بعيدًا عن السلطة مما يدل على قدرة المؤرخين على خلق نماذج تتساوى فيها البطولة مع الخيانة، الإيمان مع الكفر. فعند ابن الإمام ابن باجه ثاقب الذهن، لطيف القوص على المعاني الجليلة الشريفة، أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه. استطاع توضيح لقب الفلسفة الواردة إلى الأندلس، بل فاق ابن حزم ومالك بن وهيب، وكلاهما من إشبيلية. بالرغم من ترك مالك لها إلى العلوم الشرعية. ربما كان مشروع ابن باجه إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الأندلس، إحياء الفلسفة وهو ما حاول ابن رشد استكماله من بعده. وهو ما يحاول مشروع «التراث والتجديد» استكماله بعدهما. فأي الصورتين أحق وأصدق لابن باجه. صورة ابن خلكان أم صورة ابن الإمام؟
(أ) الإبداع الكلي
وبالرغم من تواصل الموضوع الوافد والموروث والواقع أو آليات التأليف إلا أن التصنيف طبقًا للأنواع الأدبية، الشرح والتأليف، كان ضروريًّا لمعرفة مراحل التحول من النقل إلى الإبداع، فالمهم هو المنهج وليس الموضوع، طوليًّا وليس عرضيًّا. وهذا لا يمنع من وجود دراسات أخرى للموضوعات تخترق الأنواع الأدبية.
وكل قائمة لها معيار تصنيفها. فقائمة ابن الإمام تبدأ بالنقل (الوافد) ثم الإبداع ولا تعطي إحصاء كاملًا بل قلب العمل دون الأطراف. وتركز على شرح الفارابي في المنطق. وتذكر الطرف الآخر الذي يرسل إليه العمل (الوزير)، ويتفادى التكرار، ويضم أجزاء مقالات السماع الطبيعي إلى الكتاب الأم وكأن المصنف يريد معرفة اتجاهات التأليف عند ابن باجه، لا فرق لديه بين المنطق والطبيعيات والإلهيات (الإنسانيات) لبيان وحدة المذهب. يبدأ بالطبيعيات وينتهي بالإلهيات (الإنسانيات) ويعود إلى الطبيعيات من جديد مما يدل على أن رؤية ابن باجه للحكمة أنها أساسًا طبيعية، والإلهيات طبيعيات مقلوبة، والإنسان في الطبيعة، والمنطق آلة. ويربط ابن الإمام بين الأعمال بأفعال وحروف تدل على وحدة العمل وكان ابن باجه له مسار فكرى واحد، يؤدي كل عمل سابق إلى العمل اللاحق مع ذكر الترتيب الذي يوحي بالزمان. ويبدو أن كتاب المتوحد الذي اشتهر عنه واحد من عشرات المؤلفات. كما يركز المصنف على سلامة النص وإن كان كاملًا أم ناقصًا، كما يحدد النوع الأدبي إذا كان شرحًا أو قولًا أو تعليقًا أو كلامًا أو ذكرًا أو رسالة أو فصلًا أو كتابًا أو نبذة أو جملًا.
وفي مجموعة أكسفورد اثنتان وثلاثون رسالة، تركز على السماع الطبيعي، وتفحصه مقالة مقالة مع التركيز على السابعة والثامنة عن المحرك الأول وهو بؤرة الحضارة الإسلامية مع استعراض أجزاء الطبيعيات كلها أكثر من المنطق أو ما بعد الطبيعة على عكس الفارابي الذي بدأ بالمنطق وابن رشد الذي شرح الكل عودًا على بدا. ويعود ابن باجه إلى المنطق مثل الفارابي. ويكون القول في المعاني الحلقة المتوسطة بين الألفاظ والاشياء. ويكتفى ابن باجه بمنطق اليقين دون منطق الظن. ويشعر الناسخ بالمنحول لذلك يقول «المنسوبة إليه».
والأفضل الحرص على وحدة كل عمل ومعرفة جدل الوافد والموروث وآليات التأليف بالرغم مما يوقع ذلك في التكرار بدلًا من الاختراق العرضي لها كلها فتجمع الوافد معًا والموروث معًا وآليات التأليف معًا مما يساعد على إصدار الحكم على ابن باجه ولكنه لا يكشف عن آليات التأليف.
ويظل الغالب على ابن باجه المنطق والطبيعيات أي العقل والواقع، الإنسان والعالم. أما الإلهيات فإنها تأتي بطريقة مباشرة في الطبيعيات مثل الوحي والله في ثلاثي بنيوي على النحو الآتي:
- (١)
تمثل الوافد (رسالتان) لأن التمثل كان قد تم من قبل منذ الكندي والفارابي وابن سينا.
- (٢)
تمثل الوافد وتنظير الموروث (اثنتا عشرة رسالة)، قمة التأليف، المزدوج.
- (٣)
تنظير الموروث (رسالتان)، فقد كانت تلك مهمة الكلام والتصوف والأصول.
- (٤)
الإبداع الخالص (سبع رسائل) مما يدل على اتساع رقعة الإبداع الخالص دون إحالة إلى وافد أو موروث.
- (١)
الوافد أكثر واليوناني أقل في حين أن الموروث أقل والعربي أكثر في مرحلة الإبداع.
- (٢)
في القسم الأول الوافد أكثر (منطق ورياضة وطبيعة) وفي القسم الثاني الموروث أكثر (عقليات وإلهيات).
- (٣)
القسم الأول أقرب إلى النقل، والقسم الثاني أقرب إلى الإبداع.
- (٤)
القسم الأول كما أطول من الثاني. فالنقل إسهاب، والإبداع تركيز.
- (٥) الرسائل في القسم الأول أطول، وفي الثاني أقصر.١١٣
- (٦)
ظهور الموروث في الجزء الثاني أكثر من الجزء الأول مما يدل على ارتباط الإبداع بالموروث.
- (١) التأليف في موضوعات الوافد وعلومه. وهو التحول من اللفظ إلى المعنى، وإعادة بناء المعنى. ويلاحظ عليها تكرار بعض الأعمال والتأليف فيها أكثر من مرة مثل: المزاج، والنفس النزوعية. ولا توجد عناوين بل موضوعات أي الذهاب إلى الشيء، الأمر وفي نفسه مباشرة.١١٤
- (٢) التأليف في الوافد من خلال الموروث (التراكم الفلسفي). وهو التأليف في الوافد بعد أن تم تحوله إلى موروث على أيدي الحكماء المسلمين خاصة الفارابي. ويظهر نفس الشيء بتحليل فهارس المؤلفات.١١٥ ويظهر الفارابي المنطقي، ويتقدم شرح إيساغوجي أي المدخل أو الفصول، كتاب واحد له ستة شروح بالإضافة إلى قول سابع على كتاب العبارة.١١٦
- (٣)
التأليف في الموروث. وهو التنظير له حتى يكون على مستوى تنظير الوافد، في إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد والزرقالة إبراهيم بن يحيى الأندلسي، وجعفر بن يوسف بن حسداي وابن وافد، والرازي، وأبو الحسن الإمام. فقد ارتبط بمعاصريه، لا فرق بين حياتهم وفكرهم أو بين حياته وفكره في سيرة ذاتية تتخلل مؤلفاته. فالارتباط بالموروث قد ارتبط بالوافد منذ المرحلة الأولى.
ويظهر الطب كجزء من الموروث، واليهود جزء من الأمة، ورسالة من الأستاذ إلى التلميذ. كما يظهر الفارابي المؤلف المستقل وليس فقط شارح أرسطو. ويظهر الزرقالي مع النهايات الإيمانية مما يدل على أنه شيخ، وهو عالم الهيئة المحلي. فمن الموروث ظهر خمسة أعلام عبد الرحمن بن سيد، ابن الوافد، الرازي، بن حسداى والحسن بن الإمام في حين من الوافد اثنان أبو قراط وجالينوس. ولم يظهر أرسطو. واليهود جزء من الحضارة.١١٧ - (٤) التأليف الإبداعي الخالص. وهو التأليف المستقل عن الوافد والموروث في آن واحد إلى حد كبير.١١٨
(ب) الإبداع الفلسفي الخالص
(٩) نصير الدين الطوسي
(١٠) صدر الدين الشيرازي
الوافد | الوافد والموروث | الموروث | الإبداع الخالص | |
---|---|---|---|---|
١ | قيام الأرض وسط السماء | سر القدر | النيروزية | القوى الإنسانية |
٢ | أجوبة البيروني | السعادة والحجج | الصمدية | الطبيعيات عيون الحكمة |
٣ | الجوهر النفيس | العشرة | المعوذتين | الأخلاق |
٤ | الأجرام العلوية | النبوات | الفعل | الموسيقى |
٥ | الحدود | الشفاء | والانفعال | المبدأ والمعاد |
٦ | أقسام العلوم العقلية | النجاة | العرشية | السياسة |
٧ | الموت | الإشارات والتنبيهات | الذكر | أسباب الرعد |
٨ | أحوال النفس | الأضحوية | العشق | العهد |
٩ | رسالة في التقويم | القوى النفسانية | الصلاة | حي بن يقظان |
١٠ | القانون | القدر | الطير | |
١١ | النفس الناطقة | الزيارة | ||
١٢ | النفس الناطقة |
في الموروث: (١) تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية (٢) جوابه لما سئل عن هندسة ابن سيد المهندس وطرقه (٣) اختصار الحاوي للرازي (٤) كتاب التجربتين على أدوية ابن واقد بالاشتراك مع أبي الحسن سفيان (٥) رسالة إلى أبي جعفر بن يوسف بن أحمد بن حسدار.
في التأليف (الواقع): (١) قول ذكر فيه التشوق الطبيعي وماهيته (٢) كتاب اتصال العقل بالإنسان (٣) كلام في الأمور التي يمكن بها الوقوف على العقل الفعال (٤) كتاب النفس (٥) كلام في الفحص عن النفس النزوعية وكيف هي ولم تتزع ومما تنزع (٦) رسالة الوداع (٧) قول يتلو رسالة الوداع (٨) تعاليق حكمة وجدت متفرقة (٩) أسباب البرهان وحقيقته (١٠) كتاب تدبير المتوحد (١١) فصول قليلة في السياسة المدنية وكيفية المدن وحال المتوحد فيها (١٢) كلام في الغاية الإنسانية (١٣) كلام في البرهان (١٤) كلام في الاسم والمسمى (١٥) نبذة يسيرة في الهندسة والهيئة (١٦) كلام في الأسطقسات (۱۷) كلام في المزاج، محمد سليم سالم ص٢٧.
(١) قائمة المؤلفات كما حصرها القاضي ابن النضر من خلال مجموع ابن الإمام (أكسفورد) (۲۰).
(٢) قائمة ابن أبي أصيبعة (٢٧).
(٣) قائمة ابن طفيل.
(٤) هدية العارفين (١٠).
(٥) قائمة ماجد فخري.
(٦) قائمة محمد مصطفى حلمي.
(أ) رسالة اتصال العقل بالإنسان (بلاثيوس، الأهواني، ماجد).
(ب) الوقوف على العقل الفعال (ماجد).
(ﺟ) ومن قول أبي بكر في النبات (بلاثيوس).
(د) كتاب النفس (المعصومي).
(ﻫ) كتاب الكون والفساد (المعصومي) أهمها: (١) كتاب الحركة. (٢) في الصورة الأولى ومساوقة الصورة للمادة. (٣) في الأسطقسات. (٤) في المزاج. (٥) في المزاج. (٦) مقالة في النبات. (٧) النيلوفر. (٨) في العلم المدني. (٩) في النفس النزوعية. (١٠) النفس النزوعية. (١١) في المتحرك. (١٢) في الوحدة والواحد. (١٣) في الوقوف على العقل الفعال. (١٤) فصول تتضمن القول على اتصال العقل بالإنسان. (١٥) القول في القوة الناطقة. (١٦) في الألحان. (١٧) في الهيئة. (١٨) أقاويل في صناعة النجوم. (١٩) في ماهية الشوق الطبيعي.
(ب) تعاليق ابن باجه على كتاب المقولات للفارابي (ماجد).
(ﺟ) تعاليق ابن باجه في كتاب باري أرمنياس (من كتاب العبارة) (سالم).
(١) تعاليق أبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ على كتاب أبي نصر في المنطق.
(٢) شرح مصادره في المقالة الأولى من كتاب إقليدس.
(٣) شرح صدر الخامسة له أيضًا.
(٤) تعاليق من كلام الجرجاني على كتاب التحليل.
(٥) تعاليق على كتاب المقولات.
(٦) تعاليق على كتاب العبارة.
أما النصوص من ٢–٨ فمن الفارابي أيضًا مما يدل على قرب الفارابي من ابن باجه.
ومن مخطوط أكسفورد لأبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ على كتاب أبي نصر بن محمد الفارابي في المدخل والفصول من إيساغوجي:
(١) منها في المدخل والفصول. (٢) تعليق على إيساغوجي. (٣) الارتياض على كتاب المقولات. (٤) تعليق على كتاب المقولات. (٥) القول في لواحق المقولات. (٦) كتاب العبارة. (٧) من كتاب العبارة. (٨) تعليق على كتاب القياس. (٩) ارتياض في كتاب التحليل. (١٠) كلام على أول كتاب البرهان. (١١) قول أبي بكر محمد بن يحيى وكتاب البرهان. (١٢) كتاب المقولات. (١٣) كتاب باري أرمنياس.
(ب) تدبير التوحد (بلاتيوس، دنلوب، ماجد).
(ﺟ) في الغاية الإنسانية (ماجد).
(د) في الوحدة والواحد (بدوي).
(ﻫ) في المتحرك (بدوي).
(و) في الفحص عن القوة النزوعية (بدوي).
(ز) ومن قوله في القوة النزوعية (بدون).
(ﺣ) ومن كلامه رضي الله عنه في الألحان.
(ط) كلامه في النيلوفر.