وهو علم جامع العديد من العلوم الرياضية مثل علم المناظر الذي يجمع بين الرياضيات
والطبيعيات بعد أن كان عند اليونان علمًا رياضيًّا خالصًا.
(أ) ابن الهيثم
مثال ذلك «كتاب المناظر» للحسن بن الهيثم (٤٣٢ﻫ).
٥٩ وهو نموذج الإبداع الخالص الخالي من الوافد والموروث. فلا توجد
أسماء أعلام من الوافد أو الموروث باستثناء علم واحد من الموروث هو أحمد
بن محمد بن جعفر الكاتب.
٦٠ وتحولت أسماء الفرق إلى مذاهب ونظريات مثل أصحاب الطبيعة الذين
يتصورون البصر شعاعًا من الشيء إلى العين، وأصحاب الرياضيات الذين يجعلون
الشعاع من العين إلى الشيء حتى يتم الإبصار. وكلاهما أصحاب الشعاع. وهو نفس
الخلاف القديم الذي تصوره الناس بين أرسطو وأفلاطون وحاول الفارابي الجمع
بينهما. كما حاول ابن الهيثم مرة ثانية الجمع بين النظريتين مما يدل على وجود
تصور واحد للعالم يجمع بين الفارابي وابن الهيثم يقوم على التوحيد وليس على
التفريق. وقد اختلف الرياضيون فيما بينهم في تصور الشعاع إلى ثلاثة آراء: جسم
مصمت متصل أو خطوط مستقيمة أو قوة نورية. الخلاف في المناظر إذن ليس في العلم
الطبيعي أي الضوء ولكن في علاقة العلم الطبيعي بعلم النفس في كيفية الإبصار.
لذلك وضع ابن الهيثم عنوانًا فرعيًّا «في الإبصار على الاستقامة». ويراجع
ابن الهيثم النظريتين ويبين الفاسد والصحيح في كل منهما، ينقد الفاسد ويعيد
تركيب الصحيح مبينًا علة كل رأي.
٦١ وقد يرجع خطأ أصحاب التعالم القائلين بالشعاع أنهم يستعملون في
مقاييسهم وبراهينهم خطوطًا متوهمة ويسمونها الشعاع. فالخطأ في البرهان. ويتحدث
أيضًا عن أصحاب التشريح في كتب التشريح التحليل كيفية عمل العين والاعتماد على
علم الطب باعتباره علمًا طبيعيًّا. فلا توجد إحالة إلى حكيم أول أو إلى حكيم
ثاني ولا حتى ذكر لأشهر أقرانه مثل ابن سينا والبيروني. إذا يعتمد على العقل
الخالص وعلى النظر العقلي كما يقتضيه البرهان والتجريب وهو ما يسميه ابن الهيثم
الاعتبار ويعني أيضًا الاستقراء. ويحيل إلى آراء المتقدمين جملة كوعي تاريخي
بالماضي. وهي آراء مختلفة، الحقائق فيها غامضة، والشبهات كثيرة، والمقاييس
متباينة، والمقدمات حسية. وقد تظهر بعض المصطلحات الموروثة مثل الإشراق بمعنى
علمي أي الضوء وليس بمعني صوفي أي في التنفس. والإشراق إما أن يكون استقامة أو
انعكاسًا أو انعطافًا. ويحلل ابن الهيثم في المقالة الأولى خواص البصر والضوء
والعلاقة بينهما في كيفية الأبصار وآلاته، وفي الثانية نظرية أصحاب الشعاع، وفي
الثالثة أغلاط البصر أي خداع الحواس.
ويكثر ابن الهيثم من استعمال أفعال البيان لأن مهمته التوضيح والبرهان.
٦٢ كما يحيل السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق مما يكشف عن مسار
الفكر ومنطق الاستدلال.
٦٣ ويكون البيان باستقراء العلل واستيفاء البراهين.
٦٤ وابن الهيثم هو الذي يقول وليس غيره. هو الذي يتحدث ولا ينقل أقوال السابقين.
٦٥ هذا بالإضافة إلى وضوح اللغة والمصطلحات، وسهولة الأسلوب ودقة
التحليل العلمي والاعتماد على العقل الخالص وقدرته الذاتية على البرهان. فقد
كتب ابن الهيثم من قبل مقالًا في علم المناظر على نحو إقناعي، ولكن في كتاب
المناظر يعيد كتابته على نحو برهاني.
٦٦ ويستعمل بعض الرسوم التوضيحية للإقلال من حدة الخطاب التجريدي
الرمزي وبالرغم من عدم ذكره أسماء أعلام ولا آيات قرآنية ولا شواهد نقلية من
الوافد أو الموروث إلا أنه يؤسس المعرفة في النفس وفي العقل في علم النفس
المعرفي.
ويوجد عند ابن الهيثم أقل قدر من التعبيرات الإيمانية في البداية والنهاية
باستثناء البسملة والحمدلة والصلاة على محمد النبي وآله في أول كل مقالة وفي
آخرها، واستمداد العون من الله في جميع الأمور. ويشار مرتين إلى الطائف حكمة
الصانع ورأفته وبديع صنعه وحسن نظام الطبيعة ولطيف آثارها. فعلم المناظر أحد
المعاني التي تظهر فيها حكمة الصانع جلت عظمته ولطف صنيعه، وتلطف الطبيعة في
تهيئة آلات البصر الهيئة التي بها يتم الإحساس وبها تتميز المبصرات.
٦٧
وفي المقالة السابعة من «الكاسر الكري» يستمر الإبداع الخالص اعتمادًا على
العقل المحض وبراهينه.
٦٨ لذلك تكثر أفعال البيان ولفظ البرهان، واستعمال برهان الخلف وهو
إثبات استحالة النقيض.
٦٩ وتقلل من طابع الخطاب التجريدي الرسوم التوضيحية. وكذلك الأمر في
«العدسة الكرية».
٧٠
أما في «كيفية الإرصاد» له أيضًا فإنه يتناول موضوع الفلك مباشرة. يغيب فيها
الوافد والموروث تمامًا. يترك ابن الهيثم القيل والقال، ويتوجه إلى الموضوع
مباشرة ثم التحقق من صحة الأقوال بمراجعتها على التجربة.
٧١ وكالعادة يتحدث ابن الهيثم عن فرق ومذاهب من الناظرين في علم
الهيئة ولا يذكر أسماء أعلام أو أماكن. وهناك نصوص زائدة على النص الأول إضافة
من الناسخ أو القارئ أو المالك لوضع علامات للأفلاك من المستوى التجريدي للنص
نقلًا عن ابن الشاطر ولتعميم الفائدة وذكر المراصد منذ إبرخس وبطليموس والمأمون
في بغداد والبتاني في الشام والحاكم في مصر، وإحالة إلى شيخ المشايخ السيد
الطحان وذكره تقويم النيرين من الزيج الحاكمي لابن يونس وتقويم الخمسة المتحيرة
من الشاهي الغيبك، ومراجعة ذلك بالعين في مصر المحروسة.
٧٢ والرسالة تعتمد على العقل الخالص والمدخل الفلسفي النظري من أجل
تحويل الفلك إلى علم دقيق. وقد يظهر الموروث في اللاوعي المعرفي في التصور
الإسلامي للعالم المنبثق من التوجه القرآني نحو الكون والمطابق لنظام الكون
ذاته. فعلم الفلك الذي هو من عمل الذهن هو الذي يربط بين تصور الوحي للعالم وما
ينتج بالاعتبار أي بالقياس من إدراك نظام الطبيعة بدافع اشتياق النفوس إلى
معرفة الحقائق مع الأخذ في الاعتبار تغير المراصد بتغير الأماكن في المغرب أو
المشرق وأن الزمان مرتبط بالمكان.
٧٣ ويضيف ابن الهيثم الآلات إلى الرصد، فالعمل والنظر علم واحد. ويبدو
مسار الفكر في أفعال البيان التي تكشف عن هدف التوضيح والبرهان.
٧٤ والمقال موجه إلى المتعلمين دون المتخصصين أو المحققين.
٧٥
وبالرغم من قلة العبارات الإيمانية التقليدية باستثناء البسملة والحمدلة إلا
أن علم الفلك قريب من الأمور الإلهية. لذلك يتسم بعلو المنزلة وشرف الرتبة،
يحسن الظن بأهل الصناعة ومحبتهم للحق واجتهادهم في معرفته.
٧٦
وفي رسالة «الأثر الظاهر في وجه القمر» له أيضًا جمع بين الفلك والمناظر،
وطرح إشكال الموضوعية والذاتية، هل ما يرى ظاهرة على وجه القمر له وجود موضوعي
أم أنه إدراك ورؤية؟
٧٧ لا يعتمد على الوافد أو الموروث بل يراجع التراث العلمي كله حول
الموضوع، وينقد جميع الآراء السابقة ويبين بطلانها بالتجربة دون تشخيص لها في
أسماء أعلام أو أسماء فرق ومذاهب. فقد نقلت في الموضوع آراء ستة كلها خاطئة،
أولًا: أن هذا الأثر الظاهر في وجه القمر هو نفس جرم القمر شفافًا أو خشنًا،
ثانيًا: أنه خارج عن جرم القمر ومتوسط بين الجرم والبصر، ثالثًا: أنه صورة تظهر
بالانعكاس على سطح القمر الصورة الأرض، رابعًا: أنه صورة البحار في الأرض
بالانعكاس، خامسًا: أنه صورة الجبال في الأرض بالانعكاس، سادسًا: أنه صورة قطعة
من الأرض بالانعكاس. وكل هذه الآراء تتأرجح بين الوجود الموضوعي للظاهرة،
الرأيان الأول والثاني، والوجود الذاتي لها، صورة انعكاسية في البصر، الآراء
الأربعة الأخيرة. وابن الهيثم من أنصار الوجود الموضوعي للظاهر وهو عالم الإبصار.
٧٨ ويبرهن على ذلك بالدليل. لذلك تكثر أفعال البيان والدليل، ويتحدث
بضمير المتكلم فهو الذي يبحث ويتحقق ويحكم، يطور العلم ويكمله. وتقل الإيمانيات
إلى أقصى حد لا تتجاوز البسملة والحمدلة.
٧٩
(ب) نصر بن عبد الله المهندس
وفي رسالة «في استخراج سمت القبلة» لنصر بن عبد الله المهندس يغيب الوافد
والموروث ويتضح الدافع على الإبداع الخالص.
٨٠ وهو واقع عملي وليس مجرد حب استطلاع نظري. وهو البحث عن سمت القبلة
واتجاه الكعبة لبناء المساجد. لذلك ارتبط الفلك بالهندسة، ووسيلة ذلك إيجاد
طريقة سهلة والبحث عن وسائل عملية وبرهان قصير.
٨١ وتقل العبارات الإيمانية. تكفي البسملة والحمدلة والصلاة على النبي
والدعوة بالتوفيق للصواب. وتنتهي الرسالة كوثيقة شرعية، تاريخ النقل ومكانه،
ومقابلة خط الناسخ مع الخط الأصلي.