ثانيًا: ابن الهيثم، البيروني، ابن سينا، علي بن رضوان، ناصر خسرو
(١) ابن الهيثم
(٢) البيروني
ويظهر «تنظير الموروث قبل تمثل الوافد» في بعض أعمال البيروني الرياضية والطبيعية.
-
(أ)
ومن العلوم الرياضية «تسطيح الصور وتبطيح الكور» للبيروني (٤٤٠ﻫ).٥ وهو موضوع تصغير الصور الكبيرة لاستحالة تصورها أو رسمها إذا ما أصابها الخلل والتشويش. وتراجع الأدبيات السابقة عند الكندي والمروروذي الصوفي. والموضوع معروف منذ بطليموس وأهميته في الجانب العملي لمعرفة المناخ والزراعة والسفر والصلاة والحروب.ولا يتعدى الوافد بطليموس في كتابه عن صورة الأرض في كتاب المجسطي مع جداوله، ومارينوس في إرشاده إلى كيفية تصوير الأرض في سطح.٦ أما الموروث فيتجاوزه. فيُذكَر أبو الحسين الصوفي ثم أبو العباس الفرغاني في كتاب الكامل ثم محمد بن جابر البتامي ثم آخرون أقل أهمية مثل الكندي والطبري.٧ وينقد البيروني الفرغاني ويصفه بالهذيان. وتظهر البيئات المحلية مثل العرب والهند في مقابل الروم. وتذكر عدة مصادر مدونة.٨ وتبدأ الحمدلات والبسملات بالشعر أي الموروث الثقافي قبل الوحي، ثم الشكر والدعاء لله وللسلطان مولانا الأمير السيد الملك العادل ولي النعم خوارزم شاه، أطاله في العز وأبقاه في النصر وأيد سلطانه. كل شيء يفيض من الله والسلطان. يهدي الصغير إلى الكبير ويتقرب المأمور إلى الأمير إظهارًا للعبودية المستكنة في الضمير.٩
-
(ب)
وللبيروني أيضًا «استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها».١٠ جمع في الرسالة الطرق الهندسية مع نسبتها إلى أصحابها دون الصمت عنهم كما يفعل ابن سينا، ومن أجل تدريب المتعلمين عليها. وبالرغم من أن الرياضيات تبدو صورية الطابع لا مضمون لها إلا أنها أنيس في الغربة للنفس ولها فائدة عملية في الواقع. فالرياضة وسيلة لا غاية. وتتم مخاطبة القارئ أيضًا. فالعلم تجربة مشتركة بين العلماء، ومِن ثَم لا تكون المسافة بعيدة بين الرياضة والتصوف. هناك إذن بُعد شخصي في الرياضيات. وتظهر عبارة «خاطر سنح» مما يدل على أن الرياضيات حدسية الطابع دون أن يفقدها ذلك مسارها الفكري المنطقي الاستدلالي مع رسوم توضيحية في كل مسألة.١١ ولا يكتفي البيروني بالرواية عن الرياضيين السابقين والحكاية عنهم بل يصحح الدعاوى ويراجع البراهين، مع استعمال أفعال البيان والذكر وكل أفعال الإيضاح والتعليل. يعرض الدعاوى والبرهان والمثال.١٢ويظهر تمايز شديد بين الأنا والآخر مما يدل على استقلال الشخصية وكما يبدو ذلك من عبارات كثيرة مثل «في حل التعديل» ونسبته إلى نفسه بألفاظ «اتجه لي»، «تهيأ لي»، «أدتني إليه الفكرة» «اتفق لي»، «أنتجه الخاطر لي»، «استخرجته»، «تركيبنا نحن لتحليل لنا في هذه المسألة»، جامعًا بين القدماء والمحدثين.١٣ يصحح دعوى اليونانيين ويصوب أخطاءهم، كما ينقد الموروث خاصة الرازي واتهامه بقلة الدين والدينونة وابتسار الهندسة. وهي كالمنطق تتعامل مع الأشكال والصور. فالعلم الرياضي ليس خاليًا من الفلسفة وموصل للإيمان كما هو الحال عند البيروني العالم الرياضي المؤمن. كما ترتبط النظرية بالشخص نظرًا لأن الرياضة اجتهاد. ويشير البيروني إلى باقي مؤلفاته مما يبين وحدة العمل، وذكر الأعمال المجهولة.١٤ويقل الوافد بالنسبة للموروث، أحيانًا يظهران معًا في تراث علمي واحد وأحيانًا يتمايزان في عناوين الفصول. ومن الوافد يتصدر أرشميدس في كتاب الدوائر ثم بطليموس من غير إحالة إلى المجسطي ثم أبلونيوس ثم سارينوس الصابئي في كتاب أصول الهندسة وهيرون بمفرده. ويسمى المجسطي الشاهي تعبيرًا عن الوافد بلفظ موروث، وإلى أحد اليونانيين على العموم دون الخصوص أو بعض اليانيين أو اليونانيين. ومن الوافد الشرقي يذكر زيج السند هند الكبير ومذهب السند هند والسند هند.١٥ ويشار مرة واحدة إلى اسم المترجم لمسائل أبلونيوس وهو يوحنا بن يوسف.ومن الموروث يتصدر الخوارزمي ثم السجزي ثم الشتني ثم البتاني ثم السمرقندي والجعدي ثم البصري وحبيش والفزاري ثم الحبوبي والهاشمي والطبري وأبو العلاء ثم حشنش، وأبو نصر وبامشد والخازن، ثم أبو عبد الله والمصري وأبو الجود والصباح والفرغاني والكاتب ومحمد بن موسى وأبو عيسى وأبو سنان؛ منهم من هو مشهور، ومنهم من هو أقل شهرة. وتتسع رقعة الأعلام ولكن يغلب عليهم الشرق،١٦ والإيمانيات قليلة في الرياضيات عنها في الطبيعيات. فمع البسملات والحمدلات، التوفيق والهداية من الله وكل شيء بمشيئته، والصلاة على النبي خير الأنام. وتذكر آية قرآنية وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ فالرياضيات طريق إلى الإيمان.١٧
-
(جـ)
وفي «الجماهر في الجواهر» للبيروني أيضًا يتصدر تنظير الموروث على تمثل الوافد.١٨ فالموضوع لا يُنقل بل يشاهد، ولا يُشرح بل يُجرب.١٩ومن الموروث يأتي الكندي في المقدمة ثم الدينوري ثم الأصفهاني، ثم الرازي الطبيب. ويكثر الشعراء باعتبارهم مصدرًا للعلم بالطبيعة وبالجواهر مثل أبي تمام، وأبي نواس، وابن المعتز، وامرئ القيس، والبحتري، وابن الرومي، ومن المتكلمين الجاحظ، ومن الأطباء ابن جلة ومن الفلاحة ابن وحشية. وإذا كانت أسماء الجواهر وافدة شرقية أكثر منها غربية وأكثر منها عربية فإن أسماء أدوات التعدين ومصطلحاته أكثر منها عربية لأن الأدوات مصنوعة محليًّا.٢٠ وكذلك الأمر في أسماء النقود وأسماء أدوات الزينة والسلاح والثياب والآلات. كما أن أسماء الأمم والقبائل والطوائف كلها عربية وفارسية وتركية أي من الشعوب الإسلامية ولا شيء منها تقريبًا يأتي من الوافد اليوناني. ومن أسماء الأماكن والبلدان لا يكاد الوافد اليوناني يذكر.٢١ والأعياد كلها موروثة. ويحال إلى أكثر من مائة كتاب لا يتجاوز الوافد منها العشر.٢٢ ويستشهد بالشعر العربي كمصادر للمعلومات عن الطبيعة،٢٣ ويشار إلى «بلادنا» و«وقتنا».٢٤ومن الأصول الأولى تذكر عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأمثال وما يجري مجراها. ويبدأ الكتاب كالعادة بالبسملة والحمدلة. وتبدو صفات الله مشتقة من علم الجواهر، خاصة وعلم الطبيعة عامة، منزل الماء وسير السحاب.٢٥ فكل شيء بخلقه. وكلها خاصة بالجواهر مثل الذهب والفضة واللؤلؤ والمرجان. فسبحان الخالق لكل شيء والله أعلم والله الموفق، والله المستعان.ويتصدر الوافد ديسقوريدس ثم جالينوس ثم أرسطو ثم الإسكندر ثم بطليموس، وأريباسيوس، وبليناس ثم أرشميدس، وأفلوطرخس، وأفلاطون، وديوجانس، وهراقليدس وهرمس، وهيرودوت وغيرهم.٢٦ في حين يبلغ الوافد الفارسي أكثر من النصف مع بعض الأسماء الهندية مما يدل على حضور الوافد الشرقي أكثر من الوافد الغربي. ونظرًا لحداثة العرب في الموضوع فلم تتجاوز الأسماء العربية أكثر من الربع.٢٧ويتضمن الكتاب مقالات ثلاثة؛ الأولى «في الجواهر» وهي أكبرها، والثانية «في الفلزات»، والثالثة «المعمولات والممزوجات بالصفة» وهي أصغرها.٢٨ وأكبر الجواهر اللؤلؤ ثم الياقوت. ثم الألماس والزمرد، ثم الذهب، ثم الحديد، ثم البلور وعشرات أخرى من الجواهر والفلزات والمصنوعات.٢٩ويظهر أسلوب الجمع والعد والإحصاء. كما تظهر الجداول التوضيحية.٣٠ وتُذكَر الخرافات الشائعة حول المعادن وتظهر بعض اللازمات مثل «ترويحة».٣١ كما يعتمد البيروني على المشاهدات والتجارب والمعلومات المباشرة ولا يكتفي بالمنقول.٣٢ وتدرس الجواهر في إطارها الاجتماعي، أسعارها، واستعمالها. فالعلم الطبيعي علم إنساني طالما أن النبات والمعادن للاستعمال «أخبار في اليواقيت والجواهر».٣٣ ولا يتبع البيروني ترتيبًا أبجديًّا بل ترتيبًا طبقًا لقيمة الجواهر. ويكون الاعتماد على اللغة لمعرفة اشتقاق الأسماء.٣٤ فالجوهر له أبعاد عدة؛ جغرافي وتاريخي واقتصادي واجتماعي وفني ولغوي وأدبي وليس مجرد موضوع طبيعي.
(۳) ابن سينا
و«في السعادة والحجج العشرة على أن النفس الإنسانية جوهر» لابن سينا (٤٢٨ﻫ) يتفاعل الوافد داخل الموروث كخطوة نحو الإبداع الخالص. السياق هو ذكر آراء القدماء، علماء وحكماء، وإحصاؤها في أمر النفس وقوامها دون البدن. الموضوع موروث وهو المعاد الذي سماه الفلاسفة خلود النفس بعد مفارقتها والآراء المذكورة عن الوافد لمراجعتها على الموروث وقبول المتفق منها ونقد المخالف احترامًا للتراث القديم وتقديرًا لجهد القدماء. فقد اختلف القدماء في النفس الإنسانية إذا فارقت وهي هيولانية لم تتصور بعد الشيء عن الصور المعقولة التي بها تقوم بالفعل عقلًا في قوامها دون البدن.