(۲) ابن طفيل
وتمثل رسالة «حي بن يقظان» لابن طفيل (٥٨١ﻫ) هذا النوع الأدبي، تنظير الموروث قبل
تمثل الوافد. والعجيب أن يكون موضوعًا لثلاث رسائل من ابن سينا والسهروردي
وابن طفيل، فقد استطاع الموضوع المثالي أن يكون محملًا بالدلائل عند ثلاثة من
الفلاسفة. وتختلف الصياغات الثلاث كمًّا، السهروردي أقصرها، وابن سينا أوسطها، وابن
طفيل أطولها. وقد عرف ابن طفيل رسالة ابن سينا ونسج على منوالها كما يوحي بذلك
العنوان من ألفاظها مميزًا معانيها ومستخرجًا موضوعها. وتدل ألقاب ابن طفيل على
نزعته الصوفية مثل الكامل والعارف.
وهو تأليف يجمع بين الموروث والوافد في موضوع جوهري هو الصلة بين الدين والفلسفة،
بين الوحي والعقل، بين أصل الموروث وأصل الوافد، والانتهاء إلى التوحيد بينهما من
خلال الفطرة. الفطرة عالمة خيرة بطبيعتها، لا فرق بين العقل والطبيعة. والوحي كمال
للفطرة من احتمال فسادها. الطريق الأول للخاصة والثاني للعامة. لذلك كانت الدلالة
العامة للقصة أن الفيلسوف مؤمن وأن المؤمن فيلسوف. ولا فرق بين طريق الحكمة وطريق
الوحي ضد سطوة الفقهاء الذين يهاجمون الفلسفة باسم الشريعة. وبهذا المعنى يكون
ابن رشد وريث ابن طفيل في التوحيد بين الحكمة والشريعة بالرغم من الإشراقيات
السينوية عند ابن طفيل. ولا يعتبر ذلك يأسًا من العامة بل دفعًا لها على أن تتحول
إلى خاصة طلبًا للرقي والكمال. فالعمل العقلي لا يقوى عليه إلا أهله سواء كان
متكلمًا أو فيلسوفًا أو فقيهًا، وهو العمل القلبي عند الصوفي وليس عمل الجوارح عند
العامة. والتراكم على هذا النحو مستمد من الواقع مباشرة وليس من الكتاب، ترجمة
وتعليقًا أو شرحًا وتلخيصًا وجامعًا أو عرضًا وتأليفًا وتراكمًا. هو أقرب إلى
التراكم الصوفي الذي يصل إليه الصوفي بنفسه عن طريق الكشف، المضنون به على غير
أهله، مخالفة لطريق السلف الصالح في هتك الستر. الغاية منه نقد الآراء الفاسدة
لمتفلسفة العصر والدفاع عن العامة الذين طرحوا تقليد الأنبياء إلى تقليد السفهاء،
ومساعدتهم على اكتشاف الحقيقة بفطرتهم. وقد توحي بعض الألفاظ بالاتجاه الشيعي مثل
الأسرار والحجاب والدعوة والدعاة والإمام وأثر الغزالي في المضنون به على غير أهله.
يكشف ابن طفيل الأسرار بحساب حتى لا يزيد الناس إيهامًا بها والإبقاء على البعض
الآخر لمن هو أهل لها. ترك الباب مواربًا دون فتح أو غلق، ترهيبًا وترغيبًا.
١٠
والعجيب ألا تكون لابن طفيل مؤلفات معروفة إلا هذه الرواية، وتكون كافية ليصبح
صاحب مشروع فلسفي لأنه بدأ من نقطة أصيلة هي الصلة بين الدين والفلسفة أي الموروث
والوافد، والتي نشأت بعد عصر الترجمة وظهور مصدرين للمعرفة. قد تكون له مؤلفات أخرى
ضاعت من أجل تدعيم رؤيته بأسلوب برهاني وليس فقط بأسلوب روائي. ربما كان عازفًا عن
التأليف مكتفيًا بهذه الرواية بالرغم من نسبة بعض الاكتشافات في علم الفلك له. ومع
ذلك يتضح التراكم الفلسفي لديه، ويظهر الوعي التاريخي من ثنايا الوعي الفلسفي. ربما
كان صوفيًّا لا يحب التدوين ويعتمد على التجربة والمشاهدة دون البحث في المصادر
والشروح والحواشي على المتون.
ويطرح موضوع الوافد سؤالًا عامًّا: هل هناك مصدر وافد لحي بن يقظان؟ المشهور أن
قصة «سلامان وأبسال» التي نقلها حنين بن إسحاق كانت النموذج الوافد السابق. ثم تحول
سلامان وأبسال إلى الظاهر والباطن، الفقه والتصوف، ثنائية صوفية وتاريخية في آنٍ
واحد، الصراع بين الفقهاء والصوفية في الأندلس بيئة محلية صرفة، وليست أفلاطونية
محدثة. ويصرح ابن طفيل في الخاتمة بأن هذه القصة هي قصة حي بن يقظان وسلامان
وأبسال، ضامًّا الموروث والوافد في رؤية واحدة. ويستعمل ابن طفيل اسمي سلامان
وأبسال من ابن سينا، الوافد من خلال الموروث. فابن طفيل وريث تصوف ابن سينا
والغزالي في الفلسفة المشرقية مع أن القصة موضوعها الفطرة التي تجمع بين العقل
والطبيعة قبل المعارف اللدنية. وهناك أيضًا النموذج الإسلامي في القصص القرآني، قصة
موسى وإلقائه في اليم وتربيته في منزل فرعون ثم اكتشاف الحقيقة بوحي من الله. ويشير
ابن طفيل إلى الرواية عن السلف الصالح.
١١
ومن الوافد يتصدر أرسطو وحده. ومن الموروث ابن سينا ثم ابن باجه ثم الغزالي ثم
الفارابي والمسعودي والجنيد. ويتصدر القرآن ثم الحديث. ومن أسماء المؤلفات تتصدر
مؤلفات الغزالي ثم الفارابي ثم ابن سينا. ولا يذكر أرسطو مباشرة من الوافد بل من
خلال كتبه أو من خلال عرض الفارابي أو ابن سينا له، الوافد من خلال الموروث.
١٢ لم تعد مؤلفات أرسطو ولا شروحها وتلخيصها وعرضها والتأليف فيها وافية
بالغرض في مرحلة التحول إلى الإبداع الخالص. «الشفاء» مجرد عرض لأرسطو وأحيانًا يتم
تجاوزه كمًّا لأن فيه أشياء ليست عند أرسطو. أما تجاوزه كيفًا ففي «منطق المشرقيين»
الذي به أسرار الحكمة لأن كتب أرسطو والشفاء ما زالت على مستوى الظاهر. فهل الفلسفة
المشرقية هي منطق المشرقيين؟ إذا كانت كذلك فهي نية عبر عنها ابن سينا في المقدمة
ولكنها لم تتحقق في الكتاب نفسه الذي أتى أقرب إلى عرض منطق أرسطو منه إلى تجاوزه.
وهنا يأتي ابن طفيل لإبراز أسرار الحكمة المشرقية متجاوزًا أرسطو وابن سينا معًا،
وتكتمل الحقيقة على يديه كما اكتملت عند أرسطو في الفلسفة اليونانية. وما زال لفظ
«أسطقس» المعرب مفردًا وجمعًا شائع الاستعمال.
١٣
ويبدو تاريخ الفلسفة في بداية القصة، أسماء أعلام ومؤلفات مما يدل على بداية
الوعي التاريخي وبزوغه في علوم الحكمة، وهو يؤرخ لنفسه. لقد حدث التراكم التاريخي
الكافي في القرن السادس بحيث تبلور الوعي التاريخي، يرصد مساره، ويكمل تطوره، ويحقق
بنيته. لقد تحول التاريخ إلى مشكلة فلسفية مستقلة عنه، وهي المشكلة الجوهرية، الصلة
بين العقل والنقل أو العقل والسمع بلغة المتكلمين أو بين الفلسفة والدين أو الحكمة
والشريعة بلغة الحكماء.
١٤ لقد حدث التراكم في المشرق الإسلامي من الفارابي وابن سينا والغزالي
أكثر مما حدث في المغرب الإسلامي عند ابن باجه. لم يذكر ابن طفيل من المشرق الكندي
والرازي والعامري والبيروني وأبا حيان، ربما لندرة كتبهم في المغرب، وربما لغلبة
التيار العقلي العلمي الذي تمت إزاحته من التيار الصوفي الإشراقي. فقد وضع التيار
العقلاني العلمي الوحي معادلًا للعقل والطبيعة بينما جعله التيار الإشراقي الصوفي
معادلًا للقلب ولما بعد الطبيعة. والعجيب ألا يذكر ابن طفيل ابن رشد وقد كان
معاصرًا له وهو الذي قدمه لأبي يعقوب، ربما لأنه الإشراقي الذي لم يعجب بشارح
أرسطو. ذكر ابن طفيل الحكماء بين الفلسفة والتصوف نظرًا لأنه من النزعة الإشراقية
الصوفية والمؤرخ لحكمة الإشراق، ولا يذكر إلا ممثليها مثل ابن سينا والغزالي
وابن باجه مادحًا وليس ناقدًا. يقدم ابن طفيل قراءة لتاريخ الفكر من وجهة نظر حكمة
الإشراق. ولا يقدم وصفًا موضوعيًّا بل ابتسارًا لأحد مكوناته وهي حكمة الإشراق،
ربما على سبيل التشويق. كما يظهر الوعي التاريخي كأداة ربط بين أجزاء الخط الروائي،
انتقالًا من الذات إلى الموضوع، ومن العقل إلى التاريخ. ففي وصف حالات الصوفية
ومقامات حي يخرج ابن طفيل إلى التاريخ ويحيل إلى الجنيد.
١٥ صحيح أن الفلسفة في المغرب ظهرت متأخرة عنها في المشرق لأسباب مادية،
عدم وصول الكتب من المشرق إلى المغرب أو وصولها متأخرة أو لسطوة الفقهاء وسيطرتهم
في نظم سياسية تستمد شرعيتها من الدين، وربما لظروف الحرب والجهاد والفتح والدفاع
عن الدولة ضد هجمات الشمال، وربما البعد الجغرافي عن المناطق الحضارية في المشرق
التي تم فيها نقل الوافد من اليونان وفارس والهند. ويعترف ابن طفيل أنه في الأندلس
لم تصل كثير من كتب الغزالي، وما وصل ظنه الناس أنه من المضنون به على غير أهله.
١٦
وابن سينا عند ابن طفيل مؤسس الحكمة الإشراقية التي تعني الفلسفة الإشراقية. ولا
يكاد يذكر ابن طفيل السهروردي ربما لأن حكمة الإشراق لم تصل إليه. وقد تعني
المشرقية ما يأتي من المشرق، اليونان والرومان. وهذا هو المعنى الجغرافي الحضاري.
وقد تعني ما يأتي عن طريق الذوق في مقابل ما يأتي عن طريق العقل، وهو المعنى
المعرفي الخالص. وقد انتقلت الحكمة المشرقية من ابن سينا إلى الغزالي إلى ابن طفيل.
وهي رد فعل على منتحلي الفلسفة في عصره. وهم الحفَّاظ الشرَّاح لأرسطو، أصحاب
المعارف المنقولة، أنصار الوافد المشروع الذين ينقلون دون فهم أو يعلِّقون دون
تجربة. يستبدل بها ابن طفيل طريق البحث والنظر وطريق الذوق والمشاهدة تحولًا من
النقل إلى الإبداع. ومع ذلك ينقد ابن طفيل ابن سينا بأن «الشفاء» ليس على مذهب
أرسطو بل نقلة نوعية فيه، والفرق بينهما واضح يقينًا. «الشفاء» معقد غامض لا يُفطن
إلى مقصده إلا عند بلوغ أسرار التأويل. أرسطو عقلي، والشفاء إشراقي. ابن سينا نموذج
الحكيم الإشراقي صاحب الذوق وليس صاحب النظر سواء كان ذلك بالفعل أم قراءة من
ابن طفيل. ويستشهد على ذلك بنصين من ابن سينا دون تحديد مكانهما. يصف ابن طفيل حالة
حي كما وصفها ابن سينا، وهي حالة العرفان التي يصل إليها الصوفي بعد الرياضة
والمجاهدة، حالة المرآة المزدوجة بين الذات الإلهي والذات الإنساني، كل منهما يرى
ذاته فيها، ذاتًا لنفسه وموضوعًا لغيره سواء عرف ابن طفيل هذه الحالة ثم قرأها عند
ابن سينا أو عرفها عن ابن سينا قبل أن يحصل عليها بالتجربة.
١٧
وقد ذكر ابن باجه نموذجًا ثانيًا للفلسفة المشرقية مع اقتباس نصوص منه لدرأ
المسافة بين طريق النظر وطريق الذوق، بين البحث والتصوف. فيمكن الوصول إلى الحقيقة
إما عن طريق البحث وهو طريق ابن باجه وإما عن طريق ابن سينا وهو طريق ابن سينا
والغزالي وابن طفيل. ويختار ابن طفيل نظرية الاتصال عند ابن باجه ليبدأ منها لعله
يمكن ضمها إلى التراث الإشراقي وأسرار الحكمة المشرقية. العلم الحاصل بالاتصال هو
علم المعاني أو التصورات العقلية المباينة للمادة وأقرب ما تكون إلى الأمور الإلهية
التي يهبها الله لمن يشاء من عباده. وهي رتبة ينتهي إليها ابن باجه عن طريق العلم
النظري والبحث الفكري دون أن يتخطاها إلى الذوق والمعاينة. وحال الناظر دون
المعاينة كالأعمى الذي يعرف اللون عن طريق الاسم والشرح وليس عن طريق النظر. أما
ابن سينا والغزالي وابن طفيل فقد اختاروا طريق الذوق. والطريق الأول أقل قدرًا
وقيمة من الطريق الثاني على عكس اللقاء الشهير بين ابن رشد وابن عربي حين قال
ابن رشد: إنه يشاهد ما يعلم، وقال ابن عربي إنه يعلم ما يشاهد. يصف ابن طفيل تطور
الوعي الفلسفي التاريخي لحظة ابن باجه، جيلًا وراء جيل، كل جيل لاحق أحذق وأكمل من
الجيل السابق. ولكن ابن باجه شغلته الدنيا حتى وافته المنية. ولم يُظهر خزائن علمه،
ولم يبث خبايا حكمته. وما بقي من كتبه مخرومة من أواخرها مثل كتاب «النفس» و«تدبير
المتوحد»، وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة. أما كتبه الكاملة فهي وجيزة، رسائل
مختلسة أي سريعة كما صرح هو بذلك في رسالة الاتصال بأنه لا يمكن العثور على معناها
إلا بعد عسر شديد، وأن ترتيب عباراته ليس على الوجه الأكمل. ولو اتسع له الوقت لقام
بتعديلها. اطلع ابن طفيل على كتابات ابن باجه ولم يتعرف على شخصه بالرغم من التقارب
بينهما في الزمان (٥٣٣ﻫ / ٥٨١ﻫ). وأما من عاصره وكان في مرتبته فلم يكن له تأليف.
فهل كان ابن رشد وغياب تأليف في الحكمة الإشراقية عنده؟ وأما غيرهم من المعاصرين له
فهم كثر بغير كمال أو لم تصل لابن طفيل حقيقة أمرهم.
١٨
ويذكر الغزالي بعد ابن باجه وكأن التصوف التأملي لديه أقرب لابن طفيل من التصوف
العملي عند الغزالي. ويستشهد ببيت له على المعارف الإلهية والعلوم اللدنية تعجز
اللغة عن التعبير عنها وانتقاء العبارات والصياغات لها. فبعد أن طوف بالفلسفة انتهى
إلى التصوف طريقًا لليقين. وكفَّر الفلاسفة في «التهافت» لإنكارهم حشر الأجساد
وإثبات الثواب والعقاب للنفوس. وقد تخبط مثل الفارابي في أمر المعاد، وهو الموضوع
الرئيسي عند ابن طفيل. ويشير إلى مؤلفاته أكثر من الإشارة إلى شخصه مستشهدًا بنصوص
منها، من «التهافت» و«الميزان» و«المنقذ» و«الجواهر» و«المعارف العقلية» و«النفخ»
و«التسوية» و«مسائل مجموعة»، و«المقصد الأسنى»، و«المشكاة». والعيب الرئيسي عند
الغزالي هو تغيير خطابه بحسب الجمهور. للعامة خطاب هو الخطاب الفقهي، وللخاصة خطاب
آخر هو الخطاب الفلسفي، ولخاصة الخاصة خطاب ثالث هو الخطاب الصوفي. الأول يشارك به
الإنسان الجمهور، والثاني بحسب كل سائل ومسترشد، والثالث بين الإنسان وبين نفسه لا
يطلع عليه إلا من كان شريكًا له في اعتقاده. وهذه بداية خلط الغزالي؛ إذ صرح
بالحكمة إلى الجمهور فاضطرب. ربط في محل، وأحل في ربط. ونشأ الاضطراب لديه لتأرجحه
بين المستويات الثلاثة للخطاب. والبداية بالشك من أجل النظر، والنظر من أجل البصر،
وإلا وقع الإنسان في العمى والحيرة والضلال. التصوف إذن ممثلًا في الحركة الإشراقية
هو بداية التحول من النقل إلى الإبداع، ومن العقل إلى القلب، ومن النظر إلى الذوق،
ومن الكتاب إلى التجربة، ومن الفهم إلى المشاهدة. وقد وصل الغزالي إلى هذه المرحلة،
فهو الذي يفصل تاريخ الفلسفة إلى مرحلتين. تحدث بالرمز والإشارة لأنها «المضنون به
على غير أهله». ومن هو مؤهل لها صاحب البصر والبصيرة القادر على فهمها بأبسط إشارة.
لم يصل إلى الأندلس منها شيء باستثناء «المعارف العقلية» و«النفخ والتسوية» و«مسائل
مجموعة» و«المقصد الأسنى». بها أقل الإشارات، وليست ضمن المضنون به على غير أهله.
وقد توحي «المشكاة» بأنها من المضنون به على غير أهله. أساء فهمه الناس، أنه يقول
بالكثرة في الواحد وليس بالوحدانية. ومع ذلك فهو من الواصلين السعداء.
١٩
ويشير ابن طفيل إلى الفارابي شارحًا أرسطو وعارضًا له، ومنتسبًا إلى نفس التيار،
وهو النظر، بضرورة تجاوزه لعدم كفايته في الإبداع الفلسفي الذي يحتاج إلى الذوق
والمشاهدة. معظم مؤلفات الفارابي في المنطق بالرغم مما يذكره ابن طفيل من كتبه
الأخلاقية مثل «الملة الفاضلة» و«السياسة المدنية» وشرح كتاب الأخلاق. وما ورد فيها
من الفلسفة كثير الشكوك فيما يتعلق ببقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام وبقاء
إلى الأبد كما بيَّن ذلك في «الملة الفاضلة». ثم عاد وقال إنها سائرة إلى العدم في
«السياسة المدنية»، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة. ثم بيَّن في «شرح
كتاب الأخلاق» أمر السعادة الإنسانية وأنها تكون في هذه الحياة. وكل ما سوى ذلك
هذيان وخرافات عجائز بنص الفارابي دون تحديد لمكانه. لذلك أيأس الفارابي الخلق
جميعًا، وجعل الفاضل والشرير في رتبة واحدة بعد أن جعل مصير الكل إلى العدم. كما
جعل النبوة بقوة خيالية وفضَّل الفلسفة عليها. فهل هذا التأويل للفارابي صحيح أم
أنه قراءة ابن طفيل له؟ هل صحيح أن الفارابي تخبط في أمر المعاد وتناقض في موضوع
بقاء النفس بعد الموت، وساوى بين النفوس الشريرة والنفوس الخيرة في البقاء أو
الهلاك؟ وإذا كان الموضوع الغالب على الفارابي هو المنطق فكيف يكون نقد ابن طفيل له
في معظمه منصبًّا على الأخلاق، بقاء النفس بعد الموت؟ هل قدم ابن طفيل الفارابي
اللغوي المنطقي أم الإشراقي الصوفي طبقًا لفلسفة ابن طفيل؟ هل يرفض ابن طفيل أن
تكون النبوة من فعل القوة الخيالية وأن تكون الفلسفة تجاوزًا للخيال إلى العقل
ذاته؟ هل صحيح أن الفارابي أيأس الخلق جميعًا وجعل الفلسفة والدين للخاصة دون
العامة وأن مهمة ابن طفيل العودة إلى العامة لخلاصها؟
٢٠
وقد استشهد ابن طفيل بعدة آيات قرآنية في المقدمة والوسط والنهاية حيث تختلط
العواطف الدينية بالعواطف الأدبية.
٢١ يظهر السجع كإيقاع موسيقي يجمع بين الدين والأدب. فبعد البسملة
والحمدلة ووصف الله بالعظم الأعظم والقدم الأقدم، والعلم الأعلم، والحكيم الأحكم،
والرحيم الأرحم، والكريم الأكرم، والحليم الأحلم، تظهر آيات العلم والقلم والفضل
والقصص والقلب والمشاهدة ووحدة الشهود، ووحدة الوجود، والظاهر والباطن، والختم
والطبع، وسنن الله في الكون، وتكثر الآيات أوقات الاستغراق الصوفي في المرحلة
الخامسة ووقت مخاطبة العامة في المرحلة السادسة والأخيرة. كل ذلك أثناء سطوة
الفقهاء الذين ينكرون مواجيد الصوفية ونظرياتهم في الحلول والاتحاد. وتظهر
التعبيرات القرآنية غير المباشرة. فالقرآن إعجاز أدبي، مخزون نفسي، يفرض نفسه على
الأسلوب. تغيرت الناس من سداد الرأي إلى فساده، ومن الفِطَر الفائقة إلى الفاسدة،
ومن الكمال إلى النقص. فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا. ويظهر الحديث القدسي
الشهير الذي يوحد بين السمع الإلهي والسمع الإنساني، والبصر الإلهي والبصر الإنساني
في حالة الاتحاد. كما يظهر حديث خلق الله آدم على صورته، المرآة المزدوجة بين الله
والإنسان، كل يرى الآخر ذاتًا وموضوعًا.
٢٢ وتنتهي القصة بالصلاة والسلام على الرسول صاحب الخلق الطاهر والمعجز
الباهر والبرهان القاهر والسيف الشاهر وكأننا في المدائح النبوية وعلى آله وصحبه
والتسليم عليهم.
والأدب الصوفي أو الفلسفي الرمزي معروف قبل رواية حي بن يقظان «رسالة الطير»
لابن سينا كنماذج للتصوف الفلسفي أي الفلسفة الصوفية. في الفلسفة بعض الجوانب
الصوفية كما هو الحال في «الإشارات والتنبيهات» وفي التصوف بعض الجوانب الفلسفية
كما هو الحال في الفلسفة الإلهية عند ابن عربي وابن سبعين مما يبين وحدة العلوم
بالرغم من تمايزها، وكما اتحد الكلام بالفلسفة في علم الكلام المتأخر. ويظل التمايز
في الفلسفة قائمًا بين تيارين، تيار عقلاني طبيعي عند الكندي والرازي وابن رشد،
وتيار عقلاني إشراقي عند الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل، ويبدو المنحى
الصوفي في الإحالة إلى ضيق الألفاظ واتساع الحقيقة والتلويح والإشارة والظاهر
والباطن، والمقامات والأحوال، والقلم والعقل، والمشافهة والمعاينة. لذلك يذكر
ابن طفيل الهند. فآسيا موطن الحكمة المشرقية. فهو أقرب إلى البيروني منه إلى مسكويه
وأنصار حكمة فارس. ولم يظهر عند القدماء أنصار حكمة الصين لبعد المكان.
ويبدو الإشراق من العنوان «حي بن يقظان» حي من الحياة، ويقظان أبوه. فالحياة بنت
اليقظة، والحياة دون اليقظة موت، وحياة الكائن الحي بنت حياة الشعور أساسه في الوعي
وليس في العضو. تلك دلالة أسماء الأعلام وليس شخصياتها المطابقة لها في الواقع أو
الخيال، مثل أن يقظان هو الأب الذي تزوج سرًّا من الأم بعد أن رفض أخوها تزويجها
للأكفاء. ذلك هو الحامل الاجتماعي، الزواج بين الأكفاء. ويمكن تفسير العنوان، الاسم
بأن حي هو العقل ويقظان هو الله، والنطق من الله. وتختلف الدلالات باختلاف أعماق
الفهم في الداخل وليس في الخارج.
وتبدأ القصة بتفسير كيف نشأ حي بن يقظان. هناك مذهبان في نشأة الإنسان في الكون:
الأول الولادة الطبيعية التي هي منشأ توالد الإنسان من الإنسان بعد الإنسان الأول.
والثاني التطور الطبيعي ونشأة الإنسان من اجتماع درجة معينة من الحرارة ودرجة معينة
من الرطوبة كما هو الحال في آدم الذي خُلق من طين أي الأرض ثم نفخت فيه الروح أي
الحرارة. وتلك أهمية الجمع بين الطب والفلسفة، بين البدن والنفس. وقد تم التوالد
الذاتي في الهند تحت خط الاستواء حيث الحرارة والمطر. ثم تتحول القصة من الجغرافيا
إلى التاريخ بمجرد بدايتها، وذكر الخلاف بين المسعودي مؤرخًا. خط الاستواء (جزر
الهند) أعدل الأجواء وبين الفلاسفة والأطباء واعتبارهم الأعدل الإقليم الرابع
ومعارضة ابن طفيل لهم وانتصاره للمسعودي. فهل صحيح ذكر المسعودي هذا التعليل أم أنه
مجرد خيال لمتطلب القص؟ وهل التعليل بالنور والاستواء حقيقة أم مجازًا، طبيعية أم إشراقًا؟
٢٣
وتتداخل عدة خطوط في القصة تبدو في أقسامها الأربع غير المتساوية كمًّا وغير
المتسقة كيفًا. أولًا، الافتتاحية الدينية التي توحي بالجو الديني العام الذي كتبت
فيه القصة، ثانيًا، تاريخ الفلسفة الإسلامية مع ذكر أسماء الحكماء وأعمالهم، ثالثًا
نشأة حي بن يقظان وعرض المذهبين، الخلق والتولد الطبيعي، رابعًا التعليم الفلسفي
والرقي الروحي حتى سن الثالثة والستين، عمر آخر الأنبياء. يبدأ الوعي الفلسفي في
السابعة ويكتمل في الخمسين. وأطول سنوات العمر كشف الخامسة والثلاثين. وتوجد ست
مراحل للعمر، سنوات الحسم فيها الثانية، والسابعة، والحادية والعشرون، والثامنة
والعشرون، والخامسة والثلاثون، والخمسون. وتكشف الرواية بعد الخلق أو التولد الذاتي
وكلاهما من الوحي والطبيعة عن مراحل الوعي بالذات وبالعالم عن تقليد الإنسان
للأصوات ونشأة اللغة، وتسخير العقل في فهم الطبيعة، واكتشاف الموت، والنار والطاقة،
والسمك، والجهات الأربع، والروح والنفس، والأبعاد الثلاثة. والإنسان في المعرفة
متوحد بالطبع، وفي المجتمع مدني بالطبع. يعرف حي الحقيقة بمفرده، يعبر عنها ويبلغ
بها ويؤسسها إلى آخر. ويكتشف الشريعة أيضًا بالعقل مثل الصوم، فقد صام أربعين يومًا.
٢٤
وتقوم الرواية على شخصية واحدة، حي. ثم يظهر أبسال (الباطن) رجلًا هاربًا من
سلامان (الظاهر). وهو أول تحول دلالي من اليونان إلى المسلمين، من قصة سلامان
وأبسال، ثنائي الرجل والمرأة إلى ثنائي الظاهر والباطن، الشخصية الأولى هي المحورية
والثانية هامشية. ولا توجد شخصية نسائية كما هو الحال في الأصل اليوناني بل توجد
شخصيتان حيوانيتان، الظبية أمُّ حي، والغراب الذي تعلم منه دفن الموتى. الشخصية
الأولى واحدة، مع الحيوانات، وسط الطبيعة ثم يظهر أبسال وسلامان.
٢٥
وتتداخل عدة خطوط روائية وتتمايز، تتواصل وتنقطع. فمنذ البداية يخرج ابن طفيل عن
الموضوع إلى الطبيعيات متنقلًا من التاريخ إلى الجغرافيا. يضع رواية داخل رواية،
التولد الذاتي والخلق داخل حي. ثم يترك التولد الذاتي والخط الروائي ويعود إلى
الطبيعيات من جديد ثم تعود القصة إلى وصف استغاثة الطفل لجوعه بعد التولد الذاتي.
ثم تأتي فقرة في التشريح والطب بمناسبة التولد الذاتي بعد التاريخ والجغرافيا. ويتم
الخروج عن الخط الروائي ويرد ابن طفيل على تعجب حي من الشرح المادي وتنبيهه إلى
تغير الناس والزمان وأنهم لم يعودوا أصحاب الفطر الفائقة والأذهان الثاقبة والنفوس
الحازمة بل أصبحوا من ذوي البلادة والنقص وسوء الرأي وضعف الحزم. ويتضح الربط
المفتعل بين أجزاء القصة خاصة في البداية وكثرة تطويع الخط الروائي باستطراد، وتذكر
ابن طفيل بضرورة العودة إلى الخط الروائي الأصلي ورفض الاستطراد بالرغم من أهميته.
وأحيانًا تكون الانتقالات للتذكير بما فات والتنبيه على الحاضر والوعد بما سيأتي في
المستقبل تذكيرًا بالمسار الروائي كله، وربطًا للأجزاء بعضها بالبعض. وأحيانًا تكون
عبارات الربط البيان والتوضيح والشرح والتفصيل.
٢٦
ويتبع ابن طفيل أسلوب مخاطبة القارئ سواء بضمير المخاطب أو بضمير الغائب أو بضمير
المتكلم الجمع، ومخاطبة المؤلف لنفسه مع الاعتذار له في الكشف عن الأسرار وبيان أن
القصد هو تقريب الكلام إلى الأفهام على سبيل الترغيب والتشويق لدخول الطريق.
بدايتها تكشف عن أنها جواب عن سؤال بأسلوب الفتاوى كما هو الحال في «فصل المقال».
القارئ هو السائل، والمؤلف هو المجيب سواء كان السؤال حقيقيًّا بالفعل أم كان محض
خيال. كما ينبه ابن طفيل القارئ حين الخروج عن الخط الرئيسي للرواية. وتصبح مخاطبة
القارئ إحدى وسائل الربط بين أجزاء القصة، ويصبح المؤلف راويًا والقارئ مستمعًا.
وتكثر هذه الانتقالات في المرحلة الخامسة وكأننا في قصة الخضر مع موسى.
٢٧