وفي «تهافت التهافت» يظهر الوافد والموروث واضحًا بالرغم من أولوية تنظير الموروث
على تمثل الوافد.
(أ) الوافد
ومن الوافد يتصدر أرسطو مع الحكيم ومن كتبه النفس والسماع والبرهان ثم الكون
والفساد، ثم السفسطة والسماء والعالم والمقولات والحيوان والحروف والتدبيرات
الفلكية والجزئية والحيوان والمبادئ. كل ذلك فيما يتعلق بأرسطو. ثم يذكر
أفلاطون ثم جالينوس ثم الإسكندر ثم فيثاغورس، وانكساجوراس وبارميندس، ومالسيس،
وأبقراط، وفرفوريوس الصوري، وسقراط، وثامسطيوس. ومن الفرق يُذكَر السوفسطائيون
ثم القدماء ثم الحكماء ثم الفلاسفة القدماء ثم القدماء من الفلاسفة. ثم يذكر
الحكماء ثم الدهرية مع الدهريين، ثم المشاءون ثم المتأخرون والمترجمون ثم
المتقدمون واليونانيون والأوائل.
٤٧
وقد سمى أرسطو الرئيس الأول للفلاسفة. فابن رشد هو الذي يهب اليونان ألقابهم
وليس الذي يأخذ من اللاتين ألقابه مثل «الشارح الأعظم». فاللقب يدل على رؤية
الأنا للآخر. ويعتمد عليه ابن رشد للبرهان. فبرهانه معقول مثل إثبات أنه لو أن
للحركة حركة لما وجدت الحركة. وأحيانًا يبدأ ابن رشد ذكر أرسطو بأفعال مثل
«يرى»، «يصرح»، أو بأسماء إشارة «كذلك» وليس بأفعال القول. فالمضمون هو الهدف
وليس الصورة، المعنى وليس اللفظ، الشيء وليس القول. ويزيد ابن رشد برهان أرسطو،
برهانًا على برهان، ويدلل على صحة رؤيته مثل جهات السماء الأربع أو تعريف
الزمان بأنه عدد الحركة. قول أرسطو صحيح ولكنه بالنسبة للأفلاك وليس على
الإطلاق أو استعماله لقياس شيء آخر عليه لأن الشيء الآخر تصور في الشرع والآيات
القرآنية. ابن رشد نفسه هو الذي يدرس ويحلل ويستنتج وينتهي. ثم يذكر أرسطو
لبيان اتفاقه معه. فأرسطو هو الشارح وابن رشد هو المشروح. أرسطو هو القارئ
وابن رشد هو المقروء. لقد صرح أرسطو في غير مكان من كتبه بأن كل ممكن الوجود
فهو محدث. وهو بذلك يشرح إحدى مقدمات المتكلمين. هنا يصبح الآخر شارحًا للأنا
وليس الأنا شارحًا للآخر. يبدأ ابن رشد بفكرة أرسطو وهو استنتاج الحدوث من
التدوير ثم يوضحها ابن رشد قارئًا إياها إسلاميًّا من أجل إثبات خلق العالم.
فالنقل مقدمة للإبداع. ويستعمل ابن رشد قضية كل تركيب فاسد عند أرسطو تأييدًا
لتحليله العلمي الجزئي لإثبات اتفاق العلماء على الحقائق العلمية وللارتباط
بتاريخ الفكر والعلم، ولتأكيد أقوال السابقين أو لتأكيد أقوال السابقين له
منعًا لازدواجية الثقافة بين الوافد والموروث، ولتقوية الحجة بإجماع العلماء
ونزع سلاح الوافد من أيدي الخصوم لضربه. بعد أن يصل ابن رشد إلى الحق يستشهد
بأرسطو، ويوضح مكان استشهاده بذكر اسم مؤلفه مثل كتاب البرهان. بل إن ابن رشد
يدخل في مسار الفكر الأرسطي، مقدماته ونتائجه، استدلالاته وبراهينه، خطوة خطوة
حتى يبين معقولية فكره واتفاقه مع التجربة والمشاهدة وإن اختلفت العبارة أو
التصور أو طرق التشبيه نظرًا لاختلاف الحضارات وتمايز الثقافات. فإذا أراد
إثبات أن الأرض مستديرة جعلها محدثة معلولة حتى ينقلها إلى الأزلية بعد ذلك.
٤٨
ويدرك ابن رشد حقيقة مذهب أرسطو وينقد تأويلات المشائين له. وقد أخطأ
الفلاسفة المسلمون مثل ابن سينا باتباعهم هذه التأويلات دون العودة إلى الأصل.
وابن رشد الأصولي يعود إلى الأصل ليس فقط في دراسة الموروث بل أيضًا في دراسة
الوافد. المنهج واحد. كما ينسب المشاءون لأرسطو أقوالًا لم يقلها مثل جعلهم
السبب في أن الواحد علة هو التوسط وأنه لم ينقل هذا إلا عن فرفوريوس صاحب مدخل
علم المنطق «ايزاغوجي» ولم يكن من حذاقهم. كما أن العقل عند أرسطو مسئولية الكل
وليس كما تقوَّل عليه أبو حامد. لذلك يراجع ابن رشد مذهب أرسطو، ويميز بينه
وبين تأويلات المشائين. ويتفق مع أرسطو في عدة أقسام العلم الطبيعي الثمانية
وليس باقي فروع العلم الطبيعي مثل الطب وأحكام النجوم والفراسة والطلسمات
والحيل والكيمياء. كما يعتمد عليه كشاهد خارجي بعد البرهان الداخلي على مفارقة
العقل عن قوى النفس، وعلى أن كمال القوة في الآلة.
ويضع ابن رشد أرسطو في إطار أنصاره من المشائين المسلمين مثل ابن سينا
إحساسًا بالتمايز بينه وبينهم. ابن رشد ليس هو الشارح الأعظم لأرسطو كما سمَّاه
اللاتين بل المراجع الأعظم لمذهب المشائين وامتداداته داخل الحضارة الإسلامية،
ونقد ممثليه مثل ابن سينا في النفس. وهو مذهب في غاية الركاكة من أرسطو. وكان
على ابن سينا أن يراجعه ويصححه. كذلك لم يفهم المشاءون كيف يكون الواحد علة.
ولا يلزمه تأويلاتهم. فالفاعل الواحد يصدر عنه فعل واحد طبقًا للشاهد.
٤٩
ولا يقال ذلك على الفاعل الأول إلا باشتراك الاسم. وذلك لأن الفاعل الأول في
الغائب يقال بإطلاق، والفاعل الأول في الشاهد يقال بتقييد. لذلك جعل أرسطو
الفاعل للمعقولات الإنسانية متبرئًا من المادة. والمطلق والمقيد أحد مباحث
الألفاظ في علم الأصول. لذلك جمع أرسطو بين الوجود المحسوس والوجود المعقول.
وقال إن العالم واحد صدر عن الواحد، وأن الواحد سبب الوحدة من جهة والكثرة من
جهة أخرى. كما أن الخلق يكون بالعلة الغائية أيضًا وليس فقط بالعلة الأولى،
بالمبدأ الأول وليس فقط بالعلة المباشرة. فأسباب الكثرة عند أرسطو من الفاعل
الأول ثلاثة: العلة الفاعلة، والعلة الغائية، والعلة الصورية.
٥٠
ويضم ابن رشد أرسطو في إطار تاريخ الفلسفة بمقارنته بأفلاطون أو بالمشائين
آل أرسطوطاليس بطريقة المسلمين في عمل التسمية بإضافة «آل» وهو ما يعادل
OI باليونانية علامة الجمع ﻟ
OS فيما يتعلق بقدم العالم وحدوثه كما فعل
الفارابي من قبل ودون أن يشير ابن رشد إليه. فالخلاف في الأصل عند اليونان قبل
أن يكون عند المسلمين. فقد قال أفلاطون بحدوث العالم ولم يكن لديه شك في أن
للعالم صانعًا طبقًا لقراءة المسلمين. فلما قال أرسطو بقدم العالم شك أصحاب
أفلاطون عليه، واتهموه بإنكار وجود الصانع. فرد أنصار أرسطو بأن أرسطو يرى أن
للعالم صانعًا وفاعلًا. فهذه قراءة إسلامية للخلاف بين أرسطو وأفلاطون، وإعادة
بناء الموقف اليوناني طبقًا للرؤية الإسلامية، وانتهاء الخلاف بتبرئة أرسطو كما
فعل الفارابي، وجعله يرى أن للعالم صانعًا، أرسطو الإسلامي وإن لم يكن أرسطو
اليوناني، أرسطو الكامل وإن كان في ثقافته ناقصًا. وإن اتفاق أرسطو وأفلاطون
على شيء هو اتفاق العقول الإنسانية جميعًا. كل منهما يمثل أحد جوانب العقل.
٥١
ويضم ابن رشد صوت أرسطو مع صوت برمنيدس ومالسيس من القدماء واضعًا أرسطو في
تاريخ ثقافته ليبين أنه ليس موقفًا خاصًّا بل موقفًا عامًّا للقدماء مثل الحديث
في مسألة الوحدة والكثرة. وقد ظن الإسكندر أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة
أخرى لم تخرج في الحقيقة عن المبادئ التي عرضها أرسطو. وكلا الطريقتين صحيحة.
والأشهر طريقة أرسطو ولكنها عامة في حاجة إلى تفصيل. وهي طريقة واجب الوجود
ويقول بها ابن رشد. فهو لا يفضل فقط طريقة أرسطو على طريقة الإسكندر ولكنه يفضل
طريقة أرسطو ويطورها. فأرسطو والإسكندر يتفقان مع ابن رشد ولكن الفرق في العموم
والخصوص، في نقاء تصور التوحيد. يقول الإسكندر بالقوة الواحدة (خاص)، ويقول
أرسطو بالجسم البسيط (عام). ويقول ابن رشد بالوحدانية (الأعم). كما يضع ابن رشد
أرسطو مع فيثاغورس في وضعه المحرك الأول عقلًا أي صورة بريئة من الهيولى. لذلك
لا ينفعل بشيء من الموجودات. فأرسطو موحد يمدح فيثاغورس موحدًا. فقد بلغ
اليونان قمة التوحيد العقلي قبل الإسلام. وقد أتى الإسلام بعد اليونان مصححًا
المسيحية وعقائدها ومؤكدًا التوحيد اليوناني العقلي. ومِن ثَم يفهم ابن رشد
اليونان والإسلام في إطار تاريخي، أرسطو تاريخ ثقافته والإسلام في تاريخ
الثقافات القديمة.
٥٢ فأرسطو الذي يحيل إليه ابن رشد ليس أرسطو اليوناني التاريخي بل
أرسطو الإسلامي الفلسفي. ليس أرسطو المكتوب بل أرسطو المقروء على مستوى
التصورات، وحدانية الله وخلق العالم أو على مستوى الألفاظ والعبارات. كل شيء في
الطبيعة متقن الصنع بتدارك الله النقص فيه، لا فرق في ذلك بين قول أرسطو وتصور
الإسلام. بل إن ابن رشد يعيد قراءة أرسطو مستعملًا الخالق تعالى. وبالرغم من
نقد ابن رشد لابن سينا إلا أنه يشعر بالتمايز بين حكمة أهل المشرق وحكمة
اليونان، أهل الغرب بتعبير المحدثين. عند أهل الشرق الأجرام السماوية إلهية.
ومع ذلك يضعفون طريق أرسطو في إثبات المبدأ الأول عن طريق الحركة. فأرسطو أكثر
توحيدًا على نحو عقلي خالص من أهل الشرق الذين يقعون في التجسيم والتشبيه
والتشخيص إن لم يكن الشرك باعتبار الأجرام السماوية آلهة.
ويمكن فهم مذهب أرسطو على وجهه الصحيح بمعرفة نوع الأقاويل التي يستعملها.
فكثيرًا ما يستعمل ابن رشد الصور والتشبيهات التي تدل على معاني لا أن تؤخذ
حرفيًّا لمعرفة المذهب. فتحديد نوع الأقاويل قراءة رشدية لأرسطو رؤية الآخر من
خلال الأنا. وما زالت تظهر بعض المصطلحات المعربة عند ابن رشد مثل «أسطقس» بعد
أن تحول إلى لفظ عربي.
٥٣
ويشير ابن رشد إلى كتب أرسطو ومواضعها مما يدل على معرفته بالمذهب في أصوله
الأولى وليس فقط عن طريق السماع والأفكار الشائعة. ويحيل إلى كتب المنطق
والطبيعيات والنفس وكتاب الحروف أي الميتافيزيقيا.
٥٤ المنطق مثل الفطرة عاملان مصححان إذا وقع الخلاف بين البشر، الفطرة
الفائقة السليمة أو العلامات والشروط في المنطق التي بها يتم التمييز بين الظن
واليقين. وبالتالي يتجاوز ابن رشد ابن سينا الذي جعل المنطق مرادفًا للوحي.
فكلاهما يعصم الذهن من الخطأ. عند ابن سينا يتأسس المنطق من أعلى في الوحي وعند
ابن رشد من أسفل في الفطرة. بل إن الحديث عن المنطق يعني العلم نفسه لا منطقًا
بعينه. كما يحيل ابن رشد إلى كتب السفسطة والمقولات والبرهان. فلو كان الغزالي
قد قرأ كتاب السفسطة ما كان وقع في مغالطاته. فالغزالي جاهل بقواعد المنطق. في
البرهان يتم التمييز بين المقدمات المشهورة مثل الأقوال والمقدمات اليقينية مثل
أوائل العقول. بل إن المقدمات اليقينية تتفاضل فيما بينها. كما يحال معنى ما
قيل إلى كتاب المقولات، من أن كليات الأشياء المعقولة إنما صارت موجودة
بأشخاصها، وأشخاصها معقولة بكلياتها. كما تم التمييز في كتاب النفس بين القوة
التي بها يدرك الشيء والقوة التي بها تدرك ماهية الشيء، وكذلك التمييز بين
العلوم الذي في مادة والعلم الذي ليس في مادة. كما يحال إلى «السماع» و«الكون
والفساد»، بل وتعيين المقالة الثانية من «السماع» والثانية من «السماء والعالم».
٥٥
ثم ينتهي أرسطو الفرد ويبدأ الحكيم وأحيانًا الحكيم الأول. فقد تحول أرسطو
إلى نمط مثالي، إلى حكم العقل ذاته. فبعد دراسة الموضوع يحيل ابن رشد إلى
الحكيم الذي درس نفس الشيء، وانتهى إلى نفس النتيجة كنوع من احترام القدماء
وإعطاء الحق لأهله، وتأييد الحق للحق، وتكوين جماعة الحق بصرف النظر عن الزمان
والمكان والدين والحضارة والقوم مع تحديد الموضوع في كتبه أو كلامه أو نصه مثل
«السماع» أو «التدبيرات الفلكية الجزئية» وهو أحد المنتحلات لما كان الانتحال
إبداعًا فلسفيًّا جماعيًّا يمكن الإحالة إليه من الفيلسوف باعتباره فيلسوفًا
ناشدًا الكمال وليس باعتباره مؤرخًا.
٥٦
وقد ذكر ابن رشد أفلاطون من خلال ذكر أبي حامد له. فالصراع بين أفلاطون
وأرسطو هو نفسه الصراع بين الأشعرية والفلاسفة، بين الفلسفة الإشراقية والفلسفة
البرهانية. والأشعرية هم المتكلمون وليس المعتزلة، حكم الأغلبية على الأقلية،
والقوي على الضعيف، وتراث السلطة على تراث المعارضة. وقد ظن الأشاعرة وأفلاطون
أن دورات الفلك لا نهاية لها في المستقبل وإن كان متناهيًا في الماضي بناءً على
أن ما يقع في الماضي متناهي، وما يقع في المستقبل لا يتناهى. وهذا حكم خيالي
وليس حكمًا برهانيًّا. والأقرب إلى العقل أنه إذا كان العالم له بداية تكون له
نهاية كما هو الحال عند المتكلمين. وقد رد أبو حامد على رأي أفلاطون في وحدة
النفوس وتعدد الأبدان بقدم النفوس وحدوث الأبدان، وانقسام النفوس في العالم.
فإذا فارقت عادت إلى وحدتها الأولى. وقد فند ابن رشد حجج الغزالي دفاعًا عن
موقف أفلاطون بأن زيد وعمر اثنان بالعدد وواحد بالصورة. ثم ينتهي بأن هذا
الموضوع، تعدد الأبدان ووحدة النفوس سر مع أنه هو التصور الذي يمكن به الدفاع
عن خلود النفس الكلية والوحدة النوعية للصور، وأنه لا يمكن إنشاء هذا السر وكأن
ابن رشد قد جمع بين الظاهرية والتأويل. ويراجع ابن رشد أدلة القدماء على بقاء
النفس مثل وجود جوهر في الأشخاص، من الميلاد إلى الموت، والوحدة الثانية في
إطار التغير. لذلك اضطر أفلاطون إلى إدخال الصور وجعلها هي المخلقة للبدن
والمصورة له. ويضيف ابن رشد أقوال أفلاطون لمعرفة إلى أي حد هو برهاني أم أقل
من ذلك. وهو نقد منهجي أكثر منه نقدًا موضوعيًّا. يستعمل أفلاطون قولًا
سوفسطائيًّا أراد به مداهنة أهل زمانه بعيدًا عن قصده خاصة بعد محنته في كتبه
مثل محنة ابن رشد وكأنه يقرأ فيها نفسه. وهو قول لا يفيد اليقين. ويذكر أفلاطون
في موضوع الوحدة والكثرة، وكيف تخرج الكثرة من الوحدة ورأي أفلاطون في
المتوسطات، وما هو المبدأ الأول، الفلك أو النفس أو العقل أو جميعها أو الله،
وإلى أي حد يميز أفلاطون بين العقل والمبدأ الأول. وهي كلها مسائل تدخل كعناصر
جزئية في التصور الكلي للتوحيد.
٥٧
وأكثر فلاسفة اليونان ذكرًا بعد أرسطو وأفلاطون جالينوس ثم الإسكندر.
وجالينوس هو الفيلسوف والطبيب مثل ابن رشد في شخصية الحكيم. يحدد ابن رشد أولًا
نوع أقواله الإقناعية لا البرهانية، وهي الرؤية المنطقية اللغوية مثل رجل واحد
يقول الحق خير من ألف. ثم يتعرض ثانيًا لتحليل القوى الطبيعية في الحيوان مثل
التغذي وتدبير البدن. وبهذا التدبير يسمى حيًّا، وبدونه يكون ميتًا وبه القوة
المصورة. تصورها البعض مبدأً مفارقًا، عقلًا أو نفسًا أو جرمًا سماويًّا أو
الأول. ويسميها جالينوس الخالق سواء كان الله أو غيره، يرتبط ابن رشد بالتراث
العلمي الإنساني منعًا لازدواجية مصادر المعرفة بين الوافد والموروث، واعتمادًا
على سلطة العلماء والإجماع العلمي. كما يستشهد بأبقراط بأن فساد الإنسان وآلامه
وحدوثه أنه من شيئين، روح وبدن وليس من شيء واحد. فلو كان روحًا فقط، شيئًا
بسيطًا، لما طرأ عليه الحدوث، ولو كان مادة فقط لما تألم.
ويأتي الإسكندر بعد جالينوس. فالإسكندر بالنسبة لأرسطو هو انتقال أكثر تقدمًا
من الكثرة إلى الوحدانية وتصور المشائين لجسم بسيط غير مركب من مادة وصورة تلته
وحدانية الإسكندر. لذلك سهل تمثله. هناك إذن ثلاثة طرق: الأول الإسكندر وهي
متفقة مع أرسطو (الأصغر). والثاني أرسطو وهو الأكثر شهرة (الأوسط)، والثالث
ابن رشد وهو مجمل (الأعم). الطريق إذن من البسيط إلى الواحد إلى الوحدانية.
وعند الإسكندر من الواحد صار العالم واحدًا. هناك ثورة روحانية سارية في أجزاء
العالم كالقوة في أجزاء الحيوان تربط أجزاءه بعضها ببعض. وهي نفس طريقة أرسطو
دون الخروج عليها. إنما الأشهر طريقة أرسطو. والأصح طريقة واجب الوجود، طريقة
ابن رشد. ويتفق ابن رشد مع الإسكندر ضد ابن سينا في أن الأجرام السماوية ليس
بها خيال بل الخيال للحيوان والإنسان.
٥٨
ويذكر ابن رشد فلاسفة يونان آخرين مثل انكساجوراس في معرض ذكر الأجوبة
الثلاثة لتفسير خروج الكثرة عن الوحدة، الكثرة من قبل الهيولى وهو رأي
انكساجوراس ومن قبل كثرة الآلات أو من قبل المتوسطات. وهو نفس الموضوع الذي
تكلم فيه برميندس ومالسيس وأرسطو. رأى ثامسطيوس أن الأجرام السماوية صور. وجعل
فيثاغورس المحرك الأول عقلًا أي صورة بريئة من الهيولى لا ينفعل بشيء من
الموجودات، اقترابًا من التوحيد.
٥٩
ويظهر الوعي التاريخي عند ابن رشد قدر ظهوره عند ابن طفيل وذلك بمدى ذكره للقدماء.
٦٠ ويعني اللفظ التراث الماضي الوافد وما سماه الفقهاء الأوائل.
وأحيانًا يحدث التمايز بينهم. فقد اتفقوا في أشياء واختلفوا في أشياء أخرى،
وحدة المذهب في الأصول والاختلافات في الفروع. وأحيانًا يتم التخصيص بأنهم
الفلاسفة القدماء أو القدماء من الفلاسفة. ولا يعني بالضرورة قول القدماء أي
معنًى قدحي. فقد استطاعوا البرهنة على مقالاتهم. وفهم القدماء يخضع لشروط
الفحص. ويختلف الفحص من حضارة إلى أخرى. ولا بد للإنسان أن يكون من أهل الحق
دون تحيز أو هوًى حتى يكون حوار الحضارات ممكنًا. أما ابن سينا وغيره ممن
ينتسبون إلى الإسلام فلم يتبع براهين القدماء خاصة براهين الحكيم الأول مسيئًا
تأويلها لسوء استخدامها في الدين، فلا هو فهم العقل الوافد وزايد في الوحي
الموروث. وهؤلاء هم المتأخرون من أهل الإسلام لقلة تحصيلهم مذهب القدماء،
فالقدماء لا يخطئون، ولا الفلاسفة المتقدمون بل المتأخرون لسيادة الأشعرية
والتصوف. وتلك أهمية ابن رشد في جرأته على الغزالي والأشعرية وتوجيه الضربة
المضادة التي أثرت في الغرب ولم تؤثر في العالم الإسلامي لأن الفكر بلا سياسة
لا يؤثر. غاب التنظيم الشعبي المساند وغابت الحركة الحضارية ومسار التاريخ.
وربما يكون ابن رشد الآن أكثر دلالة وقدرة على النهضة العربية الثانية.
وإن دور ابن رشد مع التراث الفلسفي اليوناني الإسلامي قبله مثل دور أرسطو في
التراث الفلسفي اليوناني قبله. أرسطو مؤرخ وابن رشد مؤرخ. وكان الوعي التاريخي
عند كليهما نذيرًا بنهاية الحضارة. لقد بحث القدماء في المسائل تفصيليًّا مثل
المحرك والمتحرك، وعرضوا المسائل العويصة، وعبروا عنها بعدة أقوال منها
السوفسطائية. ومهمة التراكم الحضاري هو التحول من الأقوال قبل البرهانية إلى
الأقوال البرهانية. فالتطور ليس فقط في الموضوع بل في القول. ويلجأ ابن رشد
إليهم لأنه لا جديد بلا قديم. والحضارات في سلسلة متتالية، يأخذ اللاحق عن
السابق من أجل تجاوزه حتى تكتمل الحقائق ويتحول التطور إلى بناء. ولا يعني ذلك
تقليد اللاحق للسابق بل اقتطاف الثمار من الجذور. القدماء في مقابل الفلاسفة
وقدماء اليونان قبل فلاسفة الإسلام. الأول للوافد والثاني للموروث.
٦١
ويتفق ابن رشد ويختلف مع القدماء في موضوع الحكمة وأقسامها الثلاثة: المنطق
والطبيعيات والإلهيات. وأحيانًا تبدو القسمة وكأنها القسمة الكلامية إلى إلهيات
ونبوات أو عقليات وسمعيات. فكلاهما علم واحد، مرة مقلوبًا إلى أسفل ومرة إلى
أعلى. ونظرًا لأن المنطق ليس موضوع خلاف بين العقلاء بقيت الطبيعيات والإلهيات
هي محور الخلاف. ولقد وضع القدماء الألفاظ مثل الجوهر والعرض. وحاول المترجمون
إيجاد المقابل لها في لسان العرب. فابن رشد يؤصل الحكمة في عصر الترجمة. ويبحث
عن أصولها في مبحث الألفاظ كما يفعل الأصوليون. وكانت القضية الرئيسية إلى أي
حد توجد الأشياء من تلقاء نفسها دون فاعل أو وجود أسباب لا نهاية لها لا ترتقي
إلى سبب أول. وهي قضية في الوافد تأتي في تصور لموروث يقوم على الخلق، وجود
الأشياء المتناهية من سبب أول، علة أولى لا متناهية. أما الأوائل من القدماء،
وأغلب الظن أنهم الطبيعيون الأوائل، فقد أنكروا الفاعل. وينقدهم ابن رشد لأنه
ليس فقط ناقلًا لأقوال القدماء بل ناقدًا، وممحصًا لها. كما يرفض أن تكون
الموجودات في سيلان دائم؛ لأنه يلزم ألا تتناهى، وهو محال. وأغلب الظن أنه يقصد
هرقليطس. كذلك القول بدورات لا نهاية لها قول فاسد لأنه يستحيل وجود قديمين.
٦٢
ويستمر التفاعل بين الوافد والموروث، بين نظرية القدم ونظرية الخلق في إشارات
ابن رشد إلى القدماء في عدة تصورات فلسفية مثل الواحد والكثير وربط الوافد
بينهما في حين فصلهما في الموروث. وتظهر بعض مصطلحات علم الكلام باعتباره
المخزون النفسي الرئيسي في الموروث. مثل الذات وهل الصفات زائدة عليها أو
مساوية لها. فإذا لم تكن الصفة في الذات مثل القوة في الجوهر كان الجرم السماوي
بالضرورة جسمًا ذا كمية. ولا يجوز وجود قسم قديم من ذاته بل من غيره وبالتالي
لزم وجود قديم بذاته هو الذي صار به الجسم القديم قديمًا. لذلك أثبت القدماء
موجودًا ليس بجسم بل هو مبدأ الكل من أمور متأخرة هي الحركة والزمان والنظر في
الموجود بما هو موجود. وقد اتفق القدماء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد،
وأن العالم كله يؤم إلى غاية واحدة، وينتظمه نظام واحد كما هو الحال في نظام
العسكر والمدن، وكذلك الأجرام السماوية الأربعين ترد إلى سبع ثم إلى واحد هو
الأمر الأول من الله سبحانه.
٦٣
ويظهر القدماء في موضوع النفس. إذ يطلقون اسم المخيلة على هذه القوة في
الحيوان. وفي الإنسان تسمى المفكرة. ثم يظهر موضوع الأدلة على بقاء النفس، ما
توصل إليه القدماء وما أبدعه المسلمون. فقد توصل القدماء إلى بقاء الجوهر في
الشخص ثابتًا بالرغم من تغيره من الميلاد وحتى الوفاة، وأن الأشياء ليست في
سيلان دائم، مما جعل أفلاطون يفترض الصور الثابتة. ومِن ثَم أثبت القدماء
المفارقات. ثم يظهر موضوع النبوة والإلهام والمعجزات من الموروث ليصب فيه
الوافد مع أنه أصل في الموروث فرع في الوافد. لذلك لم يتكلم أحد من القدماء في
المعجزات بالرغم من انتشارها وظهورها في العالم، وهي مبادئ تثبيت الشرائع،
والشرائع مبادئ الفضائل.
٦٤
ثم تظهر ألفاظ مقاربة للقدماء مثل الأوائل والمتقدمون الأوائل مثل القدماء
ولكن أقل تاريخية وأكثر مثالية. قد يكون القدماء على حق أو على باطل. ومِن ثَم
يمكن نقدهم في حين أن الأوائل حكم قيمة، على حق دائمًا، لهم الفضل على الأواخر.
أما المتقدمون فهم القدماء أو الأوائل ولكن في الموروث وليس في الوافد،
الأسبقية في الزمان واقعًا دون الفضل في الحكمة مثالًا. لا يقول المتقدمون إن
لكل فعل فاعل. والفارابي وابن سينا من المتقدمين ولا يقولون ذلك إلا تبعية
للمتكلمين من أهل الملة. يريد ابن رشد استقلال الحكمة عن الكلام، والحكماء عن المتكلمين.
٦٥
ثم يخص ابن رشد بالذكر أربعة من الطوائف طبقًا للأهمية: الدهرية أو الدهريون
والمشاءون والحكماء والسوفسطائيون. ليس الدهريون فقط فرقة بل تيارًا، الدهرية،
واتجاهًا فلسفيًّا. الدهريون في طرف والحكماء في طرف آخر. إذ لا يجوز الحكماء
وجود أسباب لا نهاية لها كما يجوزه الدهريون فيستلزم وجود حسيب بلا نسيب،
ومتحرك بغير محرك. فيؤدي إلى نفي الصانع، نفي سبب هو سبب الأسباب، وافتراض
موجودات لا علة لها أو افتراض علل إلى ما لا نهاية أو افتراض وجود عالم لا علة
له أو له علة هو العالم نفسه، الفلك الكلي وليس شيئًا خارج الفلك في حين أن
الفلك معلول كما يقول الحكماء. كل ما يظهر ليس له سبب ظاهر إلا الحار والبارد
والرطب واليابس. وبامتزاج هذه الأسطقسات تحدث الأشياء تبعًا لتلك الأمزجة.
الزمان عند الدهريين قديم، متقوم بأزمنة محدثة، وحركة قديمة، ودوراته غير
متناهية. والمجموع أزلي من غير علة واجب وممكن في نفس الوقت. وهذه صورة الحكماء
عند الغزالي في «تهافت الفلاسفة» مع أن موقف الدهريين وليس موقف الحكماء، تشويه
مقصود ومتعمد. والحقيقة أن الأمر يتعلق بإنكار أو إثبات بل بالاختيار بين
تصورين للعلاقة بين العلة والمعلول، التصور الطولي حيث لا تتسلسل العلاقة ما لا
نهاية وضرورة الوصول إلى علة أولى وهو التصور الذي اختاره المتكلمون، والتصور
الدائري، لكل معلول علة هي نفسها معلول للعلة، وهي نفسها المعلول كالعلة بين
السحاب والماء، السحاب علة الماء والماء علة السحاب، وهو تصور الدهريين الذي
يعتمد على الحس. وقد حاول الحكماء الجمع بين التصويرين وعلى رأسهم ابن رشد
بالقول بتقدم الزمان وبالتالي قدم الحركة دفاعًا عن الحكمة ضد المتكلمين والأشاعرة.
٦٦
وأما المشاءون فهم أتباع أرسطو اليونان أولًا والمسلمون ثانيًا. يتفقون
ويختلفون فيما بينهم. يحسنون فهم أرسطو ويسيئون تأويله أحيانًا أخرى كما فعلوا
في معنى العقل ومعنى الجسم البسيط. وقد زاد ابن سينا الطين بلة في أنه أخطأ في
فهم المشائين وبالتالي في فهم أرسطو. فارتكب في حق أرسطو خطأً مزدوجًا. ثم جاء
الغزالي فطم الوادي على القرى وأخطأ في فهم المشائين وابن سينا فارتكب خطأً
مضاعفًا ثلاثًا. مهمة ابن رشد تخليص أرسطو من هذه الدوائر الثلاث، سوء فهم
المشائين وابن سينا والغزالي له لمعرفة أرسطو الحقيقي. المشاءون هم أتباع أرسطو
على وجه العموم يونان ومسلمون. والفلاسفة هم المسلمون فحسب الذين أصابوا
وأخطئوا في فهم أرسطو. أما الحكماء فهم المشاءون الفلاسفة، يونان ومسلمين،
الذين أصابوا في فهم أرسطو ومنهم الإسكندر وابن رشد. الحكماء هم المشاءون
الفلاسفة في الذروة عندما يكون الصواب أكثر من الخطأ ومنهم أرسطو وابن رشد.
وهذا لا يمنع من وجود ضعاف الحكماء الذين لا يحسنون التعبير أو البرهان فيضطرون
الناس إلى سؤالهم هل المبدأ الأول يعقل ذاته أو يعقل شيئًا خارجًا عن ذاته؟ هم
الذين يتركون الفرصة للمعارض للسؤال دون أن يقدروا على إيصال الحقائق بوضوح
اعتمادًا على بداءات العقول. لذلك حمل الغزالي عليهم بالرغم من موافقته لهم في
أكثر آرائهم، والحكماء هم أهل التأويل كما تنبه عليه كل شريعة، الخاصة من
الجمهور. لذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم
شريعة الإسلام بما عرفوا من الحق. كما تنصروا ببلاد الروم لما عرفوا شريعة
عيسى. الحكماء في كل ملة أهل الحق والتأويل وأنصار الفضيلة والخير.
٦٧
والسوفسطائيون لا هم اليونانيون أو المسلمون بل هم نمط مثالي من المجادلين،
يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًّا. فهم أشرار الناس. ويتمثل هذا النمط في
الخروج من مسألة إلى مسألة، الشك والحيرة دون الوصول إلى حلول، تبديل مواضع
الكلام وتطبيق ما يصدق على المركب على البسيط، وما يصدق على البسيط على المركب،
ونقل الكثرة من الوجود إلى العلم، ومن العلم إلى الوجود. ويذكر ابن رشد لسان
اليونانيين في تقابل اللسان العربي تمايزًا بين الآخر والأنا. فكل لغة لها خصوصيتها.
٦٨ وما زال لفظ «الأسطقسات» مستعملًا حتى هذا العصر المتأخر.
(ب) الموروث
أما الموروث فيتصدره بطبيعة الحال أبو حامد ثم ابن سينا ثم بعد مسافة طويلة
الفارابي ثم ابن حزم ثم أبو الهذيل العلاف ثم البلخي.
٦٩ ومن أسماء الفرق يتصدر بطبيعة الحال الفلاسفة ثم المتكلمون ثم
الأشعرية ثم الحكماء ثم المعتزلة ثم أهل الإسلام والإسلام ثم فلاسفة الإسلام ثم
الظاهرية ثم الكرامية والصوفية وأهل فلاسفة الإسلام ثم المترجمون ثم المسلمون
علماء الإسلام.
٧٠ ومن الأنبياء يتصدر إبراهيم وعيسى ثم سليمان وموسى، ومن الأقوام
والشعوب يتصدر العرب ثم بنو إسرائيل ثم النصارى ثم الصابئة والكلدانيون والأمم السالفة.
٧١ وعلى هذا النحو يكون حضور الموروث أكثر من الوافد خاصة في أسماء
الفرق، وعدد مرات الحضور عند الفلاسفة.
٧٢ والهجوم على ابن سينا وليس الفارابي. والمسافة بين الأشعرية
والمعتزلة والكرامية كبيرة لصالح الأشعرية. ولم يذكر إلا أبو الهذيل العلاف من
المتكلمين. كما يظهر النصارى دون اليهود وابن رشد يعيش وسطهم في قرطبة.
والمسافة بين القرآن والحديث كبيرة.
٧٣ كما يتحدث عن شريعة الإسلام وصناعة الكلام.
٧٤
ينقد ابن رشد الغزالي وابن سينا والفارابي في قضية أن الواحد لا يصنع إلا
الواحد بأنها قضية كاذبة كما فهمها أبو حامد في «المشكاة». ومع ذلك يعتمد
ابن رشد على الغزالي في هجومه على الفلاسفة، ويحيل إلى «المشكاة»، ويتصدر
أبو حامد في الأقوال المقتبسة من «تهافت الفلاسفة». ويحيل ابن رشد إلى بعض
مؤلفات الفارابي مثل «كتاب البرهان» و«كتاب الحروف». والعجيب عدم ذكر الكندي
فيلسوف العرب مع أنه البداية في وضع العقل في مواجهة الطبيعة، الذات في مقابل
الموضوع باسم الدين كما فعل ابن رشد في النهاية وكأن ابن رشد آثر التوجه إلى
الانحراف بين البداية والنهاية، الإشراق كما مثله الفارابي وابن سينا والدين
النفسي في مواجهة الله الذي يشرق عليها، والتحول من العلم إلى التصوف، ومن
الأفقي إلى الرأسي. ويضع ابن رشد الوافد في تصورات الموروث، جواز الكون والفساد
على المادة الأولى على جواز كون الإرادة الحادثة على القديم عند الكرامية. ولم
يكتفِ ابن رشد فقط بالدفاع عن الفلاسفة بل تحول من الدفاع إلى الهجوم، ويجعل
الدفاع عن الفلاسفة مناسبة للهجوم على الأشعرية. ولا يقول الأشاعرة بعد أن تحول
الأشاعرة من مجموعة من الأشخاص أنصار الأشعري إلى نمط فكري مثل تصور فاعل أول
أو فاعل أول قديم، فاعل قديم وفعل حادث، ما يتطلب تصور حالة متجددة مستمرة في
الفاعل أو في الفعل. وفي رأي الأشعرية أيضًا كما تأخر وقوع الطلاق في اللفظ إلى
وقت حدوث الشرط كذلك تأخر وقوع العالم على إيجاد الباري إلى وقت حدوث الشرط وهو
الوقت. ويهاجم ابن رشد الأشاعرة في شخص الغزالي والمقصود الأشاعرة.
٧٥
ويذكر ابن رشد الأنبياء ويأخذ معجزة إبراهيم نموذجًا للسببية والعلية. ويخص
بالذكر النصارى في جعلهم الصفات ذاتية وليست زائدة على الذات كما تفعل الأشاعرة
لتبرير الأقانيم المتكثرة بالقوة وإن كانت واحدة بالفعل. ولا ينسى باقي الشعوب
الشرقية مثل الكلدانيين الذين برعوا في علوم التنجيم نموذجًا للأمور الكلية.
فكل ما ظهر في السماء موضوع حكمة غائية. وإذا كانت الغائية في الحيوان فالأولى
أن تكون في الأجرام السماوية. وإذا كان قد ظهر في الإنسان والحيوان نحو عشرة
آلاف حكمة في ألف عام فلا يستبعد أن تظهر آلاف الحكم الأخرى في الأجرام
السماوية في آلاف السنين القادمة، غائية في الماضي وغائية في المستقبل. وقد
تكون العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة.
٧٦
ويضع ابن رشد الشريعة الإسلامية في إطار الشرائع المقارنة اليهودية والمسيحية
وشرائع الصابئة والكلدانيين. فموقف الشريعة الإسلامية السكوت عن المسائل
النظرية الخالصة، والتنبيه على ضرورة اتباع الجمهور ظاهر الشرع. في حين أن
الحكماء لهم حق المعرفة، والتأويل ليس فقط في الشريعة الإسلامية بل في كل
شريعة. وهناك جوامع بين الشرائع كلها مثل القول بحشر الأجساد منذ آلاف الأعوام
وكما أقر بذلك ابن حزم عالم الأمة بتاريخ الأديان. وهناك أيضًا خصوصيات لكل
شريعة عبر عنها أبناء بني إسرائيل بعد موسى كما هو واضح في الزبور وبعض الكتب
المنسوبة إليهم. وقد كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون كما تشهد بذلك كتبهم
المنسوبة إلى سليمان، وكما ورد في الإنجيل، وتواتر عن عيسى، وهو أيضًا قول
الصابئة أقدم الشرائع. وهم أكثر الناس تعظيمًا وإيمانًا بها. وهو الدين الطبيعي
الذي يقوم على التوحيد الطبيعي. وواضح ظهور الوعي التاريخي في نهاية «تهافت
التهافت»، وكما هو الحال في الأعمال الفنية من خلال ابن حزم مؤرخ الأديان،
واستعمال الإجماع التاريخي لإظهار الحقائق التي تتفق على كل الشعوب دون استعمال
الحجج الشرعية العقلية أو النقلية ودون الرد على حجج الخصوم كما يفعل
المتكلمون، والإيمان لدرجة القطع، ونفي أي احتمال للرأي المعارض.
٧٧
ومع ذلك يوجد عند ابن رشد إحساس قوي بالتمايز بين الأنا والآخر، بين ملة
الإسلام وعلماء الإسلام وفلاسفة الإسلام والمسلمين والإسلام من ناحية وبين باقي
الملل الأخرى مثل اليهود والنصارى والصابئة والكلدانيين أو الشعوب مثل
اليونانيين من ناحية أخرى. وأهل الإسلام منهم المتقدمون ومنهم المتأخرون.
والمتأخرون هم الفلاسفة الذين هم أقل تحصيلًا لمذاهب القدماء من المتقدمين. فقد
انفردوا ببعض الأقوال، وخرجوا على مذهب المتقدمين. أما الفلاسفة من أهل الإسلام
فهم أبو نصر وابن سينا والذين سلموا لخصومهم بأن الفاعل في الغائب كالفاعل في
الشاهد. ولما كان الفعل الواحد لا يكون منه إلا مفعول واحد اضطرهم الأمر ألا
يجعلوا الأول هو محرك الحركة اليومية. وهذا من خطأ أصولهم. يسميهم من ينتسبون
إلى الإسلام خاصة ابن سينا. وينزع عنهم صفة الفلاسفة ويخرجهم من الإسلام كدين
وليس من ملة الإسلام أو أهل الإسلام كأمة لأنهم خرجوا على الأقاويل البرهانية
لأرسطو. وقد استفاد الغزالي أيضًا من كتب الفلاسفة حتى فاق أهل زمانه وعظم
حديثه في ملة الإسلام. وفي نفس الوقت يذم الفلسفة وأهلها وكأنه شيخ قديم أو
فقيه من فقهاء السلطان.
٧٨
ويشير ابن رشد إلى دائرة أوسع هم المتكلمون في الإسلام أو بعض علماء الإسلام
أو أهل الإسلام المشتغلون بالعلم. للمتكلمين طرقهم الخاصة غير طرق الحكماء، وهي
الأقاويل الخطابية والجدلية في حين أن أقاويل الحكماء برهانية. أما بعض علماء
الإسلام فإنهم أصحاب الآراء في الفروع. وأهل الإسلام هم علماء الأمة على
العموم، الإجماع الشعبي العام الذي لا يسلم بقدم العالم وإن لم يكن ذلك رأي
الخاصة. ويذكر لفظ الإسلام أو المسلمين على الإطلاق دون تحديد. ويعني العقائد
الشائعة، والإجماع العام في مقابل الكفر والزندقة، وإنكار المعاد الروحاني
والنبوات. والحقيقة أن كل رفض للفلاسفة باسم الدين إنما هي مزايدة عليهم في
الدين وكأن كل زيادة في الإيمان هو نقص في العقل بالضرورة. وإن مدح السلطان
وتأييد الفكر الذي يعتمد عليه هو عدم قدرة على معارضة السلطان. وإن كل مزايدة
على الفلاسفة باسم العقل أقرب إلى البحث عن العقل الخالص؛ إذ إن كثيرًا من
أخطاء الفلاسفة ناشئة عن التسليم بمقدمات خصومهم المتكلمين.
٧٩
ويشير ابن رشد إلى الصوفية أرباب التأويل العلم الراسخ. وهو ليس العلم
الشرعي. إتيانه في غير موضعه ظلم، وكتمانه عن أهله ظلم. ويربط بين تراث الحكماء
وتراث الصوفية في عنصر مشترك هو التأويل وعلوم الخاصة. لذلك قال الصوفية لا هو
إلا هو. بل يمتاز الصوفية على الأشعرية بأن الله ماهية يدل عليها اسمه الأعظم
في حين أن الله على مذهب الأشعرية لا ماهية له أصلًا ولا ذات لأن وجود ذات لا
ماهية لها لا يفهم، في حين ذهب البعض الآخر أن له ماهية خاصة تتميز الذات بها
عن سائر الموجودات. كما أن الصوفية تشارك الفلاسفة في القول بالمعاد الروحاني
لا المادي ولم يكفرهم أحد. لا يهاجم ابن رشد الصوفية بل يهاجم الأشاعرة. هل
لوجوده في الأندلس أم أن الهجوم على الأشعرية هو نقد مبطن للصوفية، أم أن ذلك
توزيع أدوار، فقد قام الفقهاء من قبل بنقدهم والهجوم عليهم، أم لعدم خطورتهم
بالأندلس، وربما لصداقته لابن عربي فيلسوفًا وليس درويشًا طبقًا للقاء الشهير
بينهما واتفاق المنهجين، النظر والذوق «أني أعلم ما يشاهد» «هي نفسها» «إنه
يشاهد ما أعلم»، وربما لأن ابن رشد صوفي باطني مُؤَوِّل في قراءة له؟ والأقرب
إلى الصواب أن نقد الأشعرية هو نقد الأساس النظري للتصوف كما وضح عند الغزالي،
يغذي كل منهما الآخر. فنقد ابن رشد للأشعرية صراحة وللتصوف ضمنًا هو القضاء على
رأس الثعبان دون ذنبه. والعجيب أن الفقيه ابن رشد لا يشير إلى الفقهاء كثيرًا
إلا مرة واحدة عن اختلافاتهم، وابن رشد الأصولي يبحث عن الأصول التي تجمع وليس
عن الفروع التي تفرق.
٨٠
وبالرغم من أن «تهافت التهافت» نقد للنقد في علوم الحكمة إلا أن حضور الموروث
فيه يجعله أساس النقد خاصة ألفاظ الشريعة والشرع ومصطلحاته وعباراته وكأن
ابن رشد يتعامل مع الحكمة بمنطق الفقيه. ويحيل ألفاظ الحكمة إلى ألفاظ الشرع،
وألفاظ الوافد إلى ألفاظ الموروث ما دامت المعاني واحدة. فما سماه الوافد القوة
الفاعلة سماه الشرع الإرادة. لقد أتى الشرع بألفاظ لمعاني وحقائق موجودة سلفًا
مثل القوة الطبيعية والعلل الفاعلة. ومِن ثَم يتفق الشرع والفلسفة في المعاني
وإن اختلفا في الأسماء والمصطلحات، بداية التشكل الكاذب. كما أطلق الوافد اسم
الموروث على ما عناه الشرع باسم الخلق والاختراع والتكليف. ألفاظ الشرع خاصة
وألفاظ الحكمة عامة. ومِن ثَم يمكن فهم الحكمة فهمًا صحيحًا عن طريق معرفة
مصطلحاتها. فالألفاظ الموروثة استعمالها شرعي كما هو الحال عند ابن حزم،
واستعمال المتكلمين عامة والأشاعرة خاصة وأبي حامد بوجه أخص استعمال غير شرعي.
٨١ ويستعمل ابن رشد ألفاظ الشرع والشرائع والشريعة والصفات الشرعية
وشرعي بمعانٍ متقاربة وإن اختلفت الصياغات بين المذكر والمؤنث، والمفرد والجمع،
والاسم والصفة.
٨٢
ويستعمل ابن رشد الأمثلة الشرعية لشرح المسائل الفلسفية مثل استعمال موضوع
الطلاق والشروط لشرح علاقة الله بالعالم. فقد رفض ابن رشد مثال أبي حامد
والأشعرية من ورائه في الطلاق لقياس العالم قدمًا وحدوثًا، وتأجيل الخلق حتى
حدوث الشرط مثل تأجيل وقوع الطلاق بعد إطلاق اليمين لحين دخول الدار. فعند أهل
الظاهر يقع الطلاق في الحال لأن الأمر في الوضعيات غير الأمر في العقليات. وهنا
يبدو ابن رشد ظاهريًّا في الأندلس أكثر منه عقليًّا في المشرق. كما يضرب
الأمثلة بالشفع والوتر في صياغة حجج لبيان استحالة الموقف الفلسفي، فهم حركات
الأفلاك في معرض الدليل الأول على قدم العالم. وأحيانًا تكون الأمثلة الفقهية
غاية في ذاتها، مجرد بناء عقلي يفيد على نحو غير مباشر في علوم الحكمة مثل
أفعال الصلاة ومقارنتها في عديد من الشرائع.
٨٣
وهناك حكم شرعي في تناول هذا الموضوع عرضه ابن رشد في «فصل المقال» ونبه عليه
في «تهافت التهافت»، ومارسه بالفعل في «مناهج الأدلة». ومن أفتى فيما لا يعلم
أو من أتى بفعل بغير شرط يكون فسادًا في الأرض. ويظل الموضوع الغالب على
استعمال لفظ الشرع معنى النقل في الموضوع الكلامي من العقل والنقل الذي يسميه
ابن رشد الحكمة والشريعة أو ما سماه الفلاسفة قبله الفلسفة والدين، وهي المسألة
المنهجية في الكلام والفلسفة والتصوف والأصول. وهنا يبدو ابن رشد فقيهًا ينظر
إلى الموضوع نظرة الفقيه لمعرفة حكم الشرع في المسألة وكأنها مسألة فقهية صرفة
وكما بين ذلك في «فصل المقال». وهنا لا تبدو المسافة بينه وبين أبي حامد كبيرة.
فهو يوافق على قوله إن كل ما قصرت على إدراكه العقول الإنسانية يُرجَع فيه إلى
الشرع، وأن الوحي جاء متممًا للعقل، وكل ما عجز عنه العقل أكمله الوحي سواء كان
هذا العجز بسبب نقص الفطرة أو بسبب نقص التعلم. وكيف يكون ابن رشد عقلانيًّا
وهو يقول بقصر العقول في مدارك الشرع مما أوجب إكماله به؟
٨٤
ويؤكد ابن رشد موقف الحكماء في قسمة الناس إلى عامة وخاصة، حكماء وجمهور. حق
الخاصة وحدهم التأويل، وللجمهور ظاهر الشرع. الخاصة تقدر على المسائل النظرية
البرهانية في حين أن العامة في حاجة إلى الأقوال الخطابية والتوجهات العملية.
عند الخاصة الإيمان برهان وعند العامة يقين. وترجع هذه الثنائية إلى طبيعة
التلقي ومستوى التعليم وليس إلى النص في ذاته. ترجع إلى القارئ وليس إلى
المقروء. ظاهر الشرع يغني عن كل الوافد الذي لا يقوى عليه الجمهور. وفرق بين
وضوح الشرع وغموض الوافد. وإن الفلاسفة الذين حاولوا اتباع الوافد أضاعوا
اليقين الفلسفي، وفقدوا ظاهر الشرع. لقد تحدث الشرع عن الحدوث بالمعنى الشائع،
تغير الكائنات وحدوثها من عدم. أما كيفية خروج الممكن من الضروري فقد سكت الشرع
عنه لبعده عن أفهام الناس، وبالتالي فإن معرفتها ليست ضرورية لسعادة الجمهور.
وأما محاولات الأشعرية فإنها خارجة عن شريعة المسلمين ولا تقوم على برهان. وحكم
الشرع في ذلك هو النهي عن الدخول فيما سكت عنه الشرع، وبالرغم من أن القياس هو
إيجاد حكم على ما سكت عنه الشرع، قياس للفرع على الأصل.
٨٥
والحقيقة أنه لا فرق بين «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت». فالنظرة الشرعية
الفقهية متضمنة داخل الدفاع عن علوم الحكمة. عقول البشر قاصرة. لذلك سكت الشرع
عن بعض الأمور وأكملها من عنده. لا يتعرض لها الجمهور بل الحكماء وحدهم. الشرع
كالطب له غاية نفعية، وهو مقدار ما يحتاجه الجمهور لنيل سعادتهم في الأمور
العملية مثل مقدار ما يحتاجه الطبيب للعلاج وليس للبحث النظري. لذلك نفت
الظاهرية القياس في العمليات وهو أفضل من نفيه في الأمور النظرية وكما نبه
عليها الشرع. ومن لم يكن من أهل البرهان عليه الإيمان بالشرع والكلام فيه حرام.
وإن كان من أهل البرهان دون إيمان يمكن لأهل البرهان حجاجه. هذا هو موقف الشرع
بل كل شريعة، سكوت الشرع عما لا يجب على الجمهور الخوض فيه، ويحق ذلك لأهل
البرهان وحدهم. فهل هذا هو الموقف الظاهري الذي كان سائدًا بالأندلس أم أنه
تعبير عن سطوة الفقهاء وسيطرتهم على الحياة العقلية؟
ويذكر ابن رشد ابن حزم في معرض الدلائل على النبوة. ويرفض نسبة بعض الصنائع
إلى الجن أو الأنبياء كما زعم ابن حزم. فابن رشد أكثر عقلانية من ابن حزم.
أحكام العقل عند ابن حزم جائزة ويمكن أن يخلق الله صفات مختلفة. كما يستشهد به
في القول بأن الصابئة التي تقول بحشر الأجساد من أقدم الشرائع. ومع ذلك فابن
حزم بشخصه ليس حاضرًا بالقدر الكافي وإن كان حاضرًا بظاهريته. وفي نفس الوقت
يتحدث ابن رشد عن الظاهرية وأهل الظاهر في سياق شرعي خالص ويستعمل رأيهم في
موضوع الطلاق لحظة إطلاق اللفظ دون انتظار الشرط كقياس لإثبات قدم العالم عند
الفلاسفة بدليل عدم حدوث العالم مع الله بعد استشهاد الغزالي برأي الأشعرية في
تأخير وقوع الطلاق لحين حدوث الشرط بعد إطلاق اللفظ.
٨٦ فعلاقة الطلاق بشرطه احتمال عند أهل الظاهر وضرورة عند الأشاعرة
مثل علاقة قدم العالم بدليل عدم حدوثه مع الله. فالبنية واحدة، أفعال الشرع أو
أفعال الله. العلاقة بين الإنسان وفعله أو العلاقة بين الله وخلقه. والظاهرية
كنفي للقياس قد تكون أسعد حظًّا في الأمور العملية عنها في الأمور
العلمية.
وبالرغم من إدراك ابن رشد أهمية التأويل، والانتقال من الصور الفنية إلى
دلالتها، ومن المعاني الحرفية إلى المعاني المجازية، اللوح المحفوظ هو العقل
الفعال والعقول المفارقة أو النفوس التي تحرك الأفلاك هي الملائكة إلا أن هذا
تأويل الحكماء وليس موقف الشرع الذي يتطلب الطاعة أكثر مما يتطلب البرهان.
والحكماء أنفسهم لا يجوزون التكلم أو الجدل في مبادئ الشرائع إلا بأدب شديد.
فكل صناعة لها مبادئ يتم التسليم بها دون التعرض لها بنفي أو إبطال. والصناعة
العملية الشرعية كذلك تتطلب تمثل الإنسان الفضائل الشرعية من حيث هو إنسان عالم
وتقليدها دون المناظرة فيها أو جحدها لأن المناظرة والجدال يبطلان وجود الإنسان
لدرجة قتل الزنادقة. مبادئها إلهية تفوق العقول الإنسانية. يتم الاعتراف بها
وإن جهلت أسبابها. لذلك لم يتكلم أحد من القدماء في المعجزات بالرغم من
انتشارها وظهورها في العالم لأنها مبادئ تثبت الشرائع، والشرائع مبادئ الفضائل.
ولا يتم الحديث فيها بعد الموت. فإذا نشأ الإنسان على الفضائل الشرعية كان
فاضلًا على الإطلاق. فإن استطاع التأويل لمبادئها فإنه لا يجب التصريح به
للجمهور. والغريب هذا الموقف الفقهي الصرف لابن رشد وكأنه ابن حزم قبله وابن
تيمية بعده. فكيف لا يجوز الكلام في مبادئ الشرع على الإطلاق؟ وإن كان الجدل
معيبًا منطقيًّا إلا أنه مفيد في الحوار وإثارة العقول. كيف يجوز التسليم
بمبادئ الشرع ولا يتم التساؤل حولها والحكمة فيها بما في ذلك الأمور العملية؟
وكيف يجوز اتهام من يفعل ذلك بالزندقة وإجازة قتله؟ كيف يمكن تقليد الشرائع دون
معرفة عللها وأسبابها، والعلة أساس علم الأصول؟ كيف تكون أمور إلهية وهي شرائع
وضعية تقوم على رعاية مصالح الناس؟ كيف تفوق الأمور الشرعية العقول والعقل أساس
النقل؟ وهل المعجزات أمور شرعية وقد تعرض هو نفسه لها؟ وهل الشرائع تقوم على
المعجزات أم على أدلة باطنية، تطابقها مع حياة الناس وتلبيتها حاجاتهم؟ كيف
يتفق ذلك كله مع عقلانية ابن رشد؟ صحيح أن الشرائع مبادئ الفضائل ولكنها وسائل
والفضائل غايات. وعند الحكماء يمكن معرفة الغايات مباشرة أو بوسائل أخرى.
٨٧
وقد وصف الشرع الله بالسميع والبصير تقريبًا للجمهور، والمقصود العلم عند
الحكماء، وبالتالي تصور المتكلمون الله باعتباره إنسانًا أزليًّا. ومِن ثَم
يكون الفلاسفة أكثر تنزيهًا منهم، بالإضافة إلى أن الفلسفة قول برهاني والكلام
قول إقناعي. ويبحث الحكماء في أمور الشرع، والشرع متفق مع العقل من حيث المبدأ،
ومِن ثَم يكون طريق المعرفة واحدًا. فإن ظهرا مختلفين يُؤَوِّل الحكماء الشرع
ليتفق مع العقل ويصبح أيضًا طريق المعرفة واحدًا. لا خلاف إذن بين موقف
المعتزلة وموقف الحكماء في منهج التأويل. وإن اعتراض الغزالي على الحكماء لا
موضع له لأن الصوفية يقومون بالتأويل حتى يتفق الشرع مع الخبرة الصوفية الذاتية.
٨٨
وقد أضاف الحكماء ما لم يتكلم فيه القدماء، باب النبوات والمعجزات. فقد تركها
القدماء دون فحص. هي مبادئ الشرائع والباحث فيها معرض للعقوبة كمن يفحص المبادئ
العامة التي تقوم عليها الشرائع مثل وجود الله والعمل بالفضائل والسعي نحو
السعادة. ومع ذلك فقد جعلوا الوحي والرؤية من الله بتوسط موجود روحاني ليس
بجسم، واهب العقل الإنساني. يسميه الحذاق منهم العقل الفعال، وفي الشريعة يسمى
ملكًا طبقًا لعملية التشكل الكاذب. أما تصديق الخواص بالأنبياء فطريق آخر نبه
عليه أبو حامد، وهي الصفة الصادرة عن النبي، الإعلام بالغيب ووضع الشرائع الحقة
الموافقة للحق والمفيدة من الأعمال التي بها سعادة جميع الناس. فالمعجزات أدلة
خارجية على النبوة وليست داخلية. وهي موضوع للعلم الطبيعي وليست موضوعًا
للشرائع مثل الصلاة والصيام. كانت موجودة في الماضي ولم تعد كذلك بعد استقلال
الفكر وحرية الإرادة. ولا عقوبة على الفاحص فيها.
والقول بحشر الأجساد منتشر في كل الشرائع منذ أكثر من ألف عام، منذ عصر
ابن رشد بداية من بني إسرائيل بعد موسى، وواضح في الزبور وفي كثير من صحفهم
المنسوبة إليهم. وقد تواتر في أقوال عيسى في الإنجيل بالرغم من نفي الصديقيين
ومجادلة المسيح لهم. وهو أيضًا رأي الصابئة. وهي أقدم الشرائع، الدين الطبيعي
القائم على التأمل في الكواكب. والحجة في ذلك سعادة الإنسان في الدنيا بالعمل
وفي الآخرة بالنظر، وذلك لا يتأتى إلا بمعرفة الله سواء كانت حجة مقنعة أو غير
مقنعة أم مقنعة في الدنيا دون الآخرة. كما أن الشرائع بمعنى الصنائع الضرورية
للمدينة وإن اختلفت في صورها تتحدد في قصدها، وهو وجود حياة بعد الموت. وتقصد
الشرائع تعليم الجمهور وتنبيه العلماء دون تأويل العامة. ومع ذلك يمثل الدين
مرحلة أعلى من الفلسفة في تطور البشرية. فقد تنصر حكماء الروم ثم أسلم حكماء
الإسكندرية. وشرائع الوحي والعقل أعلى من شرائع العقل وحده مثل شرائع اليونان
والرومان أو شرائع الوحي وحده مثل الشرائع اليهودية والمسيحية. والعجيب أن
ابن رشد يرى أن من ينكر الأجساد ويكون زنديقًا يجب قتله! يستعمل ابن رشد تواتر
الحقائق في تاريخ الأديان وما أصبح حكمه لكل الشعوب، إجماعًا للبشرية كلها عبر التاريخ.
٨٩
والعجيب أن ينتهي ابن رشد إلى أن المبادئ التي تقوم عليها الشرائع أمر إلهي
معجز، تعجز العقول عن إدراكها مثل هل الله موجود، وهل السعادة موجودة، وهل
الفضائل موجودة لأن الشرائع وضعية تقوم على وضعية المصالح العامة. والعجيب
أيضًا أن يجعل تصديق النبوة بالمعجزات مثل الكتاب ولكن إعجازه ليس عن طريق
الرواية بل عن طريق الحس والتجربة إلى يوم القيامة. ومِن ثَم فاق إعجاز القرآن
باقي المعجزات بمعنى خرق قوانين الطبيعة والعقل والإنسان. أما الخواص فلهم طريق
خاص في تصديق الأنبياء. لذلك لم يقتصر الشرع فقط على تعليم الجمهور وتفهيمه هذه
الأشياء. ولا يعصم أحدًا من الخطأ إلا ما كان مؤيدًا من الله مثل الأنبياء.
وهنا يبدو ابن رشد تقليديًّا بل وشيعيًّا يقول بالعصمة، عصمة الأنبياء،
وبالحقيقتين، الأولى للعامة والثانية للخاصة.
وتبلغ قمة استعمال الموروث في الموروث الأصيل، الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية بالإضافة إلى أقوال الصحابة ولو أنها أقل من «فصل المقال» و«مناهج
الأدلة» سواء كمصادر للبرهان على صحة العقائد أو على تصورات العقائد للعالم
والله والإنسان ذاتها.
٩٠ تشير كل الآيات القرآنية إما على طرق البرهان أو نسق العقائد
الكلامية، الذات والصفات والأفعال لب علم الكلام أو أقسام الحكمة، المنطق
والطبيعيات والإلهيات لب الفلسفة. يستعمل القرآن البرهان للإقناع. لذلك استطاع
المتكلمون تحويل الآيات إلى براهين عقلية على وجود الله ووحدانيته وحشر
الأجساد. فالآية برهان عقلي وطبيعي. وهذا هو ثباتها في الذهن والواقع. وهي لغة
تستعمل في الماضي للدلالة على الحاضر وربط الخبر بالمخبر. وتتضمن الاستعارة من
أجل التأثير والإقناع. وتشخص الأشياء في نظرة حيوية إرادية للعالم. الجدار يريد
أن ينقض. وقد استعمل الشرع الصورة الفنية لتعليم الجمهور في تفهيم الذات الله
وصفاته وأفعاله نظرًا لوجودها في الإنسان، قياسًا للغائب على الشاهد. أما
الخاصة الراسخون في العلم فهم الأقدر على علوم التأويل على طريق البرهان نظرًا
لفطرهم الفائقة بالرغم من قلتها في الناس. وقد نهى الشرع عن الدخول في الأمور
الغامضة وسكت عنها. وما لم يصرح به الشرع يؤمن به كالراسخين في العلم. وقد
استعمل ابن رشد حديثين لنفس المعنى، الحث على التفكير في خلق الله وليس في
ذاته. وإن بلوغ الجمهور إلى مثل هذا الطلب هو من باب الوسوسة، ومِن ثَم يؤخذ
ذلك بمحض الإيمان.
٩١
ويُستعمل عديد من الآيات أكثر من مرة لنفس المعنى ونفس السياق لوضع تصور ذهني
ورؤية للعالم، فالنص والعقل والطبيعة نظام واحد، وتذكر الآية بعد عرض رأي أرسطو
العلمي المتفق مع العلم والعقل والطبيعة. يبدو القرآن أكثر إقناعًا ووضوحًا
وأسهل فهمًا وأعمق تأثيرًا وأقرب تعيينًا من التجريد والاستدلال والبحث العويص
الفهم الأقل وضوحًا وتأثيرًا والذي لا يفهمه إلا الخاصة من المناطقة والعلماء.
القرآن هو البرهان الشامل. والحقيقة أن القرآن يبدو صورة تفرض مضمونها دون
تحقيقه ثم يأتي المتكلم أو الفيلسوف أو الصوفي أو الأصولي أو المفسر فيحقق
مناطها. وقد تختلف المناطات وتتعدد وتظل البنية التي يتحد فيها الوحي مع العقل
والطبيعة واحدة مثل
الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا الفكرة واحدة
والمواضع متعددة.
٩٢
وتصعب التفرقة بين الطبيعيات والإلهيات، بين نظام العالم والقدرة الإلهية
والدعوة إلى التأمل والنظر في الخلق لإثبات الخالق. فأقسام الحكمة واحدة، العلم
والمعلوم والعالم. ولقد اطلع إبراهيم على الأجرام السماوية فأيقن بوجود الخالق،
وخضوع الكون لنظام، كل شيء في وضعه، السماوات والأرض محدثة بل أول المحدثات كما
هو ظاهر في الكتاب في غير ما آية، وأن السماء والأرض كانتا رتقًا قبل فتقهما.
ولما ارتبطت الأسباب بعضها ببعض انتهى الأمر إلى موجود غير محسوس، علة العلل
ومبدأ الوجود المحسوس. تتحدث الآيات عن خلق الإنسان من الطين وانتقال الصفات
النفسية من موجود إلى موجود مخالف له بالجوهر والحد والاسم والفعل، جمع بين
التطور والانكسار، بين التواصل والانقطاع.
٩٣ تتركب الأسطقسات حتى تكون منها النبات ثم الحيوان ثم الإنسان.
الحيوان يتغذى بالنبات فيتكون منه دم ومني. ومن المني والدم يتكون حيوان آخر.
فالحدوث في القرآن ولكن بألفاظ ومصطلحات وتعبيرات أخرى موروثة وليست وافدة.
والخطورة في ذلك ما يسمى بالتفسير العلمي للقرآن حيث يرتبط الثابت بالمتحول،
واليقيني بالظني، والدين بالعلم. ثم تأتي الآيات الخاصة بالتوحيد ذات الله
وصفاته، علمه وقدرته ووحدانيته. ويذكر ابن رشد الآية التي يثبت بها الأشاعرة
الوحدانية عن طريق دليل التمانع. الوحدانية صفة لله وللطبيعة والمجتمع في توحيد
شامل، وعلمه محيط وشامل. وهو علم بالشخص وعلم بالكلي أو علم على الإطلاق دون
تحديد بالشخص أو بالكلي. وقد نبهت الآيات على عناية الله بالعالم وبالإنسان
لتسخير جميع السموات له. الله حافظ لكل شيء، وكل شيء مطيع له بالأمر، والله هو الآمر.
٩٤
والإنسان هو الوحيد من بين سائر الموجودات المكلف على الأرض والمؤتمن عليها،
والأمر الإلهي ليس موجهًا للإنسان بالطبيعة بل بالإرادة، ليس بالضرورة بل
بالحرية. ويعترض ابن رشد على تصور ابن سينا لحركة الأفلاك وأنها طاعة لله وليس
لاستكمال آنيات متناهية، مقابلًا النظرة الكونية بالنظرة الشرعية ومعتمدًا على
الآية. وينهي ابن رشد استدلالاته النصية بإثبات معاد النفس، وتشبيه الموت
بالنوم، وتمثيل المعاد بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية.
ويستعمل حديثًا وقولًا مأثورًا عن ابن عباس. وفي النهاية الروح سر من أسرار
الله، ولم يُؤتَ الإنسان من العلم إلا القليل وما زال المثل الفقهي هو أفضل
تصور للفلسفة مثل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
٩٥
ولفظ «الله» هو اللفظ المفتاح، والمفهوم الرئيسي في «تهافت التهافت» بل وفي
الموروث كله لأنه محور التصور الجديد الذي على أساسه يتم فهم الوافد. وقد ذكر
اللفظ أكثر من مائة مرة وكأن الكتاب في علم أصول الدين وليس في علوم الحكمة.
فلا ثمة فرق بين الكلام والفلسفة من حيث إثبات وجود الله ثم ذاته وصفاته
وأفعاله ثم ما يتعلق بالنبوة والمعجزات والشرائع. ويظهر اللفظ كصفة في عدة
معانٍ مثل الذات ووحدانيتها والعلم والعقل والمبدأ الأول والجود والنظام والخلق
والصنع والإرادة والطبع والنبوة والشريعة. لقد تجاوزت علوم الحكمة البراهين على
وجود الله عند المتكلمين. فالله أصبح واجب الوجود، وتحول علم الذات إلى علم
الوجود. ومع ذلك فالصنعة تدل على الصانع. ويظل إثبات التوحيد ونفي الاثنينية
متواصلًا من علم الكلام إلى علوم الحكمة اعتمادًا على دليل الممانعة عند
الأشعري بالرغم من ضعف الدليل عند الفلاسفة. وهذا هو السبب الذي جعل الفلاسفة
يقولون بقدم العالم نفيًا للأثنينية والتعددية والشرك وافتراض وجود كائنين،
الله والعالم منذ القدم. فالقديم واحد. ومع ذلك هي طريقة صعبة لإثبات الوحدانية
إذ كان الواحد بسيطًا غير مركب من مادة وصورة. أما إذا كان مركبًا من أجزاء
بالفعل فوحدته تأتي من ذاته بالقوة في الحيوان. إنما الفرق أن القوة في العالم
قديمة وفي الحيوان حادثة. ويقال على كليهما إله باشتراك الاسم إن تباينا في
النوع. كما يقال عليهما حياة أيضًا باشتراك الاسم في حين أن الحياة الأولى
أزلية والثانية فاسدة وإلا كان الإله إنسانًا أزليًّا والإنسان إلهًا كائنًا فاسدًا.
٩٦
ويمثل العلم الإلهي المكانة الأولى في استعمال الصنعة. لقد جعل ابن سينا مع
غيره من الفلاسفة صفة العلم ظنية مغيرين بذلك مذهب القدماء. يمكن إثبات العلم
الإلهي بالبرهان كما هو الحال في الأمور الهندسية خاصة وفي العلوم التعليمية
عامة. بل إن إثبات العلم الإلهي بالبرهان أولى. كل قول في العلم الإلهي له
مقدمات تؤدي إلى نتائج وإلا فلا اعتقاد. بل ويمكن تجريب هذه المقدمات الجدلية
في البرهان. الجدل نافع في بعض العلوم وليس في العلم الإلهي. يلجأ بعض
المتكلمين إلى الجدل للتكيف مع الجوهر الذي لا يكيفه العقل لأنه لو فعل لكان
عقلًا أزليًّا، ولكن العقل الأزلي والكائن الفاسد شيء واحد. الحديث عن الله إذن
حديث برهاني وليس جدليًّا وإلا تحول الحديث إلى ظني كما لاحظ أبو حامد. ومع ذلك
فاجتهادات الفلاسفة والمتكلمين يمكن مراجعتها وإزالة ما بها من شكوك، والانتقال
من الجدل إلى البرهان، ومن الظن إلى اليقين. فلا عجب أن يخطئ الفلاسفة في
العلوم الإلهية وألا يقولوا فيها قولًا مفيدًا. والعلم الإلهي غير العلم
الإنساني. فالله لا يعلم بالجهة ولكن الإنسان يعلم بها وإلا لوقع الاشتراك بين
العلمين. علم الله يتعلق بالأشرف وليس بالجهة. وهو علم مرتبط بالسمع والبصر
للتأكيد على صفة العلم التجريبي بالأشياء. علم الله واقع، وكل شيء يقع بعلمه.
ويعرف الفلاسفة الموجودات بعقولهم واعتمادًا على البراهين المتفقة مع
المحسوسات. ومع ذلك عقل الإنسان غير العقل الإلهي. ولا يقال عليهما عقل إلا
باشتراك الاسم.
٩٧
لذلك اختلف الفلاسفة في الصلة بين الله والعالم، بين الإرادة والطبع، بين
المباشرة والتوسط. فالأشاعرة والغزالي يقولون بالمباشرة وبالتدخل في العالم
بالإرادة. والفلاسفة والمعتزلة خاصة أصحاب الطبائع يقولون بالتوسط عن طريق
الأسباب أو الطبع. وهي القوة التي تعطي الحيوان وحدته. وعلى هذا يمكن القول بأن
الله خالق كل شيء، ممسكه وحافظه. والخلاف فقط بالإرادة أم بالأسباب. وبهذا
المعنى يكون القديم علة للحوادث. ويكون كل ما في العالم بحكمته، وإن قصر العقل
في فهمها، وأن الحكمة الطبيعية أساس فهم الحكمة الصناعية. فإن كان العالم
مصنوعًا في غاية الحكمة فإنه لحكيم صنعه، يفتقر إليه كل شيء في السماوات
والأرض. المصنوع ليس علة لنفسه. ويمكن بدعوى تنزيه الخالق إبطال حكمته وسلب
صفاته. والخلق والحكمة والعناية موضوعات موجهة لدفاع ابن رشد عن الفلسفة
والفلاسفة ضد هجوم أبي حامد. بل إن البعض ذهب إلى حد القول بقدرة الله على
اجتماع المتقابلين. فجعلوا الإرادة ضد قوانين العقل كما هي ضد قوانين الطبيعة.
لم يأمر الله بالعادات، ولم تنشأ في الموجودات ولكن اكتسبها البشر فأصبحت لديهم
طبيعة ثانية.
والكون يخضع لنظام لا يؤثر فيه اضمحلال الأجرام السماوية كما ظن الفلاسفة وأن
هذا النظام صدر عن المبدأ الأول، وهو الله، وأنه كما يفعل الملك في المدينة.
هذا الأمر الإلهي هو الأصل في التكليف والطاعة اللذين وجبا على الإنسان
باعتباره حيوانًا ناطقًا. وقد فاض الجود الإلهي عليه الحياة والإدراك. ويتم هذا
الأمر من خلال المبادئ والقوانين التي تنتظم الكون في سلسلة متتابعة من الأسباب
والمسببات. ومِن ثَم لا فرق بين إرادة الله والكون والعلل والأسباب إلا التوسط.
ولقد أخطأ أبو حامد في تزييف العلم الطبيعي بعلم إلهي مزيف أيضًا. العلم
الطبيعي الصحيح يؤدي إلى العلم الإلهي الصحيح. ويبدو هنا التشكل الكاذب واضحًا.
فالله هو المبدأ الأول، العلة الأولى، السبب الأول، العقل الأول … إلخ.
٩٨
ويتوجه ابن رشد بالنقد للتصور الأشعري الذي يجعل علاقة الله بالعالم علاقة
إرادة، الأمر بالمأمور، والتي تؤدي إلى إنكار وجود الأسباب والقوى الطبيعية
التي بها تتحرك الأشياء والمعقولات والتي بها يستطيع الإنسان فهم العالم، وكأن
الله حارس مدينة يلف حولها بآيات متناهية دون الدخول فيها. وهو قول يفترض في
الله السكون لا الحركة. والله ليس بمتحرك ولا ساكن، وإن كان لا بد من التفضيل
فإنه إلى الحركة أقرب. والحقيقة أنه بالرغم من رغبة ابن رشد في تجاوز التصورين،
الإرادة والطبع، إلا أنه إلى الطبع أقرب، وتجاوز المتكلمين والفلاسفة ولكنه إلى
الفلاسفة أقرب، وتجاوز الأشاعرة والمعتزلة ولكنه إلى المعتزلة خاصة أصحاب
الطبائع أقرب. والعجيب أن يستعمل ابن رشد وهو البرهاني الأمثلة الخطابية
الشعبية للشرح والبيان. والصراع بين الإرادة والطبع هو في الحقيقة صراع بين
المتكلمين والفلاسفة، بين التشبيه والتنزيه. يثبت المتكلمون الأشاعرة تدخل الله
في العالم بالإرادة كما يفعل الملك أو القائد، في حين يرى الفلاسفة هذا التدخل
من خلال قوانين الطبيعة وسنن الكون. والحقيقة أن الفلاسفة لا ينفون الإرادة عن
الله بل الإرادة المحدثة. هاجم المتكلمون الفلاسفة ظانين أنهم ينفون إرادة الله
مع أنهم يتصورون الله إنسانًا ويشخصونه كما يتصورون البشر فيجعلون الله إنسانًا
يسقطون تصورهم لأنفسهم على الله مع أن المعرفتين معرفة الإنسان بنفسه ومعرفته
بغيره تقال باشتراك الاسم. والباري منزه عن نقائص البشر أو يصدق عليه الأمران
معًا مثل معرفته بالجزئيات، يعلمها ولا يعلمها، يعلمها كليًّا ولا يعلمها
تجريبيًّا بالعدد الإحصاء. علمه بها سابق على وجودها. والحقيقة أن الله لا يفعل
طباعًا لأن الطباع قسر، ولا إرادة لأنها حركة، وهو منزه عنها. ولهذا وحد البعض
بين الباري والموجودات، وتجاوز افتراض الاثنينية.
٩٩ لا تصدر الأشياء عن الله بالإرادة كما يريد المتكلمون ولا بالطبع
كما يريد الفلاسفة إنما على نحو أشرف لا يعلمها إلا الله وكأن السكوت الشرعي
علم كما هو الحال في الموقف الظاهري.
١٠٠
ولا يتعلق الأمر بالموروث الديني وحده بل أيضًا بالموروث اللغوي، تمايزًا بين
لسان العرب ولسان اليونانيين. فإن كانت المعاني في الفلسفة واحدة بين الشعوب
والثقافات فإن اللسان بينها مختلف. وقد أدى ذلك إلى وضع المصطلح الفلسفي سلبًا
أم إيجابًا، تعريبًا أم نقلًا. لفظ «الأسطقسات» معرب ولفظ عنصر منقول. وقد
يتغلب أحيانًا المعرب على المنقول، وتدخل الألفاظ الأجنبية في اللسان العربي
وتتعرب بكثرة التكرار والألفة مثل جغرافيا وموسيقى وفلسفة وسفسطة. فاللغات ليست
عوالم مغلقة بل متداخلة نظرًا للتداخل الحضاري بين الشعوب عبر الاتصال والترجمة
والتبادل المشترك، ولكل لغة طريقتها في التعبير، تدل على تصورها للعالم وفكرها
الذاتي. وقد لاحظ الفارابي ذلك من قبل فيما يتعلق بالرابطة بين الموضوع
والمحمول، واستعمال الضمير المنفصل في اللغة العربية كمقابل لفعل الوجود في
اليونانية. وكرر ابن سينا ذلك أيضًا. وإنما غلطه عندما رأى اسم الجوهر يدل على
الصادق في كلام العرب. كذلك وضع المتكلمون ألفاظًا تعادل الجوهر والعرض. كما
يبدو الأسلوب العربي في «ليت شعري»، «اللهم» من المخزون اللغوي العربي.
١٠١
وتنتهي ثلاثية ابن رشد «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» كما
بدأت بالإعلان عن البيئة الدينية التي كتبت فيها والتي تكشف عن بؤرة الحضارة
ومصدرها ومقصدها وإطارها وجوها، بدءًا بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على
الرسول وآله. وقد تكفي البسملة وحدها. وقد تقرن بالدعاء وطلب العون. وقد يكون
ذلك مختصرًا مطولًا مثل الخطب الدينية أو المقالات الوعظية والتركيز على اصطفاء
الرسول واصطفاء الله من يشاء لحكمته وشريعته واتباع سنته والاطلاع على مكنون
العلم وفهم الوحي ومقصد الرسالة ضد زيغ الزائغين وتحريف المبطلين وتأويل
المتأولين لما سكت عنه الشرع على طريقة الفقهاء في دق نواقيس الخطر والتنبيه
على الاغتراب الحضاري الذي يؤذن بانطفاء البؤرة وضياع المركز. كما تدعو هذه
المقدمات والنهايات، وأحيانًا في منتصف الرسالة إلى التوفيق إلى الصواب
والإرشاد إلى الحق، والله أعلم بالصواب، وقبول العذر وإقالة العثرة بمنه وكرمه
وجوده وفضله. ولما كان التأليف وثيقة فإنه يذكر تاريخها، زمانها ومكانها
ومكتبتها ومؤلفها، وطنه ومذهبه ولقبه، والأصل الذي تم النسخ منه، والتعرف على
خط الناسخ في الأصل وفي النسخة. فإذا كان التأليف في مصر توصف بأنها المحمية أو
المحروسة في العصر الحديث مثل حيدر أباد-الدكن مما يكشف عن طمع الطامعين فيها
من الغرب الحديث، ويعبر عن هموم الفكر والوطن. ويكشف تعدد المكان بين المؤلف
والناسخ عن وحدة الأمة. ولا يعيب المؤلف أن يكون ناسخًا مثل طاش كبرى زادة.
١٠٢ كما أن تغير الأسماء من القسطنطينية إلى استامبول يكشف عن العصور
والأزمان وقيام الدول وسقوطها وتداول الأيام بين الناس ودورات التاريخ.