(١) الكاشي
ويستمر هذا النوع الأدبي من القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر في العلوم
الرياضية مثل الحساب والموسيقى والطبيعة مثل الطب والنبات أو الفلسفية مثل
الإلهيات. ففي «مفتاح الحساب» للكاشي (القرن التاسع) يقل الوافد والموروث، من
الوافد لا يُذكَر إلا أرشميدس لتجاوزه إلى حساب أدق من حسابه.
١ ويظهر الوافد الشرقي من الهند. فقد وضع حكماء الهند تسعة أرقام للعقود
التسعة المشهورة. ومن الموروث لا يُذكَر إلا أشرف الدين المسعودي الذي استخرج
التسعة عشر، ثم عماد الدين الخوام البغدادي صاحب الرسالة البهائية من كتاب ميزان
الحكمة ونسخها غير صحيحة دون أن يلاحظ ذلك أحد من شارحيه. وكمال الدين الفارسي شارح
البهائية لعماد الدين الكاشي الذي رأى صعوبة تصحيح الجداول مع أن الكاشي قد صححها
من كتاب ميزان الحكمة، وذكر كيفية استخراجها لمن أراد امتحانها، وأبو علي الخوارزمي
وطريقته في استخراج هذه المسائل التي يحصل منها المطلوب بأسهل تأمُّل. ويتضح تراكم
الموروث واستئنافه.
٢
ويتضح أيضًا مسار الفكر ووحدته، وتكرار عبارات إثبات المطلوب والتقديم والتأخير.
ويتم الاعتماد على القياس للبرهان. ويوصف الله في الإيمانيات الأخيرة بصفات حسابية
بعد البسملة والحمدلة. فهو الذي توحد بإبداع الآحاد، وتفرد بتأليف صنوف الأعداد.
ومع الدعاء إلى الله الثناء على السلطان وطلب العفو والمغفرة. ازدهار في الرياضيات،
ووله بالسلاطين.
٣
(٢) الشعراني
وقد استمر هذا النوع الأدبي تنظير الموروث قبل تمثل الوافد حتى القرن العاشر في
المختصرات مثل «مختصر تذكرة الإمام السويدي في الطب» للشعراني.
٤ فالعلم في لحظات توقف الإبداع عند المشايخ إما من الوافد إحساسًا
بالدونية أمام الآخر وإما من الموروث إحساسًا بالعظمة أمام النفس. يغلب عليه
التجميع من المصدرين دون تمثيل للوافد أو تنظير للموروث. كما يغلب عليه الطابع
العملي، الوصفات الشعبية دون الوقوع بالضرورة في خرافات الوصفات «البلدية». ويقوم
الجمع على الاستحسان من مجربات الحكماء والاختيار من معالجات العلماء وما تم تجريبه
مرارًا فعم نفعه.
٥
والاختصار مسئولية المختصر وهو الشعراني وليس المؤلف صاحب النص الأصلي وهو
السويدي. وفي عصر الشروح والملخصات والمتون والتخريجات أصبحت هذه الزيادات أهم من
النص الأصلي. ويأتي ذكر الأطباء في مجموعات خمسة أو سبعة سواء في النقل أو في
التجربة. ويبدو أن الوافد أكثر حضورًا في الاتساع وفي العمق أكثر من الموروث في
النص. ويتصدى الوافد جالينوس ثم بقراط ثم أرسطو ثم أفلاطون، وهرمس، وأسطوخورس،
ورفوس، وأرطاميوس، وغاريقون.
٦ ويتم التعامل مع هرمس وكأنه شخص، لا فرق بين الأسطورة والواقع. ومن
الموروث يتصدر الرازي ثم ابن سينا وليس ابن رشد ثم السويدي المؤلف يأتي في الدرجة
الثالثة مع ابن ماسويه وابن عربي وابن البيطار والتميمي مما يدل على تداخل التصوف
مع الطب واختفاء ابن رشد في العصور التالية له.
٧ ولأول مرة في تاريخ النصوص تذكر المصادر والمراجع في آخر الكتاب
كأسانيد تتضح فيها أولوية تنظير الموروث على تمثُّل الوافد بفارق ضئيل، منهم
المعروف ومنهم غير المعروف، منهم المكتوب على نحو صحيح ومنهم أقل من ذلك. ويدخل
الأطباء النصارى مترجمين ومؤلفين ضمن الموروث. كما يختلط الأنبياء بالمحدثين
بالأطباء بالحكماء بالصحابة بالصوفية.
٨ وقد كانوا في الأصل أكثر من ذلك ثم اختصارهم إلى الربع. ومن تحليل
أسماء الأدوية والأماكن يتضح حضور الشرق أكثر من الغرب، والهند والصين أكثر من
اليونان والرومان، والعرب والأرمن واليهود وفارس وخراسان والإسكندرية ومصر أكثر من الصقالبة.
٩ وفي الإيمانيات، لا توجد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية باستثناء آية
واحدة، من المؤلف أو الملخص أو الناسخ مع البسملة والحمدلة.
١٠
(٣) الصبيري
وكما بدأ الطب مبكرًا استمر أيضًا إلى القرون المتأخرة. فهو أوسع العلوم الطبيعية
امتدادًا في التاريخ. ولم يعد لفظ مختصر يعني اختصار نص مؤلف بل قد يكون نصًّا
مؤلَّفًا على نحو مختصر. فالاختصار لمادة العلم غير المدونة وليس النص مدون. مثال
ذلك «مختصر كتاب الرحمة في الطب والحكمة» للصبيرى.
١١ وهو مختصر مفيد وسهل وواضح يعتمد على النقل والعقل، يخاطب القارئ
كالعادة. وتدل كثرة الألقاب في العصور المتأخرة على تبجيل العلماء كسلطة علمية
وأهمية الأخلاق كشرط للعلم. والحكماء هم الأطباء.
ويطغى الموروث على الوافد بطريقة واضحة؛ إذ لا يذكر من الوافد إلا بقراط في ذكر
قولين له عن الثوم كشفاء من السموم.
١٢ ويتصدر في الموروث الأحاديث النبوية قبل الآيات القرآنية، وعلي بن أبي
طالب قبل الرسول، وعمر بن الخطاب والأحنف بن قيس قبل أبي عبيدة والشاطبي والكسائي
وابن عباس، مما يدل على العودة إلى الطب النبوي قبل الطب العلمي، بل وطب الطلسمات.
١٣
وتصف أحاديث الرسول أنواع الأدوية من البيئة مثل ألبان البقر وأسمائها ولحومها،
والحبوب شفاء للداء الكامن في الجوف. والخل سيد الأدوية به منافع كثيرة. كما يتم
الشفاء بالعسل. وماء الكمأة شفاء للعينين. وتتعادل الأدوية فيما بينها مثل تعادل
التمر والقثاء. وقد تضاف العمليات الجراحية الصغيرة مثل الشرطة من حجام أو الكية من
النار وعدم تفضيل الرسول الكي لمزاج شخصي أو لقانون طبي عام. وقد يكون العلاج
وقائيًّا. فالبطنة أصل الداء، والحمية أصل الدواء، وأشر وعاء البطن، وخيره في الثلث
للطعام، والثلث للماء، والثلث للنفس. ويدخل الطب النفسي مع الطب البدني، ويكون
العلاج بالصبر. ولا يمكن علاج السأم. وقد يتحول الطب النبوي في الاستعمال الشعبي
إلى طلسمات وأحجية بها آيات قرآنية أو أدعية نبوية.
١٤ وتروى بعض الأحاديث الحرة المروية في الآداب الشعبية كعلاج حيواني أو نباتي.
١٥
ويظهر علي بن أبي طالب كمصدر للطب. فالبطل الشعبي مصدر للطب الشعبي. مداواة العرب
بالسمن والسكر. وللهم والغم دواء في حين تركهما الرسول دون دواء.
١٦ وتجمع وصية الأحنف بن قيس بين العمل والصنعة والطب، وتشير أقواله
المأثورة إلى أربعة حكم من أربعين ألف حكمة طبقًا للخيال الشعبي:
١٧ عدم الثقة بالناس، عدم تحميل المعدة ما لا تطيق، عدم الاغترار بالمال
وإن كثر، وتعلم ما ينفع من العلم. ويصبح الصحابة أطباء مثل عمر بن الخطاب في منافع
المصائب في الدنيا لا في الدين ثوابًا يوم القيامة، فيختلط الطب البدني مع الطب
الروحاني منذ الرازي. بل إن الديني له الأولوية على الدنيوي عندما يرفض عمر ألا
يكون الناس في عمل ديني أو دنيوي كنوع من الدواء أي الهدوء النفسي الضروري لصحة
البدن. ويتداخل الشعراء مع الأطباء قبل الإسلام وبعده كما هو الحال في أراجيز الطب.
١٨ وطب الشعوب واحد. فقد اجتمع أربعة من الحكماء عند كسرى، عراقي ورومي
وهندي وسوداني، لوصف الدواء. وما زال الخطاب موجهًا إلى القارئ في هذه العصور
المتأخرة، فالقارئ جزء من الخطاب.
وفي الإيمانيات والبسملات والحمدلات الأخيرة يظهر اتحاد الله بالطبيعة، والدين
بالطب، والإيمان بالصحة. فقد أودع الله في الطبيعة الحكمة. وهو خالق الطباع وخالق
العلل المزدوجة، الحرارة والرطوبة، الجدل في الطبيعة الذي أشار إليه القرآن في
النص، الليل والنهار، الظلمات والنور، الحركة والسكون، الشر والخير، الشيطان
والملاك، الجنة والنار، الثواب والعقاب … إلخ. الخلق منوال ونموذج يتحد فيه الخالق
بالمخلوق. خلق الله ما تحت اللسان وما في أسفل المعدة والكلى والمرارة كي تفعل
بطباعها. والله أعلم وكل شيء بمشيئته. والدواء نافع مجرب بمشيئة الله، والصلاة
والسلام على الرسول وأحاديثه في برء العلل.
١٩
(٤) الداماد
ولم تتوقف الإشراقيات في العصور المتأخرة بل زادت وترسخت في المشرق والمغرب
وأصبحت الوعاء الذي تصب فيه كل العلوم الرياضية والطبيعية. مثال ذلك «كتاب القبسات»
لباقر الداماد الحسيني (١٠٤١ﻫ). فقد ازدهرت الإشراقيات في إيران في العصور المتأخرة
وعرفت باسم مدرسة أصفهان. وهو أستاذ صدر الدين الشيرازي المعروف باسم مللا صورا.
ولإيران فضل على الفلسفة المتأخرة في الجناح الشرقي، بعد أن ضعفت في الجناح
الغربي.
وقد ازدهرت المدرسة السينوية؛ إذ إن ابن سينا يعتبر فيلسوف الإشراق وصاحب الحكمة
المشرقية ومنطق المشرقيين. وهي مدرسة السهروردي صاحب «حكمة الإشراق». وربما ازدهرت
كثقافة وطنية في حين اختفى ابن رشد في المغرب والمشرق. وهو مثل ابن سينا في
«التعليقات» كنوع أدبي. بل قد يشتد الإغراق في الخيال والوجدان الصوفي كرد فعل على
أوضاع الاضطهاد ومن أجل خلق عالم أفضل كما هو الحال في نشأة «اليوتوبيا». وفي مجتمع
مثالي تغلب عليه علاقة الشيخ بالمريد، ومجتمع الرياسة الفاضلة.
ويتضح الإشراق في المصطلحات المستعملة كعناوين مثل «القبسات، الومضات»، وأخرى
مثل: تعليق، تذنيب، وهم وتنبيه، فالعلم في النفس، وتعود مصطلحات قديمة مثل الأيس
منذ الكندي. والمفكرون نوعان، أصدقاء وهم الإشراقيون نموذج ابن سينا وأعداء وهم
المشاءون والمتكلمون، العقليون الجدليون، نموذج الرازي إمام المتشككين.
وهو فكر قطعي إيماني صوفي وجداني يبعث جو إخوان الصفا وأبي يعقوب السجستاني، وهو
ما يميز الفكر الشيعي الفلسفي كما هو الحال عند الكرماني. يخطئ الكل لنقص في
الإيمان والوجدان واليقين وزيادة في الشك والتكلف. ولا ذكر لابن رشد لا في الفلسفة
ولا في الكلام ولا في الفقه ولا في الطب. هل لبعد المسافة الزمنية أو المكانية أو
لحرق كتبه أو لاختلاف التيار؟ والمؤلف مثل أبي حيان التوحيدي في «الإشارات
الإلهية»، و«المقابسات» من نفس اللفظ «القبسات».
وبطبيعة الحال يتم نقد الكلام، معتزلة وأشاعرة. فالإشراق شيء، والأدلة النقلية
والعقلية شيء آخر، وهو الفرق بين اليقين والظن، بين العقل والقلب، بين الخارج
والداخل. ويسمى الرازي «إمام المتشككين» بالرغم من «المباحث المشرقية» لأنه عقلاني
غير استشراقي.
يغلب عليه طابع التجميع كما هو الحال في المؤلفات المتأخرة، نصوص مقتبسة مثل
الشراح المتأخرين عند أهل السنة، ويظهر الإشراق في قراءتها وتأويلها. فالتجميع
أيضًا عند الشيعة وليس فقط عند أهل السنة في العصور المتأخرة. ومع ذلك يظهر مسار
الفكر، المقدمات والنتائج، وإحالة اللاحق إلى السابق والسابق إلى اللاحق، وبيان
بداية الكلام ونهايته.
٢٠ ويخاطب القارئ ويدعوه إلى العلم والعمل، ويرجو أن يكون من المستبصرين،
ثابتًا على الحق بعيدًا عن التوهم والغرور والجهل.
٢١ والدعوة له بالخير والبقاء.
٢٢
ومن الوافد يتصدر أرسطو ثم أفلاطون ثم سقراط ثم أبرقلس وثامسطيوس وفرفوريوس ثم
الإسكندر الأفروديسى وذو القرنين وهرمس القدم ثم الإسكندر بن فيلفوس، أنباذنليس،
أنكساجورس، انكسمانس، أميرس المقدم، بقراطيس، ناليس، الشيخ اليوناني أفلوطين،
فيثاغورس، فيلفوس.
٢٣ وألقاب أرسطو أنه أرسطاطاليس الحكيم، الحكيم المعلم، المعلم الأول،
معلم الصناعة، معلم المشائين، معلم المشائين ومفيدهم، معلم المشائين اليونانيين،
معلم اليونانيين، مفيد الصناعة، مفيد الصناعة ومعلمها، مفيد المشائين ومعلمهم.
وتعطي صورة أرسطو أنه الحكيم والمعلم الأول وواضع المنطق، ورئيس فرقة المشائين
ومعلم اليونانيين. أما ألقاب أفلاطون فهو الشريف، الإلهي المتأله، إمام الحكمة،
وواضح الفرق بين الصورتين كما عرضها الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون
الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم». وما زالت أثولوجيا تنسب إلى أرسطو حتى هذا الوقت
المتأخر بالرغم من تنبيه أرسطو على خطئها. أرسطو وأفلاطون هما إماما اليونانيين
وإماما الفلسفة. وهرمس المقدم أي القديم الأول وأفلاطون الشيخ اليوناني تحولًا
للشخص الوافد إلى الصورة الموروثة. تحول الوافد إلى مثال، وقرأت الأنا صورة نفسها
في الآخر، ورأت الآخر في مرآة ذاتها. لا فرق بين الوافد والموروث في حكمة خالدة
تجمع بين الاثنين.
ومن الفرق يذكر الأرسطوطاليسية ثم الأفلاطونيين ثم المشائين ثم أهل ملطية،
والديموقراطيسية، ورواقية الفلاسفة، والرياضيين من الفلاسفة.
٢٤ ومن أسماء الكتب يذكر أثولوجيا ثم السماء والعالم ثم سمع الكيان،
والسماع الطبيعي، وما بعد الطبيعة، وطيماوس ثم سوفسطيقا.
٢٥
وفي الموروث يتصدر ابن سينا ثم الرازي والطوسي ثم الفارابي ثم الكليني ثم الرسول
ثم أبو عبد الله الصادق ثم أبو جعفر الصدوق وبهمنيار بن المرزبان والشهرستاني ثم
أبو الحسن الرضا وعلي أمير المؤمنين ثم أبو البركات البغدادي والغزالي والنبي موسى
ثم ثعلب اليماني. وهناك عشرة أسماء يذكر كل منها مرتين مثل البلخي والنظام وهشام
بن الحكم. ومن الأنبياء نوح وإبراهيم. وأسماء أخرى تتجاوز الأربعين يذكر كل منها
مرة واحدة منها الأشعري والفارابي والبيضاوي، والرومي والزمخشري.
٢٦ ولكل حكيم صورة في تراثه. فابن سينا شريكنا السالف، شريكنا في الرئاسة،
الشريك، الشريك الرئيس، الشريك الرئاسي، الشريك في الرئاسة، وكاتب قزوين، رئيس
فلاسفة الإسلام الشيخ، شيخ فلاسفة الإسلام. أما الرازي فألقابه تدل على نقده ورفضه
لأنه من المتكلمين. الإمام، إمام المتشككين، علامة المتشككين وإمامهم، شارح
الإشارات. في حين أن ألقاب الفارابي الشريك التعليمي، الشريك في التعليم، شريكنا في
التعلم، الشريك المعلم. والغزالي الإمام، حجة الإسلام. والشهرستاني بالرغم من أنه
متكلم إلا أنه إمام المتكلمين، علامة المتكلمين، صاحب الملل والنحل. وعلي أمير
المؤمنين. والطوسي بارع المحصلين، بارع المحققين، خاتم البرعة، خاتم البرعة
المحصلين، خاتم برعة المحققين، خاتم المحصلين، خاتم المحصلين البرعة، خاتم
المحققين، خاتم المحققين البرعة، الشارح البارع، الفاضل الشارح، شارح الإشارات،
المحقق البارع الناقد. وبهمنيار بن مرزبان التلميذ. وهي نفس ألقاب التعظيم التي
للرسول، محمد مثل خاتم الأنبياء، خاتم الأنبياء والمرسلين، خاتم النبيين، سيد
البرايا، سيد المرسلين. والقليني رئيس المحدثين والشيخ الأقدم. وقطب الدين الشيرازي
الشارح، شارح حكمة الإشراق. وابن كمونة شارح التلويحات، والجرجاني الشارح الشريف،
والشهرزوري شيخ الإشراق، شيخ أصحاب الذوق، شيخ أصحاب الذوق والتغريد، شيخ حزب
الذوق، صاحب الإشراق، صاحب الإشراق والمطارحات، صاحب المطارحات، صاحب التلويحات!
وكلما تكثر الألقاب يزداد التعظيم ويعظم التقليد. والشهرزوري صاحب الشجرة الإلهية،
وابن بابويه القمي الصدوق، والزمخشري علامة زمخشر، وعلامة ملى حسن يوسف بن مطهر،
علامة فقهائنا، والتفتازاتي فاضل تفتزان. وواضح من تعاظم الألقاب سيادة التيار
الإشراقي بداية من ابن سينا وإخوان الصفا وهم من الشيعة أيضًا والهجوم على
العقلانيين ومنهم الرازي زعيم المتشككين وأبي البركات البغدادي من المشائين.
فالكلام نقيض الإشراق. ويخص بالذكر المعتزلة ثم الأشاعرة ثم بنو هاشم ثم آل سام،
أصحاب الكمون وأهل السنة والرافضة والمعطلة. فالمعتزلة تزيغ أبصار عقولهم فيخالفون
حزب الحقيقة. والمتكلمون متكلفون مزيفون جدليون مقلدون.
٢٧ تصورهم للطبيعة مادي وليس روحيًّا. والأشاعرة ينفون الغائية والتعليل.
وهم أبعد خلق الله عن مسلك الحكماء، قليلو التحصيل. ومع ذلك يدافع عن الفلاسفة ضد
هجوم الغزالي دفاعًا عن ابن سينا.
وتتجاوز أسماء مؤلفات الموروث مؤلفات الوافد عشرات المرات.
٢٨ ومن الأصول، تذكر الآيات القرآنية ضعف الأحاديث النبوية. وكلها يغلب
عليها طابع الإشراق وإمكانية التفسير الإشراقي.
٢٩ ومعظمها في القبس الرابع عن النقل. وتدور الآيات كلها حول ذات الله
وأوصافها مثل الوجود والبقاء والتنزيه وصفاتها مثل العلم والقدرة. ويستعمل القرآن
على نحو حر داخل الخطاب لتقوية الأسلوب ومخاطبة القارئ بنفس قوة الخطاب القرآني.
٣٠
وتستعمل الأحاديث النبوية إما شرحًا للقرآن أو مبينة للعقائد. وتدور معظمها حول
عقيدة القضاء والقدر وأقلها حول الفطرة والعمل والمغفرة والرحمة. وكلهم الرسول
والأئمة عليهم السلام. فكل شيء مقدر من قبل. ومكتوب في الصحف.
٣١ وتضم الإيمانيات البسملة والحمدلة والتسبيح والمشيئة والإذن والفضل والأمر.
٣٢
(٥) المراكشي
ولم يقتصر التراكم على العلوم الطبية والرياضية بل شمل أيضًا علوم التغذية بين
الطب والنبات، كعلم طبيعي والأنغام كعلم رياضي. فالعلوم أساس للحضارة، والنظر بداية
العمل، والفكر يتحول إلى حضارة، والإبداع نمط حياة. ففي «أرجوزة الفواكه الصيفية
والخريفية» للمراكشي (١٠٦٥ﻫ) هناك وصف لأنواع الفواكه وميزات كل فاكهة وآثارها على
البدن ومواعيد أكلها ونباتها في فصول السنة ومواسمها، مع دفاع عن الطعام ونقد هجوم
الناس عليه. وقد تمت كتابة عديد من العلوم شعرًا، فالشعر خطاب العرب ومدونهم بعد أن
عاد الشعر في العصور المتأخرة كخطاب يتجاوز الشروح والملخصات. والموضوع قرآني طبيعي
أندلسي، توجه نحو الطبيعة والزرع والخضرة والماء.
٣٣ فقد ذكر الرمان والتين وغيره من الفواكه في القرآن. كما يتم الحديث عن
الفواكه واستعمالاتها الاجتماعية وأثمانها وقدرة الطبقات الاجتماعية على شرائها،
اعتمادًا على الملاحظة والتجربة.
ولا يتجاوز الوافد اليوناني جالينوس مرة واحدة تصحيحًا لقول له في ما يورثه
البطيخ من سموم دفاعًا عن قيمته الغذائية اعتمادًا على ابن زهر. ويتعامل مع الوافد
الشرقي في ذكر السند هند. ويتصدر الموروث النبي والغزالي وابن زهر.
٣٤
وفي الإيمانيات بعد البسملات والحمدلات يتم الدعاء إلى الله والدعوة إلى السلطان
الملك المعظم الوليد المنصور على الأعادي والرحيم بالعباد.
(٦) مؤلف مجهول
وفي الموسيقى «الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغام» لمؤلف مجهول من القرن
الحادي عشر يظهر ارتباط الموسيقى بالفلك في نغم الكون وبعلم النفس في انسجام الروح،
وبعلم الأخلاق في التوازن والاعتدال، وأثر معاني الفضائل والحث على الشجاعة في
الحروب، وبالطبيعة في الأخلاط والأصواب، كما ترتبط الموسيقى بالطب في العلاج
النفسي، وبالدين في سماع الصوفية والوصول إلى نعيم الدنيا والآخرة، وباللغة في
موسيقى الشعر، وبالرقص في الايقاع. وهناك ماهية النغم المطلق مثل الشعر المطلق عند
ابن سينا. وبالرغم من أن النص أقرب إلى الإبداع الخالص إلا أن الوافد والموروث
يظهران على استحياء.
٣٥
فمن الوافد يذكر أفلاطون واعتباره الموسيقى معشوق النفس. وبها يستدرج أبناء
الفلسفة إلى عالم العقل لما تحدثه في النفس الفاضلة وإخراج ما بها من قوة إلى الفعل
كالصقال للثوب، وفيثاغورس وأن فضل الغناء على الكلام كفضل الناطق على الأخرس. كما
تذكر آراء الفلاسفة في الموسيقى ولفظها اليوناني.
٣٦ فهي حكمة يونانية ومعناها علم الألحان. كما أشار اليونان إلى نغمات خمس
وأعطوها أسماء يونانية وألف اليونان فيها. وانتقلت من المتقدمين إلى المتأخرين.
٣٧
ومن الموروث يتصدر صفي الدين عبد المؤمن عازف العود الذي طرب الطير لنغمه حتى وقع
على الأرض، ومخارق مغني المعتصم رواية عن أحمد بن أبي داود. ويقال إنه غنى لهولاكو
عندما اقتحم التتار بغداد فأعجب به.
٣٨ وقد أورد الجوزي أن أبا يوسف القاضي كان يحضر مجالس الغناء عند الرشيد
فيبكي ويتفكر في نعيم الآخرة. وقد سخر لداود النغم. فهو صاحب المزامير. وللسيد شرف
الدين بن العلاء المضلع كما يذكر صفي الدين. ويتجلى الإبداع في ارتباط الأنغام
بالبلدان، أقلها يونانية وأكثرها من الترك والعرب والكرد والمشارقة والمصريين
والإفرنج. ومقاماتها مشتقة من أسماء مدن الفرس مثل أصفهان ونهاوند أو العرب مثل
الحجاز أو من الأشخاص مثل الرهاوي والحسيني أو من المستمعين مثل العشاق. وتختلف
أسماء المقامات بين العجم والعرب والترك.
٣٩
ويبدو مسار الفكر في الإحساس بالاستطراد والعودة إلى الموضوع، فالإبداع مشروط
بالتركيز ويدعى القارئ للاشتراك في التجربة والتحقق من صدقها، فالمتلقي جزء من
العمل الفني.
٤٠ وفي الإيمانيات بعد البسملة والحمدلة يوصف الله بصفات من علم الموسيقى.
فهو الذي أبدع وأودع في الأنغام أسرارًا خفية، وأجرى على القلوب حياتها الأهلية.
وغرس في الألباب أصولها، فاهتدوا إلى فروعها، وهو الذي أودع الأصوات في الغصون حين اصطكاكها.
٤١