سابعًا: صدر الدين الشيرازي
-
(١)
وتقع ست رسائل لصدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ) في هذا النوع الأدبي. ففي رسالة «اتحاد العاقل والمعقول» يتصدر الموروث بطبيعة الحال الشيخ (ابن سينا) وكتاب الإشارات ثم «الشفاء» ثم «المبدأ والمعاد»، مع شرح الطوسي للإشارات.١ وكثيرًا ما يعرف المؤلف بالتأليف فيذكر صاحب التلويحات وهو السهروردي المقتول. كما يحيل الشيرازي نفسه إلى أعماله مثل الأسفار الأربعة.٢ وسبب التأليف عدم فهم الناس للموضوع، من المتقدمين أو المتأخرين وشنعوا على بعضهم البعض جهارًا. لذلك إحقاق الحق، والحكم بين الناس فيما هم فيه مختلفون، وهو أحد مظاهر التراكم الفلسفي. ومن الفرق يُذكَر المشاءون والمتأخرون ثم المتقدمون، والأقدمون، والمحققون وسائر الحكماء.٣وتضم مقالتين الأولى في اتحاد العاقل والمعقول نفس عنوان الرسالة والثانية في أن العقل البسيط كل المعقولات، يتحد بالعقل الفعال عند تعقلها.٤ برز الشيرازي على القول بالاتحاد بين العاقل والمعقول ويحل الشبهة المذكورة في كتب الشيخ وغيره اعتمادًا على الإشارات و«التنبيهات». ملخصًا كلامه ومستشهدًا بنصوصه.٥ ويعتمد على صاحب التلويحات في تعريف الوجود. فالفلسفة الإشراقية وحكمة الإشراق فلسفة واحدة.وتظهر أفعال القول مع أولوية صيغة المتكلم المفرد «أقول» أو الجمع «نقول» أو الاسم «قوله» نظرًا لاستقلال القول عن القائل.٦ ويبدو من الأسلوب اتجاه الفكر ومساره من خلال عدة ألفاظ مثل «بالجملة» التي تعني القصد الكلي، «ينبغي» مما يبين أن الفكر اقتضاء مثالي ومطلب عقلي.٧ كما يظهر اتساق المقدمات مع النتائج في منطق الاستدلال منعًا للخلف والامتناع. وتتم مخاطبة القارئ بلفظ «علم»، «قد علمت».٨ ويتم اللجوء إلى الجمهور كمخاطب من أجل الوصول إلى تجربة مشتركة أو إجماع علمي. وينتهي الاستدلال إلى المطلوب إثباته، فقد ثبت وتحقق «أن».٩ ويحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق دون إطناب.١٠ ويستعمل الشعر كدليل على الوحدة مثل:ليس من الله بمستنكرأن يجمع العالم في واحد١١ويضرب المثل بزيد وعمرو للإشارة إلى الفاعل المجهول وتتخلل الرسالة بعض التعبيرات الإيمانية مثل إن شاء الله، وبالله التوفيق.١٢ وتنتهي بالحمدلة والمنة والصلاة على محمد الطاهرين.ومن الوافد يتصدر أثولوجيا وأرسطو تقديمًا للعمل على الشخص مع لقب المعلم الأول والفيلسوف المقدم، والفيلسوف، والإسكندر الأفروديسي، وإيساغوجي، تقديمًا للتأليف على المؤلف.١٣ ففي كيفية الإبصار وإنشاء الصور الإدراكية يتفق الشيرازي مع صاحب أثولوجيا فالشيرازي هو الذي يدرس وأرسطو هو الذي يوافق ويتفق، وذلك مدعم بالنصوص. وقياس العقل الفعال كما يقول أرسطو هو قياس الضوء ويقتبس من أثولوجيا في صيغة «قال المعلم الأول» ويذكر أرسطو بكتبه «الفيلسوف المقدم» اعتمادًا على أثولوجيا فسهل بذلك تعشيقه مع شيخ الإشراق.١٤ وتتفق درجات العقل النظري مع ما ذكره الإسكندر.١٥ وسبب الخطأ فرفوريوس وكتابه في العقل والمعقولات الذي يثني عليه المشاءون وكله حشف. لم يفهموه وناقضه رجل من أهل زمانه على ما يذكر ابن سينا.١٦ وهو الذي صنف إيساغوجي وكان حريصًا على استعمال الأقاويل المخيلة الشعرية. وهو مذهب باطل.
-
(٢)
وفي «أجوبة المسائل الكاشانية» يتصدر كالعادة الشيخ الرئيس والشفاء الموروث ثم صاحب التلويحات وأبو نصر.١٧ ويتصدر الموروث الأصلي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكأن الرسالة من أحد الفقهاء.١٨ وهي مسائل عويصة خمس سئل عنها وأجاب عليها أشبه بالنوازل الفقهية تتعلق بالنفس والحواس والإدراك والصور والمخيلة. والمسألة الأولى عن الوعي الذاتي هل من الحواس أم أنه شرط الحواس؟ والشيخ الرئيس والشيخ الإشراقي صاحب التلويحات مع الرأي الأول وكذلك المسألتان الثانية والثالثة. أما المسألة الرابعة عن استحالة أن يكون الوهم والخيال أقل شرفًا من القوى الغاذية والنامية والمصورة كما هو الحال عند الشيخين أبي نصر وأبي علي في الأصول المشرقية.ويُذكَر المتكلمون والأشعرية، والمتأخرون من المتكلمين، والمتأخرون من حكماء الإسلام والمولوي والمثنوي في النشأة الثانية.١٩ فعند المتكلمين أن الأفعال إما بالطبع وإما بالقصد. وعند الأشعرية يتم الفعل ترجيحًا بين أحد طرفين وهي نظرية الكسب الشهير.٢٠ويعتمد الشيرازي على البرهان.٢١ ولديه إحساس بالجدة في بعض الموضوعات التي لم يسبقه فيها أحد.٢٢ وعبارات الربط وعناوين الفقرات إشراقية الطابع مثل: تحصيل حكمي، تتمة تنبيهية، تخلص قدسي.٢٣ وتتم إحالة السابق إلى اللاحق واللاحق إلى السابق والعودة إلى المطلوب.٢٤ ويحيل الشيرازي إلى باقي أعماله مثل «شرح الهداية الأبهرية». وكما تبدأ الرسالة بالبسملة وصفات الله الفلسفية مثل يا رب كل عقل ونفس وغاية كل حياة وحركة وحس والصلاة على محمد وآله المطهرين وسلام الله عليهم أجمعين. وتتخلل الفقرات إن شاء الله، وتنتهى بهدى الله للحق، بيده مقاليد الوصل والفصل، والسلام على من اتبع الهدى ونهى النفس عن الهوى.ومن الوافد يتصدر أرسطوطاليس الفيلسوف مع لقب المعلم والإسكندر الأفروديسي.٢٥ فالمعلم والشيخان لا يتناقضان. ويعرض الشيرازي آراء اليونان في صلة النفس بالبدن. فالنفوس التي لم تتصور بعد بالصور العقلية التي بها تقوم بالفعل جوهرًا روحانيًّا مستقلًّا تفسد بفساد البدن عند الإسكندر الأفروديسي من تلاميذ أرسطو الفيلسوف ويُؤَوَّل قول أرسطو في هذا المعنى. ويخالف ثامسطيوس الذي يرى أن القوة الباقية أبدًا ويقول أيضًا قول الفيلسوف. وهو القول الصحيح، وعليه اعتمد المتأخرون من حكماء الإسلام وهو المطابق للشريعة الحقة مثل الشيخ الرئيس. فثامسطيوس أقرب إلى الإسلام من الإسكندر لأنه أقرب إلى عهده سابقًا عليه والسلام تالٍ له بقرنين.ومن الفرق يتصدر الحكماء ثم المتقدمون من الحكماء، والأقربون مما يدل على وعي تاريخي بالتقدم والتراكم الضروري التاريخي كخطوة نحو الإبداع الخالص.٢٦ومن الوافد الشرقي يذكر حكماء الفرس ورأيهم في أن سبب التصويرات العجيبة والتشكيلات القريبة في الأجسام النباتية والحيوانية فاعل عالم حسن. وبلغة حكماء الفرس وكثير من الأقدمين بسبب أرباب الأنواع وملائكة الطباع.٢٧ فحكمة الفرس جزء من الثقافة الوطنية، كثقافة حقيقة، تحت الثقافة الإسلامية كثقافة فوقية.
-
(٣)
و«شواهد الربوبية» مجموعة من المسائل المتفرقة التي لا يجمعها نسق معين.٢٨ ولكنها خليط من الطبيعيات والإلهية الإشراقية. تدور كلها حول التوحيد وتجلياته، كما يدل عليه اسم الرسالة. فالتوحيد للخاصة وللعامة ولخاصة العامة أو عامة الخاصة على طريقة المثل الأفلاطونية. هي إشارات إلى جواهر نفيسة، وتلميحات إلى فوائد ثمينة بإمداد من فضل الله. ترسخت في النفس الصادقة، واتضحت بالقوة الفكرية فهي فيض رباني وتأمل باطني. وينقد الفلاسفة بإلهام من الله. وفي نفس الوقت يصف نفسه بأنه الفقير محمد الشهير بصدر الدين الشيرازي.٢٩ هو أقرب إلى ساعات بين الكتب، قراءة على قراءة، ومراجعة أدبيات في موضوعات جزئية متناثرة تبين مواقف صدر الدين المعروفة سلفًا في كتبه الأخرى. لذلك تكثر الإحالة إلى «الأسفار الأربعة».ويستعمل لازماته الإشراقية كعناوين فرعية مثل: تنبيه، تنبيه ينبه على معرفة فناء الدنيا وبقاء الآخرة، وارد قدسي، تأكيد عرشي.٣٠ فقد ألهم الله صدر الدين الحقيقة التي وجد لمعات منها في كتب أكابر الصوفية.ومن الموروث بطبيعة الحال يتصدر ابن سينا ثم السهروردي ثم الطوسي الدواني والرازي والفارابي وبهمنيار والغزالي وابن عربي، وعلي أمير المؤمنين والمحقق الخفري روضة الجنان.٣١ وموقفه من ابن سينا موقف مزدوج. فهو يدافع عنه ضد شراحه مثل الطوسي والدواني والشيرازي وفلاسفة المسلمين والمتكلمين والحكماء وصاحب حكمة الإشراق، فابن سينا هو الحكيم الكامل الذي لا يخطئ. ويستعمل نصوص الشفاء خاصة الإلهيات لإثبات ذلك. ويوفق بين ابن سينا وشراحه مثل الطوسي حتى يظل المذهب السينوي متسقًا والتوفيق بينهما مثل جعله تعلق النفس بالقلب بالروح البخاري وهو عند ابن سينا تعلق يجمع البدن. وينقد الدواني في شروحه على ابن سينا وتزييف مقالته في العرض الذاتي. بل ويضرب الشراح بعضهم ببعض مثل ضرب الرازي بالطوسي في تعريف الجسم بالجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، ومِن ثَم يسقط اعتراض الرازي.ومن المؤلفات الشفاء، شرح الإشارات، الأسفار، التلويحات، التحصيل، الحكمة القدسية، الهداية الأثيرية، التعليقات، شرح الكليات، المبدأ والمعاد، التجريد، الشارح، نهج البلاغة. وأحيانًا يتحقق صدر الدين من أقوال ابن سينا ويراجعها من أجل توضيحها دون أخذ موقف منها إيجابًا أم سلبًا مثل تحقيق ما قاله في «التعليقات» وتوجيهه إلى غير المشهور الذي عليه الجمهور، وتحقيق ما قاله عن نفي الحركة في مقولة متى.٣٢ويدافع صدر الدين عن ابن سينا مؤسس المدرسة الإشراقية مثل قوله في «القانون» إن اللذة البصرية والسمعية وما يقابلها من ألم تقع في النفس وهو ما لم يفهم الشراح، ودفاعه عن العلم الإلهي عنه ضد نقد الطوسي له في «شرح الإشارات». فكل اتهام لابن سينا بالتناقض إنما يقوم على سوء فهم له. وقد أفاض صدر الدين في ذلك في «شرح الهداية الأثيرية». ويستشهد في إلهيات الشفاء على العلة الفاعلة وأيضًا في رسالة العشق. ويثني على أستاذنا «أدام الله ظله» وهو ميرداد ويدافع عنه ضد سوء تأويل الشراح له كما فعل صاحب روضة الجنان.٣٣
وينقد صدر الدين ابن سينا مما يدل على استقلاله. فيرفض عذره في إلهيات الشفاء، أن المبادئ ليست لجميع الموجودات بل لبعضها فقط، وهو الوجود المطول، وفي جعله الوافد غير الموجود، وفي جعله الشيء يتشخص بالوضع مع الزمان.
وينقد صدر الدين كل ممثلي المدرسة الإشراقية وفي مقدمتهم صاحب حكمة الإشراق، ووقع قوله في كون الجنس والفصل غير متحدين. وفي دفع نفس الاشتباه صاحب روضة الجنان في اعتراضه على شارح التجريد ويتهم صاحب التلويحات بالتناقض. وينقده في قوله إن الوجود معنًى انتزاعي لا صورة له في الأعيان وأن الماهية لا تقبل التقدم والتأخر والشدة والضعف. ومع ذلك يعتمد صدر الدين عليه أحيانًا في نقد المشائين.
كما ينقد آراء تلاميذه مثل بهمنيار في «التحصيل» ويبطل قوله بأن الوجود الخاص يتقدم بإضافته إلى موضوعه. كما ينقد الشيخ الأعظم محيي الدين ابن عربي في التمييز بين البرزخ في الآخرة والبرزخ في الدنيا، وينقد الغزالي لجعله النفس تتعلق بمادة البدن الأول باقيًا للنفس خشية القول بالتناسخ.٣٤ومن الموروث الأصلي يتصدر القرآن ثم الحديث.٣٥ يستشهد صدر الدين بالآيات القرآنية لإثبات أن طبيعة الوجود واحدة وبسيطة بسبب الحقيقة ولكنها مختلفة بحسب الماهيات المتعددة.٣٦ وتجوز الحركة من مقولة الجوهر لا عن طريق الكون ولا فساد بل عن منهج الاستكمال.٣٧ وينقد الأعيان الثابتة الوهمية التي لا وجود لها إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ. وتنتهي الحركات الطبيعية إلى الخير الأقصى مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا.٣٨وينقد الحنابلة والمجسمة والمشبهة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وعبدة الأصنام وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ويثبت صفات الرحمة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قطيعة السماء والأرض. وكل شيء بإرادته ومشيئته بالرغم من استشهاده بقول علي لا جبر ولا تفويض بل الأمر بين الأمرين. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ.٣٩وتتم معرفته بحدة البصر الباطني فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ. والإنسان ينبوع باطنه بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. والشاهد والمشهود طريقة الصديقين. والعقل واحد وهو عالم الروح. وهو الذي يعلم بالقلم. والكتاب ينطق بالحق، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.٤٠وبطبيعة الحال تكثر الآيات في البعث ومشاهد القيامة والساعة. فالدنيا والآخرة مفهومان متضايفان.٤١ ويوم البعث تبدل الأرض غير الأرض. ولكل مؤمن جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وهو تأويل وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، وتسير الجبال كالسحاب ويراها الإنسان ثابتة. والدار الآخرة هي دار البقاء.٤٢تعود الروح إلى بارئها. وكل شيء يتجه نحو الله عائدًا إليه. فيتم نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. بأيدي المؤمنين وتحويلهم قردة وخنازير، أعداء الله وملائكته ورسله.٤٣ وتستشهد بعدة أحاديث كلها أيضًا في أمور المعاد والملائكة والنار والجنة.٤٤وتظهر الفرق ممثلة للتيارات الرئيسية في الفلسفة الحكماء ثم المشاءون والإشراقيون والمنطقيون. ينقد صدر الدين المشائين والإشراقيين في موضوع أثر الجاعل في الوجود الخاص الصادر عن الواجب. فقد جعل الإشراقيين المجعول نفس الماهية لا وجودها، وجعلها المشاءون وجودها وصيرورتها لا ماهيتها. يفعل الحكماء أشياء ويعرضها المحققون ويدركها المتحققون.٤٥وينقد صدر الدين الحكماء في قولهم إن الكلي الطبيعي ليس موجودًا في الخارج ورأي المتكلمين في أنه معدوم، فهو موجود في الخارج بالعرض، وفي قولهم بنفس الصفات وقول الأشاعرة الصفات بين بإثباتها. وإذا كان علي قد نفي الصفات فإن ذلك من كمال التوحيد وبسبب «عجز الأفهام عن الإدراك». لم يفهم الحكماء معنى الكشف والعيان مع إقامة الحجة والبرهان.٤٦ ويدافع عنهم في إثبات الشكل الكرى للجسم البسيط ضد توهم الناس. ويقبل صدر الدين ما جوَّزه المنطقيون في بعض الحدود وما ذكره ابن سينا في «الشفاء». ويتحقق من قولهم إن الحد والبرهان متشاركان في الحدود، وإطلاقهم الكل على العارض. وينقد المتكلمين لتجويزهم الترجيح من غير مرجح، وقصر الإسلاميون الحكماء السابقون واللاحقون في مسألة المعاد الجسماني.وهذه الفرق في التاريخ. هم المتأخرون والأقدمون الحكماء السابقون واللاحقون. ويشير لفظ الحكماء إلى الحكماء على الإطلاق لا فرق بين موروث ووافد بعد أن توصل الفريقان إلى نفس الحكمة. ومع ذلك قصروا في إدراك معنى التوحيد الخاص الذي ذهب إليه العرفاء. ولم يتحقق لأحد منهم الكشف والعيان.٤٧وقد حدث تراجع من المتقدمين إلى المتأخرين. فقد اضطربت أفهام المتأخرين في اتصاف الماهية بالوجود. ولم يحسنوا تعريف الأمور العامي أي تقاسيم الوجود وعرفوها بتعريفات غير سديدة.٤٨ وقد اشتبهت كثير من الأمور على بعض أجلة المتأخرين واعتذاراتهم.ومن الوافد يتصدر أفلاطون والمثل الأفلاطونية ثم المعلم الأول، الفيلسوف، الحكيم الفيلسوف، الفيلسوف الأقدم، أستاذ الفلاسفة، أتباع أرسطوطاليس، ثم فرفوريوس، ثم الفيثاغورسيون، والإسكندر الأفروديسي.٤٩ وأفلاطون ومثله نموذج التوحيد للطبقة المتوسطة من الناس بين الخاصة والعامة ولا فرق بين ما يقوله المعلم الأول في «أثولوجيا» أو ما بين الحكيمين والشيخين أبي نصر وأبي علي فيما يتعلق بالعلوم التفصيلية الحصولية بذاته تعالى. فالحكمة الخالدة واحدة، لا فرق بين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم والمعلم الثاني والشيخ الرئيس وصاحب «الأسفار الأربعة». الحقيقة واحدة، وشواهد الربوبية يراها جل الحكماء، لا فرق بين المشائين والإشراقيين، كلاهما ينتسبان إلى مدرسة واحدة، الإشراق. لا فرق بين المعتزلة والقائلين بوجود المعدوم وعالم المثل عند أفلاطون، بين اتحاد العقل بالمعقول عند فرفوريوس وبين الحكماء المتأخرين ونظرية الاتصال نموذج ابن سينا.ومع ذلك يرفض صدر الدين رأي المشائين والمعتزلة وأفلاطون وفرفوريوس والإشراقيين في تحقيق علم الله بالأشياء على وجه عرشي اختصاصي. فقد جعله المشاءون ارتسام صور الأشياء في ذاته وجعله الإشراقيون مناط علمه الذاتي بالأشياء الخارجة عنه، وجعله المعتزلة ثبوتًا للمعدومات، ضد أفلاطون والمثل القائمة بذاتها.٥٠ وعند فرفوريوس اتحاد العقل والمعقول، وعند المتأخرين العلم الإجمالي. والحقيقة ما أفاده الله صدر الدين. وهي أشياء لا يمكن الوصول إليها بقوة الفكر والبحث من غير تصفية الباطن وتهذيب النفس. وقد أوَّل ابن سينا في إلهيات «الشفاء» المثل الأفلاطونية. كما أوَّلها صاحب حكمة الإشراق السهروردي بأنها العقول التي هي واقعة في سلسلة العرض. وهو تأويل خارج عن غرض أفلاطون الإلهي. وقد عرف صدر الدين حقيقة ذلك بإلهام وإكرام من الله وعرضه في «الأسفار الأربعة». كما قصر الحكماء الذين جاءوا بعد أفلاطون الإلهي في تحقيق المثل الأفلاطونية بل أنكروه وتشنعوا عليها اعتمادًا على المعلم الأول وأوَّلوها تأويلات غير مرضية. ويقترب الفيثاغورسيون من مذهب أفلاطون بقولهم بأن العدد هي مبادئ الموجودات. فمبادئ الموجودات كالمثل المعلقة الأفلاطونية. أما المناطقة فقد أوقعوا أنفسهم في الأشكال والحدود وغفلوا ما وراءها من وجود. وقال الإسكندر الأفروديسي ببقاء النفوس الناطقة المدركة للمعاني العقلية. وهو نفس ما قاله المعلم الأول في «أثولوجيا» بارتسام صور المعلومات في العقل. كما أثبت المعلم الأول نمو الأرض فلا شيء في العالم إلا وله نفس. وطريقة الفيلسوف الأقدم أستاذ الفلاسفة هي دائمًا طريقة الإمكان والأشرف. وخرج الحكماء أتباع أرسطو عن طريق الأستاذ وجعلوا الوحدة عرضًا.٥١ومن الوافد الشرقي يتصدر حكماء الفرس مع الإشراقيين في أن الوجود نور من يكشف أثر الثقافات الشعبية في نشأة الفكر الإسلامي.٥٢ وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة ووصف الذات الإلهية بأوصاف الحكمة المتعالية تنتهي بالدعاء إلى مبدع العجائب وصانع الغرائب وطلب العون على تهذيب النفوس وتنوير القلوب. -
(٤)
وفي «المزاج» له أيضًا يتصدر الموروث الوافد.٥٣ ويتصدر الموروث ابن سينا أو الشيخ الرئيس مع إحالة إلى الشفاء وطبيعيات الشفاء ثم الرازي والمحقق الدواني والحكماء المشائين.٥٤ وقد رد ابن سينا من قبل على المعترضين على مذهبه كما أنه أورد شكًّا على نفسه من أجل تقوية البرهان. فابن سينا نموذج الفيلسوف المفتوح على غير ما يبدو عليه من نسق مغلق. ويستعرض صدر الدين حجج المشائين في علاقة الجسم بالصورة. فقد تحول ابن سينا من شخص إلى تيار. ويوازن بين اعتراضات الدواني وحجج ابن سينا ويقف موقف القاضي والحكم بين الخصمين.٥٥وقد اعترض عليه الإمام الرازي وأوقعه في التناقض في طبيعيات الشفاء، ومع ذلك يدافع صدر الدين عن ابن سينا ولا يسلم بوقوعه في التناقض. وقد أورد ابن سينا في طبيعيات الشفاء حجة المعترضين عليه وأجاب عنها بطريقة غير مرضية عند التأمل.٥٦ومن الوافد يتصدر المعلم الأول ثم المفسرون ثم مذهب ديموقريطس.٥٧ ويعتمد ابن سينا في الشفاء على ما قاله المعلم الأول بأن المخترجات ثابتة بالقوة. وشنع على المفسرين الذين أساءوا تأويل المعلم الأول بوقوفهم عند ظاهر قوله. ويبين صدر الدين ما قاله الحكماء في إبطال مذهب ديموقريطس وإثبات أن مبدأ الكيفية المتماثلة الأجزاء صورة واحدة متصلة إلا صورًا متعددة.٥٨ وتبدأ الرسالة بالبسملة والحمدلة الواهب الحياة والعدل والصلاة على النبي والأهل، تنتهي أيضًا دون أن تنتهي بالعبارات الإيمانية التقليدية.٥٩
-
(٥)
وفي «تفسير سورة التوحيد» يكاد يبتلع الموروث الوافد.٦٠ فبينما يتصدر القرآن والحديث الموروث كله نظرًا لأن التفسير علم نقل يدخل فيه الحكماء لتحويله إلى علم نقلي عقلي أسوة بعلوم الحكمة ثم المحقق الدواني والمعلم الثاني والرازي ثم صدر المحققين وبهمنيار في كتابه «التحصيل» والشيخ الرئيس في «الشفاء».٦١ وتعتمد الرسالة على المفسرين مع مزيد من التعقيل في فهم تعدد أسمائها وسبب نزولها، وإثبات التوحيد بالنقل والعقل وتحليل معاني كلمة التوحيد ومباحثها ووجوب النظر في معرفته تعالى. ويعتمد صدر الدين على الغزالي في عد مراتب التوحيد في اللسان وفي القلب. ويشير إلى المعتزلة في قولهم بوجوب النظر العقلي ويعترض الدواني على دليل الجزء الذي لا يتجزأ الذي تصوره ديموقريطس كما رد عليه بهمنيار رجل الحكماء والمعلم الثاني. وقد حوله الشيخ الرئيس إلى دليل واجب الوجود وممكن الوجود وهامًّا يتفق مع الميتافيزيقيا أكثر مما يتفق مع الطبيعيات، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر الفرد. ولكن أدلة الرازي ضعيفة بالرغم من تساؤلاته المشروعة في التفسير الكبير. وتبدأ الرسالة بالبسملة وطلب الاستعانة، وتنتهي دون عبارات إيمانية.٦٢