واستمر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في العصور المتأخرة في القرنين السابع والثامن
وانتقالًا من علم الطب إلى علم الجغرافيا أي البدن والطبيعة. وقد تحول تنظير الموروث
إلى تجميع الموروث وتراكمه نقلًا من عصر إلى عصر. كما تحول تمثل الوافد إلى نقل الوافد
بعد أن أصبح موروثًا منقولًا من عصر إلى عصر. فغلب على التراكم التجميع والتجاور والحفظ
دون أن يتحول الوعي الفلسفي من التراكم الكمي إلى الإبداع الكيفي، وذلك في عصر الشروح
والملخصات وتدوين الموسوعات والمعاجم والفهارس حفاظًا على التراث من الضياع. وإذا توقف
العقل تعمل الذاكرة.
وإذا كان الطب العلمي قد بدأ بتحويل الطب النبوي إلى طب تجريبي، والطب العقلي الوافد
إلى طب عقلي طبيعي نظرًا لتماهي الوحي والعقل والطبيعة فيتقابل التنزيل مع التأويل، من
النص إلى الواقع مع من الواقع إلى النص فإن الطب النبوي المتأخر قد اكتفى بالتنزيل دون
التأويل واستنباط الحقائق الطبية من النص استنباطًا وليس من التجربة استقراءً، فنادرًا
ما يقال كما كان يقال سابقًا «وهذا دواء نافع مجرب».
وكلا الطريقين معاب. فلو كان الحديث غير صحيح لتم استنباط حقيقة طبية غير علمية. كما
أن اختيار أحاديث الطب النبوي، والكثير منها موضوع، قد يخضع لمزاج شخص وثقافة شعبية
متغيرة طبقًا للعصور وثقافات الشعوب المتعددة داخل الأمة الإسلامية. ولو تغير العلم
طبقًا لتقدم العلم في التاريخ لتغيرت الحقائق الطبية البعدية بعد أن تم توفيقها مع
الحقائق الطبية القبلية. يكفي فقط أن يقوم النص بدور الافتراض العلمي إذ لا يتحول إلى
قانون علمي إلا بوسائل التحقق من صحة الفروض. وهذه أيضًا متغيرة بتغير مناهج البحث
العلمي من عصر إلى عصر، ومن حضارة إلى حضارة. ويظل الإشكال قائمًا في حالة تعارض النص
مع التجربة، التأويل مع التنزيل. فإما أن يكون الخطأ في صحة النص أو صحة الفهم أو في
جريان التجربة وقوة المشاهدة.
(١) الأزرق
نموذج ذلك «تسهيل المنافع في الطب والحكمة المشتمل على شفاء الأجسام وكتاب
الرحمة» لإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر الأزرق (٨١٥ﻫ). وهو كما يبدو من العنوان
مجرد تجميع بعد أن تحول تنظير الموروث وتمثل الواقع في مرحلة التراكم في العصور
المتأخرة إلى مجرد نقل من الماضي دون تنظير أو تمثل كما كان في العصور الأولى. إذ
يضم معًا كتابي «شفاء الأجسام» و«طب الرحمة» للمقري أيضًا بالإضافة إلى «اللقط»
لابن الجوزي و«برأ الساعة» و«تذكرة» السويدي، وكتاب البركة، وكتاب الدرة،
والمستعذب، والتبيان، وزاد المسافر، وبعض كتب الطب الأخرى، وبعض الكتب العامة،
بالإضافة إلى بعض قواميس لغة لمعرفة أسماء الأدوية والقليل من المصطلحات الطبية.
٢
وينقسم إلى خمسة أقسام ابتداءً من الطب النظري إلى الطب العلمي الأول «في أشياء
من علم الطبيعة والأمر بالتداوي»، كله اقتباسات من كتب الطب المتقدمة وكأن الطب أمر
شرعي. والثاني «في الحبوب والأغذية» بدأ بالأدوية قبل التشخيص. والثالث «فيما يصلح
للبدن في حال الصحة»، فالوقاية خير من العلاج. والرابع «في كل عضو مخصوص»، وهو الطب
التخصصي من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين. والخامس في الأمراض العامة التي لا تخص
عضوًا عضوًا ومنها الأمراض النفسية.
ولا يتجاوز الوافد جالينوس ثم أبقراط ثم أرسطو. وواضح صدارة جالينوس الطبيب
المنطقي على أبقراط الطبيب التجريبي وتواري أرسطو العالم الطبيعي شبة التام.
٣ وتغيب الألفاظ اليونانية المعربة أو المنقولة مما يدل على اختفاء
الوافد كلية من الوعي التاريخي وتحويله إلى موروث شعبي أسوة بالموروث الأصلي. ويطلق
لفظ الحكماء على الإطلاق دون تحديد المصدر. ولما غاب الفرق بين الوافد والموروث فإن
اللفظ يعني المشتغلين بالطب على الإطلاق كما هو الحال في معنى اللفظ في الثقافة
الشعبية.
ومن الموروث الأصلي يتصدر الحديث ثم القرآن.
٤ فقد تحول الطب العقلي الطبيعي إلى طب نبوي نقلي. وأصبحت كتب الطب
المتأخرة أشبه بكتب الحديث المنتقاة في موضوع الطب توسيعًا لكتاب الطب في صحيح
البخاري أو تحويلًا لعلم الطب كفرع من فروع علوم الفقه. ويحال إلى الصحيحين وإلى
كتب «المساند» ومجموعات علم الحديث المختارة لمشاهير المحدثين على مدى العصور
فيتصدر المحدثون قبل الفقهاء والأطباء والحكماء.
فيتصدر من المحدثين والفقهاء الشافعي مما يدل على سيادة الشافعية على المذاهب
الفقهية المتأخرة مثل سيادة الأشعرية في الفرق الكلامية ثم ابن عباس المحدِّث
والمفسر الأول، بحر العلم وحبر الأمة، ثم مشاهير جماع الحديث في مجموعات صحيحة مثل
النووي والترمذي، ورواته من الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، ثم من
يجمع بين الفقه والحديث مثل أحمد بن حنبل في مسنده، ثم السمرقندي، ثم عائشة راوية
الأحاديث عن حياة الرسول الخاصة، ثم أبو هريرة صاحب الرسول وجليسه ثم الفقهاء
المتأخرون مثل ابن الجوزي والإسنوي، والأقل شهرة منهم مثل الخضاب وعقبة بن عامر.
٥ ويذكر الصحيحان معًا أو كل صحيح بمفرده مثل البخاري ومسلم وابن ماجه.
٦ ثم يذكر أكثر من أربعين محدثًا وفقيهًا وصحابيًّا أشهرهم أنس بن مالك،
والأحنف بن قيس، وابن جرير، والدارمي، وابن مسعود، وعثمان الصحابي، وابن سيرين،
والبهيقي، وابن قتيبة، والدارقطني، وإسحاق، وجعفر بن محمد وغيرهم.
٧ ومن كثرة الاعتماد على كتب الحديث خصص لها مقدمة أولى في تفسير رموز
الكتاب عندما يرمز لكل صحيح بحرف أسوة بالإحالات الحديثة.
٨
كما يصبح الأنبياء من كبار الأطباء المجرين المعجزات والذين تظهر عليهم الآيات
مثل موسى وداود وسليمان ويوسف. دون ذكر للمسيح ربما تجنبًا للشبهات حول شخصه.
٩
ومع ذلك بقي من الموروث الطبي القديم ذكريات باهتة، وفي مقدمة الأطباء يتصدر
الرازي ثم ابن البيطار ثم ابن سينا، والفارابي، ومن المترجمين ثابت بن قرة.
١٠ فقد انقضى العصر وولَّى الزمن الذي نشأ فيه الطب بفضل المترجمين وبلغ
الذروة في عصر كبار الأطباء منذ الرازي حتى ابن النفيس مؤذنًا بنهاية الحضارة
الإسلامية في فترتها الأولى، وبداية فترتها الثانية في عصر الشروح والملخصات
والموسوعات والمعاجم قبل أن تبدأ المرحلة الثالثة بالاتصال بالطب الغربي الحديث.
يكشف عن غلبة الفقه والتصوف على الفقه. تظهر الأشعرية في كل فقرة في عبارات مثل:
الله أعلم، إن شاء الله، والله هو الشافي بالرغم من عرض نظرية الطبائع الأربع،
وتتخلل الفقرات «الله أعلم».
١١
(٢) الذهبي
وبالرغم من أن «الطب النبوي» للذهبي (٧٤٨ﻫ) سابق على تسهيل المنافع للأزرق بحوالي
نصف قرن إلا أنه يبلور هذا الاتجاه المتأخر في الطب، نهاية الطب العلمي، والعودة
إلى الطب النبوي كما يوحي العنوان بذلك. كان «تسهيل المنافع» طبًّا عمليًّا
إجرائيًّا، أقرب إلى العلاج بالأدوية والعقاقير منه إلى الطب النظري وكما يدل على
ذلك العنوان. أما «الطب النبوي» للذهبي فهو إعلان صريح عن نوع الطب حيث يقل الوافد
إلى أقصى درجة ويزداد الموروث إلى أقصى درجة ممثلًا في الحديث. وإذا كان «تسهيل
المنافع» قد اعتمد على بعض الموروث الطبي القديم تجميعًا بين مؤلفاته فإن «الطب
النبوي» أغفله تمامًا. وهو تجميع للأحاديث النبوية المتعلقة بالطب وبعض الأدبيات في
الموضوع دون دراسة أو تنظير أو تجربة أو قياس طبقًا للطابع الغالب على العلم في هذه
العصور المتأخرة وهو التدوين من الذاكرة بعد أن توقف العقل عن الإبداع. ويحال إلى
بعض المؤلفات الطبية على العموم دون ذكر أي منها على الخصوص.
وينقسم إلى ثلاثة فنون. الأول في قواعد الطب العلمي والعملي، والثاني في الأدوية
والأغذية، والثالث في علاج الأمراض وأحكام الأغذية والأدوية مرتبة ترتيبًا
أبجديًّا. وهو أطول الفصول لما له من طابع عملي. وينتهى الكتاب بالأحكام الشرعية
الخمسة. فالطب هو فقه الأبدان.
١٢
ومن الوافد من يتصدر أبقراط على جالينوس. ثم يأتي أفلاطون وأرسطو وهرمس مع حكماء
اليونان.
١٣ ويشار إلى ملوك اليونان على الخصوص والأطباء والحكماء الأوائل على العموم.
١٤ ولا يذكر إلا لفظ يوناني واحد، أسطوخودس. ومن الجناح الشرقي يظهر ملوك
الهند، واللغة الفارسية.
ومن الموروث يتصدر الحديث القرآن عشرات المرات. فالطب النبوي يعتمد على الحديث
أكثر مما يعتمد على القرآن.
١٥ ثم يتصدر المحدثون والفقهاء والصحابة الأطباء والعلماء والحكماء. وتأتي
عائشة في المقدمة، الراوية لحياة الرسول الخاصة، ثم ابن عباس حبر الأمة، ثم
أبو هريرة جليس الرسول، ثم أنس بن مالك صاحب الموطأ، ثم ابن حنبل في مسنده ثم
البخاري في صحيحه ثم مسلم. ومن الفقهاء يأتي الشافعي قبل أن يعود الصحابة مثل عمر
وابن عمر وجابر ومجاهد وبعض المحدثين مثل مجاهد وابن مسعود. ثم يظهر بعض الصحابة
مثل علي وعثمان، وبعض الفقهاء، مثل ابن قتيبة وابن الجوزي. ثم يظهر بدرجة أقل بعد
المحدثين والفقهاء والصحابة مثل النووي، والنسائي، وأبو حنيفة وابن سيرين وأبو بكر،
وابن تيمية. ولما كان الأطباء هم بعض الصوفية لشفاء النفوس كمقدمة لشفاء الأبدان
يظهر أبو سعيد الخدري وذو النون. ثم يذكر ما يزيد على الثمانين محدثًا وفقهيًّا
وصوفيًّا وصحابيًّا أقل شهرة ولكنهم رواة وفقهاء وعلماء بالمعنى الشعبي أي حفظة
العلوم الدينية.
١٦ كما يستشهد ببعض الشعراء مثل لبيد. فقد بدأ العرب شعراء وأصبحوا علماء
وعادوا شعراء كما بدءُوا. ومنهم بعض الأئمة والنساء والصوفية وأطباء العرب في
الجاهلية مثل الحارث بن كلدة الذي أدرك الرسول. ويذكر بعض مؤرخي الفرق مثل
الشهرستاني في «الملل والنحل».
١٧
ومن الأنبياء يظهر داود ثم آدم ثم نوح وموسى وسليمان وإدريس.
١٨ والرسول هو أعدل الأمزجة، وأصح الأبدان، وأسلم النفوس.
ومن الموروث الفلسفي الطبي لا يظهر إلا ابن سينا وأبو نعيم والرازي. اختفى الطب
كله باستثناء ابن سينا الطبيب الإشراقي مع بقايا من الثقافة العربية القديمة
الممثلة في الجاحظ. والله هو الشافي والمداوي والمعالج من خلال القرآن والحديث. ومن
البيئة الجغرافية العربية تظهر أسماء الشام والحجاز، وكالعادة تتكرر الله أعلم خلال
الفنون والجمل، والبداية بالبسملة والحمدلة والنهايات الدينية المضادة.
١٩
(٣) القزويني
لم يظهر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد في الطب وحده بل أيضًا في باقي فروع علم
الطبيعة مثل علم الحيوان، وكما وضح في كتاب «عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب
الموجودات للقزويني» (٦٨٢ﻫ). ليست الغاية علم الحيوان باعتباره علمًا بل ما في عالم
الحيوان من غرائب وكما هو الحال في برامج «عالم الحيوان». وقد يصل حد العجائب إلى
الخرافات والعفاريت والجن ما دام المقصود هو جذب الانتباه وإثارة الخيال؛ لذلك تدخل
الإسرائيليات والخيال الشعبي الذي التف حول قصص الأنبياء حتى أصبح لا فرق بين
الأنبياء والأبطال الشعبيين.
ويتحول موضوعات العلم الطبيعي مثل الحيوان من العلم إلى الحضارة. ويصبح المقصود
ليس علم الحيوان بل ثقافة الحيوان عن طريق تجميع كل المرويات عن الحيوان في الأدب
والشعر والأحاديث الموضوعة والتفاسير الشعبية والفقه الاجتماعي وسير الأنبياء
وحكاياتهم مع الحيوان، ونوادر الصوفية مع قدراتهم على التعامل معه وفهم لغته كما
فعل سليمان مع الهدهد، وكما فهم النحل لغة سليمان، وكما حادثت الشاة الرسول ونهته
عن أكلها لأنها مسمومة، وحنين جذع الشجرة إليه، وقدرة ابن عربي على استئناس
الحيوانات في شعاب مكة. ويصبح الجاحظ في كتاب «الحيوان» نموذجًا ورائدًا. الحيوان
موضوع للأدب، والأدب وعاء العلم في البداية والنهاية.
٢٠
مصدر العلم هو الرواية وليس الموضوع الطبيعي مما يكشف عن طبيعة الحضارة في نهاية
مرحلتها الأولى في القرن السابع وبدايتها في القرن الثامن، والتحول من العقل إلى
الذاكرة، ومن الإبداع الحضاري إلى الحفظ والتدوين.
ومع ذلك ما زال الموضوع يكشف عن بعض البواعث العلمية القديمة مثل أثر الفلك في
الجغرافيا وارتباط العالم السفلي بالعالم العلوي. فالعلم الطبيعي في النهاية من طب
وصيدلة ونبات وحيوان وفلك وحيوان ونبات هو علم واحد علم الأرض، علم السماء
والعالم.
ما زال التوجُّه القرآني نحو الطبيعة قائمًا، والتدبر في الأسماك في البحر والطير
والإبل على الأرض ومنافعها والذي كان وراء نشأة العلم الطبيعي. وهو ما سمَّاه
الصوفية «الحكمة، في مخلوقات الله عز وجل» ورؤية الله في كل مظاهر الطبيعة كما هو
الحال في التصوف والحركات الرومانسية الدينية بحيث يتحد الله بالطبيعة وتتحد
الطبيعة بالله، مع مزيد من الإيمانيات، وإثبات العلم اللدني، «والله أعلم».
ويقسم القزويني «العجائب» قسمين العلويات والسفليات من أجل بيان أثر العالم
العلوي في العالم السفلي أي أثر الفلك في الجغرافيا. ويضم العلوي: الأفلاك، والقمر،
وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل، والثوابت، والبروج، وفلك
الأفلاك، وسكان السموات، والزمان، خليط بين الأفلاك والبروج، بين الكون والبشر.
وتضم السفليات العناصر الأربعة: النار، والماء، والهواء، والأرض، وما عليها من
كائنات. وتنقسم الكائنات إلى المعدنيات والنبات والحيوان. وينقسم الحيوان إلى
الإنسان، حقيقته ونفسه الناطقة وتولد وتشاريح أعضائه وقواه وخواصه، والجن، والدواب،
والنعم، والسباع، والطير، والهوام، والحشرات.
٢١
ويقل تمثل الوافد. ولا يتجاوز أرسطو ثم الإسكندر ثم بطليموس ثم جالينوس ثم
ديسقوريدس ثم المجسطي لبطليموس، ثم أرطميدروس وإقليدس وذو القرنين وفيثاغورس.
٢٢ ويذكر أرسطو في مؤلفاته المنتحلة مثل النبات. ومن الوافد الشرقي يتصدر
صاحب كتاب الفلاحة النبطية وأردشير الملك. ويذكر اليونان تمايزًا عن الفرس والنبط،
ويستشهد بكتاب الفلاحة النبطية، من الفرس يذكر الملك أردشير كما تذكر الهند.
٢٣
ومن الموروث الأصلي يتصدر. آيات القرآن والأحاديث النبوية مع أولوية طفيفة للحديث
على القرآن لأن الحديث أكثر تعرُّضًا للحيوان.
٢٤ ومن الأنبياء يتصدر بطبيعة الحال سليمان ثم آدم وإدريس ثم إبراهيم
وموسى والخضر.
٢٥
ومن الموروث يتصدر ابن سينا أو الشيخ الرئيس أو الرئيس. ثم الرازي ثم الجاحظ
باعتباره المصدر الرئيسي للحيوان.
٢٦ وتكثر أسماء الرواة والمحدثين والفقهاء والشعراء والأدباء والمؤرخين
والظرفاء والأمراء والقواد والخلفاء كحاملين للثقافة التي تحمل العلم الطبيعي دون
وعي علمي بتقدم العلم، تراكمه السابق، تطويره بالإضافة عليه. فبطبيعة الحال يتقدم
كعب الأحبار كأحد الرواة ثم ابن عباس وأبو سعيد الخدري، وكثيرون غيرهم.
٢٧ ومن الطوائف والفرق يُذكَر الحكماء والأطباء والمنجمون، المتقدمون
والمتأخرون والإسماعيلية. ومن الأسماء الجغرافية تظهر البيئة المحلية العربية
الإسلامية مثل قزوين نيساربور، الري، الترعة، أرض جيلان، أفريقيا.
٢٨ وتذكر المصادر المدونة التي منها استقى القزويني مادته مثل كتاب
الفلاحة النبطية.
(٤) الدميري
وبالرغم من أن اسم مؤلفه «حياة الحيوان الكبرى» إلا أنه ليس في الحيوان كعلم
طبيعي بل في الحيوان كموضوع ثقافي حضاري يضم القرآن والحديث والسيرة والفقه
والتفسير والأدب والشعر والتاريخ والجغرافيا والتصوف، أي وضع الحيوان ليس في البيئة
الطبيعية بل في البيئة الثقافية كما فعل الجاحظ من قبل في «كتاب الحيوان»؛ لذلك لا
تكثر الإشارة إليه.
٢٩
وتشير ألقاب المؤلف كمال الدين الدميري (٨٠٨ﻫ) إلى أن موضوع «الحيوان» ما هو إلا
مناسبة لتدوين كل المعلومات حول الموضوع.
٣٠ وقد استمر ذلك حتى التأليف الحديث في عصر النهضة العربية.
٣١ فالتأليف مناسبة للتدوين وحفظ العلم وليس للإبداع وإضافة الجديد. هو
استرجاع للماضي منذ الأصول الأولى في القرآن والحديث، حتى الموسوعات
المتأخرة.
ولما كان الهدف هو تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات الطبيعية والتاريخية
والجغرافية والأدبية والاجتماعية واللغوية والكلامية والصوفية عن الموضوع لم تهم
صحة الروايات. بل كثرت الأحاديث الموضوعة والحكايات الشعبية وقصص الأنبياء المستمد
من الإسرائيليات.
لذلك غاب العرض النظري، وتحول الموضوع من العلوم العقلية إلى العلوم النقلية.
وأصبح الموضوع مجرد تجميع قدر أكبر ممكن من النصوص في الموضوع. فزاد الحجم ما دام
الهدف هو تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات. وتحولت الدلالة من الموضوع إلى المنهج،
من إبداع العلم الجديد إلى تكرار وجمع وحفظ العلم القديم. لم يعد النص فلسفيًّا
جزءًا من علوم الحكمة بل أصبح حضاريًّا دالًّا على طبيعة التأليف في العصور
المتأخرة وطرف التدوين في عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى.
٣٢
والحيوان مرتب ترتيبا أبجديًّا من الألف حتى الياء مع استطرادين كبيرين خارج
الموضوع ما دام الهدف هو تجميع المعلومات. الأول في حرف الألف بعد «الأرز» بعنوان
«فائدة أجنبية تتضمن أن كل سادس قائم بأمر الأمة مخلوع» مما يوحي بالتوجه الشيعي في
كتابة التاريخ. فالحديث ذو شجون.
٣٣ والثاني في حرف الحاء في موضوع الحوت يتم الاستطراد إلى «حوت موسى
ويوشع» بما يوحي من غرائب وإعجاب. فليس المقصود حيوان الحوت بل ثقافة الحوت.
٣٤
وفي كل موضوع يتم تقسيمه إلى خمسة بنود:
-
(١)
الأمثال أي الشواهد الشعرية وأمثال العرب عن الحيوان فليس المقصود
علم الحيوان بل مرويات الحيوان أي الحيوان في الثقافة العربية وليس فقط
في العلم الطبيعي كما فعل الجاحظ في كتاب الحيوان. فالعلم عند العرب
جزء من الثقافة.
-
(٢)
الخواص أي طباع الحيوان. وهو أقرب إلى العلم الطبيعي اعتمادًا على
الكتب الطبيعية السابقة في علم الحيوان. وتجمع الخواص بين الجسدية
والسلوكية والألفة والتربية وعلاقة الإنسان به. فهي ليست خواصَّ عضوية
خالصة، خاصة الحصان والكلب والجمل والهر والثعبان والحدأة وهي
الحيوانات التي عاش معها العربي في الصحراء.
-
(٣)
التعبير أي مدلول الحيوان في الأحلام اعتمادًا على «تعبير الرؤيا»
لابن سيرين مثل تأويل يوسف حلم فرعون، سبع بقرات سمان تأكلهن سبع بقرات
عجاف. فالنفس موطن العلم الطبيعي. وفي عالم الحيوان رموز لعالم
النفس.
-
(٤)
الحكم أي الحكم الفقهي على الحيوان، بالحياة أو الموت، بالطهارة أو
النجاسة، بالعيش معه في المنزل أو إخراجه منه، بالمنفعة والضرر.
فالحيوان مخلوق للإنسان. الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، والسمك
الطري للطعام، وجلودها للدفء والسكن.
-
(٥)
الفائدة وهي النتيجة النهائية للموضوع سواء كانت في الطب أو في
الأدوية أو في الوقاية من الحسد أي الاستعمالات للحيوان كعامل مؤثر في
الحياة اليومية. وتكون فائدة مجربة أو مجربة وصحيحة أو لطيفة. وهناك
أكثر من فائدة للحيوان الواحد. وقد تكون خاتمة وتتمة وإشارة وتذنيبًا،
قاعدة أو فرعًا، توضع تحتها كل المعلومات الباقية من البنود الأربعة
الأولى حتى لا يترك علم دون تدوين. وقد تكون عجيبة أو غريبة تبين الأثر
السحري للحيان في حدوث نتائج غير متوقعة تصل إلى حد السحر والتعاويذ
والخرافات الشعبية.
ويقل الوافد اليوناني إلى أقصى حد وكأنه أصبح من سالف الدهر، ينتمي إلى ذكريات
الطفولة الأولى. يتصدر أرسطو بطبيعة الحال فيما ينقل عنه في وصف خصائص الحيوان مع
إحالة إلى كتاب منتحل له «كتاب النعوت والخطاطيف» ثم جالينوس ثم هرمس.
٣٥ ثم تأخذ قصة الإسكندر وذي القرنين مساحة كبيرة في الوافد اليوناني.
فليس المقصود هو علم اليونان بل قصص اليونان، وهل الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين
المذكور في القرآن.
٣٦ ولا يظهر لفظ اليونان أو الفرس في حين تتوالى ألفاظ العرب. ويشار إلى
الروم كما يشار إلى الهند. يطغى الموروث عليه، ويصبح وافدًا موروثًا، جزءًا من
الثقافة العامة بعد أن تم تعريبه دون نقد أو تباعد ثقافي.
ويسود الموروث الأصلي، الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، طبقًا لتوجهات القرآن
والحديث نحو الحيوان.
٣٧ فالخيل والبغال والحمير والكلب والهدهد والطير والسمك والإبل والجمل
والوحوش كلها موضوعات تعرضت لها الآيات والأحاديث.
٣٨ فبعد ذكر الحيوان طبقًا للترتيب الأبجدي يبدأ تجميع الروايات حوله
ابتداءً من الآيات القرآنية ثم الأحاديث النبوية ثم روايات المؤرخين والصوفية
والأدباء والشعراء والحكماء والأصوليين والمفسرين والفقهاء. فالموضوع مجرد مناسبة
لتجميع الموروث حوله وتدوينه. وكثير منها آيات الحيوان وأحاديثه تشير إلى عالم
الغيب وإلى القدرات الخارقة في التعامل معه.
وتبرز قصص الأنبياء خاصة سليمان وما أوتي من قدرة على فهم لغة الطير. ويمتد الرمز
إلى موسى والخضر اللذين أصبحا مصدرًا للعلم السري. وتدخلت الإسرائيليات مباشرة أو
من كتب التفسير: الطبري وابن كثير والزمخشري، خاصة فيما يتعلق بالأنبياء ومخاريقهم
مثل إبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى. فالحيوان جزء من المعجزات، حديث الشاة
المسمومة، حنين جذع الشجرة إلى الرسول، كلام الهدهد والنحل لسليمان، نوم الكلب مع
أهل الكهف، بقرة بني إسرائيل، ناقة صالح، حمار عيسى داخلًا القدس، هرة أبي هريرة في
ثقافة الصيد.
٣٩
وقل الموروث الفلسفي العلمي القديم، فالحيوان جزء من العلم الطبيعي من علوم الحكمة.
٤٠ لا يحال إلا إلى الرازي وابن سينا ثم بعد ذلك يتقدم الغزالي الذي أصبح
هو الحكيم الفيلسوف العالم الطبيب. فالتصوف وعاء العلم. ولما ازدوج التصوف
بالأشعرية ظهرت الأشعرية ممثلة في الباقلاني الأساس النظري الوحيد للعلم. ولما كانت
الأشعرية هي الأساس النظري للفقه فقد ظهر الشافعي باعتباره هو الحكيم الفيلسوف.
ويظل المؤرخون أو أهل التاريخ والفقهاء واللغويون والمتكلمون والرواة والصوفية
والأدباء والعلماء والمفسرون هم حملة العلم والحفظة عليه.
٤١
ولما ضعف التراث العلمي الطبيعي القديم ظهر الشعر، الموروث الثقافي الأول،
باعتباره منبع الحكمة. وتحول كتاب «الحيوان» إلى مجموعة شعرية عن الحيوان أسوة
بكتاب «الحيوان» للجاحظ في الأدب العربي والأمثال العربية. وقد وصلت الاستشهادات
الشعرية بالآلاف.
٤٢ والشعراء بالمئات إذ لا تخلو صفحة واحدة من الكتاب من شاهد شعري أو
أكثر. وتبرز أهمية الشعراء النصارى مثل أمية بن أبي الصلت وقدرته على معرفة الدين
الطبيعي من خلال تجربته الشعرية.
٤٣
وتظهر البيئة الجغرافية المحلية، خراسان والشام ومصر مما يدل على أن العلم في هذه
العصور المتأخرة أصبح نابعًا من البيئة المحلية ومعبرًا عن مستوى ثقافتها بعد أن
اختفى الوافد المحدود في خضم الموروث العريض.
ويحيل النص إلى مصادر المعلومات إما بذكر المصدر والمؤلف أو بذكر المصدر دون
المؤلف أو المؤلف دون المصدر نظرًا لشهرة المصدر أو المؤلف. وتتنوع المصادر بين
الفقه والتاريخ والطب واللغة والتصوف والأدب.
٤٤
ونظرًا لغياب العقل فقد سادت الرواية بما فيها من خرافات وسحر وطلسمات وأحاجيات
كما هو الحال في الطب الشعبي المتأخر. والعلاج عن طريق الرقية وآيات القرآن
وبالأعداد والحروف والترانيم والتعاويذ على طريقة «شمهورش» والقرابين بالحيوانات.
ويتضح ذلك منذ البداية في مقدمة الكتاب حتى النهاية. ويظهر ذلك بوضوح في الحيات
والثعابين والعقارب وكيفية علاج السموم والتعاويذ والأحجبة والآيات القرآنية
والجداول الرقمية. وتتناثر الحكايات والقصص عن الأعاجيب والعفاريت والجن مع
الملائكة والرسل.
٤٥ وتشفع بها حكايات السلاطين والأمراء مع العلماء والصوفية والفقهاء.
فالعلم ما زال يدور في بلاط السلطان.
وتكثر العبارات الإيمانية مثل إن شاء الله، بإذن الله، لا حول ولا قوة إلا بالله،
بستر الله، والله أعلم لتكشف عن حدود العلم وتفويضه مثل تفويض كل شيء إلى
الله.
(٥) أطفيش
وقد اتسم الطب المتأخر بنفس الطابع الذي اتسمت به العلوم الطبيعية الأخرى مثل
الجغرافيا والفلك والنبات والحيوان. واستمر هذا النوع من التأليف حتى القرن الماضي
عنه في «تحفة الحب في أصل الطب» لمحمد بن يوسف أطفيش. من علماء القرن الرابع عشر
الهجري. وألقابه أيضًا العلامة المحقق أي جامع العلم والمتحقق من صدقه، يغلب عليه
التجميع والتدوين من الفقهاء والرواة والمحدثين والمؤرخين والمفسرين والصحابة
والخلفاء الأربعة وأئمة المذاهب الأربعة خاصة الشافعي وأحمد بن حنبل، مجرد روايات،
عودة إلى الطب النبوي. فالنص مستقل بذاته، مصدر العلم دون ما حاجة إلى برهان عقلي
أو تجريبي كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة منذ محمد بن عبد الوهاب. والطب
هو العلم الشامل الذي به علاج لكل أمراض الحياة ومشاكل كل عصر. هو أقرب إلى المفتاح
السحري كما يدل عليه العنوان.
٤٦
والموروث الأصلي هو الحديث أولًا ثم القرآن ثانيًا ثم الشعر ثالثًا.
٤٧ ومن الموروث الفلسفي يتصدر ابن سينا ثم الغزالي ثم الرازي والطحاوي.
٤٨ ثم يتوالى الفقهاء، الأئمة الأربعة وفي مقدمتهم الشافعي والخلفاء
الأربعة كرواة ومحدثين، والمتكلمون مثل الأشعري والجويني، ثم الفقهاء مثل ابن القيم
وابن تيمية والعسقلاني وابن عبد البر وابن حجر والبيهقي والطبراني وابن الصلاح
وابن العربي، والمؤرخون مثل الطبري والثعالبي وابن الأثير والواقدي والمفسرون مثل
الزمخشري والقرطبي والمحدثون مثل أصحاب الإصحاحات الخمسة، ومن الصوفية المحاسبي،
وأبو سعيد الخدري، ومن الأدباء واللغويين الجاحظ وسيبويه، ومن الشعراء الفرزدق، ومن
العلماء ابن البيطار، وعشرات من الصحابة والتابعين بحيث طغت العلوم النقلية على
العلوم العقلية وكثير من الروايات منتحلة لطولها ودخولها في جوهر الطب وعلله وتقوم
على الخداع والسحر والتعاويذ والأحجية والدعوات. ومن الأنبياء بطبيعة الحال يتصدر
سليمان الحكيم وقدراته على المداواة والعلاج، وما يلحق به من إسرائيليات دخلت من
قبل علوم التفسير.
وما زالت بقايا الوافد تتراءى وفي مقدمته جالينوس ثم أبقراط ثم أرسطو وأفلاطون ثم
سقراط.
٤٩ تذكر أقوالهم بعد أن أصبحت موروثة دون تحقق أو نقد أو مراجعة.
وليس للكتاب بنية تنم عن وضع العلم بل مجرد أبواب متتالية، خمسة وعشرين، أطولها
الأخير. يغلب على الأول «ما جاء في الطب» معظم الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية.
وتدل عناوين الأبواب أنها لا تدرس الموضوعات بل تجمع الروايات فيه «ما جاء في …»
ويضم الطب البدني الطب النفسي لعلاج الهموم والصرع. وأطولها ما جاء في الطعام
والشراب والنكاح طبقًا للمأثور عن العرب وكما لاحظ الفارابي من قبل.
٥٠
وقد استمر تنظير الموروث قبل تمثل الوافد حتى القرن الماضي كما هو الحال في نهاية
الحكمة للأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي والذي أتمه عام ١٣٩٥ﻫ.
وهو على درجة عالية من التجريد والتنظير كما هو الحال في علم الكلام المتأخر
وشراح ابن سينا المتأخرين عندما انطفأت جذوة الإشراق ولم يتبقَّ إلا صور العقل
وأشكال الوجود، بحيث يستحيل معرفة مقياس الصواب والخطأ لا في تجربة إنسانية ولا في
إطار مرجعي إلا إطار العقل النظري الذي بحاجة إلى مقياس آخر غير الاتساق المنطقي.
وما يخرج العقل عن بنيته الداخلية هو بعض السجال مع المتكلمين أو مع بعض شراح
ابن سينا المتأخرين مثل الدواني. ويقوم على ذكر الحجج والاعتراضات ثم الرد عليها مع
اقتباسات وشواهد وإحالات أسوة بالتأليف الحديث في صلب المتن وليس في
الهوامش.
ولما كان التحول من الكلام إلى الفلسفة هو انتقال من «الثيولوجيا» إلى
«الأنطولوجيا» فقد غلبت على الحكمة الميتافيزيقيا أو الأنطولوجيا الخالصة. ومع ذلك
يتسم بالوضوح والترتيب المنطقي. ويتم تبويب «نهاية الحكمة» على اثنتي عشرة مرحلة
مما يوحي بالطابع الحركي. وهي في الحقيقة مراحل داخل العقل أي بنيته.
٥١ وهي أقرب إلى المبادئ العامة أي نظرية الوجود في علم الكلام المتأخر
المستمد من الفلسفة.
وبالرغم من ظهور الموروث أكثر من الوافد إلا أن الصمت عن المصادر هو الغالب من
أجل التركيز على بنية العقل والموضوع بحيث يكون أقرب إلى الإبداع الخالص بعد تراكم
فلسفي طويل عبر أربعة عشر قرنًا. والاسم نفسه له دلالته «نهاية الحكمة» بالمعنى
المزدوج اللفظ «نهاية» الذي يعني آخر مرحلة وخاتمة والذي يعني أيضًا تحقيق الغاية.
٥٢
ويتصدر الموروث صدر الدين الشيرازي باعتباره آخر الحكماء القدماء ثم ابن سينا
باعتباره زعيم الإشراقيين، ثم السهروردي باعتباره من مؤسسي الإشراق ولكن من التصوف
إلى الفلسفة وليس من الفلسفة إلى التصوف كما هو الحال عند ابن سينا، ثم الفارابي
باعتباره أحد الإشراقيين قبل ابن سينا، ثم الدواني باعتباره شارحًا، والشهرستاني،
ثم ابن كمونة والنظام وبهمنيار معاصر ابن سينا، ثم الطوسي.
٥٣
ومن أسماء المؤلفات تذكر بطبيعة الحال «الأسفار» ومن الفرق يذكر المتكلمون.
فالكتاب يجمع بين الكلام والفلسفة كما هو الحال في كل المؤلفات الكلامية بعد القرن
الخامس. كما أنه كتاب سجالي ضد الفرق خاصة المعتزلة مما يضفى أحيانًا على منطق
البرهان الخاص بعلوم الحكمة، ثم المشاءون والإشراقيون، وهي الفرقة التي ينتسب إليها
المؤلف. ثم القدماء والمتأخرون، فالفلاسفة قدماء ومحدثون والطبيعيون والمنطقيون من
قدماء الفلاسفة مصدر الحكمة، والصوفية مصدر الإشراقية.
٥٤
وأحيانًا يذكر «بعضهم» على العموم دون تحديد من هم. وفي نفس الوقت تكثر الألقاب
وتختفي الأسماء تحولًا من الاسم إلى الرمز مثل صدر المتألهين للشيرازي والشيخ
لابن سينا، وشيخ الإشراق أو الشيخ الإشراقي للسهروردي، وأفلاطون الإلهي، والمعلم الأول.
٥٥
وبسبب الطابع التجريدي العام، يخلو الكتاب من الأدبيات والأحاديث بالرغم من
أولوية الموروث فيه على الوافد.
ومن الوافد يتصدر أفلاطون بطبيعة الحال ويأخذ لقب «الإلهي» فهو زعيم الإشراقيين
اليونان، وتنسب إليه المثل. ثم يأتي أرسطو في المرتبة الثانية أو لقب المعلم الأول
كناية عنه، ثم ديموقريطس نموذجًا للطبيعيين، ثم أنبذقليس وفرفريوس وتاليس. ومن
الفرق اليونانية لا يذكر إلا الرواقيون.
٥٦ ويكاد ينحصر الوافد في مكان واحد، روايات مذاهب السابقين حتى يبدو
محاصرًا داخل محيط الموروث، خطوة نحو «تنظير الموروث» واختفاء الوافد.
٥٧