أولًا: الخصائص العامة للفكر الشيعي
ليس بمحض المصادفة أن يقع الفكر الفلسفي الشيعي في «التراكم الفلسفي» في «تنظير
الموروث» وليس في «التأليف»، «تمثل الوافد» أو «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» أو
«تمثل الوافد مع تنظير الموروث» أو حتى في «التراكم الفلسفي»، تنظير الموروث قبل «تمثل
الوافد» أو «الإبداع الخالص». مما يجعل للفكر الشيعي خصائص معينة تجعله يقع في نوع أدبي
خاص «تنظير الموروث» دون الاعتماد على الوافد. يكفي الواقع السياسي من ناحية والموروث
الأصلي، القرآن، من ناحية أخرى.
١
وهي حلقة مفقودة لم ينتبه إليها مؤرخو الفكر الفلسفي الذين انتقلوا مباشرة من
الفارابي (٣٣٩ﻫ) إلى ابن سينا (٤٢٨ﻫ) باستثناء ذكر أبي الحسن العامري (٣٨١ﻫ) وكأن الفكر
الفلسفي قد انتقل من الفارابي إلى ابن سينا مباشرة عبر قرن من الزمان دون تطور. في حين
أن الفارابي كان معاصرًا لأبي حاتم الرازي (٣٣١ﻫ) وأبي يعقوب السجستاني (٣٣١ﻫ)،
والكرماني (٤١١ﻫ) كان معاصرًا لابن سينا (٤٢٨ﻫ). وكان إخوان الصفا وهم من الإسماعيلية
من قبل هم حلقة الاتصال بين الكندي (٢٥٢ﻫ) والفارابي؛ إذ تدل الشواهد على أنها ظهرت
حوالي (٢٧٠ﻫ) أي في النصف الثاني من القرن الثالث. وقد كان أبو سليمان السجستاني هو
الشخصية الرئيسية في «المقابسات» لأبي حيان التوحيدي (٤٠٣ﻫ). ومع ذلك فالتقابل ليس
حادًّا بين الفكر الفلسفي الجامع بين تمثل الوافد وتنظير الموروث والفكر الفلسفي القائم
على تنظير الموروث فحسب. كما لا يمكن أن يقال إن هذين الخطين يمثلان الفكر الفلسفي
السني والفكر الفلسفي الشيعي لأن ابن سينا هو الذي قام بالعرض النسقي المنطقي وقدم بناء
الفلسفة.
٢ وهو شيعي إمامي اثنا عشري. وإخوان الصفا من الإسماعيلية. والفكر الشيعي
متأخر عن الفكر السني بقرن من الزمان، من الكندي (٢٥٢ﻫ) حتى النسفي (٣٣١ﻫ).
وربما كان أحد أسباب مؤامرة الصمت في تاريخ الفكر الفلسفي السني هو أن مفكري الشيعة
كانوا من الثوار الذين استشهد معظمهم في ثورة ٣٣١ﻫ. كانوا من المعارضين للسلطان،
استمرارًا في ثورة الأئمة من آل البيت. كان يمثل فكر المعارضة وليس فكر السلطة، يعبر
عن
الواقع السياسي العريض ضد استئثار فرقة واحدة بالسلطة السياسية هي فرقة أهل السنة.
كانوا يمثلون الفرق الهالكة الاثنين والسبعين ضد الفرقة الناجية؛ أهل السنة والجماعة.
٣ لم يأخذوا خلعًا أو صررًا من السلطان. ولم يكونوا في معيته؛ بل كانوا
ينتقدون فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس المأجورين المستوزرين، فلاسفة البلاط
ومنشدي وعازفي الآلات للأمراء وأطباء الخلفاء وزينة المجالس.
وإذا كان التراكم الفلسفي قد ظهر في الفكر الفلسفي في تعليقات ابن باجه على الفارابي،
وشرح ابن طفيل لألفاظ الحكمة المشرقية عند ابن سينا، ونقد الغزالي للفلاسفة في «تهافت
الفلاسفة»، ونقد ابن رشد للغزالي في تهافت التهافت فقد ظهر التراكم الفلسفي في الفكر
الشيعي منذ أن كتب النسفي «المحصول» ثم نقد بوجه خاص الرازي له في «الإصلاح» ثم دفاع
السجستاني عن «المحصول» في «النصرة» ثم حكم الكرماني تلميذ السجستاني بين «الإصلاح»
و«النصرة» في «الرياض» ناقدًا أستاذه.
٤ لذلك كثيرًا ما يظهر التناص الفلسفي في «الرياض». صاحب الإصلاح يقول، وصاحب
النصرة يقول، وصاحب الرياض يقول.
ونظرًا لكثرة المنقول وشرحه شرحًا مباشرًا بخطاب عادي شعبي غير إصلاحي وبحماس غالب
يصبح الفكر الشيعي أقرب إلى الفكر الفقهي السني والخطب المنبرية التي تزدحم بالآيات
وكما هو معروف في المدرسة السلفية عند أحمد بن حنبل، وابن تيمية وابن القيم، وابن
الصلاح، ومحمد بن عبد الوهاب، ورشيد رضا. القرآن هو المصدر الرئيسي ثم بعد ذلك قصص
الأنبياء أي القرآن متحققًا في التاريخ. الآيات القرآنية أكثر ورودًا من الأحاديث
النبوية، فالقرآن هو الأصل متفاعلًا مع الواقع السياسي والاجتماعي وموجهًا نحوه. وقد
يكون للشيعة قراءتهم الخاصة للقرآن والتي تختلف أحيانًا مع قراءة أهل السنة في بعض
الحروف الآن. ولا يذكر اسم العلم إلا خارج الآية ومشتقاتها. فالآية هي مصدر أسماء
الأعلام، هي بمفردها دليل دون عرض نظري كافٍ كما هو الحال في فكر الفقهاء. ومن هنا تبدو
أهمية ابن سينا. فبالرغم من أنه من الإمامية الاثني عشرية إلا أنه استطاع تجاوز النص
الخام إلى العقل الخالص.
والفكر الشيعي مثل الفكر الفقهي إجابات على أسئلة يطرحها السائل، فهو إجابة عن أسئلة
يطرحها الواقع وليس تنظيرًا مجردًا؛ لذلك تبدو فيه «روح المشيخة» وطابع المؤسسة
الدينية. واتهامه بالانحراف والخروج والمروق هي من فعل الخصوم، والإجابة قدر الإمكان
دون قطع أو جزم أو غلق لباب الاجتهاد. وإذا كان السؤال عن آية فإن الإجابة تحولها إلى
نظر عقلي كما هو الحال في نشأة علم الكلام. وأحيانًا تتحول الآية إلى عبارة شارحة، لا
فرق بينها وبين أسلوب عرضها مع تغيير الضمير. ويتداخل القرآن الحر مع الآيات حتى إنه
يصعب التفرقة بينهما. بل وهناك عدم دقة في القرآن الحرفي والقرآن الحر حتى يسهل عدم
الفصل بينهما؛ ولا توجد مسافة بين الوحي نقلًا والوحي إبداعًا. وقد يكون السؤال عن آية
أو عن معنى آية أو عن فكرة أو موضوع مثل منزلة سائر النطقاء وحدودهم وأهل الظاهر. وتكون
الإجابة مثل السؤال بآية أو معنى آية أو فكرة أو موضوع. وقد تذكر الآية أكثر من مرة
وبنفس المعنى مما يدل على أن القضية أزمة نفسية، تذهب وتعود. ويكون السؤال أيضًا عن
معنى الحديث ولكن بصورة أقل.
٥ وبالرغم من اعتماد الفكر الشيعي على الموروث الأصلي، الآيات القرآنية أكثر
من الحديث بل والإكثار منها كحجة سلطة في مواجهة سوء استعماله عند أهل السنة والسلطة
القائمة يأتي دور العقل مكملًا للنقل في مواجهة احتكار أهل السنة لتفسير النقل بحجة
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ. بل يظهر العقل النقدي بما له من قدرة على الاعتراض. وتدل كثرة
النقل على وقوف سلطة أمام سلطة، سلطة المعارضة ضد سلطة الدولة. وكل فريق يزايد على
الآخر بكثرة النصوص كما هو الحال عند إخوان الصفا. وكلهم إلى رسول الله منتسب.
ويقل المنقول كلما تطور الفكر الشيعي من القرن الثالث إلى الرابع، ومن السجستاني إلى
الكرماني. تكثر الآيات في بداية الفكر الشيعي مما يجعل «راحة العقل» للكرماني أكثر
المؤلفات إحكامًا من ناحية النظر والبنية الداخلية ومنطق الاستدلال. لذلك نجح ابن سينا
فيما لم ينجح فيه الفكر الشيعي بما في ذلك إخوان الصفا في تقديم الفكر الشيعي إلى أهل
السنة اعتمادًا على العقل وحده.
ليست الفلسفة حكمة متعالية أو فلسفة تأملية نظرية بل هي طريق الخلاص من استئثار
السلطة القائمة بالدين والسياسة واحتكار السلطتين؛ الدينية والسياسية. الفلسفة تحرر،
والدين قيد. الفلسفة تمرد على السلطة ومقاومة للطغيان. ليست الغاية التوفيق بين الفلسفة
والدين، فذاك ما يقوم به حكماء السلطان بل التمسك بالفلسفة وحدها لتأويل الدين ونزعه
كسلاح من أيدي الخصوم على عكس حكماء السلطان الذين كانوا يدينون اتفاق الفلسفة والدين
لصالح الدين مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن باجه وابن طفيل وابن رشد. كان حكماء
الشيعة من قادة ثورات العامة في حين كان حكماء البلاط من خاصة السلطان. لذلك ظهرت
الفلسفة السياسية بوضوح وكأن السياسة هي أساس الدين والحكمة في مقابل تسييس عقائد
السنَّة باسم الدين وعلى حساب الحكمة كما بدا ذلك في عقائد الأشاعرة وفي فلسفة الفارابي
والتصور الهرمي للعالم. ثم تحولت الفلسفة السياسية إلى فلسفة تاريخ لمعرفة دورات الأمم
ومصائر الشعوب وتداول الأيام بين الناس. وهي فلسفة تقوم على التقدم والنهوض والخلاص
باسم المهدي بعد أن جعل أهل السنة التاريخ منهارًا (خير القرون قرني) إلى غير رجعة.
الفكر الشيعي فكر ملتزم، صاحب قضية، الالتزام بالشرعية الدينية ونقد التسلط والطغيان،
الدفاع عن الحق ضد الباطل، والعدل ضد الظلم، والشرعية ضد اللاشرعية، والأئمة ضد الملوك.
٦
وكما كان معظم أهل السنة من العرب كان معظم الشيعة من العجم. فقد دخلت شعوب كثيرة
الإسلام لا فرق بين عرب وعجم حتى بدأ التشيع في الظهور، فانضم العجم إلى المعارضة بعد
أن استولى العرب على السلطة باسم قريش وبحجة «الإمامة في قريش» وكرد فعل عليها روي
أيضًا «العلم في فارس» «ولو كان العلم في الثريا لناله رجال من أهل فارس».
وللإنسانيات الأولوية على المنطق. وتشمل الإنسانيات الطبيعيات والإلهيات والأخلاقيات
والاجتماعيات والسياسيات. المنطق تجريد لا تقوى الثورات على استعماله، وأقيسة شكلية لا
تقدر على فهم حركة المجتمع وصراع القوى فيه. وعندما يكون المجتمع في أزمة والناس في قهر
يتم التحرر عن طريق العقائد الدينية التي تتحول إلى تصورات فلسفية مثل إبداع الكون
والنبوة والمعاد والإمامة وقصص الأنبياء من أجل وضع المجتمع في حركة التاريخ وتحديد
علاقة الحاكم بالمحكوم. يغيب منها النسق الثلاثي الصارم للحكمة: المنطق، والطبيعيات،
والإلهيات الذي يجعل الفلسفة بناءً ثابتًا لا يتغير من أجل فلسفة تقوم على حركة الإنسان
والمجتمع والتاريخ.
والخطاب الفلسفي الشيعي خطاب خالٍ من المصطلحات الفلسفية الوافدة أو الموروثة ومحمل
بمصطلحات إبداعية خالصة من ألقاب الأئمة مثل القائم والأساس والباب. وهو خطاب سهل الفهم
بعيد عن التجريد، مباشر يدخل إلى القلب أكثر مما يخاطب العقل، ويعبر عن تجربة حية معاشة
أكثر مما يعبر عن تحليل عقلي رصين. بل يكون أحيانًا أقرب إلى الخطاب الشعبي لإخوان
الصفا يهدف إلى تجنيد الجماهير وحشد المضطهدين. وكثيرًا ما يعتمد على التراث الشعبي مثل
إخوان الصفا والأساطير الشعبية والأسلوب العربي القويم بعيدًا عن ركاكة الأعجام مع أنهم
كانوا أيضًا من العجم. ويبدو أن الاضطهاد يفرض أسلوبه المباشر ضد فيهقات الخاصة
المستقرين في البلاط. يبدو أرسطو خياليًّا، مثاليًّا حالمًا أقرب إلى الشعر الفلسفي،
والملحمة الإنسانية مثل بطولات الأساطير وحياة الشهداء، وأساطير السقوط والخلاص في كل
الديانات مثل الديانة المسيحية. ويقدم القرآن صورًا فنية بليغة للتأثير على الناس،
فالبداية تخييل وتصوير دون محكم ومتشابه، حقيقة ومجاز، ظاهر ومُؤَوَّل، مجمل ومبين.
الكل ناطق صامت. الناطق في حاجة إلى تأويل والصامت في حاجة إلى تخييل. ويظهر أسلوب الرد
على الاعتراضات المتخيلة من أجل الإحكام النظري. وقد يكون الاعتراض بآية والرد عليها
بآية.
٧
ويتم وصف الفكر الشيعي دون حجاج معه، معه أو عليه كما فعل أهل السنة. فقد كان الفكر
السني الرسمي فكر سلطة والفكر الشيعي الشعبي فكر معارضة. فلا حجاج مع السلطة ضد
المعارضة كما كان الحال قديمًا. بل قد يكون هناك حجاج مع المعارضة ضد السلطة كما هو
الوضع حاليًّا. يكفي في ذلك سلاح الألقاب. فالسنة أهل الاستقامة والحديث الذين يسيرون
على الصراط المستقيم والسنة القويمة. أما الشيعة فإنهم أهل الهوى والميل والتشيع
والانحراف عن الطريق المستقيم. أهل السنة هم الفرقة الناجية، والشيعة هم الفرقة الضالة
الهالكة طبقًا لحديث الفرقة الناجية الذي استعمله أهل السنة منذ الغزالي في «الاقتصاد
في الاعتقاد» ضد خصوم الدولة من الشيعة والباطنية والمعتزلة.
والنص الشيعي نص واحد بالرغم من اختلاف المؤلفين عليه. يمثل وحدة فكرية واحدة،
وموقعًا سياسيًّا واحدًا. يكمل بعضه بعضًا بصرف النظر عن مؤلفه، وحدة النص وتعدد
مؤلفيه. وتكرار نفس النص يدل على أن هناك وحدات أولى تم التأليف منها، وهو النص الأم.
وقد يعني توارد خواطر واتفاقًا في الأفكار، فالظروف الواحدة تخلق موقفًا فكريًّا واحدًا
يتم تدوينه في نص واحد. قد يزيد نص فكرة دون التكرار الأصم. وتتراكم الزيادات على النص
الأم وتصبح نصًّا واحدًا. يمكن تحليل الموروث نصًّا نصًّا وكذلك أشكال التعبير وآليات
الإبداع. أما المضمون فإنه يتم تحليله باعتباره نصًّا واحدًا. فالفكر الشيعي تيار فلسفي
مستقل عن الأشخاص.
٨ وعلى الرغم من عدم الدقة في النشر العلمي المحقق أحيانًا للنصوص الشيعية
وغياب الفهارس للمصطلحات والأعلام وتخريج الآيات والأحاديث إلا أن ذلك لا يمنع من تحليل
المضمون لمعرفة مكونات النص وتوجهاته العامة.