الموت … فوق شواطئ القارة السوداء!
قال رقم «صفر»: البداية كانت منذ أكثر من عام … ووقتها لم يكن الأمر ملفتًا للنظر؛ لأنه لم يأخذ شكل الظاهرة … ولكن تكرار تلك الحوادث جعلتنا ننتبه، ومن ثم نكتشف السر الكامن خلفها … فمنذ حوالي عام، وأمام شواطئ «سيراليون» المطلة على المحيط الأطلنطي، كان هناك مجموعة من الصيادين الذين يعملون فوق قوارب بدائية مصنوعة من الخوص والبوص … ويستخدمون الشِّباك اليدوية في صيدهم … هؤلاء الصيادون كان عددهم يصل إلى الخمسين، وكانوا يستقلُّون عشرة زوارق اتجهت بهم جميعًا على مسافة لا تزيد عن خمسة كيلومترات عن الشاطئ. كان ذلك في الصباح الباكر … وعندما لم يعُد هؤلاء الصيادون وقت الغروب، خرج أهلهم وأقاربهم للبحث عنهم … ولكنهم لم يعثروا على أيٍّ من هؤلاء الصيادين … وكل ما وجدوه هو القوارب البدائية في قلب الماء، وقد ذهبت بها التيارات المائية وشتَّتتها في كل اتجاه … والمدهش أن هذه القوارب كانت شباكها ممتلئةً بالسمك … ولكن أين ذهب أصحاب هذه القوارب؟ هذا ما لم يعرفه أحد وقتها.
مصباح: من المحتمل أن يكون هؤلاء الصيادون قد غرقوا بسبب بعض الدُّوامات البحرية …
رقم «صفر»: لقد كان هذا الاحتمال قائمًا … وبفحص التيارات المائية في تلك المنطقة، ثبت عدم وجودها لقربها من الشاطئ … وحتى لو كانت الدُّوامات أو التيارات المائية هي التي أغرقت هؤلاء الصيادين … لكانت زوارقهم قد اختفت معهم أيضًا وغرقت. وانشغلت السلطات المسئولة ببحث الحادث … ولكنها لم تهتدِ إلى أي تفسير له.
أحمد: ولكنه تكرَّر … أليس كذلك؟
رقم «صفر»: نعم … وبصورة مشابهة وإن اختلف الموقع … فعلى مسافة مئات الكيلومترات من الحادث الأول، وبالقرب من شواطئ «ساحل العاج»، كانت هناك سفينة صيد كبيرة تعمل بصيد السمك من المحيط … وعندما خرجت تلك السفينة للصيد، وقبل أن تنقضي ساعة واحدة على خروجها، حتى كان مركز المراقبة على الشاطئ يتسلَّم رسالةً غريبة تقول: هذا مستحيل! إنهم يحاصروننا … سوف يخطفوننا … ثم انقطعت الرسالة … وعندما أسرعت وحدات النجدة إلى مكان السفينة، وجدوها ساكنةً فوق صفحة الماء على مسافة عشرين كيلومترًا من الشاطئ … ولم يكن فيها فرد واحد من الصيادين أو الملَّاحين … ولم يكن هناك أي أثر لهم، كأنهم تبخَّروا في الهواء، أو ذابوا في الماء، بالرغم من أن عددهم كان يزيد عن المائة شخص.
زبيدة: هذا أمر عجيب جدًّا! … وأين اختفى رُكاب السفينة؟
رقم «صفر»: هذا ما حاولَت سلطات الشرطة في «ساحل العاج» الوصول إليه، وبعد أن أجرت تحقيقًا موسَّعًا، ثبت فيه أن أي سفينة لم تقترب من السفينة المنكوبة، وبالتالي فلم يشاهد أحدٌ ما جرى … ولا عرف أحد من هؤلاء الذين قال عنهم عامل اللاسلكي بأنهم يحاصرونهم … وسوف يخطفونهم … وإن كان قد ثبت أن جهاز اللاسلكي قد تحطَّم برصاصة … ولا شك أن المختطفين هم الذين أطلقوا الرصاص على جهاز اللاسلكي، حتى لا يُكمل العامل بثَّ بقية الرسالة، وكشف هُوية الخاطفين.
وقلَّب رقم «صفر» بضعة أوراق أمامه، ثم قال: قبل أن ينقضي أسبوعان على ذلك الحادث … وقع حادث آخر أكثر غرابةً وشذوذًا … هذا الحادث لم يقع في قلب المحيط كالمرتَين السابقتَين، بل وقع في قلب القارة السمراء نفسها … وإن كان لم يبتعد كثيرًا عن الشاطئ … ففي المنطقة المسماة بغينيا البرتغالية، أو ما يطلق عليها «غينيا بيساو» … هذه المنطقة استقلَّت عن البرتغال عام ٧٤، وسكانها لا يتعدَّون نصف مليون نسمة، يتناثرون فوق شواطئها المكوَّنة من عدة جزر وسهول قليلة على الساحل … وهي منطقة شِبْه بدائية لا تزال تكافح من أجل الارتقاء والتقدم، بعد أن تركها البرتغاليون، بعد أن استعبدوها واستنزفوا خيراتها … هذه المنطقة يعيش أهلها حياةً بدائية، يتعيَّشون من الزراعة وصيد السمك حول الجزر، حتى إنهم لا يرحِّبون كثيرًا بالصيد في المحيط، أو الابتعاد بزوارقهم في قلبه رهبةً وخوفًا … وربما يفسِّر هذا سر وقوع اختفاء بعض سُكان هذه المنطقة فوق إحدى الجزر الكثيرة التي تتكوَّن منها هذه المنطقة.
هدى: وكيف وقع هذا الحادث هذه المرة؟
رقم «صفر»: لقد اختفت قرية بأكملها … قرية يزيد تعدادها عن مائتي نسمة، ما بين أطفال ورجال وعجائز … كلهم اختفَوا جميعًا … كانت القرية عامرةً بسكانها من الأهالي البدائيين في المساء.
وفي الصباح، لم يكن هناك أي أثر لهؤلاء السكان، وكانت قدورهم موضوعةً ساخنة، وبها الطعام، وملابسهم معلَّقة داخل أكواخهم … كان كل شيء موجودًا في مكانه … عدا سكان القرية … اختفَوا جميعًا بلا أثر … كأنما انشقَّت الأرض وابتلعتهم، أو طاروا في الهواء.
صمت رقم «صفر» … وهتفت «زبيدة»: هذا مُذهل … وهو أمر لا يُصدق!
بو عمير: كأنما جاء طبق طائر من الفضاء واختطف هؤلاء البدائيين!
أحمد: أو … لعلهم اختفَوا بإرادتهم … كنوع من أنواع الطقوس الدينية؛ ففي مثل هذه المجتمعات البدائية، تحتلُّ الخرافات جانبًا كبيرًا من معتقدات السكان … ويسيطر السحرة على الأهالي، فيمكنهم أن يُقنعوهم مثلًا بالهجرة إلى مكان آخر … أو حتى بالموت.
قال رقم «صفر»: هذا الاحتمال كان واردًا … لولا وجود آثار مقاومة في نفس المكان … رمح مكسور … وبضعة رصاصات من بندقية حديثة استقرَّت في قلب أحد السكان … والذي عُثر عليه غريقًا في الماء على الشاطئ … وبالطبع، فإن هذا ينفي فكرة أن الأمر بسبب طقوس دينية بدائية … لأن أي ساحر في ذلك المكان لا يمتلك بندقيةً سريعة الطلقات …
عثمان: إذن فقد كان هناك نوع من الاختطاف لسكان هذه القرية البدائية؟
رقم «صفر»: هذا صحيح تمامًا … وهو ما جعل السلطات بطول شواطئ الساحل الغربي الأفريقي تتنبَّه إلى تلك المسألة … فحتى ذلك الوقت، وقعت ثلاثة حوادث اختطاف، أو بمعنًى أدق «اختفاء» … وقد بعثت الريبة في نفوس المسئولين، وسلطات الأمن في دول غرب أفريقيا … المطلة على ساحل المحيط الأطلنطي … ممَّا جعلها تتعاون معًا من أجل حراسة الشواطئ من ذلك الخطر الغامض المجهول الذي يختطف الأهالي … دون أن يترك أثرًا ما … أو يشاهده إنسان.
تساءلت «هدى»: وهل توقَّفت حوادث الاختطاف بسبب تلك الرقابة؟
رقم «صفر»: لقد اختفت لفترة قصيرة … ثم تكرَّرت مرةً أخرى في مكان غير متوقَّع في الجنوب بشواطئ «ناميبيا» … تلك الدولة التي نالت استقلالها أخيرًا … ولم يكن أحدٌ يتوقَّع أن حوادث الاختطاف ستصل إلى الجنوب بتلك الصورة … وفي الواقع إن الحادث كان مختلفًا في أن ضحاياه كانوا مجموعةً من رعاة الأغنام، كانوا يرعَون أغنامهم فوق الشريط الساحلي الأخضر بحذاء الشاطئ، عندما اختفى هؤلاء الرعاة … وتشتَّت قطيعهم في كل اتجاه.
عثمان: لقد احتاط الخاطفون لأنفسهم، فوزَّعوا دائرة عملهم الإجرامي.
رقم «صفر»: هذا صحيح … وبسبب ذلك تشتَّتت جهود الباحثين عن هؤلاء الخاطفين المجهولين بسبب اتساع رُقعة البحث التي تكاد تغطِّي سواحل الشاطئ الغربي لأفريقيا … ثم تكرَّرت حوادث الاختطاف بطول الساحل … ولم تنجُ منه دولة واحدة من دول غرب أفريقيا … وبلغ عدد الضحايا أكثر من ألف شخص.
بو عمير: هذا مُذهل … كأن الأمر يتعلَّق بأشباح يخطفون هؤلاء المساكين، ويطيرون بهم في الهواء.
رقم «صفر»: بل يغوصون بهم في قلب الماء … هذا ما اكتشفناه أخيرًا.
قالها رقم «صفر» في هدوء … ولكن كلماته كانت مثل قنبلة انفجرت في وسط الشياطين … وصاحت «هدى»: هل قام المختطفون بإغراق هؤلاء الأفريقيين المساكين في المحيط؟!
رقم «صفر»: لا … ليس هذا المقصود بأن المختطفين يغوصون بضحاياهم في قلب المحيط. إن وجود غواصة يُفسِّر الأمر تمامًا.
أحمد: هذا مذهل … إذن فهؤلاء الخاطفون يمتلكون غواصة … إن هذا يفسِّر ظهورهم المفاجئ بزوارق وسفن الصيد في قلب المحيط؛ لأنهم يخرجون من الماء فجأةً بالغواصة … ويُحاصرون ضحاياهم، ويلقون القبض عليهم، ويتم اختطافهم بسهولة، بفضل أسلحتهم المتقدِّمة.
عثمان: ولا شك أن نفس الشيء حدث لسكان القرية في «غينيا بيساو»، وإن كان الخاطفون قد غادروا غواصتهم قريبًا من الجزيرة، ثم اختطفوا السكان وقادوهم إلى الغواصة عبر القوارب البدائية، التي يملكها هؤلاء السكان البسطاء … وهو ما حدث لرعاة الأغنام في «ناميبيا».
رقم «صفر»: هذا صحيح … وهو ما حدث تمامًا … وإن لم نتوصَّل إليه إلا مؤخَّرًا.
أحمد: ولكن لماذا؟! ما هو غرض هؤلاء الخاطفين؟! ما الذي يفعلونهم بضحاياهم؟! ولماذا يتكبَّدون كل هذه المشقة والتكلفة؟! … ما الفائدة التي تعود عليهم من ذلك المسلك الإجرامي؟!
قال رقم «صفر» في هدوء: لا شك أن الفائدة ستكون واضحةً أمامكم إذا عرفتم أن ثمن الأفريقي المختطَف الواحد يصل إلى نصف مليون جنيه.
صاح «عثمان» في غضب: لماذا؟! … هل عادت تجارة العبيد من جديد؟
واتَّقدت عينا «عثمان» في غضب شديد كأنهما توشكان أن تُطلقا شررًا منهما … ونظر إليه «أحمد» في هدوء كأنه يدعوه لتمالك أعصابه، وكان «أحمد» يتوقَّع ما هو أسوأ … وما هو أبشع من مُجرَّد تجارة العبيد الأفارقة.
قال رقم «صفر»: لا بد أنكم سمعتم عن بنوك الأعضاء البشرية … ففي ظل التقدُّم العلمي والطبي الحادث في العالم الآن … فقد أمكن زراعة القلوب والرئة، بل والعيون والكُلى … صار كل عضو معطوب في الإنسان يمكن استبداله بعضو آخر سليم … وبدأ الأمر يأخذ شكل تجارة؛ فمثلًا نجد أن هناك بعض الناس يبيعون إحدى كُليتَيهم مقابل المال … أو شخصًا يتبرَّع بقلبه أو بعينَيه بعد الموت، ولكن بما أن ذلك لا يكفي الطلب المتزايد على الأعضاء البشرية السليمة … من أجل ذلك … كانت تلك الظاهرة الرهيبة البشعة … ظاهرة اختطاف الأفارقة البدائيين … لتحلَّ أعضاؤهم السليمة في أجساد المرضى من كل دول العالم.
أغمضت «زبيدة» عينَيها في ألمٍ قائلة: هذا بشع … كيف يتحوَّل إنسان إلى مجموعة من قطع الغيار للآخرين؟ … كيف نبيع حياة إنسان من أجل إنقاذ حياة إنسان آخر قدَره أنه مُصاب بمرض؟
رقم «صفر»: إن المال هو السبب … هو مصدر أكثر الشرور في هذا العالم … فإذا عرفتم أن ثمن القلب السليم في بنوك الأعضاء البشرية يصل إلى مائة ألف جنيه، وثمن العين يصل إلى خمسين ألفًا، والكُلية إلى عشرين ألفًا … من أجل ذلك يتضح تمامًا الهدف من خطف هؤلاء المساكين الغافلين عمَّا يدور حولهم في العالم من شرور، يكونون هم ضحيتها … ضحية براءتهم في عالم فقَد براءته.
لمعت عينا «أحمد» بغضب جارف … وارتعدت أصابع «عثمان» وهو يحاول السيطرة على مشاعره … وجاءت كلماته مشحونةً بالغضب المرير، وهو يتساءل: متى ستبدأ مهمتنا؟
بهدوء أجابه رقم «صفر»: الآن … فورًا … إن الأمر لم يعد يحتمل الانتظار … سوف تستقلون طائرة الشياطين الخاصة من خارج المقر، وستهبط بكم الطائرة بالقرب من ميناء «طنجة» المغربي … ومن هناك ستستقلون غواصةً مجهَّزة بكل أساليب القتال في الأعماق؛ فأنتم قادمون هذه المرة على مهمة … أشبه بمهمة حرب … دفاعًا عن قارتكم السمراء … الطيبة …