مزيد من الحظ السيئ!
صاحت «زبيدة» في فزع: إن الغواصة تغرق. دعونا نغادرها في الحال!
أحمد: إنَّ تَركنا للغواصة معناه الموت بسبب الضغط العالي للمياه حولنا … إننا على عمق يزيد على ألف متر.
صاح «أحمد» في «عثمان»: أسرِع بتشغيل مُولِّدات الطاقة الاحتياطية.
اندفع «عثمان» خارِجًا من حُجرة القيادة … ومرَّت ثوانٍ كالدَّهر قبل أن يعود الضوء إلى المكان … وتبدأ أجهزة الغواصة في العمل مرةً أخرى.
كانت شاشة الرادار أمام «أحمد» خاليةً لا أثر فيها لأية غواصة معادية أو قذائف أخرى … فقال «أحمد» من بين أسنانه في غضب شديد: لقد خدَعَنا هؤلاء المجرمون وأصابونا بدون أن يكشفهم رادارنا … ولا بد أنهم يمتلكون أجهزة تشويش متقدِّمةً جدًّا.
اندفع «بو عمير» صائحًا: إن الماء يتدفق إلى الغواصة من مكان الإصابة في المؤخرة.
أحمد: شغِّلوا الأبواب الاحتياطية.
بو عمير: لقد أصابها العطَب هي الأخرى وترفض التحرك … ولو بقينا على هذا الوضع دقائق قليلةً فسوف نغرق حتمًا … وستتهشَّم الغواصة مثل لعبة ورقية بسبب ضغط الماء الرهيب في الأعماق.
اندفع «أحمد» خارجًا من حُجرة القيادة … وجرى باتجاه مؤخرة الغواصة … وقرب نهايتها كان هناك باب مصفح مغلقًا.
وقال «بو عمير»: هذا هو باب التصفيح الداخلي … ولكن الأبواب الأخرى قد اخترقتها المياه.
أحمد: سوف أُغيِّر باب التصفيح إلى قلب الماء المتدفق؛ فقد أتمكَّن من إغلاق الأبواب الأتوماتيكية.
صاح «مصباح»: سوف تغرق يا «أحمد».
أحمد: إننا مُعرَّضون للموت على أي حال.
وأسرع نحو بذلة غوص قريبة فارتداها، ووضع أنبوبة أكسجين فوق ظهره، وأخفى وجهه بقناع، وأشار إلى «مصباح» و«بو عمير» …
وأخذ الاثنان يفتحان الباب المصفح ببطء، وانهمرت المياه من فتحة الباب الضيق، فأسرع «أحمد» ينفذ منها إلى داخل الغرفة الغارقة بالماء … وانكشفت الفتحة التي أصابها الطوربيد في جدار الغواصة … كانت بقُطر نصف متر، والماء يتدفق منها للداخل … والغواصة تواصل هبوطها السريع …
نظر «أحمد» في ساعته … كان أمامه خمس دقائق فقط، هي الوقت الفاصل بين النجاة أو الموت، بين نجاحه في إغلاق الأبواب الأتوماتيكية الواقعة أمام مكان إصابة الغواصة لمنع تدفق الماء من خلالها … وإلا …
لم يكن هناك أي وقت للضياع … وأسرع «أحمد» نحو الأبواب الأتوماتيكية، وأخذ يتفحَّصها … كان أحد الأبواب قد انبعج قليلًا بسبب إصابته بالطوربيد؛ ولذلك صار من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحريكه … كان «أحمد» بحاجة إلى آلة حادة ليتمكَّن من محاولة زحزحة الباب وغلقه. وتلفَّت حوله فلمح قطعة حديد كانت تمثِّل إحدى شظايا الطوربيد المتفجر … وأمسك «أحمد» بقطعة الحديد، وأخذ يحاول به تحريك الباب الثقيل.
وتحطَّم طرف القطعة دون أن يتحرَّك الباب … ولكن «أحمد» لم ييأس، وواصل محاولته … وأخيرًا تحرَّك الباب … تحرَّك ببطء … ونفرت عروق «أحمد» وهو يواصل محاولته بكل قوته.
فجأة أطلَّت عينان صغيرتان من خارج الفتحة، ثم ظهر صف الأسنان الرهيب الحاد كالمنشار … كانت سمكة قرش لا يقل طولها عن متر ونصف … وقد راحت ترقب «أحمد» من الخارج بعينَيها الخبيثتَين، وكأنها تفكِّر في دخول المكان … وكان على «أحمد» أن يواصل محاولته بكل قوته.
وأخيرًا انزلق الباب ليغلق مكان الفتحة المعطوبة … ولكن بعد أن استقرَّت سمكة القرش الرهيبة بداخل المكان.
جمد «أحمد» للحظة مذهولًا، وقد شلَّته المفاجأة … كان وجهًا لوجه أمام السمكة المتوحشة في مساحة لا تزيد عن أربعة أمتار … ولم يكن يمتلك أي سلاح غير قطعة الحديد المحطَّم في يده … وبقية الشياطين لا يشعرون بما يحدث له … وضربت سمكة القرش الماء بذيلها داخل الحجرة الممتلئة بالماء، ثم اندفعت نحو «أحمد» في توحُّش …
وأمسك «أحمد» بقطعة الحديد … كانت هي سلاحه الوحيد … وبسرعة غاص أسفل سمكة القرش، ثم طعنها بمقدمة القطعة الحديدية في بطنها … وتدفَّق الدم من بدن السمكة التي أصابها هياج شديد … واندفعت خلف «أحمد» …
وتحاشى «أحمد» الأسنان الرهيبة، ووجَّه ضربةً أخرى للسمكة، ثم تدفَّق الدم في الماء من السمكة المتوحشة، وزاد جنون السمكة وتوحُّشها، وقد صارت تضرب الماء بذيلها في جنون، كأنما يسري فيها تيار كهربائي … واندفعت السمكة للمرة الأخيرة نحو «أحمد» …
انزلقت قدم «أحمد» … وسقط في ركن الحجرة الغارقة بالماء، واختلَّ توازنه، واندفعت السمكة في قوة رهيبة نحو «أحمد»، وقد فتحت فمها الرهيب عن آخره. وبكل قوته دفع «أحمد» بالقطعة الحديدية بداخل فك السمكة … وانحشرت قطعة الحديد في حلق السمكة التي اندفعت للخلف بقوة كأنها ابتلعت جمرة نار … وراحت السمكة تصطدم بالحائط في كل اتجاه كأنما فقدت توازنها، وعيناها الصغيرتان مفتوحتان عن آخرهما.
وأخيرًا هدأت حركة السمكة … حتى كفَّت عن الحركة تمامًا … وظهر الموت في عينَيها … أغمض «أحمد» عينَيه في ارتياح …
وانفتح باب الحجرة … وتدفَّق الماء خارجًا سريعًا … ووقف الشياطين الخمسة مذهولين أمام السمكة الصريعة … وابتسم «أحمد» وأشار إليهم بعلامة النصر … ثم خلع قناعه وقال باسمًا: كانت معركةً فريدة مع سمكة قرش في حجرة مساحتها أربعة أمتار … لا أظن أن إنسانًا تعرَّض إلى مثل هذه المبارزة من قبل.
ربت «عثمان» على كتف «أحمد» قائلًا: إن لك قدرة الشيطان بحق … لقد قمت بعملَين خارقَين في نفس الوقت … إغلاق أبواب الطوارئ الاحتياطية، وقتل تلك السمكة المتوحشة.
أحمد: فلنسرع بإخراج حمولة الغواصة من الماء والمؤن لنتمكَّن من الصعود لأعلى.
وغادر الجميع المكان، وأسرعوا نحو حجرة القيادة … وأفرغت الغوَّاصة كل شحنتها من الماء الخاص باتزانها … وبالمؤن من الطعام.
وارتفعت الغواصة قليلًا … ثم توقَّفت عن الارتفاع مرةً أخرى.
قال «مصباح» بقلق: إننا بحاجة للصعود إلى سطح الماء … فالغواصة بحاجة إلى إصلاح.
هدى: ونحن لن نتمكَّن من البقاء طويلًا فيها بعد أن أفرغنا المؤن والأغذية … بالإضافة إلى أننا سنكون معرَّضين للخطر مرةً أخرى إذا ما هاجمتنا غواصة الأعداء … ووقتها لن نتمكَّن حتى من المناورة أو الهرب بسبب تعطُّل الأجهزة …
قطَّب «أحمد» حاجبَيه مُفكِّرًا، ثم قال: ليس هناك غير حل واحد.
والتفت إلى بقية الشياطين وهو يقول: سوف نتخلَّص من حمولة الغواصة من الأسلحة.
اعترض «عثمان»: ولكن …
قاطعه «أحمد»: ليس هناك حل غير ذلك … سوف نحتفظ ببعض الأسلحة الخفيفة كالرشاشات والقنابل اليدوية … أمَّا الأشياء الثقيلة كالطوربيدات وقنابل الأعماق، فسنكون مُضطرين للتخلُّص منها … ولن يمكننا حتى طلب نجدة من رقم «صفر»؛ بسبب إصابة أجهزة الإرسال وتعطُّلها.
ساد الوجوم وجوه بقية الشياطين … واتجهت أصابع «أحمد» نحو الزر المتحكِّم بأبواب مخزن الأسلحة … وتدفَّقت الأسلحة الثقيلة لتسقط من الغواصة إلى قاع المحيط … وبدأت الغواصة ترتفع ببطء إلى أعلى … وأخيرًا استقرَّت فوق سطح الماء …
نظر «بو عمير» من نافذة الغواصة الذي يكشف خارجها، وتأمَّل المكان حوله … كان الفجر يوشك على البزوغ بعد ليلة طويلة قضاها الشياطين داخل الغواصة المعطوبة …
ومن بعيد لاح شاطئ، فهتف «بو عمير» في راحة: إننا قريبون من الشاطئ، فحمدًا لله.
نظر «مصباح» إلى خريطة ملاحية أمامه، وقال: إننا أمام شواطئ «غينيا بيساو» بيساو ولا بد أن ما نراه أمامنا هو مجموعة الجزر التي تقع أمام شواطئها.
أحمد: هذا لحسن حظنا … إن هذه المنطقة نائية، ولا يوجد بها حرس سواحل، وبذلك سيكون من السهل علينا إخفاء غواصتنا بين خُلجانها لحين إصلاح أجهزة الإرسال للاتصال برقم «صفر» ليرسل إلينا غواصةً أخرى … أو لإصلاح هذه الغواصة. فلنحاول توجيه غواصتنا إلى الشاطئ.
عثمان: إن المحرِّك معطوب … والمحرِّك الاحتياطي لا يعمل بكفاءة.
أحمد: فلنحاول على أي حال.
وقام الشياطين بتشغيل المحرك الاحتياطي … وتحرَّكت الغواصة قليلًا … ثم توقَّف المحرِّك مرةً أخرى عن العمل …
ترامق الشياطين في صمت وقلق. كانوا يريدون إخفاء غواصتهم قبل انبلاج نور الصباح … وكأن القدر يصر على معاندتهم …
لكن الغواصة تحرَّكت … بلا محرِّك … ونظر الشياطين إلى بعضهم ذاهلين … وصاح «عثمان» غير مصدق: إن الغواصة تتحرَّك بنا نحو الشاطئ!
ابتسم «أحمد» وقال: لقد نسينا عناية الله … إن التيارات المائية في هذا المكان تندفع على شكل تموُّجات نحو الشاطئ … وهذا لحسن حظنا.
وقبل أن تنقضي ساعتان … كانت غواصة الشياطين تلمس الشاطئ الصخري المقابل … وبمهارة استطاع الشياطين توجيه غواصتهم نحو أحد الخُلجان الصغيرة التي تتناثر الأشجار فوقه، فأخفت الغواصة بداخلها.
قال «مصباح»: لا بأس حتى الآن … إن الأمور ليست سيئةً إلى درجة كبيرة.
هدى: سأحاول إصلاح اللاسلكي لإبلاغ رقم «صفر» بما حدث.
بو عمير: وأنا سأحاول إصلاح المحرِّك … ولحام الجزء المعطوب في الغواصة.
عثمان: أمَّا أنا و«أحمد»، فسنحاول استكشاف هذا المكان.
زبيدة: سآتي معكما.
وحمل الشياطين الثلاثة؛ «أحمد»، و«عثمان»، و«زبيدة»، أسلحتهم الرشاشة الخفيفة من داخل الغواصة … ثم ساروا باتجاه الغابات القريبة.
كان كل شيء بداخل الغابات صامتًا … الأشجار الاستوائية العملاقة … والطيور والببغاوات … والنسانيس الصغيرة … كلها راحت تنظر إلى الشياطين الثلاثة بفضول … تساءل «عثمان» بقلق: هل يمكن أن نكون قريبين من نفس المكان الذي قام القراصنة فيه باختطاف سُكان إحدى القرى من هذه الجزر؟
أحمد: من يدري؟ … إننا لا نعرف المكان بالتحديد.
تلفَّتت «زبيدة» حولها في قلق وهي تقول: إنني لا أُحس بالأمان في هذا المكان … وأشعر أن هناك عيونًا خفية تراقبنا.
عثمان: لا بد أنهم أهالي هذا المكان البدائيون … إنهم دائمًا لا يُرحِّبون بالغرباء … ولكنهم عادةً لا يبدءون بالعدوان.
لكنه كان مخطئًا … فما كاد يُنهي عبارته حتى صاح رغمًا عنه، عندما اشتبكت قدمه بشيء ما، ووجد نفسه يطير في الهواء، وقد تعلَّقت قدمه بحبل رُبط في قمة إحدى الأشجار العملاقة … كان قد وقع في شرَك … والتفت «أحمد» و«زبيدة» ذاهلين من المفاجأة بسبب صرخة «عثمان» الذي اختفى من جوارهما كأنه طار في الهواء.
صاح «عثمان» من أعلى: إنني هنا … أنقذوني.
وقبل أن يتحرَّك «أحمد» و«زبيدة»، سقطت فوقهما شبكة ضخمة ثقيلة من ألياف الأشجار، فشلَّت حركتهما، ومنعتهما من الحركة … وصار الاثنان بداخلها يتخبَّطان ويحاولان الخروج منها بلا فائدة. وفي الحال اندفع من خلف الأشجار مجموعة من السكان البدائيين شاهرين رماحهم، وقد تلطَّخت وجوههم بالأصباغ، وتدلَّت العقود من صدورهم … عقود من أسنان التماسيح، وأُخرى من جماجم النسانيس وعظامها.
وصرخ البدائيون وهم يُشهرون حِرابهم … وأسرعت «زبيدة» من داخل الشبكة ممسكةً بمدفعها الرشاش، وهي تُصوِّبه نحو الزنوج، ولكن «أحمد» أمسك بذراعها قائلًا: لا يا «زبيدة» … لقد جئنا لإنقاذ هؤلاء البسطاء … وليس لقتلهم …
واندفع بعض الزنوج إلى أعلى … فحملوا الحبل الذي يربط «عثمان» من قدمه، فسقط بداخل شبكة ثقيلة أطبقت عليه.
وأسرع السكان البدائيون يحملون أسراهم الثلاثة إلى مكان مجهول داخل الغابات … وهم يُطلقون صرخات مفزعة … بعد أن استولَوا على أسلحة الشياطين.