رقصة الموت!
استغرق السير داخل الغابات أكثر من ساعة، وانتهى أخيرًا وسط ساحة متسعة خالية من الأشجار، ارتصَّ في أطرافها مجموعة من الأكواخ المبنية من الخوص … وما إن ظهر مقاتلو القرية حاملين الأسرى الثلاثة، حتى تدافع بقية السكان خارجين من أكواخهم … وأخذوا يُحدِّقون في الشياطين الثلاثة في خوف وشك … وظهر أحد السكان مرتديًا عباءةً سوداء … وكانت له عيون حادة النظرات … أمَّا وجهه المجعَّد بشدة فكان يقطع بأن عمره لا يقل عن مائة عام.
وصاح ذو الوجه المغضن صيحةً ذات معنًى، فتراجع بقية أهل القرية عن الشياطين الثلاثة في فزع … وقال «أحمد»: إنه يبدو ساحر القرية.
وأقبل رجل بدين يرتدي عددًا كبيرًا من العقود الملوَّنة حول صدره … وقد تغطَّى كتفاه بغطاء من جلد النمر … وكان واضحًا أنه زعيم القبيلة … وأخذ الاثنان يتهامسان ويتجادلان بصوت مسموع … ثم أخرج الساحر من أحد جيوبه شيئًا فضيًّا لامعًا لوَّح به أمام بقية الأهالي، فزادت صرخاتهم وفزعهم، وانعكست أشعة الشمس فوق ذلك الشيء الذي يُمسك به الساحر …
وهتفت «زبيدة»: إنها رصاصة.
أحمد: يبدو أننا وقعنا — لسوء الحظ — في مكان قريب من مكان القرية التي اختطفَت القراصنة سكانها.
عثمان: وهؤلاء الأهالي يظنوننا نفس الأشخاص الذين اختطفوا أهالي القرية الأخرى … ولسوء الحظ فإننا نجهل لغتهم، ولا نستطيع إقناعهم بعكس ظنهم.
أحمد: إن مظهرنا الأوروبي وبشرتنا البيضاء، بالإضافة إلى أسلحتنا … كل هذا سيجعل صعبًا على هؤلاء الأهالي تصديقنا بأننا جئنا لإنقاذهم وليس لخطفهم وقتلهم.
زبيدة: وما العمل الآن؟
وفي نفس اللحظة أمسك ساحر القبيلة بأحد مدافع الشياطين الرشاشة … وما إن ضغط فوق زناده، حتى اندفع منه سيل من الرصاص نحو إحدى الأشجار القريبة، فتهاوت ساقطةً على الأرض.
وصرخ الساحر في فزع من انطلاق الرصاص … واندفع الأهالي هاربين في كل مكان، وهم يظنون أن المدفع الرشاش شيطان يخرج الموت منه، وقال «أحمد» باسمًا برغم وجوده داخل الشبكة الثقيلة: إن الأمر يبدو كما لو كان لعبةً مسلية … من الواضح أن هؤلاء السكان لم يحتكُّوا بالعالم الخارجي أبدًا، ولا يدرون عنه شيئًا.
قالت «زبيدة» في ضيق: هل سيستمر هذا الوضع طويلًا؟
أحمد: لا أظن … إن هناك شيئًا ما سيحدث.
وبالفعل … فقد أشار الساحر إلى بعض شبان القرية، وراح يتحدَّث إليهم في عصبية، فأسرع الشبان إلى بعض الأشجار المجوَّفة … وراحوا يدقون فوقها بعصيان غليظة … وأنصت «أحمد» إلى دقات الطبول باهتمام … ثم ظهر تعبير من القلق على وجهه، وقال: إنهم يدعون بقية القبائل وسكان القرى المجاورة للحضور بأسرع وقت.
زبيدة: لماذا؟
ومرةً أخرى دُقت الطبول، وعلى الفور صاح «عثمان»: إنها دقات طبول الحرب!
هتفت «زبيدة»: سيحاربون من؟!
قال «أحمد» بهدوء: نحن بالطبع … إننا في نظرهم بعض الأعداء، وهم يدعون القبائل الأخرى لتشهد عملية محاكمتنا، ثم إعدامنا.
زبيدة: هذا سخيف! … سأحاول قطع هذه الشباك ومغادرة هذا المكان … وإذا حاول أحد منعي فلن يكون مصيره إلا الموت.
وأخرجت من جيبها سكينًا صغيرًا، أخذت تمزِّق به الشبكة الثقيلة المحيطة بها … ولكن … وقبل أن تمزِّقها بالكامل، انتبه إليها بعض المحاربين، فاندفعوا نحوها وهم يصرخون ويلوِّحون بحرابهم، ثم أسرعوا إليها ليقيِّدوا يدَيها وقدمَيها إلى عمود مقام وسط الساحة، ووقف المحاربون لحراستها برماحهم.
واندفع بقية المحاربين إلى «أحمد» و«عثمان»، وصاح «عثمان»: أعتقد أنه من حقنا الآن الدفاع عن أنفسنا.
هتف «أحمد»: لا يا «عثمان» … تذكَّر أن «زبيدة» أسيرة في أيديهم، ومقاومتنا لهم معناها موتها.
واستسلم «أحمد» و«عثمان» للمحاربين الذين قيَّدوهما بجوار «زبيدة» … وعضَّ «عثمان» شفتَيه وهو يقول: يبدو أن المسألة أخطر ممَّا نتصوَّر.
أحمد: أرجو أن يكون بقية الشياطين قد سمعوا صوت طلقات الرصاص، فيسرعوا إلى نجدتنا.
عثمان: هذا إن لم يقم هؤلاء المحاربون بقتلنا أولًا.
أحمد: إن هذه القبائل تحاول أن تأخذ بثأر المخطوفين.
وقرابة الظُّهر، بدأت وفود القبائل تصل إلى المكان، وتأخذ مكانها في الساحة المواجهة للشياطين، وأخيرًا اكتمل وصول الوفود … وكان من الواضح أن الجميع قد اتفقوا على قرار واحد؛ قَتْل الشياطين الثلاثة.
وبدأت الرقصة الأخيرة … وأخذ مجموعة من المحاربين يقفزون ويصرخون بحركات غريبة … وقد أشعل ساحر القبيلة النار في كومة من الحطب، وراح المحاربون يدورون حولها، ويلمسون حطبها المشتعل بأطراف أصابعهم … وهتفت «زبيدة» في قلق: ما معنى ذلك؟!
أجابها «أحمد»: إنها رقصة الموت … يبدو أن هذه النار المشتعلة من أجلنا.
تحرَّك «عثمان» في مكانه بغضب قائلًا: هذا مستحيل …
ولكنه لم يستطع الحركة … فقد منعته قيوده من ذلك … وأيضًا بسبب عشرات الحِراب التي صُوِّبت إليه من المحاربين …
همس «أحمد»: علينا ألَّا ننتظر نجدةً من بقية الشياطين … فمن الواضح أنهم منهمكون في إصلاح الغواصة، ولم يسمعوا صوت الرصاص … وانتظارنا أكثر من ذلك معناه الموت.
زبيدة: وما العمل؟
أحمد: هل لا تزال سكينتك الصغيرة معك؟
زبيدة: نعم، إنها بين أصابعي، ويمكنني أن أقطع بها قيودي في أية لحظة … غير أنني أخشى عليكما.
أحمد: إن لديَّ خطة … فبداخل جيبي قنبلة يدوية صغيرة لم يستدلَّ عليها هؤلاء البدائيون، فإذا ما استطعت إخراجها من جيبي، وإلقاءها في النار، فسوف تنفجر في المكان، فيصاب الجميع بالذعر، ويُسرعون بالهرب … فنستغل الموقف، ونحل قيودنا، ونبتعد عن هذا المكان.
زبيدة: إنها فكرة جيدة … سوف أقطع قيودي بدون أن يلحظني أحد.
وفي هدوء راحت «زبيدة» تقطع قيودها بسكينتها الصغيرة، حتى تمكَّنت من حَلِّها تمامًا، وتحرَّرت يداها … وبسرعة مدَّت يدَيها بداخل جَيب «أحمد» بدون أن ينتبه أحد المحاربين إليها، ثم أخرجت قنبلةً من جيب «أحمد»، وألقتها بداخل النار المشتعلة، وانفجرت القنبلة بصوت مدوٍّ، وحدث ما توقَّعه «أحمد» تمامًا.
وصرخ الأهالي في فزعٍ رهيب، وأسرعوا يغادرون المكان كالمجانين … وانتهزت «زبيدة» الفرصة فأسرعت بقطع قيود قدمَيها … ثم قطعت قيود «أحمد» و«عثمان» … وأخيرًا تحرَّر الشياطين الثلاثة؛ فاندفعوا يجرون بأقصى سرعتهم بداخل الغابات عائدين من حيث أتَوا.
ومرَّت لحظات قليلة قبل أن ينتبه الأهالي البدائيون لِمَا حدث … ويكتشفوا هروب الأسرى الثلاثة … فأسرعوا في مطاردتهم شاهرين رماحهم … وقد صدرت إليهم الأوامر من ساحر القبيلة … بالقتل.