مرةً أخرى في الأسر!
اندفع الشياطين يجرون بأقصى سرعتهم، والمحاربون خلفهم … وأخيرًا لاح الشاطئ من بعيد، وقد أوشكت الشمس على الغروب، وسقطت خلف المحيط.
صاح «عثمان»: فلنسرع بالالتجاء إلى الغواصة والاحتماء بها.
أحمد: أرجو أن يكون بقية الشياطين قد تمكَّنوا من إصلاح العيب بها؛ لنتمكَّن من مغادرة هذا المكان … فأهله لا يرغبون في وجود غرباء على الإطلاق.
اندفع الشياطين باتجاه الغواصة … وما كادوا يقتربون منها ويشاهدها الأهالي البدائيون، حتى ظهر عليهم الفزع الرهيب … وصرخوا في رعب، ثم ألقوا رماحهم وأسرعوا هاربين بأقصى سرعتهم، وهم يظنون أن الغواصة حيوان بحري رهيب خرج إليهم من قلب الماء.
التقط «عثمان» أنفاسه وهو يقول: هذا حسن … يبدو أن المطاردة قد انتهت أخيرًا …
أحمد: ولكن، أين بقية الشياطين؟!
زبيدة: لا بد أنهم بداخل الغواصة يبعثون برسالة إلى رقم «صفر».
واندفع الشياطين الثلاثة نحو أبواب الغواصة … ولكن … وقبل أن يتحرَّك أحدٌ منهم، جاء صوت من الخلف يقول: مكانَكم وإلا أطلقنا الرصاص.
كان الصوت باللغة الإنجليزية … والتفت «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» في دهشة إلى الوراء … كانت هناك ست فُوَّهات لمدافع رشاشة مصوَّبة إليهم … وستة وجوه بيضاء تنطق بالشر …
وتقدَّم أحد المسلَّحين نحو الشياطين وهو يقول: إن زملاءكم أسرى لدينا … وأي محاولة منكم للمقاومة تعني موتكم … وموتهم أيضًا …
ترامق الشياطين الثلاثة في صمت … كانت المفاجأة مذهلةً لهم تمامًا؛ فلم يتوقَّعوا بأي حال أن ينجو من الأهالي البدائيين … ليواجهوا نفس العصابة التي تختطفهم، وتبيعهم كأعضاء بشرية، أو قطع غيار إنسانية.
قال «أحمد» في هدوء: إذن فقد تسلَّلتم خلف غواصتنا بدون أن نشعر بكم؛ حتى جئتم إلى هذا المكان.
– هذا صحيح … وقد تمكنا من أسر زملائكم بعد معركة قصيرة، وكان عنصر المفاجأة في صالحنا … هيا سيروا أمامنا.
وأشار المسلَّح إلى زورق بخاري كبير كان يقف أمام الشاطئ، وتخفيه بعض الأشجار … ونظر «عثمان» إلى «أحمد»، ولكن عينَي «أحمد» كانت تقول بأنه من الأفضل الاستسلام حتى يستطيعوا أن ينضمُّوا إلى بقية الشياطين.
وقاد أحد المسلَّحين الزورق البخاري في قلب المحيط … وكانت الشمس قد غربت تمامًا، وبدأ الليل يحل على المكان.
توقَّف الزورق على مسافة عشر كيلومترات من الشاطئ … وانشقَّ سطح البحر عن غواصة ضخمة تمدَّدت فوق سطح الماء كمارد خرافي يعيش في قلب الماء …
وانفتحت كُوة في مقدمة الغواصة، فأشار المسلَّحون إلى الشياطين الثلاثة أن يهبطوا إليها … وفي صمت اتجه الشياطين نحو الكوة، ودخلوها … وفي الداخل ظهرت الغواصة لهم متسعةً كبيرة، وكان هناك عددٌ من الملَّاحين بداخلها … وعدد آخر من المسلَّحين الذين راحوا يتطلَّعون إلى الشياطين في عداء … وتحفُّز.
وقاد المسلَّحون «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» إلى نهاية الغواصة … ثم فتحوا بابها، ودفعوا الشياطين الثلاثة خلفه … ثم عادوا وأغلقوا الباب.
وفي الداخل … كان هناك بقية الشياطين … «بو عمير» و«مصباح» و«هدى». وهتفت «زبيدة» في راحة: حمدًا لله أنكم بخير.
قصَّ «عثمان» على بقية الشياطين ما حدث لهم … ثم تساءل: وأنتم … كيف وقعتم في الأسر؟
هدى: لقد كنا مشغولين بإصلاح الغواصة، وقد أوشكنا أن نتم مهمتنا، عندما فوجئنا بهؤلاء المسلَّحين يحاصروننا … وكانت معركتنا ضدهم خاسرة؛ لأنهم كانوا أكثر عددًا وسلاحًا.
أحمد: إن هذا يفسِّر عدم إسراعكم إلى نجدتنا بعد أن أطلق ساحر القبيلة الرصاص من المدفع الرشاش … ولكن … هل تمكَّنتم من إرسال رسالة إلى رقم «صفر» بما حدث لنا؟
هزَّت «هدى» رأسها بأسفٍ قائلة: لم يتسع الوقت لذلك … فما كدت أنتهي من إصلاح جهاز الإرسال حتى وقعنا في الأسر.
زبيدة: هذا مؤسف … إن رقم «صفر» لا يعلم شيئًا عن مصيرنا … إن الحظ السيئ يلازمنا منذ بداية هذه المهمة.
أحمد: بالعكس … لقد بدأ الحظ يبتسم لنا … فلولا أن قام هؤلاء المجرمون بأسرنا، لربما انتهت مهمتنا دون أن نصادفهم … لقد عثرنا عليهم في أسرع وقت، وبدون حتى أن نبحث عنهم …
تساءل «عثمان»: وأين تظنهم سوف يأخذوننا؟
أحمد: إلى جزيرتهم السرية في قلب المحيط … هذا ممَّا لا شك فيه …
ومرَّت لحظات من الصمت … وبدأت الغوَّاصة في التحرُّك … والغوص ببطء … ثم أخذت تشق طريقها في قلب الماء … ولكن … وبعد ساعة، عاودت الغواصة طفوها على سطح الماء، وتوقَّفت عن الحركة، وتساءلت «زبيدة» في قلق: هل يمكن أن نكون قد وصلنا إلى جزيرة هؤلاء المجرمين بمثل هذه السرعة؟
أحمد: سوف نكتشف ذلك حالًا.
ومرَّ بعض الوقت قبل أن يكتشف الشياطين الستة الحقيقة … فمن نافذة ضيقة في حجرتهم تُطل على سطح الماء … استطاعوا أن يشاهدوا الشاطئ البعيد لسواحل القارة وقد أضاءه نور القمر … وكانت هناك سلسلة بشرية طويلة لا يقل عدد أفرادها عن مائة فرد … كانوا كلهم من الزنوج الأفارقة الشبان، وقد أحاطت بأعناقهم سلسلة حديدية طويلة تربطهم معًا … على حين أحاط بهم الحُرَّاس البيض المسلَّحون … ثم بدأ الزورق البخاري السريع في نقل الأسرى كل عشرة مرةً واحدة.
انتفض «عثمان» غاضبًا وهو يقول: هؤلاء المجرمون! … لقد اختطفوا مزيدًا من الضحايا! … أُقسم أن أُلقِّنهم درسًا غاليًا، وتكون حياتهم هي الثمن.
أحمد: اهدأ يا «عثمان» … يجب علينا أن نتحلَّى بالهدوء إلى أن نصل إلى وكر هؤلاء المجرمين، ولن نسمح بأن يكون هناك مزيد من الضحايا بعد الآن.
ومرةً أخرى، بدأت الغواصة هبوطها إلى قلب الماء، ومواصلة رحلتها …
وتساءل «بو عمير» في قلق: هل تظنون أننا سنستطيع أن نفعل شيئًا إذا ما وصلنا إلى جزيرة الأعداء ونحن بلا سلاح؟
عثمان: وحتى لو كُنا بأيدينا العارية … فسوف نقاتلهم وننقذ الأسرى المساكين.
وقرابة الفجر توقَّفت المحرِّكات عن الحركة … وبدأت الغواصة في الطفو مرةً أخرى.
وقالت «زبيدة»: يبدو أننا قد وصلنا إلى محطتنا النهائية.
وأمام الشياطين، تكشَّفت لهم من النافذة الزجاجية الضيقة، جزيرة كبيرة على مسافة قريبة … وقد أحاطت بالجزيرة أشجار عملاقة كثيفة تحجب ما يدور بداخلها … ولم تكن هناك أية سفن قريبة تعبر المكان.
قالت «هدى»: لقد اختار هؤلاء المجرمون مكانهم جيدًا بعيدًا عن العالم … فلا يمكن أن يقترب أي متطفل من هذا المكان أو يشك فيه … ولا بد أن هذه الجزيرة تبعد عن خطوط الملاحة العالمية حتى لا تقع تحت طائلة القانون الدولي.
مصباح: وهذه الأشجار الكثيفة تحجب ما يدور بداخلها.
وظهر من قلب الجزيرة مجموعة من الحُراس المسلَّحين اتجهوا نحو عدد من الزوارق البخارية فوق شاطئ الجزيرة … ثم أداروا محرِّكاتها وانطلقوا بها صوب الغواصة.
وبدأت الزوارق في نقل الأسرى الأبرياء إلى الجزيرة، حيث كان الحُراس يقودونهم إلى داخل الجزيرة لتخفيهم الأشجار الكثيفة عن أنظارهم.
وحان دور الشياطين … وقام زورق مُسلَّح بنقلهم إلى الشاطئ.
وأحسَّ الشياطين أنهم يخطون إلى المجهول … وقد انقطعت بهم كل صلة عن العالم، في مكان تجارته … هي الإنسان ذاته … وأعضاؤه البشرية.