الحج
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
ما يزال هذا الأذان مُدوِّيًا في الآفاق، تصيخ إليه الآذان، وتستمع إليه القلوب، فتستجيب له أقطار الأرض باعثة بأفواجها تفيض بهم السبل، ويحملهم البر والبحر والهواء صوب الأرض المقدسة، شطر القطب الذي إليه تتوجه قلوب المسلمين، نحو مركز الدائرة الإسلامية الذي يدور حوله المسلمون وإليه ينتهون.
•••
ما يزال هذا الأذان مدويًا يجلجل في جوانب الأرض، فتصيخ إليه الآذان والأفئدة، وتستجيب أفواج البشر مُيمِّمة أرض الحجاز، وما تزال هذه الدعوة مستجابة تهفو بها أفئدة المسلمين إلى هذه البقعة المباركة من هذه الجزيرة العظيمة جزيرة العرب.
هذه البواخر تمخر في اليم من أرجاء الأرض مشتاقة إلى الحرمين لا تبعد عليها غاية، ولا يثني من عزائمها هول.
وهذه الطائرات في أجواز الفضاء كالطير مسخرات في جو السماء تطير بالشوق والحب إلى مهوى الأفئدة ومطمح الأبصار.
وهذه السيارات تخِدُ البراري والصحاري، تشق سهلها وحَزنها، وعامرها وغامرها، وجردها ووعثها، تذلل ما صعب، وتقرب ما بعد. عليها وفود البيت الحرام يجوبون الفلوات، ويحتملون المشقات، ويستسهلون كل صعب إلى مقصدهم العظيم.
ثم هؤلاء المؤمنون الصابرون، أولو القوة والعزم، وأهل الجلد والصبر الذين لا يجدون ما يحملهم فتحملهم عزائمهم، ويحملون أوزارهم وهمومهم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا، غير مبالين بالشقة البعيدة، والفيافي القاحلة، هازئين بالجوع والعطش، والحر والبرد، والنصب والجهد. إيمانهم وآمالهم وعزائمهم أوسع من كل صحراء، وأثبت من كل هول، وأحر من كل بيداء محرقة. تراهم في السبل يحملون أزوادهم راجلين بالليل والنهار لا يفكرون في شيء ولا يبالون بشيء إلا المقصد العظيم، والغاية الجليلة التي خرجوا إليها. إنه الإيمان الذي لا يتزعزع، والعزم الذي لا ينثني، والصبر الذي لا يقهر.
•••
إن البصر والخيال ليريان هذه القوافل تشق البر والبحر والهواء شهورًا متوالية لا تخلو ساعة من ليل أو نهار من قُصَّاد الحجاز، حجاج البيت، وفود الأرض المقدسة يحملهم الشوق على طائرة أو باخرة أو سيارة أو على الأقدام.
يؤم هؤلاء الحجيج على اختلاف أقطارهم وألوانهم الأرض التي نشأ فيها دينهم، وعاش فيها نبيهم، ووُلِد تاريخهم، ويقصدون القبلة التي يتجهون إليها على نأي الدار وبُعد المزار، وتخفق لها قلوبهم، وتهفو إليها أفئدتهم.
يدخلون إلى هذه البقاع وقد جمعهم توحيد الإسلام، وربطت بينهم أُخوَّته، وأخلصوا دينهم لله، وتجردوا من أزياء الأوطان وشارات الأقوام، سواء قريبهم وبعيدهم، ومشرقيهم ومغربيهم، وأسودهم وأبيضهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، فإنما هو التوحيد الخالص، والأخوة الجامعة، والقلوب المجتمعة، والمقاصد المتفقة، لا تشغلهم ديار ولا أهل، ولا تفرقهم منازع ولا عصبيات إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
هنا الإسلام الحق الذي وحَّد الله، وسوَّى بين خلقه، وآخى بين عباده. إنك لا ترى أجسامًا، ولكن معاني يجمعها كلها توحيد الله وأخوة المؤمنين.
ولو ترى هذه الوفود طائفين بالكعبة ليل نهار، مصلين حولها صباح مساء، وتخيلت الجماعات الإسلامية من ورائهم متلاحقة متوالية، وقلوبهم ووجوههم إلى هذا البيت؛ لتمثلت الأمة الإسلامية كلها جماعة واحدة قائمة تصلي شطر البيت الحرام، وعرفت جلال هذا الدين، وعظمة هذا الحج، وحكمة هذه القبلة، وتوحُّد هذه الأمة، وتبينت غفلة المسلم الذي لا يبصر هذه الجماعة، ولا يدرك هذه الأخوة، ولا يقدر هذه الشعيرة، بل غفلة المسلمين جميعًا حين لا يبلغون بالحج مقصده، ويسيرون به إلى غايته من التأليف بين المسلمين، والجمع بينهم، والائتمار فيه بما ينفعهم، والتشاور فيما يحزبهم، والعمل لما يسعدهم في دينهم ودنياهم.
•••
وتَمثُّلهم وقوفًا في عرفات حاسرين خاشعين، ملبين داعين، تكاد تتفق خفقات قلوبهم اتفاق كلماتهم ونياتهم، تتمثل المسلمين كلهم في صعيد، والإسلام جميعه في موقف. قد اجتمعت أوطان المسلمين في هذه البقعة، وحشر تاريخهم في هذه الرقعة؛ أليست هذه الوقفة تجمع أوطان الإسلام جميعها؟ أليس هذا الاجتماع حلقة في سلسلة من التاريخ أولها وقوف رسول الله ﷺ مع أصحابه قبل سبع وستين وثلاثمائة وألف سنة اتصلت بها حلقات لا تنقطع، وعرى لا تنفصم حتى يومنا هذا. هنا الإسلام حاضره وماضيه إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ.
إن هذا الحج لجدير أن يجرد المسلم من عصيانه وأهوائه، ويصفي نفسه، ويطهر قلبه، ثم يربطه صافيًا طاهرًا بأخواته، ويؤلف بينه وبين غيره في جماعة المسلمين المؤتلفة، وأخوة المؤمنين المحكمة، ولكن هذه الجموع المحتشدة من أقطار الأرض، وهذه الأفواج المجتمعة من آفاق البلاد لا ييسر لها التعارف والتعاون إلا نظام محكم، وخطة جامعة يتسنى بها التزاور والتعارف والاجتماع والتشاور في أمور المسلمين وأحوالهم.
فلا بد أن يعمل المسلمون لهذا، ولا بد أن يتهيأ لخاصتهم الاجتماع بعد الحج؛ لينظروا في أدواء المسلمين، ويَطبُّوا لها، ويتعرفوا الصالح والفاسد من أمورها، فيتوسلوا إلى حفظ ما صلح، وإصلاح ما فسد، ويطلعوا على المسلمين كل عام بالرأي السديد، والدواء الناجع فيما يحزبهم في هذا العالم المضطرب التي تُمتحن فيه العقائد والسنن الإسلامية بالآراء الفاتنة، والمذاهب الضالة، والفتنة الفاشية التي لا يَثبت لها إلا من ثبَّته الله بعقل حكيم، وخلق قويم.
إن المسلمين اليوم في غمرة من الفتن المحيطة، والمكايد المحدقة، والأهواء المضللة، فلينظروا لأنفسهم، وليسارعوا إلى العمل لصون عقائد الإسلام وشرائعه وسننه وآدابه.
إن موسم الحج لأجدر المجامع أن ينتفع به المسلمون، وأنجع الوسائل للتشاور فيما يهمهم، والعمل لما ينجيهم؛ فليعملوا ثم ليعملوا، والله يهيئ لهم الرشد، ويهديهم سواء السبيل.