وديعة مدينة سالم
١
محمد بن أبي عامر، شاب عربي، آباؤه من معافر، وخئولته في تميم، دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلس في جند طارق بن زياد، وارتقت بأسرته الأمور، حتى عدت في أسر الوزارات في الأندلس.
نشأ محمد نجيبًا، طموحًا، همامًا، تبشر مخايله بنباهة شأنه، وتعد همته بعظيم مستقبله، بل تكفل آماله سؤدده، ويضمن عزمه مجده. سهر ليله وهو طالب علم يفكر فيمن يوليه القضاء إذا آل إليه أمر الأندلس. والمرء حيث يضع نفسه.
صار من أعوان قاضي «قرطبة» محمد بن السليم، ثم وكيلًا لولي العهد هشام بن الحكم المستنصر، وتداولت كفايته وحزمه المناصب إلى أن ولي شرطة «قرطبة» سنة إحدى وستين وثلاثمائة، فضبط الأمور، وقمع الأشرار، ثم دعاه الغزو فلبَّى، فاجتمعت له الشرطة وقيادة الجيش.
فضبط محمد المدينة ضبطًا أنسى أهل الحضرة من سلف من الكُفاة وأولى السياسة … ولقد كانوا قبله في بلاء عظيم، يتحارسون الليل كله ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو، فكشف الله عنهم — بمحمد بن أبي عامر وكفايته وتنزهه — فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى ارتفع الباس، وأمن الناس، وأمنت عادية المتجرمين من حاشية السلطان، حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجلده جلدًا مبرحًا كان فيه حمامه، فانقطع الشر في أيامه جملة.
وأما الغزو فكان قائده المظفر، وبطله المحبب. وسيأتي حديثه.
ما زال ابن أبي عامر يرقى منصبًا إلى منصب، ويعلو مجدًا إلى مجد كالنسر يعلو مرقبًا إلى مرقب حتى يوفى على القنَّة، فلما توفي الحكم المستنصر وآل الأمر إلى طفله هشام، اجتمع له الأمر كله، وظفر بأعلى مناصب الدولة؛ حجابة الخليفة، ثم وكله إلى ابنه عبد الملك، وجعل له القيادة العليا وسائر مناصبه، وجعل ابنه عبد الرحمن وزيرًا، وسما هو إلى السلطان الأعلى وتَسمَّى المنصور، وأمر أن يُكتب عنه: «من المنصور بن أبي عامر — وفَّقه الله»، ثم كُتب إليه باسم: «الملك الكريم».
٢
ملكَ ابن أبي عامر الأندلس ستة وعشرين عامًا، يدبر شئونها بعدله، ويعمرها ببره، ويجملها بأبنيته، ويضرب أحسن الأمثال في البأس الذي لا يخالطه جور، والعدل الذي لا تشوبه هوادة، والإنصاف الذي لا يميز قريبًا من بعيد، والحكم الذي لا يعرف إلا النصفة والمساواة، والنفاذ على كل الناس في كل الأحوال.
ولم تكن سياسته العادلة الحازمة أعظم من قيادته المظفرة، حتى لقد جاوزت غزواته أقصى غزوات الناصر، وحارب حيث لم يحارب قبله أمير من أمراء الأندلس.
غزا خمسين غزوة، كانت الثامنة والأربعون منها إلى «شنت ياقوب» على البحر في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، ولم يحاولها قبله ملك عربي في الأندلس.
ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلا قاهرًا غالبًا، على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم. وإنها لخاصة ما أحسب شركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان.
٣
هذه سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة من الهجرة، والمنصور بن أبي عامر يعزم على غزو «جليقية» في أقصى الشمال والغرب وهو مريض، ولكنه كما قال أبو الطيب:
وسار من «طليطلة» إلى «قشتيلة»، فأبعد الغارات فيها، ودوخ بلاد «شانجة» زعيم الأمراء المناوئين هناك.
إن زمامي يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما فيهم أسوأ حالًا مني. وددت أن أُقال زلتي وأنا كبعض هؤلاء السودان الحاملين لسريري.
أوصى عبد الملك وصية الخبير المحنك الأريب المجرب، وأفرغ في أذنه وقلبه تجاريب عشرات السنين، ولم يترك عظيمًا من أمور مملكته وأسرته إلا بيَّنه.
ثم أمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر، ويعود هو إلى «قرطبة» ليتدارك أمور الملك.
٤
ابن أبي عامر في «مدينة سالم» في أقصى الجزيرة الأندلسية، كالأسد أبعد في مسراه، والنسر غالى في تحليقه، يختم مجده مجيدًا، وينهي جهاده مجاهدًا، ويختم قصيدةَ ظفرِه ببيت رائع، وسجلِّ مجدِه بسطر بليغ، قصيدة مطلعها الطموح، ومقطعها الظفر، وسائر أبياتها الهمة التي لا تقهر، والعزيمة التي لا تنثني، وسجل مقدمته طموح طالب علم في «قرطبة»، وخاتمته ملك حازم، وقائد مظفر، ومجاهد غازٍ في أقصى الثغور.
ليلة الاثنين لثلاث بقين من رمضان عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة في «مدينة سالم» مات الرجل النابغة، والعبقري الداهية، ودفن في قصره هناك، وكان أوصى أن يدفن حيث يقبض، ولا ينقل تابوته. وأراد أن يجعل قبره في الثغر القصي دعوة إلى الجهاد دائبة، ومثلًا في المجد سائرًا، وحرزًا على الثغور حريزًا، ورباطًا على الحدود مشهودًا!
ليت شعري أين قبر المنصور من قصره من «مدينة سالم»؟ بل ليت شعري أين تاريخ ابن أبي عامر من صدور شبابنا، وكتب مؤرخينا، وأقلام كتابنا، وقصائد شعرائنا؟
يا شعراء العربية، من ينظم القصيدة الرائعة التي عنوانها: «وديعة مدينة سالم»؟!