إلى الرسول الكريم
مضت عشر وأربعمائة وألف سنة منذ ظهر في الجزيرة العربية نجم الصباح بشيرًا بطلوع الشمس، منذ طلع الكوكب المبشِّر بالغيث في الأرض المجدبة، منذ ولدت الأرض منبع النهر الذي فاض على الناس بالخير والبركة ولا يزال فياضًا، منذ سطرت في سجل الأيام بسملة سيرة عظيمة، منذ كتبت على صفحات الزمان فاتحة كتاب دفتاه المشرق والمغرب، وصفحاته تاريخ البشر في أروع وقائعه، منذ خط الله القدير على أرض الجزيرة عنوان أعظم فضل في تاريخ البشر، منذ ولدت الخليقة قانونًا من قوانينها في صورة طفل، منذ استهل هذا الطفل الفقير في دار من دور قريش بمكة، منذ ولدت آمنة بنت وهب محمد بن عبد الله.
لم تُضرب البشائر لمولده، ولا سارت الأنباء، ولا تطايرت التهاني، ولا اجتمعت المحافل، ولكن الله — سبحانه — كان يعلم ماذا أخرج من غيبه، وماذا وضع على أرضه. كان الله وحده يعلم أن قد وُلد الرجل الذي أعده ليعلي التوحيد ويضع الوثنية، ويعز الحق ويذل الباطل، وينصر الخير ويخذل الشر، ويمحو العبودية ويثبت الحرية، ويزلزل الجبارين، ويُثبِّت الضعفاء والمساكين، ويبطل التمييز بين الناس، ويشيع المساواة بينهم، ويحقِّر الأحساب والأنساب، ويعظم العمل الصالح، ويحطِّم العصبيات ويدعو إلى الأخوة العامة.
كان الله وحده يعلم أن قد وُلد الرجل الذي يخرج الحق من الصوامع والمعابد إلى معارك الحياة، ويقيم البر بألسنة الملوك وأيديهم بعد أن كان تعلَّة الفقراء والمساكين، ويقف الملوك في صفوف الصلاة بعد أن كانوا في صفوف الآلهة، ويجعل الحياة جهادًا دائبًا للحق والخير، ولا يضعف ولا يفتر، ويُري الناس كيف يجتمع الحق والقوَّة، ويلتئم الملك والنبوة.
يا رسول الله! أين نحن اليوم من شريعتك؟ وأين مقامنا من دعوتك؟ وأين سيرتنا من سنتك؟
علَّمت المسلم أن يكون خليفة الله في أرضه، يقوم بالعدل بين خلقه، ويقسم الرزق بين عباده، ويهيمن على قانون الله بين الناس أجمعين، يقودهم إلى الحق طوعًا أو كرهًا، ويسيرهم للخير اختيارًا أو اضطرارًا.
فأين هو اليوم من هذه الخلافة؟ وأين عقله من هذه السياسة؟ وأين نفسه من هذا السمو؟ وأين قلبه من هذا الطموح؟ وأين عزمه من هذه الهمة؟ وأين يده من هذا السلطان؟
علَّمت المسلم أن يقوم بالقسط لله، ويجعل العدل بينه وبين الناس، لا يبغي ولا يحتمل البغي، ولا يظلم ولا يستكين للظلم، ولا يبخس الناس أشياءهم، ولا يبخس حق نفسه، ولا يأخذ ما ليس له، ولا يعطي ما ليس لغيره، وتلوت عليهم قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ.
تلك الدعوة الشاملة، والكلمة الجامعة، تلك سعادة الفرد والجماعة، وثبات القانون والنظام، وقوام المعاملة العادلة والألفة العامة. تلك الدعوة إلى أن يسيطر الحق والعدل، وأن يكون الإنسان لله وللناس أجمعين، لا لنفسه ومنفعته وهواه، وأن يعدل الإنسان في الرضا والغضب، والمنشط والمكره، ومع القريب والبعيد، والعدو والصديق؛ لأنه ينفذ قانون الله، وليس عند الله قريب ولا بعيد، ولا صديق ولا عدو.
يا رسول الله، لو أن الأمم المتناحرة التي عمرت عقولها، وخربت قلوبها، وقويت أيديها وضعفت سرائرها، وأضاءت ظواهرها وطفئت بواطنها، والتي حدَّت العدل بمنافعها، وسيَّرت الحق طوع رضاها وغضبها، وحبها وكرهها، ونفعها وضرها، لو أن هذه الأمم فقهت آيتك وعملت بها، فقام كل زعيم بقسط الله في أرض الله بين عباد الله يستوي في نصفته القريب والأجنبي، والقاصي والداني، ويسكن إلى صدقه ونصحه الناس كافة، لا يغش ولا يخدع، ولا يختل ولا يزوِّر، ولا يعتدي ولا يظلم.
لو أن كل زعيم أخذ بالعدل كل فرد من أمته، وآخذ بالعدل نفسه، وجمع الأمة كلها على العدل؛ لعاشت الأمم مجاهدة في الحياة على شريعة من التناصف جامعة، وخطة من العدل مؤلَّفة، ولَتعاونوا على البر بالإنسان وإسعاد الإنسان، لا على التدمير والتخريب، والقتل والأسر، والغصب والنهب، والاحتكام إلى المهالك، والالتجاء إلى القوة، وويل للمغلوب! ألا إن في العدل سعادة الفرد في نفسه، وسعادة الأمة في جماعتها، وسعادة الإنسانية في أممها.
يا رسول الله، علَّمت المسلم أن يكون حرًّا لا يخيفه جبروت، ولا يأسره مطمع، ولا تملكه الأهواء، ولا تعبده الشهوات، يسير في الأرض قانونًا لا يقهر، وسنة لا تتغير، يستمتع بما يُمتِّعه به الحق، ثم الفتن والشهوات من بعدُ أهون من أن تغريه، وأحقر من أن تفتنه.
فما بال المسلمين تتنازعهم الأهواء فيتذبذبون، وتتجاذبهم الشهوات فيتهافتون؟
علَّمت المسلم أن يكون مالكًا قنوعًا، مسيطرًا مقتصدًا، قادرًا عفيفًا يملك الدنيا ولا تملكه، ويستعبدها ولا تستعبده، ويقدر عليها ولا يهلك فيها.
فما بال هؤلاء المستكلبين تملكهم الأموال، فهم عبيدها، وتفتنهم المناصب، فهم صرعاها؟ قد ملك نفوسهم من الحرص والطمع، والنهم والجشع ما لا تملؤه السماوات والأرض، فذلوا من حيث أرادوا العز، وافتقروا من حيث حاولوا الغنى، وشقوا من حيث توهموا السعادة!
يا رسول الله، علَّمت المسلم أن يكون عزيزًا لا يذلُّ، وأبيًّا لا يخنع، وموحدًا لا يشرك، يعبد الله وحده لا شريك له، والناس من بعدُ سواسية، ليس بعضهم أرباب بعض، فما بال هؤلاء الأذلاء الخانعين الذين يُؤلِّهون كل قوي، ويخضعون لكل جبار؟
علَّمت المسلم أن يكون مجاهدًا لا يكل، دائبًا لا يمل، يمضي في الحياة قدمًا كالنجم لا يقف دون الغاية، لا تصده مشقة ولا يرده هول، ولا يقعد بهمته عبء، ولا يُوهن عزيمته يأس، طمَّاحًا هُمامًا غلَّابًا مقدامًا.
فما بال المسلم يقعد ويحسب أنه يعبد، ويكل ويظن أنه متوكِّل، وييأس ويتوهم أنه يقنع؟ حرَّفوا كلماتك، وجهلوا آياتك.
يا رسول الله، علَّمت المسلم أن يكون على الخطوب جسورًا، وفي النوائب صبورًا، كأنه في معترك الحياة قدر لا يرتد، وقانون طبيعي لا يتخلف، على شفتيه بسمة الرجاء في ظلام المحن، وفي وجهه طمأنينة الثقة في عواصف الفتن، وفي قلبه الثقة بالله واليقين بالظفر، تنكشف عنه الأحداث كما يقشع السحاب عن النجم، وتنجلي الغمرة عن الدُّرة، وينحسر الغمد عن السيف، فما بال المسلم اليوم جزوعًا يائسًا، وخائرًا مُبْلِسًا؟
يا رسول الله، وقفت في حضرتك ساعة فلا معنى من العلاء والعظمة والحرية والحق والخير والبر والفضيلة إلا نزل على قلبي، ولا شية من الإسفاف والباطل والشر والرذيلة إلا طارت عن نفسي! وستبقى سيرتك نبراسًا يعشو إليه الخابط في الظلمات، وهديك منارًا يهتدي به الضال في الفلوات، وشرعك علمًا ينحاز إليه الأخيار، ودعوتك أَذانًا يصغي إليه الأبرار، ورسالتك رحمة للناس أجمعين.
إن انحرف الناس فما اعوجت سنتك، وإن ضلوا فما طمست شريعتك، وإن حاروا فما خفيت سيرتك، وسيردهم إلى الطريق هديك، وتهديهم إلى الغاية سيرتك، وترشدهم على الأجيال دعوتك.
ولن يزال مولدك هدًى للناس وذكرى، وموعظة وعبرة، ودعوة لا تحول، ونورًا لا يزول.
يا رسول الله! صلَّى الله عليك.