عبرة الحادثات
المدنية الأوروبية — على خيراتها — وما أجدت على الناس من علمها ورفاهيتها: مدنية مادية، دعائمها المعادن والأحجار، يصاغ قلبها من الذهب والحديد وأشباههما، ويغذَّى بالفحم والنِّفط وأخواتهما، وتدور بها دواليب المصانع والمغازل والمناسج.
قد استحكمت فيها الآلات، وأتقنت الصناعات، حتى أغنت عن الإنسان أدواتها، ونافسه عتادها، فثارت العداوة بين الآلات وصانعيها، وعمالها ومالكيها، وقد أوحى ذلك إلى بعض الأمريكيين فاخترعوا إنسانًا آليًّا يخدم خدمة الإنسان، ويتحرك حركاته. وهل الإنسان في المصانع إلا آلة سريعة العطب؟!
طبع إنسان هذا العصر آليًّا دائرًا لا يألف الاستقرار، ولا يعرف السلام، ولا تتمكن في قلبه المحبة، ولا تستقر في سريرته الشفقة.
واستكلبت هذه الآلات على غذائها، وتنافست في أقواتها، وأحس كل أنها القوة لا العدل، والغلبة لا الإنصاف، فنفخوا في الأمم روح العصبية وغرور العنجهية، وزعم كل قبيل أن أوله خير الأولين، وأنه سيد الحاضرين، وأن بنيه سادة الآتين، وأن الأرض كلها له، وأن الويل لمن جادله، ثم ما شئت من أناشيد مثيرة، وتربية هائجة، وإيقاظ الوحشية في النفوس، وإشعال البغضاء في الأفئدة، حتى صار الناس — على رغم العلم والفلسفة، وعلى ما قربت بينهم الوسائل الحديثة — أميل إلى الحرب والجلاد، وأحب للتخريب والتدمير من أناسي القرون الخالية!
فبينا تراهم في ظاهر من السلام والوئام يتغنون بحضارتهم، ويعكفون على دراستهم، ويتكلمون في العدل والحرية والأخوة؛ إذ تحكهم التجارب قدح الزناد، فإذا النار تحت الرماد، تغلب عليهم الطباع الحربية، وتسيطر عليهم الحياة الآلية، فإذا الأمم كلها جنود ومصانع للسلاح والمدمرات، وإذا الأوروبي كالذئب الذي لبس جلد الشاة ثم خلعه.
ومهما يكن حظ القوم من العدل والنصفة، ونصيبهم من المودة والألفة، فذلك فيما يشجر بينهم من خلاف، فأما أهل الشرق سكان آسية وإفريقية من الأمم الملونة، فليس لهم في العدل حماية، ولا في القانون نصفة ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ.
وما يزال صدى الأحداث يدوي في آذاننا، وحسبك حروب طرابلس والبلقان والريف؛ فإن ساغ لأوروبي أن يطمئن إلى عدل أوروبة وإنصافها وقوانينها وجماعة أممها، فليس للشرقي أن يسكن إلى ذلك! فهو مال مباح، ودم مهدر.
•••
وتلك أمة ينفخ قادتها فيها الغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها، وورمت أنوفها، ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عامًا حتى دوَّخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا، ولا تسد مطامعنا.
ونظروا فإذا في إفريقية دولة واحدة مستقلة حُفظ عليها استقلالها من دون أمم إفريقية. إنها دولة نصرانية، لم يستبح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها — على نصرانيتها — أمة سوداء، ضعيفة، تسكن أرضًا واسعة، صاح زعيمهم: هلم إلى الحبشة، فانبرت العقول تخترع الأوهام والتَّعلَّات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل، وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حينًا، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حينًا، وسار الشر إلى الحبشة في جيوشه ومفترياته.
ويشفق بعض الدول من هذه الغارات، ويخاف عقباها، فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي، وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطالية.
تهيب مصر بجيشها، فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل، وتدعو بنيها، فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، لم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح: أنفس عزيزة، وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها، وتعد للخطوب عدتها: لا تراعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني.
ولو ترك لنا من قبل، أن نعبِّئ جيوشنا، ونعد سلاحنا؛ لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأنى يُعزُّ من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:
هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا يجلب لها خيرًا ولا شرًّا:
ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهمائهم وقادتهم أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبروا الموعظة، وينتفعوا بها، ومهما تنجلِ عنه السحب المكفهرة، وتنكشف عنه الحادثات المنذرة؛ فليعملوا برأي واحد، ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة، حتى لا يَقِفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ.