لمعات
إلى الفيلسوف الشاعر محمد إقبال
جوابًا لكتابيه «أسرار خودي» و«رموزبي خودي»:
١
للصوفية فلسفة عالية في العالم والإنسان والخالق، ولهم آراء حكيمة في
الأخلاق والاجتماع، وقد صاغوا كثيرًا من آرائهم في صور شعرية جميلة،
تجلى فيها القلب الإنساني في أرقى مداركه، وأصفى منازعه، وصور فيها
خفايا النفس الإنسانية.
وفي العربية كثير من الشعر الصوفي مفرق في الكتب، وفيها دواوين خصت بهذا
الضرب من الشعر، أسْيَرُها ذكرًا ديوان ابن الفارض، ودواوين ابن عربي،
وديوان النابلسي.
ولشعراء الفارسية المقام الأسمى في الشعر الصوفي، وقد حاكاهم فيه شعراء
التركية والأردية، وأعظم شعراء الفارسية في هذا مجد الدين سنائي، وفريد
الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وهو زعيم شعراء الصوفية وفلاسفتهم
جميعًا.
٢
وكأن الله — سبحانه — أراد أن يبعث مولانا جلال الدين في هذا العصر،
مزودًا فلسفته وعلومه إلى فلسفة الصوفية وصفاء نفوسهم، فبعثه في صورة
شاعر الإسلام وفيلسوفه: محمد إقبال الهندي.
ولإقبال منظومات كثيرة معظمها بالفارسية، وبعضها بالأردية، وقد ضمنها من
الفلسفة والتصوف والأخلاق والاجتماع والسياسة ونقد المدنية ما يملأ
القارئ إعجابًا. والرجل حر يكره التقليد، ويحذر منه، فعقله وقلبه
ظاهران في كل ما يكتب.
ومن منظوماته كتابان سماهما: «أسرار خودي» و«رموزبي خودي»؛ أي أسرار
الذاتية، ورموز اللا ذاتية. ومدار البحث في الأول أن العالم قائم على
«الذاتية»، وأن حياة الإنسان بإبراز ما أودع فطرته من المواهب، وتقوية
نفسه، ومدار البحث في الكتاب الثاني بيان ائتلاف الأفراد في الجماعة،
وما تقوى به الجماعات. وقد شرح ذلك شرحًا مبينًا، وضرب الأمثال،
واستشهد التاريخ، وسما إلى الدرجة العليا في الشعر.
وقد ترجمت في مجلة «الرسالة» صفحات من الكتابين، ومن ديوانه «بيام مشرق»
الذي جعله الشاعر جوابًا للشاعر الألماني جوته.
٣
وقد بدا لي أن أنشر في الرسالة منظومة أهديها إلى إقبال، وأجعلها صدى
لكتابيه المذكورين آنفًا.
وأريد مع هذا أن أنهج بها في العربية نهجًا جديدًا، وأجعلها مثلًا
للمعاني السامية التي يتناولها الشعر إذا أُطلق من عقاله، وحُرِّر من
الموضوعات الضيقة التي اعتادها جمهور الشعراء، ولا سيما المعاني التي
تكثر في أشعار الصوفية العظام، ثم أريد أن أجعلها مثالًا للقافية
المزدوجة التي قصرها شعراء العربية على الرجز المشطور، كما قصروا الرجز
على نظم العلوم كالألفية والجوهر المكنون والتاريخ، كمنظومة ابن عبد
ربه في أمراء بني أمية، والقصص ككتاب كليلة ودمنة، والصادح والباغم.
وينبغي أن يسري هذا الضرب من التقفية إلى أبحر الشعر الأخرى، حين تعالج
الموضوعات الواسعة، فهذا الذي سنى لشعراء الفارسية وغيرهم أن ينظموا
عشرات الآلاف من الأبيات في قصة واحدة أو كتاب واحد.
وقد اخترت وزن الرمل ليُسْره وخفته، واقتداءً بجمال الدين في المثنوي،
ومحمد إقبال في بعض كتبه، ولا سيما «أسرار خودري» و«رموزبي
خودري».
٤
ثم التفعيلة الثالثة في الرمل تأتي تامة «فاعلاتن»، ومقطوعة «فاعلات»،
ومحذوفة «فاعلا»، والقافية المزدوجة تجعل كل شطرين متفقين في الرويِّ
منفصلين ببعض الانفصال عن غيرهما.
فينبغي أن يسوغ الجمع في المنظومة الواحدة بين أبيات على فاعلاتن، وأخرى
على فاعلات أو فاعلا تيسيرًا للناظم، ولكن الجمع بين فاعلا وفاعلات حسن
لا عيب فيه؛ لأن الحرف الأخير في فاعلات لا يتأتى إلا بعد مد. وبهذا
المد يتم الوزن، فيأتي الحرف بعد المد نهاية للصوت، فلا يشعر المنشد
باختلاف النغمة بين فاعلا وفاعلات، مثال هذا: البيتان الآتيان:
رب معنًى في ضمير يكتم
ليس في الناس عليه محرم
وقلوب رمسها هذي الصدور
أتراني مسمعًا من في القبور؟
البيت الأول بني على فاعلا، والثاني على فاعلات، لكن الراء في كلمتي
الصدور والقبور واقعتان بعد مد، فتأتيان في نهاية الصوت كأنهما لا
تحسبان في وزن البيت، وليس الأمر كذلك في الجمع بين فاعلاتن وغيرها؛
ففي البيتين الآتيين:
كان لي الليل مدادًا فنفد
وطغى قلبي بمد بعد مد
جاشت الظلماء موجًا بعد موج
وغزاني الوجد فوجًا بعد فوج
إذا سكنت الجيم في موج وفوج يُبنى البيت على فاعلات، فتجده قريبًا جدًّا
مما قبله، وإذا حركت الجيم يُبنى على فاعلاتن، فيبعد عما قبله بعض
البعد، فينبغي أن يجتهد الناظم ألا يجمع بين فاعلا أو فاعلات وبين
فاعلاتن في منظومة واحدة؛ رعاية لانسجام النغمات.
وإني أدعو أدباء العربية إلى العناية بهذا المثال الذي أقدمه في المعاني
والقوافي ليقبلوه على بينة، أو يردوه بالحجة. والله ولي
التيسير.
أيها الليل، إليك المفزع
كم حنت منك علينا أضلع!
كم خفينا في غيابات الدجى
وملأنا الليل همًّا وشَجا!
كم ألفت الليل أمًّا حانيهْ
وكرهت النجم عينًا رانيه!
كم ألفت الليل وحشًا راقبًا
في شعاع الصبح سهمًا صائبا!
كم بثثت الليل سرًّا كتِما
فوعاه الليل عنِّي ألما؟
كانت الظلماء لوحًا للألمْ
خطت الآهات فيه كالقلمْ!
كان لي الليل مدادًا فنفدْ
وطغى قلبي بمدٍّ بعد مدْ
جاشت الظلماء موجًا بعد موج
وغزاني الوجد فوجًا بعد فوج
فنيت هذي، وهذا زاخر
وانجلت هذي، وهذا غامر
خلتني في الليل جمرًا سُعِّرا
ونجوم الليل منه شررا
•••
كنت سطرًا لم يفسره أحدْ
خطه في غيبه الله الصمد
في ضميري كل معنى مُنبهمْ
حِرْتُ في الإعراب عنه بالكلم
قد ثوى العالم في قلبي وما
خط شيء فيه إلا الحرف «ما»
٢
إنما الأقطار في قلبي العميد
أحرف أوحت إلى معنى بعيد
وقلوب رمسها هذي الصدور
أتراني مسمعًا من في القبور؟
٥
أنا في الناس فصيح أعجم
ناطق فيهم كأني أبكم!
صمت الآذان عن هذا البيان
ضاع في ضوضائهم هذا الأذان!
كيف يجدي القوم هذا النغم
وعلى الآذان ران الصمم؟
كيف يجدي القدح في هذا الحجر؟
قلبه رخو خلي من شرر
إن خفق القلب قدح مجهد
بعضه يورى، وبعض يصلد
كيف يجدي النفخ في هذا الرمادْ
طفئ الجمر ولم تور الزناد؟!
يخرق الليل شعاع يخفق
ثم يلتف عليه الغسق
كمنار البحر يَخفَى ويلوحْ
فيه بين الغيب والومض وضوحْ
تارة يبدو طريقًا لحبًا
قامت الظلماء فيه نصبا
أو بيانًا من بياض وسواد
كبياض الطرس يعلوه المداد
كل لون فيه حرف مفصح
ألفت منه سطور وضح
وأراه تارة خطأ أحم
وكأن الضوء تفصيل الظلم
فهو سطر من ظلام أرقط
أعجمت معناه تلك النقط
•••
يا لُبَيْنَى أوقدي، طال المدى
أوقدي علَّ على النار هدى
٩
أوقدي يا لبن قد حار الدليل
أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكي جمرها
علَّ هذا الركب يعشو شطرها
شرِّدي هذا الظلام الجاثما
أرشدي هذا الفراش الهائما
حبذا النار بليل توقد
حبذا المؤنس هذا الموقد
حبذا عندك هذا النُّزُل
لو حدانا في سفار منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريق
إنما النيران أعلام الطريق
قد ترحلنا من الفج العميق
لا نبالي بقريب أو سحيق
رن في آفاقنا هذا النداء
فأممنا البيت يحدونا الرجاء
١٠
قد غنينا عن مبيت ومقيلْ
وعن الأمواه والظل الظليل
وعن الرغبة والخوف سوى
خلع النعلان في وادي طوى
١١
نحن لا نرضى بنار الغسق
نحن لا نرضى بنور الشفق
نحن لا نرضى بنجم الصبح لاحْ
لا ولا نرضى تباشير الصباحْ
نحن لا نرضى نجومًا لامعه
إنما نبغي ذكاء طالعه
قد رحلنا بالجوى والحُرَق
وغنينا عن رسم الأينق
أين منا طائرات سبق
جمع الغرب لها والشرق
نحن ركب في جواه موضع
لم يسعه في جواه موضع
كل حر ضاق عنه الموطن
وانطوى دون مناه الزمن
كل طيار على متن الفكر
وعلى متن هيام لا يقر
طائر منه يغار الملك
طائر من تحته ذا الفلك
بارق في اللوح لا ينطفئ
كل غايات لديه مبدأ
زودينا بهيام ووجيب
زودي يا لبن من هذا اللهيب
جال في الظلماء نورًا من نَغَم
مُزقَت منه دياجير الظلم
أشعاع فيه صوت صائح
أم كلام منه نور لائح؟
أذِن الركب لهذا المنشد
أطرب الناشدَ صوت المنشد
١٣
سال في القلب مسيل المطر
ينبت الروح بسهب مقفر
أو خرير الماء من نبع زلال
بشر الغارق في بحر الرمال
رنَّ في نفسي رنين الجرس
صاح في أذني فقيد مبلس
طوت البيداء عنه السابلهْ
وهداه الصوت شطر القافلهْ
سبق القلب إليه الأذنا
كبلال لصلاة أذنا
دار قلبي شطر هذا المطرب
دورة الإبرة شطر القطبِ
غنِّني يا منيتي لحن النشور
ابركي يا ناقتي، تم السرور
عدت يا عيدي إلينا، مرحبًا
نعم ما روحت يا ريح الصبا
١٤
•••
حبذا الصوت فمن هذا البشير؟
ومن الهاتف بالقلب الكسير؟
ومن المسعد في هذي الهموم؟
ومن البارق في هذي الغيوم؟
ومن الهابط في نور السما
هاديًا في الأرض جيلًا مظلما؟
ومن الهادي إلى أرض الحبيب
يعرف النهج وقد حار اللبيب؟
ومن السائق شطر الحرم
وإلى الأصنام سير الأمم؟
ومن القارئ في بيت الصنم
سورة الإخلاص في هذا النغم؟
ومن الحر الذي قد حطما
في قيود الأسر هذا الأدهما؟
ومن الآبي على كل القيود؟
ومن القاطع أغلال العبيد؟
ومن الباعث في ميت الأمم
ثورة العزة من هذي الهمم؟
لاح كالغرة في هذا السواد
بص كالجمرة في هذا الرماد
جرف الناس أتيٌّ مزبد
ضل فيه المقتدى والمرشد
وطغى اللج عليه والتطم
فرسًا كالصخر في هذا الخضم
عارض الموج على أغماره
وطوى اللج على تياره
سبح اللج وبالشط استقر
داعيًا والناس غرقى في النهر
يجرف التيار جسمًا جامدًا
تقذف اللجة قلبًا خامدا
إن عزم الحر بحْر مُزْبِد
جائش في الدهر لا يتئِد
ومن الشاعر يذكي القافيه
فهي نور وهي نار حاميه؟
تقشعر الأرض من أوزانه
ويهيم النجم من ألحانه
وكأن الدهر صوت كتبا
قد حكاه الشعر صوتًا مطربا
١٦
هو بالأشعار بحر فائض
وهو للأزمان قلب نابض
حدثته الأرض عن أخبارها
وحبته الزهر من أسرارها
هو بالأمس خبير بغد
وهو اليوم نجي الأبد
كشف الله عن الغيب له
فلسان الغيب يملي قوله
عرف الشرق وراد المغربا
فانجلى السر له ما كذبا
فرأى العلم سبيلًا للردى
إذا رأى القلب خليًّا من هدى
•••
صوت «إقبال» على شط المزار
أسمع اليقظان في هذي الديار