السوقية في الأدب١
قرأت مقال الأستاذ الزيات الذي عنوانه: «دفاع عن البلاغة»، فوقع في نفسي على القبول والاستحسان، وألفيته ترجمانًا عن معانٍ ترددتْ في نفسي، ورددها لساني، وذكَّرني بحديث تحدثت به في دمشق في دار الأستاذ الصديق العلامة محمد كرد علي، رئيس المجمع العلمي العربي.
وبيان هذا أن الآلات الحديثة يسرت الصناعة وعممتها وزوقتها، ولبست الجيد الثمين والرديء الرخيص في بعض المظاهر، فطمح كل في اقتناء الأمتعة التي كان لا يطمع فيها إلا الأغنياء، وطمع الفقراء في منافسة الأثرياء بأمتعة تقارب أمتعتهم أو تشبهها شكلًا ولونًا، وقابل الصناع والتجار هذا الطموح وذاك الطمع بما يسده من بضاعة مزيفة خداعة، وكسدت الصناعات اليدوية الجيدة التي تُكلف الصانع عمل الأشهر أو السنين، وأعرض الناس عنها مشفقين من تكاليفها، فمن لم يملك ثمن الحرير الطبيعي، أو لم تسخ يده به، عمد إلى الحرير الصناعي، ومن لم يستطع اقتناء الذهب، اقتنى المُذَهَّب أو المموَّه، ومن لم يتسع ماله لاشتراء الماس، اشترى ما يشبه الماس، وهلم جرًّا.
فشاع بين الناس الصناعي إلى جانب الطبيعي، والمقلد إلى جانب الأصلي، والسوقي إلى جانب المستصنع، والزيوف إلى جانب الجود، والبهرج بجانب الصحيح.
والعلم على هذا القياس، فقد تولت الحكومات التعليم فيما تولَّت، فحددت زمانه ومكانه، وموضوعه ودرجاته، وخطت الخطط لتعميمه، وجعلت له شهادات تشهد لصاحبها بالعلم، وعلى من لا يحملها بالجهل، وحشر إلى دور العلم الراغب والكاره، والأهل وغير الأهل، ووجِّه الأحداث الوجهة التي يريدها العرف أو النظام أو الضرورة، لا التي تميل إليها نفسه، وتختارها مواهبه، وجرف التيار الناس، فصارت المدارس مصانع تصنع التلاميذ على قوالب متماثلة أو متشابهة، أو مطابع تخرج آلاف النسخ من كتاب واحد، وتقدم أصحاب الشهادات إلى الأعمال، كما تعرض السلع في الأسواق.
قال بعض السامعين: أليس نشر العلم وتعميمه خيرًا للناس؟ قلتُ: لا ريب أنه خير، ولكن معه شرًّا هو الذي حدثتك عنه، ولست أبغي الآن أن أفيض في هذا الداء وأدويته، ولكن ساقنا إليه الحديث في الأدب.
قال أحد الأصحاب: وهو الحديث الذي بدأناه ثم حِدْنا عنه، فلم نعد إليه.
قلت: والأدب على هذا النسق: الجرائد والمجلات والكتب شاعت وانتشرت، وصار الكاتب بهذه الوسائل الحديثة السريعة يعرض على الناس ما يكتب، وكأنه ماثل أمامهم يحدثهم به أو يخطب فيهم، فهو يسايرهم مسايرة المحدث أو الخطيب، ويلقاهم كل يوم على صفحات الصحف، يلتمس رأيهم فيما كتب، ويتعرف موقعه من نفوسهم، وكلما أرضى الكاتب جمهرة القراء سمع ثناءهم عليه، وإكبارهم إياه، فحرص على هذا الرضاء، رغبة في علو المكانة وبُعد الصيت، واضطر إلى أن يسف إليهم، دون أن يرفعهم إليه، وأن يجاريهم، دون أن يصدهم عما يشتهون، وأن يلاينهم، دون أن يحملهم على ما يكرهون، أو يكبحهم عما يهوون، وأن يلهِّيهم ويضحكهم، لا يشق عليهم ولا يسومهم عناء، فكأن الكاتب تاجر، وكأن كتابته سلع في الأسواق أيضًا، والتاجر يلتمس لكل سوق ما يروج فيها، والرديء الرائج خير له من الجيد الكاسد!
ووراء هذا أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع يبغون الربح في تجارتهم، والربح على قدر إقبال الجمهور على ما يخرجون، وإقبال الجمهور على قدر هواه ومتعته ولهوه؛ فالكاتب الذي يرضي الجمهور ويمتعه ويلهيه أقرب إلى أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع، يبذلون له المال، ويسارعون إلى نشر ما يريد، على حين يجفون الكاتب المبدع الذي يحمل الناس على المكره، ويقودهم على الطريقة التي فيها صلاحهم، وإن نفروا عنها نفور المريض من الأدوية الكريهة.
قال صاحبي الملول: وما وراء هذا؟ قلت: وراءه ما زعمته أول الحديث من غلبة السوقية في الأدب؛ فقد صار بضاعة في السوق، أو تلهية في الملاهي، أروجها أقربها إلى عقول الناس وطباعهم وإن تفهت وحقرت، وانتهت بهم إلى المهالك، وأكسدها ما علا عن إدراك العامة وأشباه العامة، وما اقتضى فهمه عقلًا وعلمًا، وضاق عن الجمهور، ووسع الخاصة وحدهم، فمن شاء مالًا ورواجًا وصيتًا ومكانةً عند العديد الأكثر؛ فليطلع على الناس كل يوم بقصة أو نادرة أو ملهاة مما يقرأ في القطار والترام وحين انتظارهما، وليتجنب الموضوعات التي تحوج القارئ إلى الجد والكد، والألفاظ التي تحتاج إلى علم باللغة واسع، والأساليب التي تقتضي التمهل والتأمل لإدراك ما فيها من جودة وبراعة وجمال.
ومن ابتغى إصلاح الجمهور وتهذيبه وتعليمه، وشاء الخير العام للناس، ورغب في الحقيقة والجمال، لا يبال أين يقعان من نفوس الدهماء، فلا يتعجلن المكانة والصيت والمال، وليكتب ابتغاء مرضاة الله، وليدع إلى الخطة الرشيدة، وليَسمُ إلى مستوى الحق والخير والجمال، وليبلغ ما يوحي إليه ربه، ويهدي إليه قلبه. وإن طمع في المكانة وحسن الأحدوثة؛ فليعلم أنه منتهٍ إليهما لا محالة، ولن يضيع الخير والحق والإجادة والإتقان على مر الزمان، ولن يذهب العرف بين الله والناس.
فإن سأل سائل: أتريد الناس كلهم على قراءة الأدب الرفيع والفلسفة العالية؟ قلت: لا، لا، بل أريد ألا تتحكم السوقية في الأفكار والأقلام، وألا يطغى الرواج على الجودة، أريد أن يؤدي الكاتب أمانته، ويبين عقيدته، غير حاسب حساب السوق، وليكن بعد هذا في الكتابة ما يلائم العامة وما يلائم الخاصة، وما يجمع بينهما. أريد أن يعلو الكاتب ما مكنه طبعه، وأن يدق ما شاء له فنه، لا يعنيه إلا أن يؤدي واجبه على الوجه الأكمل.
وكذلك أريد أن ينزل الكاتب الآخر كما يريد طبعه، وأن يسهل ويدنو كما يشاء فنه، لكل وجهة، ولكل مجال، ولكل قراء. وإذا صدق كل كاتب نفسه، وأخلص لعمله، فرقت الكتاب المعارف والطبائع، فعلا جماعة وهبط آخرون، وبعد كاتب وقرب آخر، وكانت ضروب الكتابة معبرة عن ثقافة الأمة وأذواقها، ملاقية أصناف الناس بما يسد حاجاتهم، ووجد الناس الصعب والسهل، والبعيد والداني، والغالي والرخيص كلًّا في بيئته وفي مظانِّه.
لا أدعو إلى أن يصير الأدباء فنًّا واحدًا في البيان، وأسلوبًا عاليًا في الكتابة، ولكن أخشى أن تذهب السرعة بالإتقان، وتطغى التجارة على الإحسان، ويمتحن الكتاب حتى يروا حسنًا ما ليس بالحسن، ويجرفهم السيل فيتجهوا حيث يريد الناس لا حيث يريدون، وينتقل الزمام من يد القائد إلى يد المقود، ويسير الإمام خلف المأموم، فتنبهم الغايات، وتلتبس الطرق، وتشتبه الأعلام. وما ظنك بجماعة تسير على غير سبيل إلى غير غاية؟!