ضربات معول
١
في العام الخامس من الهجرة تألب الشرك على التوحيد، وائتمر الباطل بالحق، وكاد الشر للخير. تقاسم رءوس الضلالة لَيغزنَّ «المدينة»، وليقتلنَّ هذه الجماعة الناشئة، وليبطلنَّ تلك الدعوة الجديدة.
مشى يهود «خيبر» إلى قادة قريش، وحرضوا القبائل الضاربة غربي «نجد» وشرقي «خيبر»؛ قبائل غطفان، فاجتمعت كلمة هؤلاء وهؤلاء على غزو «المدينة» والبطش بالمسلمين.
ورأى المسلمون أنهم لا قِبل لهم بهذه الأحزاب، لا يستطيعون دفع قريش وغطفان وألفافهما، لا قِبل لهم بهذه الجموع الحاشدة من قيس عيلان وقريش ومن انحاز إليهم. هذه الجموع التي قال فيها حيي بن أخطب، أحد زعماء اليهود الذين ألَّبوا الناس على المسلمين، حين جاء إلى كعب بن أسد القرظي، رئيس بني قريظة — وهم بقية اليهود في «المدينة» — فقال له يحرضه على نقض عهد المسلمين: «ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلهم بذنب نَقَمَى إلى جانب أُحُد، قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.»
٢
يا رسول الله، بأبينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بيضاء عن الخندق مروة فكسرت حديدنا، وشقت علينا، حتى ما نحيك فيها قليلًا أو كثيرًا، فمُرنا فيها بأمرك؛ فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.
٣
إن هذا لشيء عجاب: جماعة قليلة لم تستطع الدفع بأيديها وأسلحتها فاعتصمت بالخندق تتقي به عدوًّا أكثر عددًا، وأعظم عدة، جماعة قليلة جاهدة يدهمها عدو حاقد محنق قد صمم على أن يستأصلها، وليس لهذه الجماعة ردْءٌ على الأرض ولا مدد، وهي تكدح لحفر الخندق، وتكل أيديها، فينزل قائدها يعينها ويواسيها، على حين أحاط بها الخوف وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا.
وفي هذه المخاوف، وعلى هذه الحال يتحدث هذا القائد بفتح المشرق والمغرب، ما أعظمها دعوى! وما أعجبها أمنية!
كذلك قال الذين رأوا عددًا قليلًا من الناس يحفر أرضًا ليتقي عدوه، ولم يروا ما وراء هذه الأجسام القليلة من معانٍ كثيرة.
قالوا: «ألا تعجبون؟ يُحدِّثكم ويمنيكم، ويعدكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من «يثرب» قصور «الحيرة» و«مدائن كسرى»، وأنها تُفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا.» وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا.
أجل، من يرَ هذه الجماعة القليلة تدرأ عن نفسها بهذه الحفيرة، يعجب ألا يشغلها ضعفها، والهول الذي دهمها، والخوف الذي أحاط بها عن التحدث بالفتح؛ فتح المشرق والمغرب إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ!
٤
لا لا، لم تكن في المدينة جماعة قليلة، ولكن كان الحق يصاول الباطل، والخير يدفع الشر، والإيمان ينازل الكفر، والتوحيد يواثب الشرك، والعزم يقاتل الخوَر، والاجتماع يثبُت للافتراق، والصبر يصمد للجزع، واليقين يتحدى الشك، كانت معانٍ تقاتل معاني، وما ضر المعنى الظافر في سنة الله قلة أنصاره على الأرض، ولا نفع المعنى المنهزم في قانون الله كثرة سواده في الناس.
وما كان مسلمو الخندق يحادون قريشًا وغطفان ويهود وحدهم، بل كانوا يحادون الأمم كلها. لقد انقسم العالم يومئذ فريقين: أهل المدينة الذين يحفرون الخندق، ومن في خارج المدينة في جزيرة العرب وفي غير الجزيرة من أقطار الأرض كلها.
لقد كان هذا الخندق فاصلًا بين جماعتين: جماعة قليلة تحتضن حقًّا وليدًا، وتاريخًا جديدًا، وتلتف حول عقيدة وشريعة وخلق، وبين سواد الأمم كلها يموجون في باطلهم، ويسيرون في مواكب للجهالة والإثم، والعدوان والظلم، ويحوطون أوثانًا من الحجر، أو أصنامًا من البشر.
وما كان العرب إلا العدو الأدنى، عرف هذه الجماعة فحذرها، وكرهها فآذاها، ثم أشفق منها، فائتمر بها، وعزم ليأخذن عليها الطريق، وليمنعنها أن تنتشر على الأرض، وليفرقن جمعها، ويبددن نظامها، ويبطلن دعوتها. وكانت أمم الأرض كلها من وراء هؤلاء العرب حربًا على هذه الجماعة لو قاربوها وخالطوها.
وما كان العرب المشركون في حرب العرب المسلمين وأعدائهم إلَّا حدًّا بين عصر وعصر، وفاصلًا بين تاريخ وتاريخ.
ولكن العرب الكثيرين من قريش وغطفان ويهود — وهم طلائع جيش الأرض كلها — لم يكونوا في أنفسهم، وفيما انطوت عليه هذه الأنفس من معانٍ أقوى ولا أولى بالظفر من هذه الجماعة القليلة. دع للعدد القليل وللعدد الكثير، وانظر هذه المعاني تتقاتل تجد التوحيد يحارب الوثنية، والفضيلة تقاتل الرذيلة، والنظام يدافع الفوضى، تجد الخير والشر، والعدل والجور، والحرية والعبودية، والحق والباطل في معترك، فانظر لأي هؤلاء العاقبة!
وهل كان المعول في يد رسول الله، وضربات المعول في هذا الصخر الأصم، وهذه البرقات التي ماج بها الهواء كالمصباح في بيت مظلم إلا الحق يصادم الباطل، والإيمان يصاول الشرك، والنور يمزق الظلام، والحق العزيز المصمم يكسر ما يعترضه، ويدمغ ما يصده.
كانت هذه الضربات رموزًا لما وراءها من جهاد وجلاد، وكان هذا الضوء بيانًا لما يتصل به من هدى، وكانت يمين الرسول العزم المصمم، وكان كل خير وحق وفضيلة في النفس التي تبطش بهذه اليد.
كانت هذه المعاني كالشرارة الصغيرة تؤجج ما شاء الله من نار ونور، والآحاد في الأعداد تستوعب كل ما يدركه العد، وكالفكرة الأولى تفتح للعقل طريقًا مديدًا، ومذهبًا جديدًا، وكحروف الهجاء تنتظم لغات العالم، وكقرص الشمس يغمر العالمين نورًا.
كذلك سخر الذين سمعوا قصة «محمد» ومعوله، وعرفوا حديث القائد المحصور يبشر بفتح العالم! ولكن كثيرًا من هؤلاء الساخرين عاشوا حتى سمعوا صدى هذه الضربات في «اليرموك» و«القادسية»، وما تلاهما شرقًا وغربًا، وأبصروا برقها يصعق «يزدجرد» و«هرقل» وجنودهما، وكل جند للباطل على ظهر الأرض.
ورأوا المعاني التي مثلتها هذه الضربات، وقد صارت بالباطل غير رفيقة، وزلزلت الظلم غير مشفقة، وانتشرت في المشرق والمغرب كالسحاب مجلجلًا، مضيئًا، صاعقًا، ممطرًا منبتًا.
عاش الساخرون عشر سنين، فرأوا جزيرة العرب تدين لصاحب المعول، ورأوا فارس والروم تخر لضرباته، والمشرق والمغرب يستضيء بهذه البرقات، وعلموا يقينًا أن محمدًا صدقهم حينما وعدهم فتح العالم وهو قائم في الخندق يحطم بمعوله الصخرة التي أعيت على أصحابه.