على بحيرة وندرمير
الآن أيتها البحيرة أجلس على شاطئك وحيدًا لأبعث في ثناياك خيالًا مع الأخيلة التي تمر عليك ليلًا ونهارًا، وليت ضوضاء الناس تتركني لنفسي، لأحدثك حديث القلب، وأبثك ما في الضمير. أنت مائجة بين جبالك المخضرة، وضفافك النضرة، قد أقام الربيع عليك أعراسه، وأمرَّ الشباب عليك أنفاسه، فإذا أنت مرآة تطالعها كل ناضرة من الزهر، ومائسة من الشجر، وكل جميلة من البشر؛ فخبريني — والشتاء يقترب — كم أقام الشتاء مأتمه على ضفافك، وأمات كل حياة حولك!
كم ضربك القر فسكنت! وكم أمَضَّكِ الزمهريرُ فجمدت! كذلك أنت أيتها البحيرة الجميلة في نعمائك وبأسائك، وبين ربيعك وشتائك، منذ انبجس بك العهد المجهول، إلى أن يغيض بك الزمان المظلم.
حدثيني أيتها البحيرة: كم طوت أحشاؤك أخيلة على أخيلة، كما تمحو الفكرة الفكرة في رأس الفيلسوف القلق؟ أو كما خُط في القرطاس سطر على السطر! كم شهدتْ صفحتك من جذلان ومحزون، وممتَّع بالحياة ومغبون، كم شهدتِ من قلب للقاء الحبيب خفاق، وآخر يُمزِّقه الفراق! وكم رأيت إنسانًا كالعصفور متزينًا يملأ الهواء بالأصداء، وآخر واجمًا يطالع فيك صورة السماء! برحت به الحقائق، فأوى إلى الخيال، ورأى الحياة ضلالًا في ضلال.
ليت شعري لو تفتحت صفحاتك عما حوت، ونشرت سريرتك ما طوت، أتكونين على صغرك تاريخ الطبيعة والإنسان في السراء والضراء، والبؤسى والنعماء، والنضرة والذبول، والمرح والكآبة؟ كذلك تمر أشباحنا سراعًا على مسرح الحياة، تضطرب ظلالها على الأرض، ويردد صداها الهواء، ثم يزول الخيال ويفنى الصدى.
ولكنك أيتها البحيرة أبقى على الزمن، وأثبت على المحن، فاضحكي من الإنسان أو فابكي عليه، ومهما تسخري أو ترثي فاحفظي في صدرك، مع الظلال المتراكمة المتزاحمة المتماحية، صورة فتى ركب الزورق على صفحتك وحيدًا، وخطا على ضفافك فريدًا، وأطال الفكر في أرجائك، وقلَّب الطرف في أرضك وسمائك، ولو شاء لأطال في وصفك، وأسهب في شرحك، فأضحك وأبكى، ونظم من أمواجك أنغام الموسيقى الإنسانية التي لا يفتأ الزمن يعزف بها، وصوَّر في صفحتك صورًا شتى من النعم والمحن.
هكذا يتحدث إليك هذا الإنسان الفرح الحزين، الناعم البائس، فليت شعري هل ترينه مرة أخرى؟ سيفارقك عما قليل، فاحفظي ذكراه أو فانسي؛ فإنه لا محالة زائل عن صفحات الحياة كلها، ومن مكنون صدرك.